الموت و القبور
بقلم: حسين أحمدسليم
مات جدّي لأبي, قدرًابين يديّ لحكمة ربّانيّة أجهلها, عن عمر جاوز الماية سنة أو أكثر بقليل, و ما زالتآثار حالة موته المفاجئة ماثلة أمامي حيّة, كأنّها حدثت البارحة للتّوّ, تتفاعل وتتزايد في خفايا أعماقي و تثير دفائن أحاسيسي و تُحرّك طوايا مشاعري, و غالبا ماأنزوي في وحدتي يُخالجني البكاء بعيدا عن الأعين الفضوليّة...
و لا زلت منذذلك الوقت و حتّى الآن, أتذكّر ذلك المشهد المهيب, الذي خيّم الموت فيه بدارنا عنوةفي غفلة عن أمرنا, و حلِيَ له السّكن الموقوت في رحاب بيتنا ليحمل جدّي إلى عالمآخر غير عالمنا المحسوس هذا...
و كان الوقت بعدصلاة العشاء تقريبا, في ذلك الفصل الخريفيّ الكئيب, و كانت الغرفة مظلمة بسببإنقطاع الكهرباء المزاجيّ, و على إرتعاشات و تذبذب الضّوء الخافت, المتراقص ذاتاليمين و ذات اليسار, لفتيل القنديل العتيق الموروث من حقب الأمس... في تلك الغرفةالمليئة بالأسرار و الحكايا, إجتمع الكثير من الجيران بلباسهم الأسود و الحزن بادٍعلى و جوههم, و كانت جدّتي تلطم وجهها و صدرها و ركبتيها و تصرخ و تولول و تضع"الشّحار" على وجهها, لقد مات شيخ القبيلة و زعيم العشيرة و حاميمكانتها من الآخرين...
لقد كان مشهدًا مُخيفًاو مرعبًا, لم أرَ له مثيلا فيما مضى من عمري, بحيث تراءى لي مذهولاً و مفجوعا بموتجدّي الذي كان يُحبّني و يلاعبني دائما و يعلّمني الكثير من خبراته في الحياة, لقدتراءى لي أنّ جدّتي كانت ثكلى بجدّي أكثر من الخنساء بأخيها, تلك التي أتىالتّاريخ السّالف على ذكرها...
و كان جدّي و هوميّت يتّشح بلباسه القرويّ التّقليديّ, مُمدّدا على فراشه فوق سرير من الحديد وتحت رأسه وسادته المطرّزة بالخيوط الملوّنة, يُغطّيه لحاف من القطن و شرشف باهتالألوان مُخصّص لمثل هذه الحالة, و هو جاحظ العينين فاغر الفمّ لا حركة فيه, باردالجثمان يابس الأطراف كأنّه كتلة واحدة جامدة, أدارت جدّتي سريره ليتطابق و إتّجاهالقبلة وِفق التّقاليد الدّينيّة السّائدة في عقيدتنا السّمحاء...
ليلة مات جدّي لأبي, كنت صغيرًا و لم أستطعفي وقتها تحمّل المشهد, أتذكّر يومها أنّني إرتحلت في غيبوبة فجائيّة و خاطفة, و وقعتعلى الأرض مُغمى عليّ و ما كِدت أستفيق حتّى بدأت أتقيّأ, و غدت حالة التّقيّؤ تلكتلازمني في حالات التّوتّر العصبي الشّديد منذ ذلك اليوم, و أذكر أيضًا أنّني أصبتيومها بمغص شديد في جوفي و تقلّص في عضلات صدري, فحملتني أمّي إلى بيتنا القريب منبيت جدّي, و أنا في حالة نفسيّة يُرثى لها و في حالة جسديّة مرتفعة الحرارة, لشدّةتأثّري بموت جدّي... و أذكر أنّني بقيت لفترة زمنيّة طويلة تجاوزت السّنة, يسكننيالقلق و الإضطّراب و التّوتّر و الخوف و لم أستطع النّوم خلال تلك المدّة إلاّقليلاً, و كانت الكوابيس تجتاحني و تسكنني و أضغاث الأحلام المرعبة لا تبارحني فييقظتي و لا في غفوتي, فأنتفض مرعوبًا من هدأتي و نومي, و أجفل من كلّ الأشياءلأدنى حركة أو صوت كغرائب الإبل و الغزلان, و ينتابني ذعر شديد لا أستطيع ترجمتهفي كلمات عاديّة, و كان يتراءى لي الكثير من الأشباح المفزعة و الأرواح التيتتشكّل أمامي بأشكال و مشهديات لا عهد لي بها, و كنت أرى الكثير من الحالات ممّايزيد في رعبي عندما أغفو لدقائق في نومي, كنت أرى قبوراً في مقبرة قريتي تمشي بمنفيها و أخرى مكشوفة عمّا في جوفها و النّيران تتلظّى بمحتوياتها و يتصاعد منهادخان عميق و كثيف, و أحياناً كنت أرى جماجم بشريّة تخرج منها ثعابين سوداء و أفاعيرقطاء, و أرى حول القبور نساءً من قريتي متّشحات بالسّواد تصرخ و تستغيث و كلّهنّ علىشاكلة جدّتي و مصابها, و كنت أرى عبيدا سودًا غلاظاً شداداً, لا يعصون الموت ماأمرهم به, لهم أنياب طويلة و قرون كبيرة , وسحنتهم الشّديدة, توحى إليّ أنّها سحنةأهل جهنّم, و كنت أصرخ في نومي و يُصيبني الرّوباص و أتشبثّ بظهر والدي ليجيرني منزبانية النّار المستعرة, و تهرع أمّي إليّ باكية و هي تحمل بيدها "طاسة الرّعبة"و تضعها فوق رأسي و تتلو فوقها تعاويذ و أراجيز و رقى مختلفة, لأنّ أمّي تجيدقراءة لغة عفاريت و أبجديّة الجنّ و طلاسم المردة, و كانت طاسة الرّعبة تهدّئنيقليلاً لأنّي كنت أؤمن بها إيماناً راسخاً, و كنت أؤمن أنّ طلاسمها المحفورة عليهاتحوي علوم الأوّلين و الآخرين...
الموت في قريتي الرّيفيّة يومها كانمرعباً و مخيفا, لأنّه كان نادراً على ذِمّةِ جدّتي, و لأنّه مرتبط بعذاب القبر, ولأنّه سفر طويل لا أوبة منه, و كنت أتساءل في خلدي هل الموتى يزور بعضهم بعضاً؟ و هليتصالح هناك الذين إختلفوا على حطام الدّنيا... و كان أهل القرية يتناقلون أخبارالقبور و ما يجري فيها في الليالي الثّلاث الأولى حيث يأتي "منكر و نكير"و يوقظان الميّت من هجعة موته و ضجعته, و تبدأ الأسئلة: من ربّك؟ و من نبيّك؟ و ماهو دينك؟ و ما كتابك؟ و ماذا فعلت في حياة الدّنيا؟ و الويل لمن لايجيب جواباًصحيحاً و صادقًا, حيث ستمزّق جلده السّياط الغليظة, و تنغرز في جسمه الأنياب الحادّة,و إذا كان الميت سيّئاً بأعماله فسيجد إلى جواره حنشاً أسود, له أنياب يقطر منهاالسّمّ, و تشرقط عيناه و تقدح بالنّار, و يروي أهل القرية أنّ بعضهم رأى ناراً و دخاناًتتصاعد من قبر فلان بن فلان لأنّه سرق زيتاً من مسرجة النّبي رشادة أو سراج الخضرالأخضر أو قنديل النّبي يوسف, أو شموع النّبي سامي أو النّبي إسماعيل أو النّبينجّوم أو النّبي زبدة أو لأنّه شتم أحد الأولياء الصّالحين...
كان الموت في القرية درساً حقيقيّاًللوعظ و الإرشاد و خلع المعاصي و ترك الشّرور, كنّا بعد كلّ موت نستقيم في كلّ شيءلفترة, ثمّ يُوسوس لنا الشّيطان و ننزلق رويداً رويدا, إلى أن وصلنا لحالة فقدالموت حكمته فينا و صار عاديّاً كالحياة نفسها...