محجّة أضحويّة
بقلم: حسين أحمدسليم
صبيحة يوم عيدالأضحى المبارك, روادتني فكرة زيارة بعض المقامات و الأضرحة في الجنوب اللبناني, والتّعرّف على بقايا المعالم التّاريخيّة الّتي تضمّها في صروحها و أروقتها,تُحفّذني رؤى نهل المعرفة العامّة عنها في أماكنها الجغرافيّة, الّتي تختزن بشيء إفتراضيّمن بعض حِقب التّاريخ السّالف, و لو بالنّذر القليل من التّخاطر بالجلاء الفكريالرّوحي, أو على الأقلّ بمتعة تكحيل البصر خشوعا بمشهديّة فنونها المعماريّة و التّشكيلاتالخارجيّة لأضرحتها, و بالتّالي التّجلي الرّوحي في أرحبة بهو أروقتها و محاريبمساجدها, بالإطمئنان النّفسي بممارسة بعض العبادات و الصّلوات و المناجاة والتّهجّدات و ذكر الله تعالى بتلاوة بعض الآيات القرآنيّة و التّسبيح و الإستغفارو التّحميد لله...
ظهر يوم الأضحىالمبارك, حزمت أمري على تنفيذ حركة الفعل الميداني, ترافقني قرينتي الكاتبةالفنّانة الحاجّة وضحة سعيد شعيب, ويمّمنا وجهنا قبلة الجنوب اللبناني, سالكينالطّريق السّريع الّذي كان يكتظّ بالإزدحام لكثرة السّيّارات المتوجّهة شطرالجنوب, و بعدما قطعنا جسر نهر الأولي إخترنا سلوك الطّريق البحريّ, للتّمتّعبمشهديّات جوانب الشّاطيء, و أطلال قلعة صيدا و مرفئها و بعض معالم الأبنيةالقديمة و قبب و مآذن بعض المساجد, حتّى وصلنا دُوّار الزّهراني بعدما إجتيازنابلدة الغازيّة من الطّريق البحري, لنتوقّف قليلا أمام النّصب التّذكاريّ, نسترجعمن محفوظات ذاكرتنا, ما حدث ذات يوم, لمن سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بكلّ الشّرورو السّوآت, و إجتياح أرضنا عدوانا و إعتداء بغير وجه حقّ, و جرأة ذلك الفتى الكشفيالشّهيد بلال فحص, على بذل روحه و جسده و نفسه بالجهاد, فداء لبنان صونا و زودا عنطهر الأرض و التّراب و الشّرف الوطني...
أكملنا مسيرتناسالكين الطّريق البحري, قاصدين بلدة عدلون, حيث تطوّع أحد شبابها لإرشادنا علىمقام النّبي ساري, وقادنا على صهوة درّاجته النّاريّة, يمخر بنا طرقات بلدة عدلونصعودا, و نحن نجِدُّ بسيّارتنا أن نتبع سرعة درّاجته, حتّى وصل بنا إلى مشارفِمقام النّبي ساري, بمئذنة مسجده المنتصبة بعنفوان و كبرياء, رافعة صهوتها إلىالسّماء, كأنّها تُناجي الله متهجّدة مستغيثة بخشوعها الصّلواتيّ, بمحاذاة الطّريقالسّريع بين مدينتيّ صيدا و صور, و كأنّها تراقب و تبارك و تضرع للعلا, حفظالمارّة بقرب المقام... هناك توقّف ذلك الشّاب العدلونيّ بدرّاجته النّاريّةلهنيهة, راشدا لنا سلوك الإتّجاه إلى صرح المقام, و ودّعنا كما إستقبلنا بحفاوته وإبتسامته, سابقا لنا قبل أن نقوم بشكره, متمنّيا لنا زيارة مقبولة العبادة في حضرةمقام النّبي ساري, و قفل راجعا من حيث رافقنا عند دوّار الطّريق البحري و مفترق بلدةعدلون المتفرّع منه...
يقع صرح مقام النّبي ساري علىمرتفع من الأرض رائع يخطف الانظار، يتربّع متماهيا بعنفوان ما بين مدينتي صيداوصور، عند التّخوم الجنوبيّة الشّرقيّة لبلدة عدلون العاملية الجنوبية، التي تبعدعن العاصمة بيروت حوالي 68 كلم، وترتفع عن سطح البحر حوالي 120 م وتحيط بها بلدات: انصارية،السّكسكيّة وتجاور البحر ونهر أبو الأسود... و يُضفي موقع مقام النّبي ساري في تلالبلدة عدلون السّاحليّة, البلدة الجنوبية العاملية. هذا المقام الّذي تعلوه قبّةرائعة تجذب النّاس والمصلّين وتبدو كخيمة تسطع في سماء الجنوب العاملي، ما هو إلاّقبلة للمصلّين والمؤمنين الّذين يرتادونه بإستمرار لإقامة الصّلاة وإيفاء النّذورات...
دخلنا إلى مقام النّبي ساري من بوابتهالكبيرة الى ساحته الواسعة، التي تشرف غربا على بساتين الموز وشاطىء البحر، والّتيرصفت أرضها بأحجار متناسقة، كما تمّ تشييد جدران المقام بأحجار رمليّة وصخريّةقديمة، لتضفي على هيكليّة المقام الطّابع القديم والمميّز...
دخلنا إلى حرم المقام وتجوّلناتحت الأقواس المعقودة في سقفه و وصلنا إلى القبّة المباركة, حيث السّتارة الخضراءالّتي تمّ تشييد ضريح للنّبي ساري تحتها، لتستوقفنا السّتارة الزّجاجيّة المقفلة والّتي تدعونا للزّيارة و الصّلاة و الرّاحة في رحاب المقام. وبين الأحجار المتراصّةفي جدرانه تشعر بالسّكينة والخشوع فضلاً عن الإستمتاع بمناظر الطّبيعة الخلاّبة الّتييشرف عليها هذا المقام وهي سهول الموز وشاطىء البحر... و بجانب المقام ومن الجهةالبحرية يوجد درج يوصلك الى حديقة منظّمة إفترشت بالازهار وزرعت بأشجار النّخبلبالإضافة لموقف كبير للسّيارات...
و معنى إسم ساري يعنيالمسير أو السّير لأنّ ساري هو السّائر أي (الماشي) في الأرض والنّبي ساري سار فيالأرض وانتقل من مكان إلى آخر من أجل تبليغ رسالة معينة...
كان لزيارتنا مقام النّبيساري في تلال بلدة عدلون الجنوبيّة, نكهة رائعة وروحانية مختلفة, فالمقام لا يخلومن ساجد و عابد و زائر على مدى النّهار و الليل بين عبق و رائحة الأزهار و عليلالنّسيمات الّتي تلفّه... و كلّها عوامل تُشعر الزّائر بالخشوع و الإطمئنان و السّلام...
ضريح النّبي ساري الّذي يقعفي بلدة عدلون التّاريخية السّاحلية, غير محدّد الفترة التي بُني فيها, وهناكالعديد من الرّوايات التي تعيده إلى حقب مختلفة, و من غير الواضح لمن يعود القبرالقائم في داخله, ما إذا كان يعود لنبي أو صالح أو أحد القادة الفاتحين, و لا تتوفّروثيقة تاريخية تجزم, و الذّاكرة الشّعبية, تختزن هذه التّسمية عنه... بحيث بني علىتلّة مشرفة على بساتين الليمون الممتدة على طول السّاحل حتّى مدينة صور و التييمكن رؤيتها ممتدّة في البحر من فنائه الخارجي... و حيث يقوم المقام و المسجد علىعقود حجرية جميلة تعلوها قبة... و قد جرى ترميمه مؤخراً بطريقة حرفية حافظت علىعناصره وعمّمت العناصر على التّوسعة الّتي شهدها...
هذا و عدلون البلدةالجنوبية العاملية الرّائعة بطبيعتها والمباركة بمقام النّبي ساري, تبلغ مساحتهاالاجمالية نحو 8000 دونماً وتعتبر من أغنى البلدات في الجنوب اللبناني, الّتي لازالت تحتفظ بالآثار القديمة التي تعود لأكثر من 120 ألف سنة كالآثار الفينيقيّة،الرّومانيّة، الفارسيّة و الفرعونيّة و أهمّها أثار مغاور عدلون التي تعود للعصرالحجري و الإنسان الأوّل, حيث تنتشر هذه المغاور على مساحة 120 دونماً...
إسم عدلون الشّابّة السّاحليةالتي يغسل البحر أقدامها, تتربّع على شاطئه بسهلها الفسيح المزدان بالفاكهةوالبيوت الجميلة والأهل الأكارم والمقام المبارك, يعود للملك أو الأمير ليون الذيغادرها لفترة ومن ثم عاد لها فقيل إنّه عاد ليون وأصبحت مع الوقت عدلون...
تحيط بلدة عدلون التيتحتضن مقام النبي ساري (ع) بلدات انصارية ، السكسكية نهر ابو الاسود وتشرف علىشاطىء البحر فيضفي مقام النّبي ساري فيها بريقاً ورونقاً خاصاً على هذا الشّاطىء إذيعتبر المقام لؤلؤة نفيسة ذات رمزيّة وقدسيّة هامّة...
تركنا مقام النّبي سار و يمّمنا وجهنابلدة أنصار عبر مجاز نهر أبو الأسود, حيث قمنا بزيارة لمقام و مسجد الصّحابيّالجليل أبي ذرّ الغفّاري في وادي البلاطة, و من ثمّ قصدنا فضيلة العلاّمة المجاهدالشّيخ محمّد المصري العاملي, الّذي تربطنا به علاقات وطيدة, حيث إستقبلنا بكثيرمن الحفاوة و أكرمنا بإرشاداته و توجيهاته و شروحاته عن بعض المقامات في بلادعاملة, إضافة لتزويدنا ببعض النّشرات و المجلاّت الثّقافيّة الدّينيّة, لنستودعهبنفس الحفاوة الّتي أضافنا بها, قاصدين مقام النّبي جليل في بلدة الشرقيّة عبربلدة الدّوير, و الّذي وصلناه عصرا...
مقام النّبي جليل في تلال و ربوع بلدة الشّرقيّةالجنوبيّة, هو مزار ديني يعود بتاريخه إلىالسّنوات الأربعمئة الماضيّة، و بداخل الصّرح الحجري يوجد ضريح النّبي جليل, حيث مساحةالبناء حوالي الخمسماية متر... و الأهالي في بلدة الشّرقيّة و الجوار يقدّسونالمزار و يتباركون بوجوده في بلدتهم, و يزورونه بشكل دوري، و يُعتبر في قناعاتهمالعقائديّة قيمة إيمانيّة دينيّة تراثيّة وقد إهتمّت به البلديّة و رمّمته ليحافظعلى طابعه الهندسي و على القناطر و السّراديب و على القبّة و المئذنة...
تتميّز بلدة الشّرقيّة اللعامليّة الجنوبيّة,بكثرة المناطق الأثريّة الّتي هي عبارة عن بقايا منازل قديمة و أجران محفورة فيالصّخور و مدافن و عدد من المغاور الضّاربة في أعماق التّاريخ في هذا الموقعالجغرافيّ المحدّد بنطاق بلدة الشّرقيّة...
ويقع في بلدة الشّرقيّة مقام وليّ صالح إسمه عبدالجليل, و قد تعدّدت الرّوايات حوله و تضاربت لمعرفة مدى علاقة إسمه بجبال الجليلفي فلسطين، و ببلدة قانا الجليل الجنوبيّة و بالمقام الأثري الموجود في البلدة...
وفي الأحاديث المتداولة أنّ عبد الجليل كان شيخالبلدة قانا الجنوبيّة, و خلال تجواله في قرى جبل عامل لنشر رسالته الدّينيّة مرّعلى قرية الشّرقيّة و إستقرّ فيها و بُنى له مقاما في العام 1681 للميلاد و هو لايزال حتّى اليوم يُعتبر مزارا دينيّا مميّزا لأهالي البّلدة و لمنطقة النّبطيّة...و زمن بناء المقام يتقاطع مع إقامة جدّ آل شعيب في المحلّة الّتي إقتطعت له من قبلآل الصّغير في ذلك الزّمن بعد تزويجه له بإبنتهم...
و نظرا لحجم الوافدين لزيارته في السّابق, تحوّلمحيطه إلى سوق شعبي تجاري، حيث أنّ الوافدين كانوا يتسابقون بالوصول إلى المقام,لحجز مكان قريب لهم بسبب كثافة الزّائرين الّذين كانوا يقومون بتأدية الصّلوات و تقديمالنّذور لعودة غائب أو شفاء مريض، و استمر الحال على هذا المنوال حتّى العام 1950حيث انخفض حجم الوافدين و اقتصرت الزّيارات على تقديم النّذور التي يواصل كثيرونمن أبناء البلدة و القرى المجاورة تقديمها للوليّ مع الدّعاء بتحقيق الأمنيات...
و هذا المقام هو مزار للنّبي جليل و له حرمةوقداسة عظيمة في نظر الأهالي و قد كان له عيد سنوي في أيّام الرّبيع يجتمع إليهالنّاس من مناطق بعيدة للإحتفال و تقديم النّذور...
و البناء الواسع و الضّخم يشهد على إعتبار النّاسله, كما أنّهم ينسبون له شفاعات و يقسمون بإسمه في الأمور المستعصية، و قد تبركتبه البلدة خلال القرون الماضية، و عمد أهالي بلدة الشّرقيّة و السّلطات المحلّيّةفيها للمحافظة على طابع المقام الدّيني و الهندسي و عملوا على تأهيله مرّات عدّة,ليبقى مزارا دينيّا على مرّ العهود و الايام... و المقام بشكله الحالي يُحاكي الشّكلالهندسي المعماري عند العرب و المسلمين... كما أنّه تمّ الإهتمام بالمقام من الدّاخل,حيت يوجد فيه ضريح النّبي جليل، و المقام يتميّز من النّاحية الهندسيّة بسعته و فيالأشكال الهندسيّة التي إعتمدت لبناء القناطر و السّراديب و بإحتوائه على قبّة و مئذنة...
هذا و مقام النّبي جليل الحالي يعود لحواليأربعماية سنة سالفة, حسب تأكيدات بعض المؤرّخين في البلدة, و قد تمّ بناءه علىانقاض و أطلال مقام سابق أو ضريح قديم لـلنّبي جليل, ما يعني أنّ وجود المقام سابقبكثير لوجود بلدة الشّرقيّة و أهاليها, الّتي حلّ أبناؤها ضيوفا في أرحبة جغرافيّةأرضها, كهبة لجدّ آل شعيب الأوّل الّذي أتى المنطقة من طرابلس الشّمال, و هو منأعيان و حكّام عرقا في زمن المماليك و العثمانيين, تزوّج من آل الصّغير وسكن قربالمقام وتبرك به منذ قرون، و كثرت سلالته و قدم إلى البلدة عائلات أخرى سكنتها قربالمقام المبارك...
هذا و تبرز عظمة هذا النّبي و أهمّيّته الخاصّةمن خلال رؤية الرّبط التّاريخي بين "النبي جليل" وبلاد جبل عامل, الّتيكانت تعرف بإسم جبال الجليل, نسبة إلى مقام النّبي جليل في رحاب الأرض العامليّةالجنوبيّة الّتي عُرفت فيما بعد في أواخر القرن السّابع عشر ببلدة الشّرقيّة...
من ناحيةتاريخيّة توثيقيّة لا يوجد رواية تاريخيّة مؤكّدة أو مسنودة علميّاً حول تاريخ أوكيفية بناء المقام في بلدة الشّرقيّة, و يروي كبار السّنّ في البلدة, نقلاً عنآبائهم و أجدادهم قصّة رجل إسمه زبيب كان يقيم خيمة أو عرزالاً على التّلالالجنوبيّة للبلدة حيث كان يحرس أرضه المزروعة هناك، وليلا جاءه ثلاثة رجال على قدركبير من المهابة و الوقار و طلبوا منه شربة ماء فأحسن وفادتهم و سقاهم من آنيةكانت معه و أطعمهم من ثمار حقله، و يضيف الرّواة بأنّ آنية الماء قد امتلأت ماء و أنّالزّرع كثر ثماره عندما همّ زبيب بإحضار الماء و الطّعام لهؤلاء الزّوّار...
و يُؤكّدالرّواة في مروياتهم الشّعبيّة, أنّه كان هؤلاء الزّوّار هم نبيّ الله الجليل و شقيقهتميم و فارس البطاح، جاؤوا هذا الشّخص المدعوّ زبيب و طلبوا منه بناء مقامات لهمعلى التّلال المجاورة بمواصفات محدّدة، ثمّ أشاروا له بوجود آنية من الفخّار تحتويعلى قطع من الذّهب سيجدها أثناء الحراثة لأرضه، و عليه أن يصرفها على بناءالمقامات و أن يذخر منها قطعة واحدة لحفر قبره و تجهيز كفنه. و يشار بأن لزبيب هذاقبر داخل مقام النبي جليل ببلدة الشّرقيّة...
و نحن في رحاب بلدة الشّرقيّة حاولنا التّواصل بزميلناالمهندس الأستاذ حسين عبد اللطيف شعيب, و زيارته للوقوف منه على بعض المعلوماتالّتي بحوزته عن بلدة الشّرقيّة و عائلتها الأساسيّة آل شعيب, الّذين هم من صلاترحم قرينتي الكاتبة و الفنانة التّشكيليّة الحاجةّ وضحة سعيد آل شعيب و برفقتها,فلم نُوفّق به... فقصدنا بلدة المروانيّة لزيارة المجاهد الأستاذ حسن هاشم, فلميُحالفنا الحظّ بلقائه في منزله, فعدنا أدراجنا إلى ضاحية بيروت الجنوبيّة, نُصارعالوقت بالوصول قبل هبوط الليل, و غزدحام السّيّارات الخانق يُعيق مسيرتنا...
الحكايات والرّوايات لاتختلف على كثرتها, عن تاريخ نشأة وتكوّن قرية الشّرقيّة وكيفيّة وصول عائلة شعيبإليها باعتبارها من أوائل العائلات التي وطأت أقدامها القرية وسكنت فيها. وخلاصةتاريخ بلدة الشّرقيّة و أهاليها يعتمد في معظمه على أقوال بعض أبنائها الذينسمعوها ونقلوها عن آبائهم وأجدادهم, و الشاعر محمد كامل شعيب العاملي كتب عن أصلالعائلة والأسباب التي أدّت إلى وجودها في الشّرقيّة، حيث يقول: "إنه فيالقرن السادس عشر وقع خلاف بين أمراء آل سيفا والمعنين والأمير منصور التركماني منجهة وبين والي أنفة القريبة من شكا محمد آغا شعيب من جهة ثانية على جباية الأموالالميرية، ومن أجل وضع حد لخلافاتهم هذه اتفقوا على عقد اجتماع فيما بينهم في مسجدطيلان في طرابلس والتداول في كيفية تقسيط ضريبة الإقطاع، ولكن أمراء آل سيفا والمعنيينأعدَّوا للوالي محمد آغا شعيب ومرافقيه كميناً قرب المسجد المذكور مؤلف من 300 رجل(ثلاثماية) فقتل هو وأحد أنجاله، في حين نجا ابنه إبراهيم بأعجوبة، وتمكَّن منالهرب تحت جنح الظلام حتى وصل قرية الطيبة، وحل ضيفاً على بكوات آل الأسعدالمعروفين في ذلك الوقت بيت علي الصغير ثم صاهرهم، وكانت منطقة الشقيف التي هيتابعة النبطية من إقطاع الصعبيين(آل الفضل مؤخراَ) وكان هؤلاء تابعين لأل الصغيرفطلبوا منهم أن يُقطِعوا إبراهيم شعيب إحدى القرى فأقطعوه قرية الشرقية في منطقةجبل عامل. وهكذا كانت عائلة شعيب أول عائلة تسكن في القرية وتشكل النواة الأولىلتكونها.
و في مرويات القاموسالعام لحنّا أبي راشد قولاً يعقّب به على ترجمة محمد كامل شعيب العاملي مؤداه أنأسرة شعيب من الأسر اللبنانية القديمة. كان مقرها الأساسي في البترون وجبيل. وفيسنة 1573 م جرت حادثة بينها وبين أمراء آل سيفا التركمان أدت إلى قتل والي طرابلسوهو كبير هذه الأسرة مع نفرٍ من أبناء أسرته، ومن ذاك العهد تشتت الأسرة المذكورةفي أطراف لبنان".
و يروي محمد كاملشعيب العاملي: أنه من سلالة بني شعيب الذين كانوا يقيمون في عرقة أو علاقة القريبةمن طرابلس ويتحدر منهم محمد أغا شعيب الذي تولى طرابلس عام 1523 للميلاد... فيمايقول بعض أبناء الأسرة: أنهم مصريون جاؤوا من مدينة بورسعيد إلى فلسطينفلبنان".
وفي سبب التسمية يقولالسيد محسن الأمين: "الشرقية بلفظ النسبة إلى الشرق مقابل الغرب، قرية من قرىالشقيف فيها مزار يقال له مزار"جليل" عليه قبّة كان فيها من أهل العلمالمعاصرين الشيخ محمد علي قبيسي وكان لا يستطيع النطق بالقاف، يتكلم بالعربيةالفصحى وكل كلامه مسجّع عن "خطط جبل عامل السيد محسن الأمين".
وعن التسمية يقول حسننعمة أن سكان البلدة يقولون بأنها كانت قديماّ في مكان آخر مقابل للموقع الحالييدعى الغربية، وبعدها إنتقل السكان إلى المكان الحالي الذي دعوه الشرقية.
وورد في قاموس لبنان:الشرقية بلدة في جبل عامل اشتهر منها محمد كامل شعيب العاملي...
و تقع بلدة الشرقيةفي نقطة وسط بين مناطق صيدا والزهراني والنبطية وتحيط بها قرى عديدة ترتبط بهابشبكة من الطرق الرئيسية، فقرية الدوير تحدها جنوباً وكوثرية السياد غرباًوالنميرية شمالاُ في حين تحدها الكفور شرقاً من دون أن ترتبط بها بأي طريق رئيسية...
هذا الموقع الجغرافيالمميز للشرقية أعطاها أهمية ودوراً بحيث باتت ممراً للسيارات من مختلف الاتجاهاتنظراً لقربها من الأقضية المحيطة بها (صيدا- الزهراني- النبطية) وازدادت أهمية هذاالموقع أثناء الاعتداءات الإسرائيلية, التي كانت تستهدف النبطية والطريق العامالذي يربطها بمنطقتي صيدا والزهراني فأصبحت الممر الرئيسي للمواطنين كافة لا سيماالمتوجهين إلى مناطق أخرى لأنها باتت أكثر أمناً، وهذا ما جعل الشرقية من أكثرالقرى ارتباطاً بالمنطقة بأكملها.
وهذا الممر ساهم إلىحد بعيد في خلق حيوية جديدة حيث شهدت حركة عمران وبناء للمحال التجارية على جانبيالطريق الممتدة من حدود الشرقية مع الدوير إلى الطريق الرئيسية التي تربطها بقريتيالنميرية وكوثرية السياد.
وتبعد الشرقية عنالنبطية مركز المحافظة 7 كلم وعن العاصمة بيروت 73 كلم وترتفع عن سطح البحر 450كلم.
و تقدّر مساحةالشرقية بحوالي 4500 دونماً من الأراضي الصالة للزراعة وأراضي السليخ، نصفهاتقريباً لورثة رئيس وزراء لبنان الراحل رياض الصلح، والنصف الآخر يتوزع ما بينالأهالي الذين يملكون ما يقارب 2000 دونم والمشاع والوقف والجفتلك (خزينةالجمهورية اللبنانية).
الأراضي البعليةالصالحة للزراعة تشكّل ما يقارب 75% من المساحة الإجمالية . ومعظم أراضي القرية لاسيما تلك التابعة لآل الصلح تمتاز بتربة جيدة صالحة لمختلف أنواع الزراعات البعليةوالمروية على حد سواء.
و عدد سكان البلدةيتجاوز ال 5000 نسمة وناخبوها 2150 وفق لوائح الشطب 2003، المقيمون في الشرقيةيقاربون النصف، والباقي يتوزعون بين العاصمة بيروت وضواحيها الجنوبية حيث تقطنالغالبية من أبناء القرية في هذه المنطقة، وقد زادت نسبة المقيمين في القرية معبداية الأحداث اللبنانية...
و في البلدة عدّةمناطق أثرية"كالفضولية" التي يوجد فيها آثار وبقايا منازل قديمة وأجرانمحفورة في صخورها، وفي الغربية ما يدل على وجود منطقة سكنية لوفرة "عيون" المياه فيها والينابيع والمدافن، ومغاور عديدة تمتد عميقاً في منطقة"السدر" حيث يوجد مغارة متعددة التجاويف وواسعة ونهايتها غير واضحة،وفيالمنطقة المجاورة والتي تشكل امتداداً لها وتسمى " خلة الحبس" و"عرض السلّم"، وتوجد صخور مرتفعة ومجوفة و"تقيم" في مكان مرتفع يشرفث على المنطقة برمتها ويطلق عليها أهالي الضيعة"كرسي الملك" حيث يدلاسمها على أنها المكان الذي كان مخصصاً لجلوس ملكاً أو أميراً أو سلطاناً.
في المنطقة صخرتانترتبطان بعضهما ببعض وكأنها مشنقة أعدت للإعدام وبقربها آثار وبقايا حفرة عميقةكأنها سجن(حبس ) ويبدو أن المنطقة سميت باسمها " خلة الحبس" ويقال أنمجموع هذه الآثار تعود إلى العهود الفنيقية والرومانية والبيزنطية. وهناك"فارس البطاح" اسم آلهة عند الكنعانيين وله قيمة تاريخية ودينية ويؤكدذلك مسجد البطاح في صيدا...
بقلم: حسين أحمدسليم
صبيحة يوم عيدالأضحى المبارك, روادتني فكرة زيارة بعض المقامات و الأضرحة في الجنوب اللبناني, والتّعرّف على بقايا المعالم التّاريخيّة الّتي تضمّها في صروحها و أروقتها,تُحفّذني رؤى نهل المعرفة العامّة عنها في أماكنها الجغرافيّة, الّتي تختزن بشيء إفتراضيّمن بعض حِقب التّاريخ السّالف, و لو بالنّذر القليل من التّخاطر بالجلاء الفكريالرّوحي, أو على الأقلّ بمتعة تكحيل البصر خشوعا بمشهديّة فنونها المعماريّة و التّشكيلاتالخارجيّة لأضرحتها, و بالتّالي التّجلي الرّوحي في أرحبة بهو أروقتها و محاريبمساجدها, بالإطمئنان النّفسي بممارسة بعض العبادات و الصّلوات و المناجاة والتّهجّدات و ذكر الله تعالى بتلاوة بعض الآيات القرآنيّة و التّسبيح و الإستغفارو التّحميد لله...
ظهر يوم الأضحىالمبارك, حزمت أمري على تنفيذ حركة الفعل الميداني, ترافقني قرينتي الكاتبةالفنّانة الحاجّة وضحة سعيد شعيب, ويمّمنا وجهنا قبلة الجنوب اللبناني, سالكينالطّريق السّريع الّذي كان يكتظّ بالإزدحام لكثرة السّيّارات المتوجّهة شطرالجنوب, و بعدما قطعنا جسر نهر الأولي إخترنا سلوك الطّريق البحريّ, للتّمتّعبمشهديّات جوانب الشّاطيء, و أطلال قلعة صيدا و مرفئها و بعض معالم الأبنيةالقديمة و قبب و مآذن بعض المساجد, حتّى وصلنا دُوّار الزّهراني بعدما إجتيازنابلدة الغازيّة من الطّريق البحري, لنتوقّف قليلا أمام النّصب التّذكاريّ, نسترجعمن محفوظات ذاكرتنا, ما حدث ذات يوم, لمن سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بكلّ الشّرورو السّوآت, و إجتياح أرضنا عدوانا و إعتداء بغير وجه حقّ, و جرأة ذلك الفتى الكشفيالشّهيد بلال فحص, على بذل روحه و جسده و نفسه بالجهاد, فداء لبنان صونا و زودا عنطهر الأرض و التّراب و الشّرف الوطني...
أكملنا مسيرتناسالكين الطّريق البحري, قاصدين بلدة عدلون, حيث تطوّع أحد شبابها لإرشادنا علىمقام النّبي ساري, وقادنا على صهوة درّاجته النّاريّة, يمخر بنا طرقات بلدة عدلونصعودا, و نحن نجِدُّ بسيّارتنا أن نتبع سرعة درّاجته, حتّى وصل بنا إلى مشارفِمقام النّبي ساري, بمئذنة مسجده المنتصبة بعنفوان و كبرياء, رافعة صهوتها إلىالسّماء, كأنّها تُناجي الله متهجّدة مستغيثة بخشوعها الصّلواتيّ, بمحاذاة الطّريقالسّريع بين مدينتيّ صيدا و صور, و كأنّها تراقب و تبارك و تضرع للعلا, حفظالمارّة بقرب المقام... هناك توقّف ذلك الشّاب العدلونيّ بدرّاجته النّاريّةلهنيهة, راشدا لنا سلوك الإتّجاه إلى صرح المقام, و ودّعنا كما إستقبلنا بحفاوته وإبتسامته, سابقا لنا قبل أن نقوم بشكره, متمنّيا لنا زيارة مقبولة العبادة في حضرةمقام النّبي ساري, و قفل راجعا من حيث رافقنا عند دوّار الطّريق البحري و مفترق بلدةعدلون المتفرّع منه...
يقع صرح مقام النّبي ساري علىمرتفع من الأرض رائع يخطف الانظار، يتربّع متماهيا بعنفوان ما بين مدينتي صيداوصور، عند التّخوم الجنوبيّة الشّرقيّة لبلدة عدلون العاملية الجنوبية، التي تبعدعن العاصمة بيروت حوالي 68 كلم، وترتفع عن سطح البحر حوالي 120 م وتحيط بها بلدات: انصارية،السّكسكيّة وتجاور البحر ونهر أبو الأسود... و يُضفي موقع مقام النّبي ساري في تلالبلدة عدلون السّاحليّة, البلدة الجنوبية العاملية. هذا المقام الّذي تعلوه قبّةرائعة تجذب النّاس والمصلّين وتبدو كخيمة تسطع في سماء الجنوب العاملي، ما هو إلاّقبلة للمصلّين والمؤمنين الّذين يرتادونه بإستمرار لإقامة الصّلاة وإيفاء النّذورات...
دخلنا إلى مقام النّبي ساري من بوابتهالكبيرة الى ساحته الواسعة، التي تشرف غربا على بساتين الموز وشاطىء البحر، والّتيرصفت أرضها بأحجار متناسقة، كما تمّ تشييد جدران المقام بأحجار رمليّة وصخريّةقديمة، لتضفي على هيكليّة المقام الطّابع القديم والمميّز...
دخلنا إلى حرم المقام وتجوّلناتحت الأقواس المعقودة في سقفه و وصلنا إلى القبّة المباركة, حيث السّتارة الخضراءالّتي تمّ تشييد ضريح للنّبي ساري تحتها، لتستوقفنا السّتارة الزّجاجيّة المقفلة والّتي تدعونا للزّيارة و الصّلاة و الرّاحة في رحاب المقام. وبين الأحجار المتراصّةفي جدرانه تشعر بالسّكينة والخشوع فضلاً عن الإستمتاع بمناظر الطّبيعة الخلاّبة الّتييشرف عليها هذا المقام وهي سهول الموز وشاطىء البحر... و بجانب المقام ومن الجهةالبحرية يوجد درج يوصلك الى حديقة منظّمة إفترشت بالازهار وزرعت بأشجار النّخبلبالإضافة لموقف كبير للسّيارات...
و معنى إسم ساري يعنيالمسير أو السّير لأنّ ساري هو السّائر أي (الماشي) في الأرض والنّبي ساري سار فيالأرض وانتقل من مكان إلى آخر من أجل تبليغ رسالة معينة...
كان لزيارتنا مقام النّبيساري في تلال بلدة عدلون الجنوبيّة, نكهة رائعة وروحانية مختلفة, فالمقام لا يخلومن ساجد و عابد و زائر على مدى النّهار و الليل بين عبق و رائحة الأزهار و عليلالنّسيمات الّتي تلفّه... و كلّها عوامل تُشعر الزّائر بالخشوع و الإطمئنان و السّلام...
ضريح النّبي ساري الّذي يقعفي بلدة عدلون التّاريخية السّاحلية, غير محدّد الفترة التي بُني فيها, وهناكالعديد من الرّوايات التي تعيده إلى حقب مختلفة, و من غير الواضح لمن يعود القبرالقائم في داخله, ما إذا كان يعود لنبي أو صالح أو أحد القادة الفاتحين, و لا تتوفّروثيقة تاريخية تجزم, و الذّاكرة الشّعبية, تختزن هذه التّسمية عنه... بحيث بني علىتلّة مشرفة على بساتين الليمون الممتدة على طول السّاحل حتّى مدينة صور و التييمكن رؤيتها ممتدّة في البحر من فنائه الخارجي... و حيث يقوم المقام و المسجد علىعقود حجرية جميلة تعلوها قبة... و قد جرى ترميمه مؤخراً بطريقة حرفية حافظت علىعناصره وعمّمت العناصر على التّوسعة الّتي شهدها...
هذا و عدلون البلدةالجنوبية العاملية الرّائعة بطبيعتها والمباركة بمقام النّبي ساري, تبلغ مساحتهاالاجمالية نحو 8000 دونماً وتعتبر من أغنى البلدات في الجنوب اللبناني, الّتي لازالت تحتفظ بالآثار القديمة التي تعود لأكثر من 120 ألف سنة كالآثار الفينيقيّة،الرّومانيّة، الفارسيّة و الفرعونيّة و أهمّها أثار مغاور عدلون التي تعود للعصرالحجري و الإنسان الأوّل, حيث تنتشر هذه المغاور على مساحة 120 دونماً...
إسم عدلون الشّابّة السّاحليةالتي يغسل البحر أقدامها, تتربّع على شاطئه بسهلها الفسيح المزدان بالفاكهةوالبيوت الجميلة والأهل الأكارم والمقام المبارك, يعود للملك أو الأمير ليون الذيغادرها لفترة ومن ثم عاد لها فقيل إنّه عاد ليون وأصبحت مع الوقت عدلون...
تحيط بلدة عدلون التيتحتضن مقام النبي ساري (ع) بلدات انصارية ، السكسكية نهر ابو الاسود وتشرف علىشاطىء البحر فيضفي مقام النّبي ساري فيها بريقاً ورونقاً خاصاً على هذا الشّاطىء إذيعتبر المقام لؤلؤة نفيسة ذات رمزيّة وقدسيّة هامّة...
تركنا مقام النّبي سار و يمّمنا وجهنابلدة أنصار عبر مجاز نهر أبو الأسود, حيث قمنا بزيارة لمقام و مسجد الصّحابيّالجليل أبي ذرّ الغفّاري في وادي البلاطة, و من ثمّ قصدنا فضيلة العلاّمة المجاهدالشّيخ محمّد المصري العاملي, الّذي تربطنا به علاقات وطيدة, حيث إستقبلنا بكثيرمن الحفاوة و أكرمنا بإرشاداته و توجيهاته و شروحاته عن بعض المقامات في بلادعاملة, إضافة لتزويدنا ببعض النّشرات و المجلاّت الثّقافيّة الدّينيّة, لنستودعهبنفس الحفاوة الّتي أضافنا بها, قاصدين مقام النّبي جليل في بلدة الشرقيّة عبربلدة الدّوير, و الّذي وصلناه عصرا...
مقام النّبي جليل في تلال و ربوع بلدة الشّرقيّةالجنوبيّة, هو مزار ديني يعود بتاريخه إلىالسّنوات الأربعمئة الماضيّة، و بداخل الصّرح الحجري يوجد ضريح النّبي جليل, حيث مساحةالبناء حوالي الخمسماية متر... و الأهالي في بلدة الشّرقيّة و الجوار يقدّسونالمزار و يتباركون بوجوده في بلدتهم, و يزورونه بشكل دوري، و يُعتبر في قناعاتهمالعقائديّة قيمة إيمانيّة دينيّة تراثيّة وقد إهتمّت به البلديّة و رمّمته ليحافظعلى طابعه الهندسي و على القناطر و السّراديب و على القبّة و المئذنة...
تتميّز بلدة الشّرقيّة اللعامليّة الجنوبيّة,بكثرة المناطق الأثريّة الّتي هي عبارة عن بقايا منازل قديمة و أجران محفورة فيالصّخور و مدافن و عدد من المغاور الضّاربة في أعماق التّاريخ في هذا الموقعالجغرافيّ المحدّد بنطاق بلدة الشّرقيّة...
ويقع في بلدة الشّرقيّة مقام وليّ صالح إسمه عبدالجليل, و قد تعدّدت الرّوايات حوله و تضاربت لمعرفة مدى علاقة إسمه بجبال الجليلفي فلسطين، و ببلدة قانا الجليل الجنوبيّة و بالمقام الأثري الموجود في البلدة...
وفي الأحاديث المتداولة أنّ عبد الجليل كان شيخالبلدة قانا الجنوبيّة, و خلال تجواله في قرى جبل عامل لنشر رسالته الدّينيّة مرّعلى قرية الشّرقيّة و إستقرّ فيها و بُنى له مقاما في العام 1681 للميلاد و هو لايزال حتّى اليوم يُعتبر مزارا دينيّا مميّزا لأهالي البّلدة و لمنطقة النّبطيّة...و زمن بناء المقام يتقاطع مع إقامة جدّ آل شعيب في المحلّة الّتي إقتطعت له من قبلآل الصّغير في ذلك الزّمن بعد تزويجه له بإبنتهم...
و نظرا لحجم الوافدين لزيارته في السّابق, تحوّلمحيطه إلى سوق شعبي تجاري، حيث أنّ الوافدين كانوا يتسابقون بالوصول إلى المقام,لحجز مكان قريب لهم بسبب كثافة الزّائرين الّذين كانوا يقومون بتأدية الصّلوات و تقديمالنّذور لعودة غائب أو شفاء مريض، و استمر الحال على هذا المنوال حتّى العام 1950حيث انخفض حجم الوافدين و اقتصرت الزّيارات على تقديم النّذور التي يواصل كثيرونمن أبناء البلدة و القرى المجاورة تقديمها للوليّ مع الدّعاء بتحقيق الأمنيات...
و هذا المقام هو مزار للنّبي جليل و له حرمةوقداسة عظيمة في نظر الأهالي و قد كان له عيد سنوي في أيّام الرّبيع يجتمع إليهالنّاس من مناطق بعيدة للإحتفال و تقديم النّذور...
و البناء الواسع و الضّخم يشهد على إعتبار النّاسله, كما أنّهم ينسبون له شفاعات و يقسمون بإسمه في الأمور المستعصية، و قد تبركتبه البلدة خلال القرون الماضية، و عمد أهالي بلدة الشّرقيّة و السّلطات المحلّيّةفيها للمحافظة على طابع المقام الدّيني و الهندسي و عملوا على تأهيله مرّات عدّة,ليبقى مزارا دينيّا على مرّ العهود و الايام... و المقام بشكله الحالي يُحاكي الشّكلالهندسي المعماري عند العرب و المسلمين... كما أنّه تمّ الإهتمام بالمقام من الدّاخل,حيت يوجد فيه ضريح النّبي جليل، و المقام يتميّز من النّاحية الهندسيّة بسعته و فيالأشكال الهندسيّة التي إعتمدت لبناء القناطر و السّراديب و بإحتوائه على قبّة و مئذنة...
هذا و مقام النّبي جليل الحالي يعود لحواليأربعماية سنة سالفة, حسب تأكيدات بعض المؤرّخين في البلدة, و قد تمّ بناءه علىانقاض و أطلال مقام سابق أو ضريح قديم لـلنّبي جليل, ما يعني أنّ وجود المقام سابقبكثير لوجود بلدة الشّرقيّة و أهاليها, الّتي حلّ أبناؤها ضيوفا في أرحبة جغرافيّةأرضها, كهبة لجدّ آل شعيب الأوّل الّذي أتى المنطقة من طرابلس الشّمال, و هو منأعيان و حكّام عرقا في زمن المماليك و العثمانيين, تزوّج من آل الصّغير وسكن قربالمقام وتبرك به منذ قرون، و كثرت سلالته و قدم إلى البلدة عائلات أخرى سكنتها قربالمقام المبارك...
هذا و تبرز عظمة هذا النّبي و أهمّيّته الخاصّةمن خلال رؤية الرّبط التّاريخي بين "النبي جليل" وبلاد جبل عامل, الّتيكانت تعرف بإسم جبال الجليل, نسبة إلى مقام النّبي جليل في رحاب الأرض العامليّةالجنوبيّة الّتي عُرفت فيما بعد في أواخر القرن السّابع عشر ببلدة الشّرقيّة...
من ناحيةتاريخيّة توثيقيّة لا يوجد رواية تاريخيّة مؤكّدة أو مسنودة علميّاً حول تاريخ أوكيفية بناء المقام في بلدة الشّرقيّة, و يروي كبار السّنّ في البلدة, نقلاً عنآبائهم و أجدادهم قصّة رجل إسمه زبيب كان يقيم خيمة أو عرزالاً على التّلالالجنوبيّة للبلدة حيث كان يحرس أرضه المزروعة هناك، وليلا جاءه ثلاثة رجال على قدركبير من المهابة و الوقار و طلبوا منه شربة ماء فأحسن وفادتهم و سقاهم من آنيةكانت معه و أطعمهم من ثمار حقله، و يضيف الرّواة بأنّ آنية الماء قد امتلأت ماء و أنّالزّرع كثر ثماره عندما همّ زبيب بإحضار الماء و الطّعام لهؤلاء الزّوّار...
و يُؤكّدالرّواة في مروياتهم الشّعبيّة, أنّه كان هؤلاء الزّوّار هم نبيّ الله الجليل و شقيقهتميم و فارس البطاح، جاؤوا هذا الشّخص المدعوّ زبيب و طلبوا منه بناء مقامات لهمعلى التّلال المجاورة بمواصفات محدّدة، ثمّ أشاروا له بوجود آنية من الفخّار تحتويعلى قطع من الذّهب سيجدها أثناء الحراثة لأرضه، و عليه أن يصرفها على بناءالمقامات و أن يذخر منها قطعة واحدة لحفر قبره و تجهيز كفنه. و يشار بأن لزبيب هذاقبر داخل مقام النبي جليل ببلدة الشّرقيّة...
و نحن في رحاب بلدة الشّرقيّة حاولنا التّواصل بزميلناالمهندس الأستاذ حسين عبد اللطيف شعيب, و زيارته للوقوف منه على بعض المعلوماتالّتي بحوزته عن بلدة الشّرقيّة و عائلتها الأساسيّة آل شعيب, الّذين هم من صلاترحم قرينتي الكاتبة و الفنانة التّشكيليّة الحاجةّ وضحة سعيد آل شعيب و برفقتها,فلم نُوفّق به... فقصدنا بلدة المروانيّة لزيارة المجاهد الأستاذ حسن هاشم, فلميُحالفنا الحظّ بلقائه في منزله, فعدنا أدراجنا إلى ضاحية بيروت الجنوبيّة, نُصارعالوقت بالوصول قبل هبوط الليل, و غزدحام السّيّارات الخانق يُعيق مسيرتنا...
الحكايات والرّوايات لاتختلف على كثرتها, عن تاريخ نشأة وتكوّن قرية الشّرقيّة وكيفيّة وصول عائلة شعيبإليها باعتبارها من أوائل العائلات التي وطأت أقدامها القرية وسكنت فيها. وخلاصةتاريخ بلدة الشّرقيّة و أهاليها يعتمد في معظمه على أقوال بعض أبنائها الذينسمعوها ونقلوها عن آبائهم وأجدادهم, و الشاعر محمد كامل شعيب العاملي كتب عن أصلالعائلة والأسباب التي أدّت إلى وجودها في الشّرقيّة، حيث يقول: "إنه فيالقرن السادس عشر وقع خلاف بين أمراء آل سيفا والمعنين والأمير منصور التركماني منجهة وبين والي أنفة القريبة من شكا محمد آغا شعيب من جهة ثانية على جباية الأموالالميرية، ومن أجل وضع حد لخلافاتهم هذه اتفقوا على عقد اجتماع فيما بينهم في مسجدطيلان في طرابلس والتداول في كيفية تقسيط ضريبة الإقطاع، ولكن أمراء آل سيفا والمعنيينأعدَّوا للوالي محمد آغا شعيب ومرافقيه كميناً قرب المسجد المذكور مؤلف من 300 رجل(ثلاثماية) فقتل هو وأحد أنجاله، في حين نجا ابنه إبراهيم بأعجوبة، وتمكَّن منالهرب تحت جنح الظلام حتى وصل قرية الطيبة، وحل ضيفاً على بكوات آل الأسعدالمعروفين في ذلك الوقت بيت علي الصغير ثم صاهرهم، وكانت منطقة الشقيف التي هيتابعة النبطية من إقطاع الصعبيين(آل الفضل مؤخراَ) وكان هؤلاء تابعين لأل الصغيرفطلبوا منهم أن يُقطِعوا إبراهيم شعيب إحدى القرى فأقطعوه قرية الشرقية في منطقةجبل عامل. وهكذا كانت عائلة شعيب أول عائلة تسكن في القرية وتشكل النواة الأولىلتكونها.
و في مرويات القاموسالعام لحنّا أبي راشد قولاً يعقّب به على ترجمة محمد كامل شعيب العاملي مؤداه أنأسرة شعيب من الأسر اللبنانية القديمة. كان مقرها الأساسي في البترون وجبيل. وفيسنة 1573 م جرت حادثة بينها وبين أمراء آل سيفا التركمان أدت إلى قتل والي طرابلسوهو كبير هذه الأسرة مع نفرٍ من أبناء أسرته، ومن ذاك العهد تشتت الأسرة المذكورةفي أطراف لبنان".
و يروي محمد كاملشعيب العاملي: أنه من سلالة بني شعيب الذين كانوا يقيمون في عرقة أو علاقة القريبةمن طرابلس ويتحدر منهم محمد أغا شعيب الذي تولى طرابلس عام 1523 للميلاد... فيمايقول بعض أبناء الأسرة: أنهم مصريون جاؤوا من مدينة بورسعيد إلى فلسطينفلبنان".
وفي سبب التسمية يقولالسيد محسن الأمين: "الشرقية بلفظ النسبة إلى الشرق مقابل الغرب، قرية من قرىالشقيف فيها مزار يقال له مزار"جليل" عليه قبّة كان فيها من أهل العلمالمعاصرين الشيخ محمد علي قبيسي وكان لا يستطيع النطق بالقاف، يتكلم بالعربيةالفصحى وكل كلامه مسجّع عن "خطط جبل عامل السيد محسن الأمين".
وعن التسمية يقول حسننعمة أن سكان البلدة يقولون بأنها كانت قديماّ في مكان آخر مقابل للموقع الحالييدعى الغربية، وبعدها إنتقل السكان إلى المكان الحالي الذي دعوه الشرقية.
وورد في قاموس لبنان:الشرقية بلدة في جبل عامل اشتهر منها محمد كامل شعيب العاملي...
و تقع بلدة الشرقيةفي نقطة وسط بين مناطق صيدا والزهراني والنبطية وتحيط بها قرى عديدة ترتبط بهابشبكة من الطرق الرئيسية، فقرية الدوير تحدها جنوباً وكوثرية السياد غرباًوالنميرية شمالاُ في حين تحدها الكفور شرقاً من دون أن ترتبط بها بأي طريق رئيسية...
هذا الموقع الجغرافيالمميز للشرقية أعطاها أهمية ودوراً بحيث باتت ممراً للسيارات من مختلف الاتجاهاتنظراً لقربها من الأقضية المحيطة بها (صيدا- الزهراني- النبطية) وازدادت أهمية هذاالموقع أثناء الاعتداءات الإسرائيلية, التي كانت تستهدف النبطية والطريق العامالذي يربطها بمنطقتي صيدا والزهراني فأصبحت الممر الرئيسي للمواطنين كافة لا سيماالمتوجهين إلى مناطق أخرى لأنها باتت أكثر أمناً، وهذا ما جعل الشرقية من أكثرالقرى ارتباطاً بالمنطقة بأكملها.
وهذا الممر ساهم إلىحد بعيد في خلق حيوية جديدة حيث شهدت حركة عمران وبناء للمحال التجارية على جانبيالطريق الممتدة من حدود الشرقية مع الدوير إلى الطريق الرئيسية التي تربطها بقريتيالنميرية وكوثرية السياد.
وتبعد الشرقية عنالنبطية مركز المحافظة 7 كلم وعن العاصمة بيروت 73 كلم وترتفع عن سطح البحر 450كلم.
و تقدّر مساحةالشرقية بحوالي 4500 دونماً من الأراضي الصالة للزراعة وأراضي السليخ، نصفهاتقريباً لورثة رئيس وزراء لبنان الراحل رياض الصلح، والنصف الآخر يتوزع ما بينالأهالي الذين يملكون ما يقارب 2000 دونم والمشاع والوقف والجفتلك (خزينةالجمهورية اللبنانية).
الأراضي البعليةالصالحة للزراعة تشكّل ما يقارب 75% من المساحة الإجمالية . ومعظم أراضي القرية لاسيما تلك التابعة لآل الصلح تمتاز بتربة جيدة صالحة لمختلف أنواع الزراعات البعليةوالمروية على حد سواء.
و عدد سكان البلدةيتجاوز ال 5000 نسمة وناخبوها 2150 وفق لوائح الشطب 2003، المقيمون في الشرقيةيقاربون النصف، والباقي يتوزعون بين العاصمة بيروت وضواحيها الجنوبية حيث تقطنالغالبية من أبناء القرية في هذه المنطقة، وقد زادت نسبة المقيمين في القرية معبداية الأحداث اللبنانية...
و في البلدة عدّةمناطق أثرية"كالفضولية" التي يوجد فيها آثار وبقايا منازل قديمة وأجرانمحفورة في صخورها، وفي الغربية ما يدل على وجود منطقة سكنية لوفرة "عيون" المياه فيها والينابيع والمدافن، ومغاور عديدة تمتد عميقاً في منطقة"السدر" حيث يوجد مغارة متعددة التجاويف وواسعة ونهايتها غير واضحة،وفيالمنطقة المجاورة والتي تشكل امتداداً لها وتسمى " خلة الحبس" و"عرض السلّم"، وتوجد صخور مرتفعة ومجوفة و"تقيم" في مكان مرتفع يشرفث على المنطقة برمتها ويطلق عليها أهالي الضيعة"كرسي الملك" حيث يدلاسمها على أنها المكان الذي كان مخصصاً لجلوس ملكاً أو أميراً أو سلطاناً.
في المنطقة صخرتانترتبطان بعضهما ببعض وكأنها مشنقة أعدت للإعدام وبقربها آثار وبقايا حفرة عميقةكأنها سجن(حبس ) ويبدو أن المنطقة سميت باسمها " خلة الحبس" ويقال أنمجموع هذه الآثار تعود إلى العهود الفنيقية والرومانية والبيزنطية. وهناك"فارس البطاح" اسم آلهة عند الكنعانيين وله قيمة تاريخية ودينية ويؤكدذلك مسجد البطاح في صيدا...
تعليق