إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

افاق المودة والرحمة حلقة 2

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • افاق المودة والرحمة حلقة 2


    1- الرحمة بالوالدين:
    لو فتشت عن سرّ الرحمة التي تعامل بها والديك، لعرفت أنّه بالإضافة إلى الرحمة الإلهية المودعة في قلبك البار النبيل، فإنّك قد أخذت درسها الأوّل من والديك الكريمين الرحيمين بك. فرحمتهما علمتك كيف تكون رحيماً بهما وبالناس من حولك، فلله الفضلُ أوّلاً في ذلك ولهما ثانياً.
    لقد عشتَ الرحمة بشكل عمليّ وأنت تدرج في طفولتك وصباك وفتوتك واستقيتها بالكلمة الدافئة والمعاملة الحسنة والإبتسامة الحانية والشفقة الكبيرة كما يستقي الصغير اللبن من ثدي أمّه.
    وحين بلغ أحدهما أو كلاهما الكبر أتتك دعوة الله بالإحسان إليهما في هذه المرحلة الحسّاسة من العمر، كما أنت مطالب دائماً وفي كل مراحل عرم هما باللطف والرأفة بهما.
    ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء/ 23-24).
    وقل ربّ ارحمهما كما عانيا في تربيتي، وكما تعبا وسهرا على راحتي وإسعادي، وكما بذلا من الجهود المضنية لتوفير احتياجاتي، وكما قلقا في مرضي وسفري، وكما دعوا لي في ظهر الغيب وفي أوقات الشدّة والحاجة إلى التوفيق والرحمة، بل في كلّ وقت، وكما شقيا ليسعداني، وكما غرسا – في عقلي وقلبي – منابع الرحمة.
    هل يكفي أن تدعو لهما بالرحمة الإلهية؟!
    أبداً، بل أنت مدعوّ للرحمة بهما في القول وفي الفعل وفي العدل وفي البذل و﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ (الرحمن/ 60)؟!
    فالكلمة الرقيقة العذبة الدافئة مع والديك.. رحمة.
    وكلمة الشكر والثناء والتقدير والاعتزار بما قدّماه.. رحمة.
    والتصرّف المهذّب الحاني معهما.. رحمة.
    والدعاء لهما بالخير وطول العمر والعافية.. رحمة.
    واستشارتهما والأخذ بنصائحهما وطلب رضاهما.. رحمة.
    والإنفاق عليهما وإهداء ما جادت به نفسك ويدك من خير.. رحمة.
    إنّ الرحمة بالأم أو الأب قد يكون سبباً لهدايتهما، أو انتقالهما من حال إلى حال. ولعلّك قرأت قصّة ذلك الشاب النصرانيّ الذي دخل الإسلام وكان أمّه على دين النصرانية، فأوصاه النبي 6 بالمبالغة في رعايتها وإغداق اللطف والإحسان عليها، حتى إذا لاحظت ذلك ولفت نظرها، تساءلت: ما عدا مما بدا؟ فأخبرها ابنها الخبر. فقالت له: إنّ الدين الذي يربّي أتباعه على الرحمة والتراحم لجدير أن يُتّبع، فأسلمت كما أسلم.
    أضف إلى ذلك، أنّ الرحمة بين الأبناء وبين الوالدين تمتد إلى ما بعد الموت أيضاً، فبإمكانك أن تقضي عنهما ما فاتهما من عبادات، وأن تصلهما بإهداء الثواب في حج أو زيارة أو ختمة للقرآن أو وقف أو صدقة، فالبرّ بهما ميّتين كالبرّ بهما حيّين، ولعلّ حاجتهما إلى لطفك بعد الموت أكثر، ففي الحديث: "يموت الرجل وينقطع إلاّ من ثلاثة: ولد صالح يبرّه..". وفي رواية: "يدعو له".

    2- الرحمة بكبار السنّ:
    الرجل المسنّ والشيخ الكبير والمرأة العجوز يمثلون أناساً صاغتهم التجارب وعركتهم الحياة وصقلت أرواحهم المعاناة، فصاروا ينطقون بالحكمة والموعظة، ولذا كان التواصل بين الأجيال مسؤولية الأجيال اللاّحقة والسابقة معاً، فكما نحتاج إلى (همّة) الشباب نحتاج بدرجة مساوية إلى (حكمة) الشيوخ.
    ولقد امتاز الإسلام بالتشديد على رعاية المسنين واحترامهم والإفادة من بركات عطائهم العقلي والروحي.
    والشاب الرحمانيّ.. أو الفتاة الرحمانيّة.. إذا رأيا شيخاً مسنّاً أو امرأة أحنى الدهر ظهرها يدّبان على الطريق بعصا يتوكآن عليها.. أعاناهما في الوصول إلى مبتغاهما.
    وإذا رأيتَ كبيراً في السن يحمل أثقالاً فساعده في حملها رحمة به.
    وإذا رأيته يقف في الحافلة (سيارة النقل العام) قم ليجلس مكانك لترحم شيخوخته وضعفه.
    وإذا أقبل إلى مجلس فافسح له المجال وأجلسه حيث يمكن أن يستريح.
    وإذا رأيته مهموماً مغموماً فاجلس إليه وحادثه وفاكهه وسامره ونادمه حتى يزول ما به من غمّ.
    وإذا رأيته وحيداً يستشعر الوحشة طردت عنه أشباحها بزيارته وتفقّده وقضاء حاجاته والإحسان إليه ولو بكلمة طيِّبة وإبتسامة مودّة وعرفان.
    فرحمتك بالمسنين شكر لما أنعم الله عليك من فتوة وقوّة، وهو ادخار لرحمة تحتاجها في المستقبل، وسيقيّض الله لك من يرحمك كما رحمتَ غيرك، وسيبارك لك الله فيما أعطاك من منحٍ، فالرحمةُ منك تجرّ إلى رحمةٍ أكبر منها جزاءً من عند الله الرّحمن الرّحيم.
    ولذا ينبغي أن يتحوّل فعل الأمر "وقّروا كبارّكم" إلى واجب وفريضة ومسؤولية على كلّ مسلم شاباً كان أو فتاة القيام بها، حتى ينعم المسنّون الذين هم بأمسّ الحاجة إلى اللطف والعناية والرعاية، بالإحساس بالرحمة.
    ولو نظرتَ لرأيتَ أنّ المسنّين في الغرب يحسدون المسنّين في الشرق وفي بلادنا الإسلامية تحديداً، لأنّهم هناك يحالون إلى (دور العجزة) أمّا في بلادنا ومجتمعاتنا فيتحوّلون إلى شموع مضيئة وبركات دائمة للكبار، وأنس وبهجة للأحفاد والصغار.

    3- الرحمة بالأطفال:
    وكما أوصى الإسلام بتوقير الكبير واحترامه، أوصى كذلك بالعطف على الصغير والشفقة عليه.
    فهناك رحمة.. وهنا رحمة.
    هناك رحمة بالسنّ الكبيرة التي عجزت عن تحمّل أعباء الحياة.
    وهنا رحمة بالسنّ الصغيرة التي لم تقوّ بعدُ على حمل تلك الأعباء.
    وما بينهما رحمة بالقرناء الذين يماثلوننا أو يقاربوننا بالسنّ.
    وقد وضع الإسلام منهجاً في التعامل مع الشرائح الثلاث غاية في الأدب والتهذيب، وإليك نماذج منه:
    فالإمام جعفر بن محمد الصادق 7 يعلّمنا أنّنا إذا رأينا إنساناً كبيراً في السنّ فإنّنا نعتبره كـ(أب أو اُم) وإذا رأينا إنساناً صغيراً في السنّ فإنّنا نعامله كـ(ابن) وإذا رأينا من هو في مثل عمرنا أو ما يقاربه فإنّنا نعامله كـ(أخ أو أخت) وبالتالي فإنّ علينا أن نوقّر الكبير ونعطف على الصغير ونحترم القرين.
    ويعلّمنا أيضاً طريقة راقية أخرى، فيقول:
    إذا رأيت مَنْ هو أكبر منّك سنّاً، فقل سبقني إلى الفضل والهداية، وإذا رأيت مَنْ هو أصغر منك سنّاً، فقل سبقتهُ إلى المعاصي والذنوب، وإذا رأيت مَنْ هو في مثل سنّك فقل: أنا أعلم بما في نفسي ولا أعلم بما في نفسه، وبذلك فإنّك لن تتعالى على الناس، ولا تنظر إليهم نظرة فوقيّة، بل تنظر إلى شرائحهم المختلفة كباراً وصغاراً ومتوسطي العمر بعين المحبّة والانصاف والتواضع، وبذلك تكسب ودّهم واحترامهم وتقديرهم لرحمتك وإحسانك.

    4- الرحمة بالمرأة:
    يبدأ التعامل بالرفق وبالحسنى مع المرأة منذ الصغر.
    فحيثما يكون تعاملك مع أمّك بالحنان واللطف والإحسان، وتكون معاشركتك لأخواتك بالمحبّة والعطف والتعاون، وتكون أخلاقك بنات الجيران بالاحترام والاحتشام والتهذيب، وتكون علاقتك مع بنات الأقرباء بالمودّة والأدب والمداراة، فحينذاك يمكن الحكم على تعاملك مع المرأة مستقبلاً زوجة كانت أو بنتاً أو أيّة امرأة أخرى.
    فالقسوة مع الأخت، والتعالى على جنسها كونك ذكراً وكونها أنثى، واحتلال موقع الأب في تأديبها وتعنيفها، سيترك أثره في تربيتك وشخصيتك وتعاملك مع زوجتك غداً.
    ولذا فإنّ الرحمة بالمرأة تأتي من كونها إنسانة رقيقة ناعمة لطيفة تهزها المشاعر الدافئة، والكلمات العذبة، والتعامل المهذّب، والتقدير الشاكر لجهودها، ولذا قال رسول الله 6: "رفقاً بالقوارير".
    فكما أنّ الرفق بالقارورة، وهي الزجاجة الهشّة الرقيقة، يصونها من الكسر، فإنّ اللطف مع المرأة – أيّاً كانت صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة – يساعدها على المزيد من الإبداع والعطاء والتفاني والتضحية والإيثار.
    فأنت كشاب مؤمن ومثقّف وغيور على المسلمات لا تكتفِ بأن تردد "وراء كلّ عظيم امرأة" دون أن تحترم وترحم هذه التي تصنع العظماء، بأن تشعرها بقيمتها كإنسانة عظيمة، ليكون وراء كلّ عظيمة رجل أيضاً، فكن أنت ذلك الرجل.
    ففي دراسة عن النساء المبدعات، اتّضح أنّ أحد أهمّ العوامل التي أعانتهنّ على تخطي الصعاب وبلوغ المآرب هي (الرحمة) الوالدية التي لم تفرق بينهنّ وبين إخوانهنّ الذكور، وأعطتهنّ من الفرص ما أعطتهم، واحتضنت مواهبهنّ وقابلياتهنّ كما احتضنت مواهبهم وقابلياتهم.
    واتّضح أيضاً، أنّ تلك التربية الرحيمة انعكست على تربيتهنّ لأبنائهنّ بالرحمة مما أنتج جيلاً معافى عقلاً وروحاً وسلوكاً سويّاً.
    إنّ الرحمة بالمرأة: أمّاً، وأختاً، وزجة، وقريبة، وغريبة، يضاعف من إخلاصها وتفانيها واعتزازها بموقعها وردّها للجميل أضعافاً مضاعفة، إرحم المرأة وسترى أنّها تردّ على الإحسان بأحسن منه!

    5- الرحمة بالأصدقاء والإخوان:
    هناك من الصحبة ما يطول فلا يفرّقه إلاّ الموت، بل يبقى حبل التواصل ممدوداً حتى بعد الموت، فيما يقدّمه الحيّ منهما لصديقه الراحل من هدايا تصله إلى قبره، كما كانت تصله هداياه إبّان حياته.
    وهناك من الصحبة ما يفرّقها أوّل نزاع أو خلاف بسيط أو غير بسيط.
    وللصحبة الطويلة أسباب منها (التراحم) بين الصديقين الحميمين أو الأخوين العزيزين، فتراهما يتناسيان إساءات بعضهما البعض، وتراهما يتقبّلان اعتذار بعضهما البعض، وتراهما يتعاتبان – في حال الجفوة – عتاباً رقيقاً يحرص كلّ منهما أن يعيد من خلاله المياه الصافية إلى مجاريها، خوفاً على علاقة متينة أقوم وأدوم من لحظات انفعال طارئة وإساءات عابرة.
    إنّ الصفح والتسامح والتصافي بين الإخوان سرٌّ من أسرار الرحمة. ومداراة الإخوان ورعاية مشاعرهم.. رحمة.
    والبحث عن العذر للأخ أو الصديق المسيء.. رحمة.
    ووضع النفس في موضع الأخ أو الصديق، كما لو تقول: لو كنتُ مكانه ماذا كنت أفعل؟.. فتعذره لظرفه.. رحمة.
    وصلة الإخوان والتباذل والتقارب والتهادي وذكرهم بالخير غياباً وحضوراً، أمواتاً وأحياء، لمن أجمل صور الرحمة.
    إنّ عدم سماع قول الآخرين في أخيك، وردّهم بما يمنعهم من الوقيعة بينك وبينه، رحمة بكَ وبه وبصداقتكما الغاية.
    وإنّ إقالة عثرة أخيك، ومصارحته بأخطائه بينك وبينه، وبالحكمة والموعظة الحسنة من أجل أن يبقى كما عهدته، وأفضل مما عهدته، ورحمة يحبّها الله ورسوله والمؤمنون.
    فلقد أراد النبي 6 حينما آخى بين المهاجرين والأنصار في أوّل عهده بالمدينة المنوّرة، أن يزرع بذور التراحم والتوادد بين المسلمين، وقد نجح نجاحاً باهراً، فكانت الأمّة التي صنعها القرآن بقول الله تبارك وتعالى، وصنعها الإسلام بفعل رسول الله 6 خير أمّة أخرجت للناس.

    6- الرحمة بكل إنسان:
    كما وسعت رحمة الله كلّ شيء، وكلّ إنسان، فإنّ رحمة الإنسان المؤمن بالله وبرسوله وبالإسلام ديناً ومنهجاً وخلقاً وسلوكاً، لا يحدّها حدّ، فهي رحمة بالأقربين وبالأبعدين، وإن كان الأقربون أولى بالمعروف.
    إنّ الآخر سواء كان كتابياً – أي على إحدى الديانات المعروفة – أو غير كتابي، فإنّه يتطلّع إلى رحمتك به وإحسانك إليه لما يعرفه الكثيرون من أنّ الإسلام دين الرحمة والسلام والتعايش والتعاون.
    وحتى لو لم يعرف الآخرون ذلك، فأنت تتعاطف وتتراحم مع الناس من منطلق كونهم إمّا إخوة لك في الدين أو نظراء لك في الخلق، وقد مرّ بك كيفَ أنّ الشاب النصراني الذي أسلم استطاع برعايته ورحمته بأمّة أن يجعلها تدخل دين الرحمة هي الأخرى.
    إنّ رحمتك بالضعيف هي شكر على ما أنعم الله عليك من قوّة.
    ورحمتك بالفقير شكر على ما أنعم عليك من ثروة.
    ورحمتك بالجاهل شكر على ما أفاض عليك من علم.
    ورحمتك بالمخطئ شكر على ما هداك إليه من استقامة.
    وسلامك على مَنْ تعرفه رحمة به، كما أن تحيتك لمن لا تعرفه رحمة به، وهذا هو مغزى دعوة النبي 6 "افشوا السلام" أي أشيعوا أجواء الرحمة بينكم لتتسع الأرض وتفيض ببركاتها ويعمّ النعيم والرخاء والمحبّة والإخاء.
    فبروافد المحبّة النابعة من قلبي، وروافد المحبّة النابعة من قلبك ومن قلوب الآخرين يغدو النهرُ كبيراً.. طافحاً بالخير، ويكون للأرض وجهٌ غير الوجه الكالح الذي تراها عليه اليوم.
    إنّ ما يعوز الأمّة والعالم، هو الرحمة أوّلاً وقبل كلّ شيء.

    7- الرحمة بالحيوان:
    ويطلق عليها (الرفق بالحيوان) فمثلما تتسع دوائر الماء إذا أسقطت عليه حجراً، كذلك دوائر الرحمة في الإسلام تتسع وتتسع لتشمل الإنسانية برمّتها. فمن الرحمة بالوالدين، إلى الرحمة بالأقرباء والجيران، إلى الرحمة بالأصدقاء والإخوان، إلى الرحمة بالناس أجمعين، إلى الرحمة بالحيوان.
    هذا الكائن الجميل في تعدّد مناظره وأشكاله وألوانه وحجومه وأغراضه، وما يعبّر عنه من دروس للإنسان، وما فيه من راحة فيما يساعد به الإنسان من نقله هو أو نقل أثقاله، له حقّ الرحمة أيضاً.
    فالإسلام لا يرتضي لك أن تجيع الحيوان أو تعطشه، ولا أن تثقل كاهله فوق ما يطيق، ولا أن تضربه ضرباً مبرّحاً، وأن تتيح له المجال في أن يستريح من تعب وعناء النهار فلا تجور عليه بالعمل ليلاً ونهاراً.
    وقد أكّد الإسلام على الرفق بالحيوان، وعدّ ذلك من أبواب الرحمة والمغفرة، فقد روي عن رسول الله 6أنّه قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثمّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي يلغني منزل البئر فملأ خفّة ثمّ أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله عزّ وجلّ له، فَغُفِرَ له.
    فقيل: يا رسول الله! إن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال 6: "في كل ذات كبد رطبة أجر"[3].
    وهكذا غُفِر للرجل وحصل على رحمة الله لرفقه بالكلب وسقايته له، وهكذا يقرر الرسول 6 أن في سقاية كل مخلوق ذي كبد أجراً.
    كما لم يرتضِ الإسلام حبس الحيوان وسجن الطير، وشهيرةٌ هي قصة المرأة عذّبت في النار لأنّها أذت قطة، فقد روي عن الإمام 7، قال: "إن امرأة عذّبت في هرّة ربطتها حتى ماتت عطشاً"[4].
    فلم يجز الإسلام تعذيب الحيوان أو التمثيل به، فعن النبي 6: "لا تجوز المُثلُة ولو بالكلب العقور".
    ولقد جسّدَ المسلمون من أهل اليمن – وربّما كان هناك غيرهم – أخلاق الإسلام في الرحمة بالحيوان والرفق به في أحد أسواق صنعاء المعروفة بـ(سوق العرج) حيث تربط في إحدى ساحات السوق الخيول الضعيفة والحمير المتعبة أو التي كسرت أرجلها بعد أن يُهيّأ لها الماء والعلف حتى تنفق، أي تترك هناك بلا استعمال حتى يأتيها الموت[5].
    إنّ دعوة الإسلام للرفق والرحمة بالحيوان هي من باب أولى دعوة لاحترام الإنسان والرحمة به، فإذا كان الإسلام رحيماً بالكائن الذي لا ينطق ولا يعقل ولا يمتلك أحاسيس الإنسان ومشاعره ولا كرامته وموقعه، فما بالك بأكرم الخلق وأفضل الكائنات.
    اقرأوا ما يفعله الطواغيت بالناس وبالمؤمنين وبالأحرار وبالصالحين لتعرفوا أنّ الحيوان اليوم أسعد حظّاً من الإنسان، فبعض الدول ترعى الكلاب والقطط وتدافع عن حقوقها، ولا تقيم لمجزرة بشرية وزناً!

    بين (الرحمة) و(القسوة):
    دعونا نُجرِ مقارنة بين آثار الرحمة وآثار القسوة وطبيعة كل منهما لنعرف لماذا أراد لنا الإسلام أن نكون (رحماء) بيننا (أشدّاء) على الكافرين:
    1- (الرحمة) تؤلّف بين القلوب، وتذوّب الجليد، وتزيل الحواجز، وتفتح سبل التفاهم والتعاون، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران/ 159). و(القسوة) تبغِّض وتنفِّر وتزرع الأحقاد، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران/ 159). فالرحمة قوّة جاذبة، والقسوة قوّة طاردة.
    2- (الرحمة) خلق ربّاني، يعامل الله بها عباده – حتى المسيئين منهم – وهو الذي أغراهم باللجوء إلى خيمة رحمته حينما يخطئون أو يذنبون أو يسرقون على أنفسهم، أي أنّهم يهربون منه إليه.
    أمّا (القسوة) فخلق شيطانيّ، تركبُ ذوي النفوس المريضة، والشاعرين بعُقدة النقص من الطواغيت والجبابرة وظالمي أنفسهم وغيرهم.
    الرحمة.. اقتدار وعفو.
    القسوة.. ضعف وبطش.
    3- (الرحمة) تعبير رائع وجميل عن إنسانية الإنسان في الكلمة والموقف، و(القسوة) تعبير عن الجانب الحيواني الشرس المفترس.
    فالذئب أو النمر أو الأسد لا يرون في التعامل مع الفريسة سوى أنّها وليمة يسدون بها جوعتهم.. فالقسوة (غريزة) لا عقل لها.. و(الرحمة) عقل راجح وعاطفة جيّاشة.. عقل ينادي بها ويدعو لها لأنّها تنسجم مع مبادئ الحق والخير والجمال، والقلب يهتف بها لأنّها طريقه الأوسع إلى العقل.
    4- (الرحمة) تربِّي وتهذِّب وتشذِّب وتعلِّم وتقوّم، و(القسوة) والإنسان مع أخيه الإنسان، فهي تعارف وتحابب وتواصل.
    و(القسوة) تعلِّم الحقد والكراهية والضغائن والثأر والانتقام.
    (الرحمة) إذن ربح كبير.
    و(القسوة) خسارة فادحة.
    5- (الرحمة) اسلوب الأقوياء، و(القسوة) اسلوب الضعفاء لأنّ مَنْ يحتاج إلى القسوة والعنف الضعيف الذي يحاول تغطية نقاط ضعفه بقوّة البطش والسلاح وتكبيل الأيدي وخنق الأنفاس.
    القاسي.. لا يملك سوى قبضة الإرهاب والإرعاب، فهو يمتلك من الإنسان بدنه.
    والرحيم.. يملك النفس العالية المتعالية، ولذا فهو يمتلك من الإنسان قلبه.
    لكنّنا ونحن نجري هذه المقارنة بين (الرحمة) و(القسوة) لابدّ من أن نذكّر أنّ (الرحمة) يجب أن توضع في مواضعها الصحيحة، كما أنّ (القسوة) أو الشدّة يجب أن توضع في أماكنها المناسبة.
    فأعداء الأمّة ومغتصبو حقوقها لا تنالهم منّا رحمة، فنحن (أشدّاء على الكفّار) وما عداهم فلهم الرحمة ما وسعتها قلوبنا.
    ورد في بعض الدعاء المأثور في استقبال شهر رمضان: "وفقنا.. أن نراجع مَنْ هجرنا.. وأن ننصف مَنْ ظلمنا، وأن نسالم مَنْ عادانا، حاشا من عودي فيك ولك، فإنّه العدوّ الذي لا نواليه، والحزب الذي لا نصافيه".

    الطريق إلى الرحمة:
    كيف لي أن أكون رحيماً؟
    كيف لي أن أنقيِّ قلبي ومشاعري من شوائب القسوة؟
    هل الرحمة فطرية أم اكتسابية؟
    ما هو الطريق إلى الرحمة؟
    الرحمة اكتسابية، أي أنّنا نحصل عليها بالتعلّم والتربية والتدريب ومبادلة الناس حبّاً بحبّ، ورحمة برحمة.
    لقد كان العرب في الجاهلية قساة، لكنّ الإسلام استطاع أن يخلق من تلك القلوب القاسية قلوباً رحيمة حانية ملأت العالم رحمة.
    وأمّا الطريق إلى الرحمة فيمرّ عبر القنوات التالية:
    1- إطاعة الله ورسوله، فالله الرّحمن الرّحيم، ونبيّه الرحمة المهداة إلى العالمين، يدعوان إلى إرساء قواعد الرحمة بين الناس، ومَنْ يتبعهما في ذلك فيشيع الرحمة، فإنّه يكون قد أطاعهما ونال وسام الرحمة من الدرجة الأولى، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران/ 132). قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ (الحديد/ 28).
    2- الإستماع إلى وحي القرآن الذي جعله الله هدى ورحمة للناس، فالذي يبحث عن الهدى وعن الرحمة فلا يذهبنّ بعيداً.. دونه القرآن يجد الرحمة منبثّة في سوره وآياته، ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف/ 204).
    وهناك العديد من القصص التي تروى عن أولئك الذين نفذ نور الرحمة إلى قلوبهم وهم يستمعون إلى القرآن بآذان واعية.
    3- الذكر والدعاء طريقان آخران من طرق اكتساب الرحمة، فأنت تستنزل شآبيب الحرمة الإلهية بدعائك الذي يعترف لله بالعبودية، وبين يديه بالتقصير والمعصية، ويناديه بلسان أهل توحيده أنّه فقير إلى رحمته وهو غنيّ عن عذابه.
    4- قراءة قصص السيرة النبويّة المطهّرة، وقصص الأئمة الأطهار والأولياء الصالحين الأبرار عرفوا رحمة الله وعرّفوها للناس قولاً وعملاً، فملكوا أعنّة القلوب، وكانوا مثلاً أعلى في الرحمة التي فتحت طرقاً واسعة إلى العقول الضالّة والقلوب القاسية.
    5- أشعر قلبك بالرحمة.. إملأه بها.. لا تبخل على مَنْ حولك بها.. ولا تخف نفاداً.. فالرحمة – كالعلم – تزداد على الإنفاق.
    أخيراً..
    ردِّد في أعقاب كلّ صلاة:
    "أللهمّ إنّ مغفرتك أرجى من عملي
    وإنّ رحمتك أوسع من ذنبي..
    أللهمّ إن كان ذنبي عندكَ عظيماً
    فعفوك أعظمُ من ذنبي..
    أللهمّ إنْ لم أكنْ أهلاً أن أبلغَ رحمتك
    فرحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء".

    وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين



    [1]- هو الشاعر (محمد الماغوط) في أحد أعداد مجلة (الوسط) في باب ثابت اسمه (تحت القسم).
    [2]- هذا مجرد تعبير مجازي توضيحي وليس حقيقياً، فالله سبحانه وتعالى ﴿ليس كمثله شيء﴾ وهو ليس بجسم، ولكن أردنا بذلك تقريب الصورة للفهم.
    [3]- مسند أحمد بن حنبل، ج2، ص516، ط. دار صادر، بيروت.
    [4]- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص327.
    [5]- اًنظر (المحراب والحياة)، فيصل الكاظمي، ص123.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 09:44 PM
استجابة 1
10 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ibrahim aly awaly
بواسطة ibrahim aly awaly
 
أنشئ بواسطة ibrahim aly awaly, يوم أمس, 07:21 AM
ردود 2
12 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة ibrahim aly awaly
بواسطة ibrahim aly awaly
 
يعمل...
X