مــاذا يريــد العــرب مـن إيــران؟
أحمد الشرقاوي
بانوراما الشرق الاوسط
لقد بات واضحا أن الحروب الطاحنة الدائرة اليوم في المنطقة هي بين أمريكا وإيران، ومن يضعون السعودية في مواجهة إيران، يعطون لهذه المهلكة الرجعية حجما أكبر من حجمها ومكانة لا تستحقها، لسبب رئيس، وهو أن إيران دولة مؤسسات تمتلك مشروعا حضاريا رائدا، في حين أن السعودية التي هي عبارة عن محمية أمريكية تديرها قبيلة دهرية بعقلية ظلامية، تفتقد لأبسط مقومات دولة المؤسسات، ناهيك عن أنها لا تملك مشروعا قوميا عربيا أو إسلاميا..
وبالمختصر المفيد، مشروع إيران يختزل في مبدأ مؤداه، أن من يحدد خيارات دول المنطقة ويقرر مصيرها ومستقبل أبنائها هي شعوبها، ومن هذا المدخل، وانسجاما مع عقيدتها الدينية ومبادئها الثورية، تساعد الشعوب على الدفاع عن نفسها ضد الإحتلال من خلال دعم الحركات الجهادية المقاومة، وتدعم سياسيا ومعنويا الشعوب المستضعفة، لمواجهة الهيمنة الأمريكية المفروضة عليها، من خلال الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، التي لا تعدو أن تكون مجرد أداة وظيفية ليس إلا..
وإيران من منطلق هذا المبدأ الشرعي والمشروع، لا تحتاج لأن تتدخل عسكريا خارج حدودها، لأن مقاربتها تقوم على تحرير إرادة الشعوب والاستثمار في ودها ومحبتها واحترامها، في أفق مساعدتها بعد التحرير والتحرر، على النهوض علميا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، لتحقيق المناعة السياسية التي تؤهلها لأن تضع قاطرتها على سكة النهضة الحقيقية لبناء منظومة الأمة التي تقوم على الشراكة والتعاون والتضامن، من منطلق احترام سيادة الدول، وهذا أمر لا علاقة له بالاحتلال من قريب أو بعيد..
وطبيعي أن مشروعا من هذا النوع، يمثل خطرا كبيرا، ليس على الأمن القومي للأنظمة العميلة كما يروج لذلك الأعراب، بل على الأمن القومي الأمريكي القائم على مبدأ الإحتلال الناعم، والهيمنة على خيرات الشعوب ومقدراتها بمنطق القوة والقهر والتفرقة والإفساد واللعب على التناقضات وإشعال الحروب والفتن، وتاريخ أمريكا في هذا المجال غني عن التعريف.
والسعودية التي تتباكى اليوم على الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران، وفق ادعائها، إنما تمارس التضليل، مستغلة في ذلك جهل الشعوب وتبعية الأنظمة الدائرة في فلكها، ولا تجد من وسيلة ناجعة للدفاع عن عرشها المتداعي من خطر نهضة الأمة سوى العزف على وتر الطائفية والمذهبية البغيض، والبعيد كل البعد عن أصالة الفكر القومي العروبي الثوري المناهض للرجعية والتبعية، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى حرائق ستشعل المنطقة برمتها، ولن يبقى للغة العقل والحكمة من مكان لإطفائها..
وكيف لها أن تتباكى على الأمن القومي العربي، وهي من حاربت العروبة وأجهضت مشروعها في العهد الناصري من بوابة اليمن تحديدا؟.. حيث أدى تورط الجيش المصري زمن ناصر في حرب اليمن إلى نكسة 67 المذلة، فدخل العالم العربي بعدها عصر الصهيونية الخبيثة والوهابية البغيضة.. هذا ما يؤكده التاريخ، ويتعمد تجاهله أصحاب الذاكرة المثقوبة الذين باعوا دماء جيوشهم للسعودية مقابل دولارات معدودة؟..
ذلك، أن الأمن القومي العربي لا يمكن أن تقوم له قائمة في ظل الإحتلال الإسرائيلي من جهة، والهيمنة الأمريكية بأداة الوهابية من جهة أخرى، لأن الأمن وكما عرفه تعالى في سورة قريش يقوم على أساسين: الأمن من الخوف والأمن من الجوع..
بمعنى، أن الذي يخاف ظلم المحتل واستبداد وفساد النظام الحاكم، لا يستطيع أن يشعر بالأمن على نفسه ومستقبله ومصير عياله، ولا يستطيع أن يتنفس الحرية ويعبر عن رأيه بشجاعة، ولا يستطيع بالتالي أن يبدع بلا حدود وينتج بلا قيود فيساهم في نهضة بلاده.. وما تفعله السعودية في هذا الباب، هو نقيض ذلك جملة وتفصيلا، بحيث أنها تمعن في نشر الفكر التكفيري لتخريب عقل الأمة، وتفرخ الإرهاب وتدعمه بالمال والسلاح لإشاعة الخوف في النفوس والرعب في القلوب ضدا في تعاليم السماء..
والذي يشعر بالجوع يعيش ليأكل كالحيوان، لا كالإنسان الذي يأكل ليعيش، ولا هم له في الحياة سوى رغيف الخبز، ولا يستطيع التفكير إلا بمعدته.. ذلك، أن الذي لا يملك فرصة الشغل الكريم يعيش بلا كرامة، ولا يحظى بالحقوق الأساسية التي يفترض أن يتمتع بها كمواطن يطمح لحياة الرفاهية في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، وهو يرى أن خيرات بلده تنهب بلا رقيب ولا حسيب، وأموال صادراته من الزيت تستثمر في بنوك الغرب، ولا يطاله منها إلا الفتاة الذي لا يسد الرمق..
وكل يوم تطالعنا الصحف والمواقع الإلكترونية بأخبار مواطنين فقراء في مملكة “الإنسانية”، يبيعون أعضائهم لإطعام أطفالهم، ويسكنون دور الصفيح في فيافي بلا ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا مستوصفات، بل حتى البنية التحتية الأساسية في المدن الكبرى مجرد كذبة تفضحها الأمطار الموسمية، ونسمع عن تطبيق شريعة التلمود في حق مواطنين قطعت أيديهم لأنهم سرقوا رغيف الخبز، وآخرون منافقون يقبلون يد الأمراء لصوص النفط، ويطبق حد الرجم حتى الموت على الأرملة الفقيرة التي تطعم أطفالها من عسيلة فرجها، ويعفى الأمراء والأسياد الذين حولوا قصورهم إلى خمارات ومواخير يمارس فيها جهاد النكاح في الصبايا والغلمان، ونسمع كل يوم عن شاب ينتحر من اليأس، وآخر يرتد عن دينه ويتحول إلى ملحد، اعتقادا منه أن الإسلام الذي يقول به الحاخام محمد بن عبد الوهاب هو نفس الإسلام الذي جاء به نبي الرحمة محمد بن عبد الله (صلعم).
ثم يكتشف المواطن المخدوع، بعد عقود من الدجل والتضليل، والوعود الكاذبة، والشعارات الزائفة التي لا تعني ما تقول، أن لا وعد تحقق، ولا وضع تغير نحو الأفضل، وأنه لا يزال يعيش عصر الجاهلية الأولى بكل تفاصيله بما في ذلك الديكور والنخلة والبعير، وأن رعية آل سعود، وبرغم ما حباها الله من خيرات ومقدرات، لا تزال جاهلة، فقيرة، مريضة، ومتخلفة.. فلا عدالة قامت، ولا تنمية بانت، ولا نهضة ظهرت، ولا ضمن المواطن ممارسة حقه الشرعي في المشاركة السياسية لإدارة شؤون وطنه، بل سرقت منه سيادته وحولوه إلى مجرد خروف مسحور، جائع وخائف، يعيش كالخروف مع القطيع في ظل شريعة الراعي..
واليوم، وبعد خراب البصرة، ها هم السعوديون الأحرار ومعهم شرفاء الأمة، يكتشفون أن نظام آل سعود اليهود لم يكن يملك يوما لا رؤية وطنية، ولا مشروعا قوميا أو إسلاميا، بل كان دائما وأبدا، ينفذ تعليمات أسياده بالوكالة.. ولحماية عرشه واستمرار استبداده وتأبيد فساده، استثمر في قطاعات ثلاث: – المخابرات التي تحصي أنفاس الناس. – القوات الأمنية التي تقمع أصحاب الرؤوس الحامية الذين يفكرون في الخروج على ولي الأمر. – الإعلام العاهر لتكريس الجهل والتضليل وإشاعة ثقافة الإحباط والخنوع والاستسلام..
فعن أي أمن قومي عربي يتحدث الأعراب، وأي تهديد هذا الذي تمثله إيران المسلمة للعالم العربي.. وهل الدول العربية حررت فلسطين وتحررت من الهيمنة الأمريكية وأصبحت تملك سيادتها وقرارها الوطني المستقل، وأقامت العدل بين الناس وحققت التنمية لشعوبها لتتحدث عن الأمن القومي العربي؟.. وهل الأمن القومي العربي يتحقق بالتحالف مع تركيا العثمانية التي أعلن رئيسها الإخونجي ‘أردوغان’ صراحة عن مشروع إعادة أمجاد إمبراطورية أجداده المفلسين على أنقاض العرب؟.. ما هذا العهر السياسي والدجل الإعلامي والجهل المفاهيمي المثير للشفقة؟..
وكيف بالله عليكم، أن نقبل بأن تكون أمريكا عدوة الشعوب حليفا لنا، ونقبل بـ”إسرائيل” دولة يهودية ومكون طبيعي في جسم المنطقة، ونعتبر إيران المسلمة عدوا يهدد الأمن القومي العربي؟..
ماذا قدمت أمريكا لنا كعرب غير الدمار والخراب والقتل والذبح والحزن والدموع؟.. أفيدونا بمشروع واحد أقامته أمريكا لمصلحة العرب، وها هي اليوم تصر بكل ما أوتيت من خبث وحقد وكراهية على ذبح الشعوب العربية التواقة للحرية، المتمردة على التبعية، الرافضة للذل والهوان، وتنفد في منطقتنا مشروع تقسيم الدول القومية الوطنية من خلال تمزيق نسيجها المجتمعي، وتحطيم حضارتها العريقة، ومحو ذاكرتها التاريخية الحافلة بالأمجاد والبطولات، ومسخ قيمها الدينية السمحة والثقافية المنفتحة على العالم، وتشويه صورتها لتقديمها كأمة بربرية متوحشة فاسدة، تعيش في ظلام الجاهلية ولا تستحق الحياة فأحرى الاحترام؟..
ألا يؤكد هذا الواقع المر أن الذي يهدد الأمن القومي العربي بالواضح الفاضح اليوم هي أمريكا وأدواتها في المنطقة وعلى رأسهم “السعودية” و”إسرائيل”؟.. حقا إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وأي تهديد للأمن القومي العربي يمثله اليمن العربي اليوم؟.. لأننا لم نسمع بأن هذا الشعب المظلوم هدد عرش مملكة الظلام بالزوال، ولا مشيخات الخليج بالاجتياح، أو توعد المحروسة بالاحتلال، أو أنه قرر محو الأردن بالصواريخ الباليستية من جغرافية المنطقة، أو أنه تطاول على الأمن الروحي للمغاربة وهدد “أمير المنافقين” بنشر التشيع في بلاده، بالرغم من أن هذا العاهر الفاسد يدعي أنه ينتمي لآل البيت عليهم السلام وآل البيت منه براء.. حتى السودان الذي كان للزيديين فضل نشر الإسلام فيه تنكر رئيسه الإخونجي لهذا الفضل وقرر مشاركة السعودية في عرس الدم والخراب في اليمن..
بل كل ما في الأمر يا سادة يا كرام، أن الشعب اليمني العربي الأصيل الذي تفرعت منه كل الشعوب العربية، ونشر تجاره العظام الإسلام في بلدان إفريقيا الشرقية وفي ماليزيا وأندونيسيا وغيرها من الأمصار بالكلمة الطيبة والوفاء وحفظ الأمانة والقدوة الحسنة.. قرر اليوم أن يثور على الهيمنة الأمريكية والتبعية السعودية الجاثمة كالدهر على صدره، ليسترد حريته، وسيادته، وقراره الحر المستقل، ويستغل ثروات أرضه التي حباه الله بها وتفوق في حجمها مقدرات المهلكة “السعودية” من الزيت، ليتحول إلى بلد قوي اقتصاديا مستقل سياسيا لمصلحة شعبه وصالح أمته، وهو بهذا لا يهدد أحدا، والخوف هو من أن تنتقل عدوى ثورته المجيدة في حال نجاحها إلى مشيخات الخليج، فتحل الكارثة بالأمراء، وتزهر الصحراء القاحلة ربيعا عربيا بدماء الشهداء، فينتهي عصر القهر والظلم والفساد، وتطوى آخر صفحة في تاريخ هذه الأمة من سجل العمالة والخيانة والعهر السياسي..
وحيث أن أمريكا شعرت بأن نفوذها في اليمن عموما، وعلى باب المندب خصوصا أصبح في خبر كان، أعطت الضوء الأخضر لآل سعود اليهود كي يذبحوا اليمنيين، باسم الدفاع عن شرعية وهمية لعميل خان شعبه ووطنه وطالب الأمم المتحدة بتدميره، وحين رفضت، استنجد بآل سعود المجرمين لذبحه وإخضاعه بالقوة والقهر..
وفجأة خرج علينا المنافقون يتهمون إيران بالوقوف وراء ثورة اليمنيين ودعم سلطة الحوثيين وما إلى ذلك من الأضاليل التي لا تقنع إلا جاهل أو متخلف عقليا، مع التركيز على الجانب المذهبي لتأليب الرأي العام السني على إيران والطائفة الشيعية الكريمة في المنطقة، وهذا في حد ذاته يمثل مشروع فتنة تهدد بإشعال الشرق الأوسط برمته..
والسؤال الذي يفرض نفسه بالمناسبة، هو ما علاقة القومية العربية بالطائفية الإثنية والمذهبية الدينية؟.. هل العروبة حكرا على “السنة” أتباع الوهابية؟.. ما هذه البدعة الجديدة التي لا يقبلها عقل ولا يسلم بها منطق؟..
وفي المقابل، ماذا فعلت إيران للعرب؟.. ألم يضحى نظامها العاقل المتبصر، وشعبها المجاهد العالم، بحياة الرفاهية التي كان يفترض أن يعيشها اليوم لولا الحصار، وتحمل حروب الأعراب وظلم وتحريضهم العالم ضده بصبر وثبات، وواجه حصار الغرب لعقود خلت بذكاء، وحافظ على سيادته واستقلال قراره، وحقق نهضة علمية وتكنولوجية وثقافية غير مسبوقة في تاريخ الأمم، وقدم للعرب المساعدة ليحرروا أنفسهم بأنفسهم من الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي، ومد لهم يد العون ليتحرروا من جهلهم وتخلفهم وظلم الأنظمة العميلة الجاثمة على صدورهم كالقدر المحتوم، وقدم لهم مشروع بناء أمة إسلامية قوية سيدة ومنتجة لينخرطوا فيه، من بوابة الإمساك بناصية العلم والتكنولوجيا المتقدمة والمعرفة المفيدة المنتجة، لبناء حضارة إسلامية عظيمة مشتركة كما فعل الأجداد، وهي رؤية دينية إيمانية رسالية للعالم أجمع.. وها هي شواهد التاريخ تؤكد أن القوم كلما بحثوا عن العزة في العروبة أذلهم الله، وكلما بحثوا عنها في الإسلام أعزهم ونصرهم؟.. ومع ذلك يصر الأعراب بجهالة على السير عكس قوانين التاريخ التي هي من سنن الله في الخلق.
وطبعا أمريكا و”إسرائيل” والغرب الأطلسي مدركين لهذه الحقيقة أكثر من العرب، لذلك يعملون على إجهاضها من مدخل الفتن، ويركزون على العامل الطائفي والمذهبي لضرب أي محاولة لإقامة وحدة إسلامية تمثل إيران اليوم قاطرتها القوية، لأن قيامها يعني نهاية العصر الصهيوني والوهابي وبداية العصر الإسلامي الجميل..
وليس غريبا والحال هذه، أن تقوم “السعودية” تحديدا، ومن خلال الديانة الوهابية التلمودية بتدمير الإسلام من القاعدة بعد أن عملت أمريكا وأوروبا على تشويهه على مستوى بعض النخب التي لم تنجح في التأثير على المجتمعات، ولم يجدوا من سبيل لذلك غير سلاح الإرهاب التكفيري المتوحش.
وبالحديث عن الإرهاب، أليس غريبا أن من يزنون بالكلام من الحكام العرب، ويتباكون على الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران.. أنهم يرفضون محاربة الإرهاب ولا يعتبرونه تهديدا خطيرا لهذا الأمن القومي، في حين أن إيران ومحورها دون سواهم هم من يحاربون الإرهاب في المنطقة، ولولا ذلك، لسقط العراق، وسقطت سورية، وسقط لبنان، وسقطت مصر، وكل الدول العربية تباعا كأحجار الدومينو، لأن مشروع يهودية الدولة الصهيونية يقتضي تقسيم الدول العربية بمن فيها “السعودية” إلى إمارات ومشيخات وممالك ضعيفة متناحرة، تتولى “إسرائيل” شرطي المنطقة إدارة الخلافات بينها نيابة عن أمريكا..
ودعونا نطرح تصورا من باب جدلية الافتراض.. ماذا لو قررت إيران فجأة الانفتاح على أمريكا والقبول بشروطها والاعتراف بـ”إسرائيل” دولة طبيعية في المنطقة، وتخلت عن إديولوجيتها الثورية ومشروعها الإسلامي، وتنازلت عن خياراتها السياسية السيادية المستقلة، ورفضت الاستمرار في دعم حركات المقاومة في المنطقة، وفتحت بلادها للاستثمارات الأمريكية والغربية، وأنهت تعاونها مع روسيا؟..
ماذا كان سيحصل يا ترى؟.. وما هو السيناريو الذي يمكن تصوره بالنسبة لمستقبل المنطقة في هذه الحالة؟..
نستطيع القول دون تردد أو مواربة، أن كل الأنظمة العربية في المنطقة كانت ستهرع إلى طهران، تماما كما كانت تفعل زمن الشاه، لتلعق أحذية المسؤولين في طهران باللسان، وتقبل الأيادي وتتبرك بالعمائم، وكانوا سيعلنون الإمام الخامنئي إماما لكل المسلمين، كما أكد ذلك الرئيس أردوغان ذات زيارة طالب فيها طهران بالتخلي عن الأسد مقابل البيعة.. حينها كان سينتفي الحديث الطائفي والمذهبي، وكل من خاض فيه يقطع لسانه..
هذا ما كان سيحدث بالتحديد.. وكفى حديثا عن الأمن القومي العربي، والأنظمة العربية لا تملك سيادتها واستقلال قرارها، والشعوب العربية المسحورة لا تتمتع بحرية، ولا تملك كرامة، ولا ترى في آخر النفق نقطة ضوء تبشر بمستقبل واعد، وحده الظلام يسود في عالمنا، ولن تشرق لنا شمس قبل أن نفهم ما يحصل لنا ونغير أفكارنا وخطاباتنا وأسلوب عملنا..
ولأن أمريكا لا تقوى على مواجهة إيران مباشرة كما فعلت في فيتنام وأفغانستان والعراق مثلا، ليس لأنها لا تملك القوة العسكرية، بل لأنها تعلم علم اليقين أن إيران تختلف جملة وتفصيلا عن هذه الدول، وأن حربا معها ستؤدي حتما لضرب المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا، وستكون بداية النهاية لـ”إسرائيل” و”السعودية” ومشيخات العهر والبورديل الخليجية..
لذلك تفضل أمريكا لعب دور المشاغب الذي يشعل الحرائق في المنطقة لاحتواء إيران بحروب الوكالة، بعد أن أدركت أن طهران أكثر عقلانية من أن تسقط في الفخ وتنجر لحروب مباشرة مع أدوات أمريكا الوظيفية.
لكن ما حدث في اليمن، هو فخ بامتياز نصبته أمريكا للسعودية لتنهي نظامها وفكرها الوهابي منبع الإرهاب في العالم، بعد أن فشلت في تحقيق الأهداف التي رسمتها لها أمريكا في المنطقة، فقررت معاقبتها بتوريطها في مستنقع اليمن..
*** / ***
وأنا أكتب هذا المقال، ها هي المؤشرات من لوزان تؤكد أن اتفاقا إطارا عاما قد حصل بالفعل مع إيران في ملفها النووي، وأن العقوبات سترفع بالكامل عنها كما اشترطت طهران، وبالتالي، المنطقة بعد الاتفاق لن تكون كما كانت قبله، ومياه كثيرة ستجري، وتغيرات دراماتيكية ستحصل.. وهذا موضوع كبير يتطلب معالجة مستقلة.
فهنيئا للشعب الإيراني العالم بهذا الإنجاز العظيم، وهنيئا لمحور المقاومة بهذا النصر الإلهي الكبير، وهنيئا لشرفاء الأمة من كل الطوائف والمذاهب الذين وقفوا مع الحق وناصروا المظلوم في محنته ولو بموقف شريف شجاع..
والمهم في ما حصل، أن إيران نجحت في إنهاء الحصار الجائر واللامشروع على شعبها، مع المحافظة على قرارها السيادي وخياراتها المستقلة.. وهذا يعني، أن الصراع في المنطقة سيستمر، بل قد يتصاعد بشكل دراماتيكي لافت، بسبب غضب السعودية وقلق “إسرائيل”، لكنه سيتخذ وجهة أخرى لن تكون بالقطع في مصلحة السعودية وأدواتها..
كما وأن بحث القضايا الإقليمية لن يبدأ قبل التوقيع النهائي على الاتفاق نهاية حزيران/يونيو من هذا العام، وهو وقت كاف لرسم المعادلات الجديدة على الأرض، وإيران لن تفرط في مصالح شعبها، ولن تتنازل قيد أنملة عن حلفائها.
أحمد الشرقاوي
بانوراما الشرق الاوسط
لقد بات واضحا أن الحروب الطاحنة الدائرة اليوم في المنطقة هي بين أمريكا وإيران، ومن يضعون السعودية في مواجهة إيران، يعطون لهذه المهلكة الرجعية حجما أكبر من حجمها ومكانة لا تستحقها، لسبب رئيس، وهو أن إيران دولة مؤسسات تمتلك مشروعا حضاريا رائدا، في حين أن السعودية التي هي عبارة عن محمية أمريكية تديرها قبيلة دهرية بعقلية ظلامية، تفتقد لأبسط مقومات دولة المؤسسات، ناهيك عن أنها لا تملك مشروعا قوميا عربيا أو إسلاميا..
وبالمختصر المفيد، مشروع إيران يختزل في مبدأ مؤداه، أن من يحدد خيارات دول المنطقة ويقرر مصيرها ومستقبل أبنائها هي شعوبها، ومن هذا المدخل، وانسجاما مع عقيدتها الدينية ومبادئها الثورية، تساعد الشعوب على الدفاع عن نفسها ضد الإحتلال من خلال دعم الحركات الجهادية المقاومة، وتدعم سياسيا ومعنويا الشعوب المستضعفة، لمواجهة الهيمنة الأمريكية المفروضة عليها، من خلال الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، التي لا تعدو أن تكون مجرد أداة وظيفية ليس إلا..
وإيران من منطلق هذا المبدأ الشرعي والمشروع، لا تحتاج لأن تتدخل عسكريا خارج حدودها، لأن مقاربتها تقوم على تحرير إرادة الشعوب والاستثمار في ودها ومحبتها واحترامها، في أفق مساعدتها بعد التحرير والتحرر، على النهوض علميا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، لتحقيق المناعة السياسية التي تؤهلها لأن تضع قاطرتها على سكة النهضة الحقيقية لبناء منظومة الأمة التي تقوم على الشراكة والتعاون والتضامن، من منطلق احترام سيادة الدول، وهذا أمر لا علاقة له بالاحتلال من قريب أو بعيد..
وطبيعي أن مشروعا من هذا النوع، يمثل خطرا كبيرا، ليس على الأمن القومي للأنظمة العميلة كما يروج لذلك الأعراب، بل على الأمن القومي الأمريكي القائم على مبدأ الإحتلال الناعم، والهيمنة على خيرات الشعوب ومقدراتها بمنطق القوة والقهر والتفرقة والإفساد واللعب على التناقضات وإشعال الحروب والفتن، وتاريخ أمريكا في هذا المجال غني عن التعريف.
والسعودية التي تتباكى اليوم على الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران، وفق ادعائها، إنما تمارس التضليل، مستغلة في ذلك جهل الشعوب وتبعية الأنظمة الدائرة في فلكها، ولا تجد من وسيلة ناجعة للدفاع عن عرشها المتداعي من خطر نهضة الأمة سوى العزف على وتر الطائفية والمذهبية البغيض، والبعيد كل البعد عن أصالة الفكر القومي العروبي الثوري المناهض للرجعية والتبعية، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى حرائق ستشعل المنطقة برمتها، ولن يبقى للغة العقل والحكمة من مكان لإطفائها..
وكيف لها أن تتباكى على الأمن القومي العربي، وهي من حاربت العروبة وأجهضت مشروعها في العهد الناصري من بوابة اليمن تحديدا؟.. حيث أدى تورط الجيش المصري زمن ناصر في حرب اليمن إلى نكسة 67 المذلة، فدخل العالم العربي بعدها عصر الصهيونية الخبيثة والوهابية البغيضة.. هذا ما يؤكده التاريخ، ويتعمد تجاهله أصحاب الذاكرة المثقوبة الذين باعوا دماء جيوشهم للسعودية مقابل دولارات معدودة؟..
ذلك، أن الأمن القومي العربي لا يمكن أن تقوم له قائمة في ظل الإحتلال الإسرائيلي من جهة، والهيمنة الأمريكية بأداة الوهابية من جهة أخرى، لأن الأمن وكما عرفه تعالى في سورة قريش يقوم على أساسين: الأمن من الخوف والأمن من الجوع..
بمعنى، أن الذي يخاف ظلم المحتل واستبداد وفساد النظام الحاكم، لا يستطيع أن يشعر بالأمن على نفسه ومستقبله ومصير عياله، ولا يستطيع أن يتنفس الحرية ويعبر عن رأيه بشجاعة، ولا يستطيع بالتالي أن يبدع بلا حدود وينتج بلا قيود فيساهم في نهضة بلاده.. وما تفعله السعودية في هذا الباب، هو نقيض ذلك جملة وتفصيلا، بحيث أنها تمعن في نشر الفكر التكفيري لتخريب عقل الأمة، وتفرخ الإرهاب وتدعمه بالمال والسلاح لإشاعة الخوف في النفوس والرعب في القلوب ضدا في تعاليم السماء..
والذي يشعر بالجوع يعيش ليأكل كالحيوان، لا كالإنسان الذي يأكل ليعيش، ولا هم له في الحياة سوى رغيف الخبز، ولا يستطيع التفكير إلا بمعدته.. ذلك، أن الذي لا يملك فرصة الشغل الكريم يعيش بلا كرامة، ولا يحظى بالحقوق الأساسية التي يفترض أن يتمتع بها كمواطن يطمح لحياة الرفاهية في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، وهو يرى أن خيرات بلده تنهب بلا رقيب ولا حسيب، وأموال صادراته من الزيت تستثمر في بنوك الغرب، ولا يطاله منها إلا الفتاة الذي لا يسد الرمق..
وكل يوم تطالعنا الصحف والمواقع الإلكترونية بأخبار مواطنين فقراء في مملكة “الإنسانية”، يبيعون أعضائهم لإطعام أطفالهم، ويسكنون دور الصفيح في فيافي بلا ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا مستوصفات، بل حتى البنية التحتية الأساسية في المدن الكبرى مجرد كذبة تفضحها الأمطار الموسمية، ونسمع عن تطبيق شريعة التلمود في حق مواطنين قطعت أيديهم لأنهم سرقوا رغيف الخبز، وآخرون منافقون يقبلون يد الأمراء لصوص النفط، ويطبق حد الرجم حتى الموت على الأرملة الفقيرة التي تطعم أطفالها من عسيلة فرجها، ويعفى الأمراء والأسياد الذين حولوا قصورهم إلى خمارات ومواخير يمارس فيها جهاد النكاح في الصبايا والغلمان، ونسمع كل يوم عن شاب ينتحر من اليأس، وآخر يرتد عن دينه ويتحول إلى ملحد، اعتقادا منه أن الإسلام الذي يقول به الحاخام محمد بن عبد الوهاب هو نفس الإسلام الذي جاء به نبي الرحمة محمد بن عبد الله (صلعم).
ثم يكتشف المواطن المخدوع، بعد عقود من الدجل والتضليل، والوعود الكاذبة، والشعارات الزائفة التي لا تعني ما تقول، أن لا وعد تحقق، ولا وضع تغير نحو الأفضل، وأنه لا يزال يعيش عصر الجاهلية الأولى بكل تفاصيله بما في ذلك الديكور والنخلة والبعير، وأن رعية آل سعود، وبرغم ما حباها الله من خيرات ومقدرات، لا تزال جاهلة، فقيرة، مريضة، ومتخلفة.. فلا عدالة قامت، ولا تنمية بانت، ولا نهضة ظهرت، ولا ضمن المواطن ممارسة حقه الشرعي في المشاركة السياسية لإدارة شؤون وطنه، بل سرقت منه سيادته وحولوه إلى مجرد خروف مسحور، جائع وخائف، يعيش كالخروف مع القطيع في ظل شريعة الراعي..
واليوم، وبعد خراب البصرة، ها هم السعوديون الأحرار ومعهم شرفاء الأمة، يكتشفون أن نظام آل سعود اليهود لم يكن يملك يوما لا رؤية وطنية، ولا مشروعا قوميا أو إسلاميا، بل كان دائما وأبدا، ينفذ تعليمات أسياده بالوكالة.. ولحماية عرشه واستمرار استبداده وتأبيد فساده، استثمر في قطاعات ثلاث: – المخابرات التي تحصي أنفاس الناس. – القوات الأمنية التي تقمع أصحاب الرؤوس الحامية الذين يفكرون في الخروج على ولي الأمر. – الإعلام العاهر لتكريس الجهل والتضليل وإشاعة ثقافة الإحباط والخنوع والاستسلام..
فعن أي أمن قومي عربي يتحدث الأعراب، وأي تهديد هذا الذي تمثله إيران المسلمة للعالم العربي.. وهل الدول العربية حررت فلسطين وتحررت من الهيمنة الأمريكية وأصبحت تملك سيادتها وقرارها الوطني المستقل، وأقامت العدل بين الناس وحققت التنمية لشعوبها لتتحدث عن الأمن القومي العربي؟.. وهل الأمن القومي العربي يتحقق بالتحالف مع تركيا العثمانية التي أعلن رئيسها الإخونجي ‘أردوغان’ صراحة عن مشروع إعادة أمجاد إمبراطورية أجداده المفلسين على أنقاض العرب؟.. ما هذا العهر السياسي والدجل الإعلامي والجهل المفاهيمي المثير للشفقة؟..
وكيف بالله عليكم، أن نقبل بأن تكون أمريكا عدوة الشعوب حليفا لنا، ونقبل بـ”إسرائيل” دولة يهودية ومكون طبيعي في جسم المنطقة، ونعتبر إيران المسلمة عدوا يهدد الأمن القومي العربي؟..
ماذا قدمت أمريكا لنا كعرب غير الدمار والخراب والقتل والذبح والحزن والدموع؟.. أفيدونا بمشروع واحد أقامته أمريكا لمصلحة العرب، وها هي اليوم تصر بكل ما أوتيت من خبث وحقد وكراهية على ذبح الشعوب العربية التواقة للحرية، المتمردة على التبعية، الرافضة للذل والهوان، وتنفد في منطقتنا مشروع تقسيم الدول القومية الوطنية من خلال تمزيق نسيجها المجتمعي، وتحطيم حضارتها العريقة، ومحو ذاكرتها التاريخية الحافلة بالأمجاد والبطولات، ومسخ قيمها الدينية السمحة والثقافية المنفتحة على العالم، وتشويه صورتها لتقديمها كأمة بربرية متوحشة فاسدة، تعيش في ظلام الجاهلية ولا تستحق الحياة فأحرى الاحترام؟..
ألا يؤكد هذا الواقع المر أن الذي يهدد الأمن القومي العربي بالواضح الفاضح اليوم هي أمريكا وأدواتها في المنطقة وعلى رأسهم “السعودية” و”إسرائيل”؟.. حقا إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وأي تهديد للأمن القومي العربي يمثله اليمن العربي اليوم؟.. لأننا لم نسمع بأن هذا الشعب المظلوم هدد عرش مملكة الظلام بالزوال، ولا مشيخات الخليج بالاجتياح، أو توعد المحروسة بالاحتلال، أو أنه قرر محو الأردن بالصواريخ الباليستية من جغرافية المنطقة، أو أنه تطاول على الأمن الروحي للمغاربة وهدد “أمير المنافقين” بنشر التشيع في بلاده، بالرغم من أن هذا العاهر الفاسد يدعي أنه ينتمي لآل البيت عليهم السلام وآل البيت منه براء.. حتى السودان الذي كان للزيديين فضل نشر الإسلام فيه تنكر رئيسه الإخونجي لهذا الفضل وقرر مشاركة السعودية في عرس الدم والخراب في اليمن..
بل كل ما في الأمر يا سادة يا كرام، أن الشعب اليمني العربي الأصيل الذي تفرعت منه كل الشعوب العربية، ونشر تجاره العظام الإسلام في بلدان إفريقيا الشرقية وفي ماليزيا وأندونيسيا وغيرها من الأمصار بالكلمة الطيبة والوفاء وحفظ الأمانة والقدوة الحسنة.. قرر اليوم أن يثور على الهيمنة الأمريكية والتبعية السعودية الجاثمة كالدهر على صدره، ليسترد حريته، وسيادته، وقراره الحر المستقل، ويستغل ثروات أرضه التي حباه الله بها وتفوق في حجمها مقدرات المهلكة “السعودية” من الزيت، ليتحول إلى بلد قوي اقتصاديا مستقل سياسيا لمصلحة شعبه وصالح أمته، وهو بهذا لا يهدد أحدا، والخوف هو من أن تنتقل عدوى ثورته المجيدة في حال نجاحها إلى مشيخات الخليج، فتحل الكارثة بالأمراء، وتزهر الصحراء القاحلة ربيعا عربيا بدماء الشهداء، فينتهي عصر القهر والظلم والفساد، وتطوى آخر صفحة في تاريخ هذه الأمة من سجل العمالة والخيانة والعهر السياسي..
وحيث أن أمريكا شعرت بأن نفوذها في اليمن عموما، وعلى باب المندب خصوصا أصبح في خبر كان، أعطت الضوء الأخضر لآل سعود اليهود كي يذبحوا اليمنيين، باسم الدفاع عن شرعية وهمية لعميل خان شعبه ووطنه وطالب الأمم المتحدة بتدميره، وحين رفضت، استنجد بآل سعود المجرمين لذبحه وإخضاعه بالقوة والقهر..
وفجأة خرج علينا المنافقون يتهمون إيران بالوقوف وراء ثورة اليمنيين ودعم سلطة الحوثيين وما إلى ذلك من الأضاليل التي لا تقنع إلا جاهل أو متخلف عقليا، مع التركيز على الجانب المذهبي لتأليب الرأي العام السني على إيران والطائفة الشيعية الكريمة في المنطقة، وهذا في حد ذاته يمثل مشروع فتنة تهدد بإشعال الشرق الأوسط برمته..
والسؤال الذي يفرض نفسه بالمناسبة، هو ما علاقة القومية العربية بالطائفية الإثنية والمذهبية الدينية؟.. هل العروبة حكرا على “السنة” أتباع الوهابية؟.. ما هذه البدعة الجديدة التي لا يقبلها عقل ولا يسلم بها منطق؟..
وفي المقابل، ماذا فعلت إيران للعرب؟.. ألم يضحى نظامها العاقل المتبصر، وشعبها المجاهد العالم، بحياة الرفاهية التي كان يفترض أن يعيشها اليوم لولا الحصار، وتحمل حروب الأعراب وظلم وتحريضهم العالم ضده بصبر وثبات، وواجه حصار الغرب لعقود خلت بذكاء، وحافظ على سيادته واستقلال قراره، وحقق نهضة علمية وتكنولوجية وثقافية غير مسبوقة في تاريخ الأمم، وقدم للعرب المساعدة ليحرروا أنفسهم بأنفسهم من الهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي، ومد لهم يد العون ليتحرروا من جهلهم وتخلفهم وظلم الأنظمة العميلة الجاثمة على صدورهم كالقدر المحتوم، وقدم لهم مشروع بناء أمة إسلامية قوية سيدة ومنتجة لينخرطوا فيه، من بوابة الإمساك بناصية العلم والتكنولوجيا المتقدمة والمعرفة المفيدة المنتجة، لبناء حضارة إسلامية عظيمة مشتركة كما فعل الأجداد، وهي رؤية دينية إيمانية رسالية للعالم أجمع.. وها هي شواهد التاريخ تؤكد أن القوم كلما بحثوا عن العزة في العروبة أذلهم الله، وكلما بحثوا عنها في الإسلام أعزهم ونصرهم؟.. ومع ذلك يصر الأعراب بجهالة على السير عكس قوانين التاريخ التي هي من سنن الله في الخلق.
وطبعا أمريكا و”إسرائيل” والغرب الأطلسي مدركين لهذه الحقيقة أكثر من العرب، لذلك يعملون على إجهاضها من مدخل الفتن، ويركزون على العامل الطائفي والمذهبي لضرب أي محاولة لإقامة وحدة إسلامية تمثل إيران اليوم قاطرتها القوية، لأن قيامها يعني نهاية العصر الصهيوني والوهابي وبداية العصر الإسلامي الجميل..
وليس غريبا والحال هذه، أن تقوم “السعودية” تحديدا، ومن خلال الديانة الوهابية التلمودية بتدمير الإسلام من القاعدة بعد أن عملت أمريكا وأوروبا على تشويهه على مستوى بعض النخب التي لم تنجح في التأثير على المجتمعات، ولم يجدوا من سبيل لذلك غير سلاح الإرهاب التكفيري المتوحش.
وبالحديث عن الإرهاب، أليس غريبا أن من يزنون بالكلام من الحكام العرب، ويتباكون على الأمن القومي العربي المهدد من قبل إيران.. أنهم يرفضون محاربة الإرهاب ولا يعتبرونه تهديدا خطيرا لهذا الأمن القومي، في حين أن إيران ومحورها دون سواهم هم من يحاربون الإرهاب في المنطقة، ولولا ذلك، لسقط العراق، وسقطت سورية، وسقط لبنان، وسقطت مصر، وكل الدول العربية تباعا كأحجار الدومينو، لأن مشروع يهودية الدولة الصهيونية يقتضي تقسيم الدول العربية بمن فيها “السعودية” إلى إمارات ومشيخات وممالك ضعيفة متناحرة، تتولى “إسرائيل” شرطي المنطقة إدارة الخلافات بينها نيابة عن أمريكا..
ودعونا نطرح تصورا من باب جدلية الافتراض.. ماذا لو قررت إيران فجأة الانفتاح على أمريكا والقبول بشروطها والاعتراف بـ”إسرائيل” دولة طبيعية في المنطقة، وتخلت عن إديولوجيتها الثورية ومشروعها الإسلامي، وتنازلت عن خياراتها السياسية السيادية المستقلة، ورفضت الاستمرار في دعم حركات المقاومة في المنطقة، وفتحت بلادها للاستثمارات الأمريكية والغربية، وأنهت تعاونها مع روسيا؟..
ماذا كان سيحصل يا ترى؟.. وما هو السيناريو الذي يمكن تصوره بالنسبة لمستقبل المنطقة في هذه الحالة؟..
نستطيع القول دون تردد أو مواربة، أن كل الأنظمة العربية في المنطقة كانت ستهرع إلى طهران، تماما كما كانت تفعل زمن الشاه، لتلعق أحذية المسؤولين في طهران باللسان، وتقبل الأيادي وتتبرك بالعمائم، وكانوا سيعلنون الإمام الخامنئي إماما لكل المسلمين، كما أكد ذلك الرئيس أردوغان ذات زيارة طالب فيها طهران بالتخلي عن الأسد مقابل البيعة.. حينها كان سينتفي الحديث الطائفي والمذهبي، وكل من خاض فيه يقطع لسانه..
هذا ما كان سيحدث بالتحديد.. وكفى حديثا عن الأمن القومي العربي، والأنظمة العربية لا تملك سيادتها واستقلال قرارها، والشعوب العربية المسحورة لا تتمتع بحرية، ولا تملك كرامة، ولا ترى في آخر النفق نقطة ضوء تبشر بمستقبل واعد، وحده الظلام يسود في عالمنا، ولن تشرق لنا شمس قبل أن نفهم ما يحصل لنا ونغير أفكارنا وخطاباتنا وأسلوب عملنا..
ولأن أمريكا لا تقوى على مواجهة إيران مباشرة كما فعلت في فيتنام وأفغانستان والعراق مثلا، ليس لأنها لا تملك القوة العسكرية، بل لأنها تعلم علم اليقين أن إيران تختلف جملة وتفصيلا عن هذه الدول، وأن حربا معها ستؤدي حتما لضرب المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا، وستكون بداية النهاية لـ”إسرائيل” و”السعودية” ومشيخات العهر والبورديل الخليجية..
لذلك تفضل أمريكا لعب دور المشاغب الذي يشعل الحرائق في المنطقة لاحتواء إيران بحروب الوكالة، بعد أن أدركت أن طهران أكثر عقلانية من أن تسقط في الفخ وتنجر لحروب مباشرة مع أدوات أمريكا الوظيفية.
لكن ما حدث في اليمن، هو فخ بامتياز نصبته أمريكا للسعودية لتنهي نظامها وفكرها الوهابي منبع الإرهاب في العالم، بعد أن فشلت في تحقيق الأهداف التي رسمتها لها أمريكا في المنطقة، فقررت معاقبتها بتوريطها في مستنقع اليمن..
*** / ***
وأنا أكتب هذا المقال، ها هي المؤشرات من لوزان تؤكد أن اتفاقا إطارا عاما قد حصل بالفعل مع إيران في ملفها النووي، وأن العقوبات سترفع بالكامل عنها كما اشترطت طهران، وبالتالي، المنطقة بعد الاتفاق لن تكون كما كانت قبله، ومياه كثيرة ستجري، وتغيرات دراماتيكية ستحصل.. وهذا موضوع كبير يتطلب معالجة مستقلة.
فهنيئا للشعب الإيراني العالم بهذا الإنجاز العظيم، وهنيئا لمحور المقاومة بهذا النصر الإلهي الكبير، وهنيئا لشرفاء الأمة من كل الطوائف والمذاهب الذين وقفوا مع الحق وناصروا المظلوم في محنته ولو بموقف شريف شجاع..
والمهم في ما حصل، أن إيران نجحت في إنهاء الحصار الجائر واللامشروع على شعبها، مع المحافظة على قرارها السيادي وخياراتها المستقلة.. وهذا يعني، أن الصراع في المنطقة سيستمر، بل قد يتصاعد بشكل دراماتيكي لافت، بسبب غضب السعودية وقلق “إسرائيل”، لكنه سيتخذ وجهة أخرى لن تكون بالقطع في مصلحة السعودية وأدواتها..
كما وأن بحث القضايا الإقليمية لن يبدأ قبل التوقيع النهائي على الاتفاق نهاية حزيران/يونيو من هذا العام، وهو وقت كاف لرسم المعادلات الجديدة على الأرض، وإيران لن تفرط في مصالح شعبها، ولن تتنازل قيد أنملة عن حلفائها.
تعليق