قيافة الأنساب
بقلم: وضحة سعيد شعيب/كاتبةلبنانية من بعلبك.
الكتابة في حركة علم قيافةالأنساب, تعتبر في البحوث التاريخية من أصعب الأمور, وأكثرها تعرّضا للوقوع فيالخطأ عن غير قصد, أو للإنزلاق في متاهات الإلتباس والتّشابه في الأسماء, وحركةفعل تقاطع خطوط الكنى والألقاب في أمكنة كثيرة, وخاصّة إذا إنغلق التّاريخ علىمجرياته لفترات معيّنة, تحت ظروف قاهرة... وما أحوج الكتابة في تدوين الأنسابومشجراتها, للدّقّة والأمانة والإحاطة بمعرفة حركة التاريخ وطبيعة وقائع حياةالمجتمعات. ممّا يدفع بالباحث للغوص في بحار لامتناهية القرار, منقّبا يجمع ويقابلويدقق ويقارن ويختار ما يراه الأصحّ والأصوب والأصدق إذا ما إستطاع إلى ذلك سبيلا,أو يخلص إلى ولوج عالم التّنجيم والضّرب في الرّمل وقراءة الطّوالع على ذمّةشمشريخ وهاروت وماروت, بما يُروى له على ألسنة النّاس من قصص ومقولات وأساطير,والتي يشوبها الكثير من الأخطاء والتنافخ والتمويه للحقائق, التي تضيع بصاحبهاوراويها وسامعها...
ومثل الكاتب في الأنساب كمثلالنحلة الساعية لرزقها, تأخذ منه ما ينفعها وتترك ما يضرّها... وهو لا يسلم من النّقد حينا والإنتقاد أحياناوالتّجريح به وتشويه سمعته وشخصيته بما تلوكه الألسن السليطة الجاهلة, التي لا تريد أن تفهم أو تتفهّم أوتترك الأمر لمن يفهم, وتمارس العشوائية والأنانية, لتعيث جهلا وغباء بما لا تفقهبه, بالرغم من كل ما يبذل من جهد لتبيان الحقائق... فالباحث عن الحقيقة تقنعه لغة الحقيقةوالباحث في اللغو لا تقنعه حزم الحقائق...
إشتهر العرب من بين أمم الأرضوشعوبها, أنّهم الأكثر إهتمام لمعرفة أنسابهم, ويُعتبر النّسّابة فيهم علم موروث,إزدهر منذ العصور السالفة عندهم وإستمرّ ... وقد ورد عن الرّسول العربي النّبيمحمّد أنّه قال: "تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم. إنّ صلة الرّحممحبّة من الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأجل ومرضاة للرّبّ.".
حركة فعل الأنساب والتّنسيب تلعبدور دوائر النّفوس والأحوال الشّخصيّة, وهذا العلم له أصوله وقواعده وضوابطه, بحيثيؤدّي لمعرفة سير الأعلام وحفظ الوقائع ومجريات الأيّام وكلّ ما هو متّصل بحياةالنّاس, من أصول وجذور وفروع... فالإنسان هو قوام النّسيج الكوني العظيم, وهو إبنبيئته التي فيها تجذّر وعليها نما بتراثه, ومنها أخذ ويأخذ خصائصه. وحال الإنسانكما حال الشّجرة, كلّما تأصّلت جذورها في الأرض كلّما صعب إقتلاعها من هذه الأرض,وهكذا الإنسان, هو إمتداد أفقي لعائلته, ليتكوّن من جمهرة العائلات, الوطن الّذييحتضن الجميع دون إستثناء...
أغلب العائلات درجت في عاداتهاعلى تسميّة مواليدها بالتّوارث لأسماء الجدود الأوائل والقدماء, وذلك تكريماوتخليدا للجدود والجدّات وحفظا لأنسابهم, وهو جزء من الدّلائل التي تسير بالباحثلإلتقاط أطراف خيوط الحقيقة الدّقيقة, التي هي موصلة لكشف النّقاب على ما إستتر...
تبدأ حركة فعل الرّحلة في علمالأنساب بتقصّي آثار أقدام الكثيرين من الأوائل القدماء, الّذين كانوا في جروداليمن, ونزحوا مرتحلين بعد إنفجار سدّ مأرب إلى سهوب الحجاز بشبه الجزيرة العربيّة,ومنهم من تابع إرتحاله شمالا إلى بطاح العراق فالموصل, ثمّ ولوج سهول شمالي سورياونواحي حلب, مرورا مع إنسيابات الفرات, فمنهم من إستقرّ حيث وصل, ومنهم من تابعحيث وصل ثغور وسهول وبقاع وجبال وحصون ونواحي فلسطين ولبنان وسواحله, لينتهي بهالمطاف في أرض لبنان...
عائلات وأسر كثيرة, جاءت لبنان عنطريق فلسطين في ركاب الفاطميين, آتية من شمالي أفريقيا من الأندلس ومن مصروالمغرب... وأخرى أتت هذا الوطن عبر الحملات العربيّة والإسلاميّة, مارّة في سلميةسوريا, ورابطت في نواحي من سهل البقاع وفي أماكن من سلسلتي جبال لبنان الشّرقيّةوالغربية, ونزلت مدن السّاحل اللبناني وبلداته, ولا تزال في أماكنها... وعائلاتكثيرة إضطرّها الإضطّهاد والتّعسّف والتّنكيل, لترك دينها أو مذهبها أو طائفتها أوإسمها, تنكّرا مكرها, للحفاظ على إستمراريّتها باللجوء إلى حركة فعل التّقيّة,لينسى لمن يأتي من أعقابها فيما بعد حقيقة نسبه وأصوله وجذوره... وعائلات كثيرةجمعها الضّعف العددي والتّشتّت الجغرافي والضّياع في المتاهات, فتآلفت فيما بينهالتشكّل عصبة نسبيّة واحدة بالتّقارب النّسبي والعائلي من خلال علاقات التّصاهروالتّزاوج... وأسر توزّعت أفرادها على طوائف ومذاهب وأديان عدّة, لأسبابديموغرافيّة وجغرافيّة وتاريخيّة, ليبقى الجامع لهم الإسم فقط أو الكنيّة أو اللقبالمشهور... وعائلات تعاضدت كقوّة نسبيّة عائليّة تاريخيّة في جغرافيّة ما لأسبابتاريخيّة سالفة, ورؤى إجتماعيّة أو سياسيّة أو تقاطع مصالح, لتؤلّف عشيرة متماسكةمن صنوف القبائل والعشائر... وهناك عائلات تفرّعت عن عائلات تحت تأثيرات إجتماعيةوتاريخية وجغرافية وإقتصاديّة وديموغرافيّة مختلفة, وحملت أسماء وألقابا وكنىمغايرة, تناسى أبناؤها مع مرور الزّمن عائلتهم الأمّ وجهلوا أصولهم وجذورهم, فغدواعائلات منقطعة تقف عند حقبة معينة لتنتهي عندها... وعائلات أخرى ظلمها التّاريخوساهمت طوعا أو كرها في ظلم بنيها ونسبها, مقتنعة بما هي عليه رغم الخطأ المقصودأو غيره, رافضة الإقتناع بالحقيقة لأنّ الحقيقة لها مراراتها بمصداقيّتها... وتمضيحقب التّاريخ تطوي في سجلاّتها أسرارا دفينة للكثير من الأسر والعائلات, الّتيإستغلق عليها كشف الحقيقة في نسبها, وحالت العوائق بينها وبين الوصول إلى معرفة منهي عبر ما سلف من التّاريخ, بسبب التّهجير والإرتحال وعدم الإستقرار وضياع الوثائقونسيان الذّاكرة وتعاقب الأجيال وشيوع الجهل أما السّعي للحصول على القوت فقط...ولكن بقيت الأسماء والكنى والألقاب والسّمات تجمع الكثير من الأسر والعائلات فيجمهرات من الأنساب عبر التّواصل والمراسلات, وتحقيق الروابط والجمعيات والعديد منأشكال التّعارف والتّآلف والتّكامل, لتزيد من تمتين وترسيخ أسس وجذور ومداميكالمجتمع, كمقدّمة لترسيخ بنيان الأوطان...