مقام النّبي زبدة عليه السّلام
معلم ديني تراثي فقير البناء, مجهول الهويّة والتّاريخ, منسيفي رحاب أرض جرداء بسلسلة جبال لبنان الشّرقيّة جنوبي مدينة بعلبك, بإمتدادات أرضبلدة عين بورضاي البقاعيّة.
بقلم: حسين أحمد سليم (آل الحاج يونس)
منذ صغري ونعومة أظافري الأولى, إلتحقت ونشأت وترعرعتوشببت, وتقدّم بي مراحل العمر ومدّت في أرحبة مراحل ومستويات الحركة الكشفيّةاللبنانيّة, الّتي عجنت وصهرت وصنعت من كينونتي شخصيّة نشيطة لا تستكين ولا تهدأعلى كلّ الصّعد الفكريّة والأدبيّة والفنّيّة, سيّما حركات الفعل السّياحيّةالميدانيّة, لإستكشاف معالم وآثار ومميّزات المدن والبلدات والقرى والجبالوالسّهول والأودية, المنتشرة على كافّة أرجاء الأراضي اللبنانيّة جنوبا وشمالاوجبلا وبقاع...
فجر ذات يوم أحد من أيّام نهايات شهر آذار لفصل الشّتاءللعام 2014 للميلاد, وبعد الوضوء بالماء البارد وأداء صلاة الفجر في رحاب جوٍّماطر وباردٍ ومثلج... إصطحبت قرينتي القدريّة ومرافقتي الدّائمة, المشاركة في كلّأنشطتي المتنوّعة, وهي خبيرة في الشّؤون التّصويريّة التّقليديّة, ولها الباعالطّويل في رؤى وإستنباط الأفكار وإجتراحها, إضافة لسمتها المميّزة في سكبإبداعاتها الوجدانيّة في خوطر متنوّعة... ويمّمنا وجهنا ناحية بقاع لبنان الشّماليفي ناقلتنا الصّغيرة, قاصدين مدينة بعلبك ومنها إمتدادات أراضي بلدة عين بورضاي,لإستكشاف معلم أثريّ تاريخيّ قديم, منسيّ في أرض جرداء قاحلة, تربتها حمراء قاتمةتملؤها الصّخور والحجارة الكبيرة والصّغيرة, سالكين طريقا ترابيّة ضيّقة وعثرة,تؤدّي بنا حيث يتراءى لنا, معتمدين في الإهتداء لضالّتنا على آلة البوصلةالمغناطيسيّة, وخريطة طبوغرافيّة عامّة وبعض المعالم الميدانيّة البارزة...
السّماء الملبّدة بالغيوم الدّاكنة, والجوّ البارد جدّا,ورذاذات المطر المتساقطة, والهواء اللاذع بصقيعه, ووعورة الطّريق التّرابيّالمشبّع بمياه الأمطار, وصعوبة سلوكه بسبب الإنزلاقات ذات اليمين وذات اليسار,والسّيّارة تتأرجح بنا وتتراقص فوق الحجارة والوحول, ورغم الخوف والحذر من المجهولالمخبّأ لنا, والّذي نتوقّعه وينتظرنا على حين غفلة من أمرنا, كوننا غرباء عنالمنطقة, ولا خبرة أو سابق تجربة في الولوج إلى جبالها ووديانها وأقدارها, إلاّأنّ حبّ الإستكشاف الّذي إعتدنا عليه, كان يراودنا ويدفع بنا تحفيذا لمتابعة سيرنامهما واجهتنا من مصاعب وإعترضتنا من عقبات...
دخلنا بلدة عين بورضاي ووصلنا ساحتها, إتّجهنا جنوبا عبرطريق إسفلتيّ ضيّق, تتخلّله بعض الحفر, وعلى جانبيه بعض البيةت والمنازل والأبنيةبين البساتين من المشمش واللوز, لتتراءى لنا الأراضي الجبليّة الجرداء عن يمينناوالسّهول الضّيّقة عن يسارنا, وقبل وصولنا لنقطة تقاطع الطّريق بمجرى واديالجريبان, بالقرب من عين المنتنة, عند أطراف محلّة تسمّى مكايل, حيث قطعنا مسافةلا تقلّ عن ثلاث كيلومترات والنّصف تقريبا, ومقابل موقع لكسّارة ومقلع صخريّ فيالمحلّة, إنحرفنا بسيّارتنا في طريق ترابيّ وعر, تملؤه الحفر ومحفوف بمخاطرالإنزلاقات بسبب الأمطار, تتخلّله الحجارة الّتي تدفع بإيطارات سيّارتنا للتّأرجحوتراقص السّيّارة بنا, وبعد أن قطعنا ما يقارب الكيلومترين مع الإنتباه والحذروالخوف, في رحاب محلّة جرداء تملؤها الصّخور والحجارة والتّربة الحمراء الدّاكنة,تسمّى بالخراديش, وفجأة وجدنا أنفسنا أمام غرفة منفردة, خضراء الجدران من الخارج,مقفلة الباب والنّوافذ الحديديّة, تعلوها قبّة خضراء, حليت لها الهدأة فوق هضبةضيّقة على حافّة وادي الجريبان, حيث إنتهى بنا الطّريق التّرابي عندها... فأدركناحينها أنّنا وصلنا بأمان إلى مقصدنا, فركنّا سيّارتنا قرب مدخل الغرفة, وعالجناالباب المغلق بشريط له, وإستطعنا فتحه بسهولة, وولجنا داخل الغرفة, ورحنا نستطلعما بداخلها... سيّما الضّريح الّذي في وسطها, والّذي يحمل بلاطة من الرّخامالأبيض, كتب عليها إسم نبيّ الله زبدة عليه السّلام, وبإستخدامنا للبوصلة الّتيبحوزتنا, تمكّنّا من معرفة الإتّجاه الدّقيق للضّريح, وصحّة إستقباله إتّجاه مكّةالمكرّمة, وه ما ساعدنا على إقامة الصّلاة لله قربى قرب الضّريح... وبعدها قمنابجولة حول الغرفة, الّتي تحتضن ضريح النّبي زبدة, ملتقطين لها بعض اللقطاتالتّصويريّة, وما يحوطها من معالم الطّبيعة, من الصّخور والحجارة الكبيرة والصّغيرةوالأزهار البرّيّة المتنوّعة, وما على جانبيّ الوادي من صخور ضخمة تحتوي العديد منالمغاور الطّبيعيّة في جوفها...
والخراديش, محلّة جبليّة جرداء ذات تربة حمراء داكنة, مملوءةبالصّخور والحجارة الكبيرة والصّغيرة, وهي جزء من سلسلة جبال لبنان الشّرقيّة, وأرضجرداء غير مأهولة, وهي بالتّالي جزء من ربوة لبقعة من الأرض القاحلة, التّابعةلبلدة عين بورضاي من قرى وبلدات قضاء بعلبك في محافظة بعلبك الهرمل, وتمتد عندهضبة غير متّسعة, ترتفع حوالي 1312 متر عن سطح البحر, وتقع إلى الشّرق من عريض أبومهنّا وجبل الملاّح المُطلّين على بلدة دورس البقاعيّة من جهة الشّرق, وإلى الغربالجنوبي من شميس أبو الجبل التّابع لبلدة عين بورضاي, وتمتد عند الحافّة العلياالشّماليّة لوادي الجريبان, الممتدّ من بلدة عمشكي شرقي مدينة بعلبك إلى شماليبلدة الطّيّبة, بعمق لا يقلّ عن 35 متر, وعلى إمتدادات أرض بلدة عين بورضايالبقاعيّة الواقعة جنوبي مدينة بعلبك على بعد حوالي 1500 متر منها, وإلى الجنوب منبلدة عين بورضاي هذه وعلى بعد 4350 متر تقريبا من وسط البلدة, وعبر طريق ترابيضيّق, تتربّع في نهايته غرفة مربّعة الشّكل خضراء الجوانب الخارجيّة بمساحة حوالي16 متر مربّع لها باب حديدي من جهة الشّمال يحيط به لافتتين تحمل كلّ منها آيةقرآنيّة, وفي كل جدار نافذة من الحديد, وهي بإرتفاع حوالي 3 أمتار وتعلوها قبّةخضراء بإرتفاع حوالي المترين وقطر المتر , تطلّ الغرفة من جهة الجنوب على مجرىوادي الجريبان, تحتضن الغرفة بجدرانها البيضاء من الدّاخل, في وسط أرضها ضريحايعلو عن سطحها حوالي 25 سنتمتر وتعلوه رخامة بيضاء, كتب عليها باللون الأسود بخطّنسخي "مقام نبيّ الله زبدة عليهالسّلام. بسم الله الرّحمن الرّحيم. ولقد أستهزيء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروامنهم ما كانوا به يستهزءون قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرّحمن بل هم عن ذكرربهم معرضون". وتحيط بالضّريح السّجاجيد الصّوفيّة إضافة لبعض سجاجيدالصّلوات, وفي الزّاوية الشّرقيّة الجنوبيّة للغرفة بعض النّسخ من القرآن الكريموكتب الأدعية المعروفة, فيما في الزّاوية الشّماليّة الشّرقيّة بعض السّبّحات ذاتالألوان السّوداء والحمراء والخضراء والبيضاء لحبيباتها الصّغيرة... وعلى الجدرانالدّاخليّة للغرفة تمّ تثبيت بعض الآيات القرآنيّة المطبوعة على خامات جلديّة...
من جهة جغرافيّة, تعتبر المنطقة المطلّة على سهل البقاعوالممتدّة في سلسلة جبال لبنان الغربيّة, منطقة ثريّة تكتنز بالكثير من مقاماتوأضرحة الكثير من الأنبياء والأولياء والصّالحين, وهو ما يحملنا على الإطمئنانالعام على أنّ هذا المقام كما بقيّة المقامات في المنطقة, ويحمل نفس المواصفاتالرّوحيّة... بحيث يحيط بمقام النّبي زبدة, مقام النّبي سباط على بعد 4 كلمللشّرق, ومقام النّبي صخير على بعد 3 كلم للجنوب الغربي شرقي بلدة بريتال, ومقامالنّبي إسماعيل على بعد 4 كلم إلى الجنوب والواقع إلى الشّرق من بلدة بريتال, وكذلكمقام النّبي حام في بلدة حام إلى الجنوب, ومن الشّمال حيث مقام الشّيخ عبداللهاليونيني ومسجد رأس الحسين عند أطراف بعلبك لجهة الجنوب, وعند أطراف بلدة عينبورضاي لجهة الشّمال... وتحديدا يقع ضريح النّبي زبدة عند تقاطع الخطّ الطّولي193422 مع الخطّ العرضي 223213 وفق تربيع لمبير الدّولي...
حاولت جاهدا تساعدني قرينتي, البحث والتّنقيب بداية فيالخرائط والمخطّطات والوثائق الرّسميّة الّتابعة للشّؤون الجغرافيّة والعقاريّة فيمؤسّسات الجيش اللبناني وفي مكاتب الشّؤون العقاريّة والمساحة بوزارة الماليّة,فلم نستطع الوصول لنتيجة تبيّ، لنا تحديد موقع هذا المعلم... وقمنا بالبحثوالتّنقيب أيضا في بطون كتب التّاريخ القديمة والحديثة, العامّة منها والخاصّةبتاريخ بعلبك وجوارها, وكذلك قمنا بمتابعة بعض الدّراسات العديدة, الّتي تناولتإلقاء الأضواء والبحث في تاريخ مثل هذه المعالم الدّينيّة التّراثيّة, وتوصيفمقامات وأضرحة الأنبياء والأولياء في البقاع وبلاد بعلبك, والّتي هي كثيرة ومنتشرةفي غالبيّة بلدات وقرى ومدن البقاع, سيّما الشّمالي منه, والموّزعة بين سلسلتيجبال لبنان الغربيّة والشّرقيّة المطلّتين على وادي سهل البقاع, حيث مقاماتالأنبياء: نوح, شيت, حام, رشادة, يوسف, سامي, أيلا إسماعيل, عطريف, نجّوم وغيرها...وكانت النّتيجة كما المحصّلة الّتي وصلنا إليها في قراءتنا للخرائط الجغرافيّةوالّطبوغرافيّة والعقاريّة للمنطقة, الّتي يقع فيها المعلم الّذي يحتضن مقام وضريحنبيّ الله زبدة... هذا وتواصلنا مع العديد من المعنيين بالموضع من مؤرّخينومهتمّين ورجال دين باحثين وغيرهم من الشّخصيّات الّتي تراءى لوجداننا أنّها تملكبعض المعرفة عن هذا المعلم, فلم نستطع الوصول لنتيجة واضحة المعالم ومقنعة لناوموثّقة تاريخيّا... ليبقى هذا المعلم الأثري التّاريخي الموروث, ويتماهى على ماهو عليه, وما يحمل من سمة روحيّة ودينيّة عامّة, تحت إسم "نبيّ الله زبدة"عليه السّلام, يكتنفه الغموض لعدم توافر المعلومات الّتي تعطيه هويّته وسمتهوتاريخه, والّتي تحدّد العصر الّذي عاش فيه, وتجغرف المكان الّذي أقام فيه, ولمنأرسله الله للهدي والرّشاد والإيمان بوحدانيّته وعدالته, والإطمئنان بذكره...
تعليق