http://www.4shared.com/postDownload/fflC5Jb9/__________-____.html
إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور - أحمد بن الصديق الغماري
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور
تأليف
أحمد عبد الله الصديق الغماري
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد فإنك سألت عن حكم البناء على القبور هل هو جائز كما جرى عليه عمل السلف والخلف شرقاً وغرباً أو هو ممنوع كما يذهب إليه القرنيون (1) ومن يستصوب رأيهم ويستحسن مذهبهم من أهل هذه البلاد ممن خفي عليه أمرهم وراج عليه تمويههم فقام يدعو إلى هدم ما بني من القباب على قبور الأولياء والصالحين متمسكاً في ذلك بأحاديث أرسلها وهي.
ما رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي (عليه السلام) أنه قال له أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ وكذلك هو عند أحمد ومسلم والنسائي بنحوه.
وما رواه أبو داود عن القاسم قال: دخلت على عائشة (رضي الله عنها) فقلت يا أمه بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرضة الحمراء.
وما رواه أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرفوعاً شبراً أو نحو شبر.
وما رواه الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن غنيم بن بسطام قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زمن عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع.
وذكرت أنه أشكل عليك أمر هذه الأحاديث ولم تدر وجه الجمع بينها وبين ما اتفقت عليه الأمة المعصومة في اتفاقها من الخطأ على بناء الأحواش والقباب والمساجد قديماً وحديثاً بمشارق الأرض ومغاربها على القبور، ورجوت أن نبين لك على وجه الجمع بين ذلك ونوضح لك الحق في المسألة، ونذكر لك من دلائل القول المختار ما يسفر عن وجه الصواب ويزيح عنه كل شك وارتياب.
فأجبناك إلى ما سألت على قدر الوسع والطاقة وما أرانا الله تعالى من وجه الصواب في المسألة ورسمناه لك في هذا الجزء الذي سميناه.
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد على القبور
ونرجو الله تعالى أن ينفع به كل من وقف عليه ممن تحلى بحلية الإنصاف وتخلى عن رذيلة التعصب والاعتساف إنه كريم وهاب.
تقديم
أحمد الغماري
فصل في جواز الدفن
أعلم أن البناء على القبر إما يكون قبل الدفن بأن يدفن الميت في بيت أو مسجد أو حوش أو قبة أعدها لدفنه، وإما أن يكون البناء حادثاً بعد الدفن، وهذا الأخير إما أن يكون على نفس القبر وإما أن يكون حول القبر قريباً منه على قدره أو بعيداً عنه متسعاً، وهذا الثاني إما أن يكون مسجداً يصلي فيه وإما أن يكون قبة أو حوشاً والميت إما من عامة الناس وإما من العلماء والأولياء الصالحين.
أما الدفن في البناء فلا شبهة في جوازه كما نص عليه الفقهاء إلا أحمد بن حنبل (رحمه الله) رأى مع الجواز أن الدفن في مقابر المسلمين أولى مراعاة لعمل أكثر الناس، ورأى أن دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البناء لأجل التمييز اللائق بمقامه الأرفع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا يخفي ما فيه لأنه تخصيص بدون مخصص.
وقد روى ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن ربيعة الكلابي عن إبراهيم بن زيد عن يحيى بن مهامة هو عثمان بن عفان قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إنما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح "، ومعلوم أن الأرواح تقبض غالباً في البيوت فمقتضى هذا أن الدفن في البناء أولى لكن وقع في هذه الرواية اختصار فقد روي الحديث من وجوه متعددة مرسلاً وموصولاً من حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مرفوعاً بلفظ " ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض " وفي لفظ " ما توفي الله نبياً قط إلا دفن حيث تقبض روحه " رواهما ابن سعد وغيره وهو صريح في عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وقد اتفق الصحابة على دفن أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق بعد هذا وجه لما قاله أحمد (رحمه الله).
فصل في البناء بعد الدفن
وأما البناء بعد الدفن إذا كان في الملك فكره الجمهور كراهة تنزيه إذا أمن نبش سارق أو سبع أو سيل وقصد به إحكام البناء والبقاء والزينة وإلا جاز عندهم، وزاد المالكية التصريح بحرمته إذا قصد به المباهاة وأجازه آخرون مطلقاً، ولو قصد به المباهاة كما في الدار المختار وحواشيه. وقيد الأكثرون جوازه إذا قصد به التمييز وصرح أكثرهم بحرمته ووجوب هدمه إذا وقع في الأرض الموقوفة للدفن ومنهم من قيده بما إذا كان كبيراً زائداً على قدر القبر وهذا أمر خارج عن حكم البناء نفسه، وفصل جماعة بين ما كان فوق القبر نفسه وبين ما كان حوله دائرً به كالحوش فأجازه الأكثرون، ومنهم من قيد بما إذا كان صغيراً على قدر الحاجة ولم يسقف ولم تطل أسواره ومنهم من صرح بجوازه ولو كان بيتاً وهو قول المحققين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: فإذا بني عليه بيت أو قائم لم يكره ذلك اهـ .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع من فقه الحنابلة: وذكر صاحب المستوعب والمحرر: لا بأس بقية وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه اهـ وهو قول ابن القصار وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب في شرح المختصر.
فصل في نصوص علماء المذهب
وهذا في حق عامة الناس وأما الأولياء والصالحون فنص جماعة على جوازه، بل استحبابه في حقهم تعظيماً لحرمتهم وحفظاً لقبورهم من الامتهان والاندثار الذي يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم.
وقد أفتى العز بن عبد السلام بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة في قرافة مصر، لأنها واقعة في أرض موقوفة على دفن المسلمين واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي قال: لأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم وهذا منه ذهاب إلى جواز بناء القباب على مثل قبر الإمام الشافعي (رضي الله عنه) إذا كان ذلك في الملك ولم يكن في أرض الحبس.
بل أفتى الحافظ السيوطي باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت في الأرض المحبسة ووافقه جماعة ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك في جزئه الذي سماه " بذل المجهود في خزانة محمود " فقال: الوجه الرابع أن من قواعد الشرع أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه وذلك معلوم. فإذا كان هذا في نص الشارع ففي نص الواقف أولى فيقال إن مقصود الواقف تمام النفع وتمام الحفظ، فإذا وجد من يحتاج إلى الانتفاع بها في تصنيف وذلك لا يمكن على الوجه الأتم في المدرسة ووثق بتمام حفظه وصونه جاز الإخراج له، ويستثنى من المنع ويخص عموم لفظ الواقف بهذا المعنى المستنبط كما خصص عموم قوله تعالى: (أو لامستم النساء) واستثنى منه المحارم بالمعنى المستنبط وهو الشهوة، ولا دليل لاستثناء المحارم من آية أو حديث سوى هذا الاستنباط فكذلك هنا. وقد ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه أن في بعض السنين ببغداد منع معلمو الأطفال من تعليمهم في المساجد إلا رجلا واحدا كان موصوفاً بالخير فاستثنوه من المنع، وأنهم استفتوا الماوردي صاحب الحاوي من أئمتنا والقدوري من أئمة الحنفية وغيرهما فأفتوا باستثنائه واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم بسدل كل خوخة في السجد إلا خوخة أبي بكر فقاسوا استثنائهم لهذا الرجل على استثناء خوخة أبي بكر، وهذا الاستنباط دقيق لا يدركه إلا أئمة المجتهدون كالماوردي والقدوري ونحوهما. وقد استندت إلى قولهم هذا قديماً حين استفتيت في أبنية القرافة فأفتيت بهدمها كما هو المنقول إلا مشاهد الصالحين فاستندت في هذا الاستثناء إلى ما صنعه الماوردي والقدوري اهـ.
وهذا إنما هو لأجل كونها واقعة في الأرض الموقوفة وأما ما لم يكن فيها فقوله فيه الجواز مطلقاً.
وفي حواشي البجيرمي على شرح الخطيب على متن أبي شجاع: ولو وجدنا بناء في أرض مسبلة ولم يعلم أصله ترك لاحتمال أنه وقع بحق قياساً على ما قرروه في الكنائس. نعم استثنى بعضهم قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم قال البرماوي. وعبارة الرحماني: نعم قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقية لإحياء الزيارة والتبرك قال الحلبي ولو في مسبلة وأفتى به وقال أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته اهـ.
وفي المنتزع المختار من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار يعني الزيدية مع حواشيه: والثاني من المكروهات الأناقة بقبر الميت وهو أن يرفع بناؤه زائداً على قدر شبر فإن ذلك مكروه، وإنما يكره إذا كان الميت غير فاضل مشهور الفضل ولا بأس بما يكون تعظيماً لمن يستحقه كالمشاهد والقباب التي تعمر للأئمة والفضلاء فلو أوصى من لا يستحق القبة والتابوت بأن يوضع على قبره قال المؤيد بالله يمتثل لأنه مباح وقيل لا اهـ (1) .
وفي شرح العميري على العمل الفاسي والعمل بالبناء على القبور جاز أيضاً وقد كتب شيوخنا سيدي عبد القادر الفاسي: في ذلك بما نص المراد منه ولم ينزل الناس يبنون على مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقاً وغرباً كما هو معلوم وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك، والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها، ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة على قبور الأنبياء لم تندرس وتجهل بل اندرس أيضاً كثير من قبور الأولياء والعلماء لعدم الاهتمام بها وقلة الاعتناء بأمرهم اهـ، ذكر ذلك لمن سأله عن البناء على ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش نفعنا الله به وما يؤثر في النهي عن البناء على القبر إنما ذاك حيث يكون القصد به المباهاة والمفاخرة اهـ.
وفي مسائل المسناوي أنه سئل عن البناء على قبر الرجل والمرأة اللذين ترجى بركتهما في الحياة وبعد الموت بقصد التمييز والتعظيم لقبره ومقامه ويكون البناء حسناً بالتزليج هل يجوز ذلك أم لا؟ وعلى الجواز فهل من أنفق على ذلك البناء من ماله أو صنعه بيده يثاب على ذلك أو لا ثواب له؟. فأجاب إن البناء على من ذكر بقصد ما ذكر جائز بل مطلوب إذا كان في أرض مملوكة للباني لما ذكره بعض المحققين من شيوخ شيوخنا أن فيه جلب مصلحة الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر والمشي وغير ذلك. إذ لولا البناء لاندرست قبورهم كما اندرست قبور الأنبياء عليهم السلام فتبطل زيارتهم وهي مطلوبة شرعاً – كما لا يخفى وقد أشار إلى مطلوبيتها وما فيها من الفوائد الشيخ الإمام العارف الرباني أبو إسحاق إبراهيم التازي الوهراني في قصيدته التي أولها.
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أبواب السعادة والخير
وفي نوادر الأصول عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه) في كل عام فترمه وتصلحه لئلا يندرس أثره فيخفى على زائره وفي فتاوى ابن قداح: إذا جعل على قبر من أهل الخير علامة فهو حسن والعلامة المميزة هو البناء الخاص لاشتراك غيره اهـ.
وفي شرح السجلماسي على العمل الفاسي: مما جرى به العمل لفاس وغيره تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيماً، كما أفتى به الإمام سيدي عبد القادر الفاسي والد الناظم ثم ذكر فتواه السابقة، ثم قال جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار وإذا كان ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعاً أجوز، بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغي أن يكون مشرفاً بالبناء على البيوت بالنقش والتزويق، لأن ذلك كله من كمال التعظيم اهـ باختصار.
وفي شرح الرسالة لجسوس ويكره البناء على القبور وقد يجرم وقد يجوز إذا كان للتمييز ويستثنى قبور أهل العلم والصلاح فيندب لينتفع بزيارتهم.. بذلك جرى العمل عند الناس شرقاً وغرباً من غير نكير اهـ.
وفي شرح التوبشتي على المصابيح: وقد أباح السلف البناء على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس وليستريحوا بالجلوس فيها اهـ.
وفي شرح زين العرب على المصابيح أيضاً: وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين يزورها الناس وليستريحوا إليها بالجلوس في البناء الذي على قبورهم مثل الرباطات والمساجد اهـ.
وفي مصباح الأنام وجلاء الظلام للعلامة علي بن أحمد الحداد: ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفاً للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الإمام بن مفلح الحنبلي في الفصول: القبة والحظيرة في التربة يعني على القبر إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبله كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالاً للمسبلة فيما لم توضع له اهـ. قال ابن القيم الحنبلي: ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه على مذهب أحمد من ابن مفلح اهـ. وقوله في المسبلة بلا فائدة إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد.
فصل في صحة الوقف لضرائح الأولياء
قال ابن حجر في التحفة في كتاب الوصايا: ويظهر أخذا مما مر ومما قالوه في النذر للقبر المعروف جواز صحتها كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرءون عليه. ويؤيد ذلك ما مر آنفاً من صحتها ببناء قبة على قبر ولي وعالم. أما إذا قال الشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه فهي باطلة أي الوصية اهـ، ونص أيضاً على أن القبة في غير مسبلة على العالم والولي من القرب، فقال في التحفة في باب الوصية: وإذا أوصى لجهة عامة فالشرط أن لا يكون معصية.. إلى أن قال وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر عالم في غير مسبلة اهـ. ومنعه في المسبلة على العالم ونحوه رده عليه الحلبي المحشي على المنهج وعبارته، واستثنى قبور الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة (رضي الله عنهم) والعلماء والأولياء (رحمهم الله) فلا تحرم عمارتها في المسبلة لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيماً لهم وإحياء لزيارتهم ولا تغتر بما وقع لابن حجر كغيره في هذا المحل أي في المسبلة لا في المملوكة اهـ.
قال طاهر بن محمد العلوي: وإنما جعل ابن حجر وغيره القبة على الولي في غير المسبلة والموقوفة قربة لأن العلماء نصوا على أن تمييز العالم والصوفي حياً وميتاً مطلوب أخذا من قوله في حق نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقد علمت أن القبة من عصور وقرون عليهم وعلى الأنبياء (عليهم السلام) قال ابن حجر في شرح العباب: وأما المحرمات فلم يعهد في زمان من الأزمنة إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم عليها كيف وهذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة وإذا عصمت من ذلك كان إطباقهم جميعاً خاصتهم وعامتهم على أمر حجة على جوازه في أي زمان كان سواء الأزمنة الأولى أ, الأزمنة المتأخرة، وكلام الأصوليين صريح في أن الإجماع الفعلي حجة كالقولي اهـ.
فصل في جواز تزيين المساجد
وفي رسالة الشيخ الطيب ابن كيران: وقد اختار غير واحد من الشيوخ الجواز في بناء القباب على الصالحين وتعليق ستور الحرير وغيره وإيقاد المصابيح ونحو ذاك، ثم ذكر كلام الفاسي السابق وأقوال المالكية التي ذكرها الخطاب ثم قال: وفي مسائل الصلاة من نوازل البرزلي سئل عز الدين عن نصب الشموع والقناديل في المساجد للزينة لا للوقود وعن تعليق الستور فيها هل هو جائز أم لا؟. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح فأجاب: تزيين المساجد بالشمع والقناديل لا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام، وكذلك الستور وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة واحتمل أن يجوز ذلك قولاً واحداً لأن أمر الحرير أهون من الذهب والفضة. ولذلك يجوز استعمال المنسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مغلوباً ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة، ولم تزل الكعبة تستر إكراماً لها واحتراماً فلا يعد لحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من سائر المساجد. وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا اهـ .
فصل في الخلاف في جواز البناء حول القبور
وفي رسالة الشيخ إسماعيل التميمي التونسي: وأما البناء على القبور إذا كان حولها كالقبة والبيت والمدرسة وكان في ملك الباني فذهب اللخمي إلى المنع وذهب ابن القصار إلى الجواز ووافقه ابن رشد على ذلك فنقل عنه المواق البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حوله فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك اهـ. ومن المعلوم في المذهب تقديم قول ابن رشد على اللخمي قضاء وفتياً لا سيما وقد وافق في ذلك ابن القصار وهو من كبار الأئمة النظار، وقد أشار بن ناجي إلى ترجيحه واعترض على المازري تشهيره للمنع قائلاً: لا أعرف من قال به إلا اللخمي قال يمنع بناء البيوت لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن أن يكون فيها من الفساد. ولقائل أن يقول لا خلاف بينهما، لأن اللخمي علل بالمباهاة وعدم أمن الفساد وابن القصار لا يخالفه في ذلك، والكلام مفروض في الجواز الذاتي إذا سلم المحل مما يؤدي إلى المنع. فالقولان في وفاق ويصير البناء على قبور الصالحين قبة أو بيتاً أو مدرسة أو نحوها جائزاً من حيث ذاته وظاهر كلام من تكلم على الجواز أنه يجوز بناء مسجد عليه. ونقل بعض شراح الرسالة عن جمال الدين الأفقهي أنه استثنى بناء المسجد ولعله لما ورد من النهي في ذلك، والنهي معلل بسد الذريعة لأنه يؤدي إلى الصلاة إلى القبر فيؤدي إلى عبادتها فالمنع فيه عرض يزول بزوال ذلك العارض وكلامنا في جوازه من حيث ذاته اهـ.
هذا محصل ما لفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها في المسألة. والصحيح الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك مما يذكرونه فإنه لا تعلق له بحكم البناء فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس كما سنذكره بعد أن نقدم مقدمة تمهد السبيل لقبول تلك الأدلة وتزيح الأشكال الواردة عليها من النصوص المعارضة لها بتحقيق معناها وبيان مراد الشارع ومقصوده منها بياناً يجمع بين ما يبدو ظاهراً من التعارض بينها فنقول:
اعلم أن الخلاف في جواز البناء حول القبور إنما نشأ من الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أو لا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً. فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي لاتفاف بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف. ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته. واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع.
فصل في بيان الخطأ في فهم المعنى وفي فهم مراد الشارع
أما الخطأ في المعنى فإن القائل بالكراهة فهم أن النهي عن البناء عام والدليل يدل على أنه خاص بالبنا الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف على الموضوع للاستعلاء. فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به (1) وهي متعددة كما سأذكره.
وأما الخطأ في فهم مراد الشارع ومقصوده فإن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البناء على القبر على أقوال:
بيان العلة التي اختلف في النهي من أجلها
وسرد الأقوال فيها وهي ثمانية
القول الأول
إن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار. ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة، بل هو من الفقهاء من لا يقول بنسخه ويتمسك بوجوب الوضوء منه، ولهذا المعنى لم يخصصوا النهي بظاهر القبر بل كرهوا البناء بالأجر داخل القبر لأن العلة واحدة بل هي داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه، وكأنهم أخذوا هذا من وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجريدة الرطبة على القبرين وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ". فرأوا أن ما مسته النار أشد من اليابس بالشمس والهواء. وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وذكره جمع من الفقهاء في كتبهم.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة.
قال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن ثابت بن زيد قال حدثني حمادة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم قال: مات ابن لزيد يقال له سويد فاشترى غلام له أو جارية جصاً وآجره، فقال له زيد: ما تريد إلى هذا؟. قال: أردت أن أبني قبره وأجصصه. قال: جفوت ولغوت لا يقربه شيء مسته النار.
وقال أيضا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ليث عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ولا تقربوني جصاً ولا آجراً ولا عوداً ولا تصحبنا امرأة.
وقال أيضاً حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره الآجرة. وقال أيضاً حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم.
حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر ويستحبون القصب ويكرهون الخشب.
القول الثاني
إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه. قالوا: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه. ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.
قال ابن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحق عن تمامة بن شفي قال خرجنا غزاة في زمن معاوية إلى هذا الدرب وعلينا فضالة بن عبيد، قال فتوفى ابن عم لي يقال له نافع فقام معنا فضالة على حفرته، فلما دفناه قال: خففوا عن حفرته فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر بتسوية القبر.
القول الثالث
إن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.
قال ابن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي فزارة عن مولى ابن عباس قال: قال لي ابن عباس: إذا رأيت القوم قد دفنوا ميتاً فأحدثوا في قبره ما ليس في قبور المسلمين فسوه بين قبور المسلمين. ونص على هذا أيضاً بعض الفقهاء كالعدوي في حاشيته على شرح الرسالة وغيره.
القول الرابع
إن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد، كما رغب فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) رواه أحمد والطحاوي من حديث جرير. والأربعة من حديث ابن عباس. واللحد إذا وع البناء عليه لم يبق سبيل إلى دفن الغير فيه. ذكره بعض الفقهاء وشراح الحديث وأشار إليه السرخسي في المبسوط .
القول الخامس
إن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه. وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين ذكره ابن قدامة في المغني وأشار إليه ابن مفلح في الفروع.
القول السادس
إنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة، وهذا نص عليه الشافعي في الأم، والسرخسي في المبسوط، وابن قدامة في المغني، وكثير من الفقهاء الحنفية.
إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور - أحمد بن الصديق الغماري
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور
تأليف
أحمد عبد الله الصديق الغماري
-------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد فإنك سألت عن حكم البناء على القبور هل هو جائز كما جرى عليه عمل السلف والخلف شرقاً وغرباً أو هو ممنوع كما يذهب إليه القرنيون (1) ومن يستصوب رأيهم ويستحسن مذهبهم من أهل هذه البلاد ممن خفي عليه أمرهم وراج عليه تمويههم فقام يدعو إلى هدم ما بني من القباب على قبور الأولياء والصالحين متمسكاً في ذلك بأحاديث أرسلها وهي.
ما رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي (عليه السلام) أنه قال له أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وما رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ وكذلك هو عند أحمد ومسلم والنسائي بنحوه.
وما رواه أبو داود عن القاسم قال: دخلت على عائشة (رضي الله عنها) فقلت يا أمه بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرضة الحمراء.
وما رواه أبو داود في المراسيل عن صالح بن أبي صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرفوعاً شبراً أو نحو شبر.
وما رواه الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن غنيم بن بسطام قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زمن عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع.
وذكرت أنه أشكل عليك أمر هذه الأحاديث ولم تدر وجه الجمع بينها وبين ما اتفقت عليه الأمة المعصومة في اتفاقها من الخطأ على بناء الأحواش والقباب والمساجد قديماً وحديثاً بمشارق الأرض ومغاربها على القبور، ورجوت أن نبين لك على وجه الجمع بين ذلك ونوضح لك الحق في المسألة، ونذكر لك من دلائل القول المختار ما يسفر عن وجه الصواب ويزيح عنه كل شك وارتياب.
فأجبناك إلى ما سألت على قدر الوسع والطاقة وما أرانا الله تعالى من وجه الصواب في المسألة ورسمناه لك في هذا الجزء الذي سميناه.
إحياء المقبور
من أدلة جواز بناء المساجد على القبور
ونرجو الله تعالى أن ينفع به كل من وقف عليه ممن تحلى بحلية الإنصاف وتخلى عن رذيلة التعصب والاعتساف إنه كريم وهاب.
تقديم
أحمد الغماري
فصل في جواز الدفن
أعلم أن البناء على القبر إما يكون قبل الدفن بأن يدفن الميت في بيت أو مسجد أو حوش أو قبة أعدها لدفنه، وإما أن يكون البناء حادثاً بعد الدفن، وهذا الأخير إما أن يكون على نفس القبر وإما أن يكون حول القبر قريباً منه على قدره أو بعيداً عنه متسعاً، وهذا الثاني إما أن يكون مسجداً يصلي فيه وإما أن يكون قبة أو حوشاً والميت إما من عامة الناس وإما من العلماء والأولياء الصالحين.
أما الدفن في البناء فلا شبهة في جوازه كما نص عليه الفقهاء إلا أحمد بن حنبل (رحمه الله) رأى مع الجواز أن الدفن في مقابر المسلمين أولى مراعاة لعمل أكثر الناس، ورأى أن دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البناء لأجل التمييز اللائق بمقامه الأرفع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا لا يخفي ما فيه لأنه تخصيص بدون مخصص.
وقد روى ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن ربيعة الكلابي عن إبراهيم بن زيد عن يحيى بن مهامة هو عثمان بن عفان قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " إنما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح "، ومعلوم أن الأرواح تقبض غالباً في البيوت فمقتضى هذا أن الدفن في البناء أولى لكن وقع في هذه الرواية اختصار فقد روي الحديث من وجوه متعددة مرسلاً وموصولاً من حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مرفوعاً بلفظ " ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض " وفي لفظ " ما توفي الله نبياً قط إلا دفن حيث تقبض روحه " رواهما ابن سعد وغيره وهو صريح في عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وقد اتفق الصحابة على دفن أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق بعد هذا وجه لما قاله أحمد (رحمه الله).
فصل في البناء بعد الدفن
وأما البناء بعد الدفن إذا كان في الملك فكره الجمهور كراهة تنزيه إذا أمن نبش سارق أو سبع أو سيل وقصد به إحكام البناء والبقاء والزينة وإلا جاز عندهم، وزاد المالكية التصريح بحرمته إذا قصد به المباهاة وأجازه آخرون مطلقاً، ولو قصد به المباهاة كما في الدار المختار وحواشيه. وقيد الأكثرون جوازه إذا قصد به التمييز وصرح أكثرهم بحرمته ووجوب هدمه إذا وقع في الأرض الموقوفة للدفن ومنهم من قيده بما إذا كان كبيراً زائداً على قدر القبر وهذا أمر خارج عن حكم البناء نفسه، وفصل جماعة بين ما كان فوق القبر نفسه وبين ما كان حوله دائرً به كالحوش فأجازه الأكثرون، ومنهم من قيد بما إذا كان صغيراً على قدر الحاجة ولم يسقف ولم تطل أسواره ومنهم من صرح بجوازه ولو كان بيتاً وهو قول المحققين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: فإذا بني عليه بيت أو قائم لم يكره ذلك اهـ .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع من فقه الحنابلة: وذكر صاحب المستوعب والمحرر: لا بأس بقية وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه اهـ وهو قول ابن القصار وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب في شرح المختصر.
فصل في نصوص علماء المذهب
وهذا في حق عامة الناس وأما الأولياء والصالحون فنص جماعة على جوازه، بل استحبابه في حقهم تعظيماً لحرمتهم وحفظاً لقبورهم من الامتهان والاندثار الذي يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم.
وقد أفتى العز بن عبد السلام بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة في قرافة مصر، لأنها واقعة في أرض موقوفة على دفن المسلمين واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي قال: لأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم وهذا منه ذهاب إلى جواز بناء القباب على مثل قبر الإمام الشافعي (رضي الله عنه) إذا كان ذلك في الملك ولم يكن في أرض الحبس.
بل أفتى الحافظ السيوطي باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت في الأرض المحبسة ووافقه جماعة ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك في جزئه الذي سماه " بذل المجهود في خزانة محمود " فقال: الوجه الرابع أن من قواعد الشرع أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه وذلك معلوم. فإذا كان هذا في نص الشارع ففي نص الواقف أولى فيقال إن مقصود الواقف تمام النفع وتمام الحفظ، فإذا وجد من يحتاج إلى الانتفاع بها في تصنيف وذلك لا يمكن على الوجه الأتم في المدرسة ووثق بتمام حفظه وصونه جاز الإخراج له، ويستثنى من المنع ويخص عموم لفظ الواقف بهذا المعنى المستنبط كما خصص عموم قوله تعالى: (أو لامستم النساء) واستثنى منه المحارم بالمعنى المستنبط وهو الشهوة، ولا دليل لاستثناء المحارم من آية أو حديث سوى هذا الاستنباط فكذلك هنا. وقد ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه أن في بعض السنين ببغداد منع معلمو الأطفال من تعليمهم في المساجد إلا رجلا واحدا كان موصوفاً بالخير فاستثنوه من المنع، وأنهم استفتوا الماوردي صاحب الحاوي من أئمتنا والقدوري من أئمة الحنفية وغيرهما فأفتوا باستثنائه واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم بسدل كل خوخة في السجد إلا خوخة أبي بكر فقاسوا استثنائهم لهذا الرجل على استثناء خوخة أبي بكر، وهذا الاستنباط دقيق لا يدركه إلا أئمة المجتهدون كالماوردي والقدوري ونحوهما. وقد استندت إلى قولهم هذا قديماً حين استفتيت في أبنية القرافة فأفتيت بهدمها كما هو المنقول إلا مشاهد الصالحين فاستندت في هذا الاستثناء إلى ما صنعه الماوردي والقدوري اهـ.
وهذا إنما هو لأجل كونها واقعة في الأرض الموقوفة وأما ما لم يكن فيها فقوله فيه الجواز مطلقاً.
وفي حواشي البجيرمي على شرح الخطيب على متن أبي شجاع: ولو وجدنا بناء في أرض مسبلة ولم يعلم أصله ترك لاحتمال أنه وقع بحق قياساً على ما قرروه في الكنائس. نعم استثنى بعضهم قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم قال البرماوي. وعبارة الرحماني: نعم قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقية لإحياء الزيارة والتبرك قال الحلبي ولو في مسبلة وأفتى به وقال أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته اهـ.
وفي المنتزع المختار من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار يعني الزيدية مع حواشيه: والثاني من المكروهات الأناقة بقبر الميت وهو أن يرفع بناؤه زائداً على قدر شبر فإن ذلك مكروه، وإنما يكره إذا كان الميت غير فاضل مشهور الفضل ولا بأس بما يكون تعظيماً لمن يستحقه كالمشاهد والقباب التي تعمر للأئمة والفضلاء فلو أوصى من لا يستحق القبة والتابوت بأن يوضع على قبره قال المؤيد بالله يمتثل لأنه مباح وقيل لا اهـ (1) .
وفي شرح العميري على العمل الفاسي والعمل بالبناء على القبور جاز أيضاً وقد كتب شيوخنا سيدي عبد القادر الفاسي: في ذلك بما نص المراد منه ولم ينزل الناس يبنون على مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقاً وغرباً كما هو معلوم وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك، والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها، ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة على قبور الأنبياء لم تندرس وتجهل بل اندرس أيضاً كثير من قبور الأولياء والعلماء لعدم الاهتمام بها وقلة الاعتناء بأمرهم اهـ، ذكر ذلك لمن سأله عن البناء على ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش نفعنا الله به وما يؤثر في النهي عن البناء على القبر إنما ذاك حيث يكون القصد به المباهاة والمفاخرة اهـ.
وفي مسائل المسناوي أنه سئل عن البناء على قبر الرجل والمرأة اللذين ترجى بركتهما في الحياة وبعد الموت بقصد التمييز والتعظيم لقبره ومقامه ويكون البناء حسناً بالتزليج هل يجوز ذلك أم لا؟ وعلى الجواز فهل من أنفق على ذلك البناء من ماله أو صنعه بيده يثاب على ذلك أو لا ثواب له؟. فأجاب إن البناء على من ذكر بقصد ما ذكر جائز بل مطلوب إذا كان في أرض مملوكة للباني لما ذكره بعض المحققين من شيوخ شيوخنا أن فيه جلب مصلحة الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر والمشي وغير ذلك. إذ لولا البناء لاندرست قبورهم كما اندرست قبور الأنبياء عليهم السلام فتبطل زيارتهم وهي مطلوبة شرعاً – كما لا يخفى وقد أشار إلى مطلوبيتها وما فيها من الفوائد الشيخ الإمام العارف الرباني أبو إسحاق إبراهيم التازي الوهراني في قصيدته التي أولها.
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أبواب السعادة والخير
وفي نوادر الأصول عن فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تأتي قبر حمزة (رضي الله عنه) في كل عام فترمه وتصلحه لئلا يندرس أثره فيخفى على زائره وفي فتاوى ابن قداح: إذا جعل على قبر من أهل الخير علامة فهو حسن والعلامة المميزة هو البناء الخاص لاشتراك غيره اهـ.
وفي شرح السجلماسي على العمل الفاسي: مما جرى به العمل لفاس وغيره تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيماً، كما أفتى به الإمام سيدي عبد القادر الفاسي والد الناظم ثم ذكر فتواه السابقة، ثم قال جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار وإذا كان ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعاً أجوز، بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغي أن يكون مشرفاً بالبناء على البيوت بالنقش والتزويق، لأن ذلك كله من كمال التعظيم اهـ باختصار.
وفي شرح الرسالة لجسوس ويكره البناء على القبور وقد يجرم وقد يجوز إذا كان للتمييز ويستثنى قبور أهل العلم والصلاح فيندب لينتفع بزيارتهم.. بذلك جرى العمل عند الناس شرقاً وغرباً من غير نكير اهـ.
وفي شرح التوبشتي على المصابيح: وقد أباح السلف البناء على قبور المشايخ والعلماء المشهورين ليزورهم الناس وليستريحوا بالجلوس فيها اهـ.
وفي شرح زين العرب على المصابيح أيضاً: وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين يزورها الناس وليستريحوا إليها بالجلوس في البناء الذي على قبورهم مثل الرباطات والمساجد اهـ.
وفي مصباح الأنام وجلاء الظلام للعلامة علي بن أحمد الحداد: ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفاً للإجماع السكوتي على الأنبياء والصالحين عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الإمام بن مفلح الحنبلي في الفصول: القبة والحظيرة في التربة يعني على القبر إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبله كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالاً للمسبلة فيما لم توضع له اهـ. قال ابن القيم الحنبلي: ما أعلم تحت أديم السماء أعلم في الفقه على مذهب أحمد من ابن مفلح اهـ. وقوله في المسبلة بلا فائدة إشارة إلى أن المقبور غير عالم وولي أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد.
فصل في صحة الوقف لضرائح الأولياء
قال ابن حجر في التحفة في كتاب الوصايا: ويظهر أخذا مما مر ومما قالوه في النذر للقبر المعروف جواز صحتها كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء الجائز عليه ومن يخدمونه أو يقرءون عليه. ويؤيد ذلك ما مر آنفاً من صحتها ببناء قبة على قبر ولي وعالم. أما إذا قال الشيخ الفلاني ولم ينو ضريحه ونحوه فهي باطلة أي الوصية اهـ، ونص أيضاً على أن القبة في غير مسبلة على العالم والولي من القرب، فقال في التحفة في باب الوصية: وإذا أوصى لجهة عامة فالشرط أن لا يكون معصية.. إلى أن قال وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر عالم في غير مسبلة اهـ. ومنعه في المسبلة على العالم ونحوه رده عليه الحلبي المحشي على المنهج وعبارته، واستثنى قبور الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة (رضي الله عنهم) والعلماء والأولياء (رحمهم الله) فلا تحرم عمارتها في المسبلة لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيماً لهم وإحياء لزيارتهم ولا تغتر بما وقع لابن حجر كغيره في هذا المحل أي في المسبلة لا في المملوكة اهـ.
قال طاهر بن محمد العلوي: وإنما جعل ابن حجر وغيره القبة على الولي في غير المسبلة والموقوفة قربة لأن العلماء نصوا على أن تمييز العالم والصوفي حياً وميتاً مطلوب أخذا من قوله في حق نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقد علمت أن القبة من عصور وقرون عليهم وعلى الأنبياء (عليهم السلام) قال ابن حجر في شرح العباب: وأما المحرمات فلم يعهد في زمان من الأزمنة إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم عليها كيف وهذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة وإذا عصمت من ذلك كان إطباقهم جميعاً خاصتهم وعامتهم على أمر حجة على جوازه في أي زمان كان سواء الأزمنة الأولى أ, الأزمنة المتأخرة، وكلام الأصوليين صريح في أن الإجماع الفعلي حجة كالقولي اهـ.
فصل في جواز تزيين المساجد
وفي رسالة الشيخ الطيب ابن كيران: وقد اختار غير واحد من الشيوخ الجواز في بناء القباب على الصالحين وتعليق ستور الحرير وغيره وإيقاد المصابيح ونحو ذاك، ثم ذكر كلام الفاسي السابق وأقوال المالكية التي ذكرها الخطاب ثم قال: وفي مسائل الصلاة من نوازل البرزلي سئل عز الدين عن نصب الشموع والقناديل في المساجد للزينة لا للوقود وعن تعليق الستور فيها هل هو جائز أم لا؟. وكذلك فعل مثله في مشاهد العلماء وأهل الصلاح فأجاب: تزيين المساجد بالشمع والقناديل لا بأس به لأنه نوع من الاحترام والإكرام، وكذلك الستور وإن كانت من الحرير احتمل أن تلحق بالتزيين بقناديل الذهب والفضة واحتمل أن يجوز ذلك قولاً واحداً لأن أمر الحرير أهون من الذهب والفضة. ولذلك يجوز استعمال المنسوج من الحرير وغيره إذا كان الحرير مغلوباً ولا يجوز مثل ذلك في الذهب والفضة، ولم تزل الكعبة تستر إكراماً لها واحتراماً فلا يعد لحاق غيرها من المساجد بها وإن كانت الكعبة أشد حرمة من سائر المساجد. وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا اهـ .
فصل في الخلاف في جواز البناء حول القبور
وفي رسالة الشيخ إسماعيل التميمي التونسي: وأما البناء على القبور إذا كان حولها كالقبة والبيت والمدرسة وكان في ملك الباني فذهب اللخمي إلى المنع وذهب ابن القصار إلى الجواز ووافقه ابن رشد على ذلك فنقل عنه المواق البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حوله فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك اهـ. ومن المعلوم في المذهب تقديم قول ابن رشد على اللخمي قضاء وفتياً لا سيما وقد وافق في ذلك ابن القصار وهو من كبار الأئمة النظار، وقد أشار بن ناجي إلى ترجيحه واعترض على المازري تشهيره للمنع قائلاً: لا أعرف من قال به إلا اللخمي قال يمنع بناء البيوت لأن ذلك مباهاة ولا يؤمن أن يكون فيها من الفساد. ولقائل أن يقول لا خلاف بينهما، لأن اللخمي علل بالمباهاة وعدم أمن الفساد وابن القصار لا يخالفه في ذلك، والكلام مفروض في الجواز الذاتي إذا سلم المحل مما يؤدي إلى المنع. فالقولان في وفاق ويصير البناء على قبور الصالحين قبة أو بيتاً أو مدرسة أو نحوها جائزاً من حيث ذاته وظاهر كلام من تكلم على الجواز أنه يجوز بناء مسجد عليه. ونقل بعض شراح الرسالة عن جمال الدين الأفقهي أنه استثنى بناء المسجد ولعله لما ورد من النهي في ذلك، والنهي معلل بسد الذريعة لأنه يؤدي إلى الصلاة إلى القبر فيؤدي إلى عبادتها فالمنع فيه عرض يزول بزوال ذلك العارض وكلامنا في جوازه من حيث ذاته اهـ.
هذا محصل ما لفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها في المسألة. والصحيح الذي يدل عليه الدليل ويقتضيه النظر أن البناء حول القبر جائز سواء كان حوشاً أو بيتاً أو قبة أو مسجداً، وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات أمر خارج عن حكم البناء في ذاته، لأنها عوارض لها حكم خاص بها يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها ككونه في الأرض الموقوفة أو المسبلة أو قصد به المباهاة أو الزينة ونحو ذلك مما يذكرونه فإنه لا تعلق له بحكم البناء فلا نتعرض له لأنه خروج عن الموضوع، وإنما المقصود بيان حكم البناء في ذاته وهو جائز حول القبر بالكتاب والسنة والإجماع والقياس كما سنذكره بعد أن نقدم مقدمة تمهد السبيل لقبول تلك الأدلة وتزيح الأشكال الواردة عليها من النصوص المعارضة لها بتحقيق معناها وبيان مراد الشارع ومقصوده منها بياناً يجمع بين ما يبدو ظاهراً من التعارض بينها فنقول:
اعلم أن الخلاف في جواز البناء حول القبور إنما نشأ من الخطأ في الاستدلال وعدم إحكام النظر في الدليل من جهة عدم فهم معناه وتحقيقه أو لا، ثم من جهة عدم فهم مراد الشارع من ذلك المعنى المفهوم ثانياً، ثم من جهة الإعراض عن النظر في الأدلة المعارضة له ثالثاً. فإن النهي الوارد في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها غير عام في نفسه ولا في كل زمان بل هو خاص بنوع من أنواعه ثم هو غير تعبدي لاتفاف بل هو معقول المعنى معلل بعلل يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها شأن كل حكم معلل كما هو معروف. ومع هذا فهو أيضاً معارض بما هو أقوى منه مما يجب النظر في الجمع بينهما وجوب العمل بالنص والتمسك بالدليل ويحرم الإعراض عن أحدهما والتمسك بالآخر حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل لأن الكل شرع مفترض طاعته. واجب قبوله والعمل به فالإعراض عن أحدهما دون دليل، مسوغ إعراض عما أوجب الله طاعته وفرض على العبد اتباعه وتفريق بيم المتماثلين وترجيح بين الدليلين بدون مرجح وهو باطل بالإجماع.
فصل في بيان الخطأ في فهم المعنى وفي فهم مراد الشارع
أما الخطأ في المعنى فإن القائل بالكراهة فهم أن النهي عن البناء عام والدليل يدل على أنه خاص بالبنا الواقع فوق القبر نفسه دون الواقع حوله، لأن ذلك هو الذي يدل عليه معنى حرف على الموضوع للاستعلاء. فالبناء على القبر هو الذي علاه وكان فوقه لا ما كان حوله دائراً به قريباً منه على قدر حرم القبر فكيف بما يكون واسعاً بعيداً عنه كالحوش والقبة والمدرسة، فإن اللفظ لا يتناوله وعلى فرض أن هناك ما يدل على العموم فهو عام مخصص لورود الأدلة الدالة على تخصيصه أو على إرادة الخصوص به (1) وهي متعددة كما سأذكره.
وأما الخطأ في فهم مراد الشارع ومقصوده فإن القائل بالكراهة لا يخلو أن يكون أعرض عنه وجمد على الظاهر كأنه تعبدي غير معقول المعنى ولا ظاهر العلة وليس هو كذلك بالاتفاق، لورود النصوص بالعلة أو يكون أخطأ في تعيين مراد الشارع وتحقيقه أو أصابه ولكنه أخطأ في عدم تنقيحه، فإنه لا بد من تحقيقه ثم تنقيحه حتى لا يعم ما هو خارج عنه غير داخل في حكمه أو أخطأ في اطراد العلة وهي غير مطردة ولا موجودة في كل بناء، وإنما هي موجودة في نوع من أنواعه فإن العلماء اختلفوا في العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البناء على القبر على أقوال:
بيان العلة التي اختلف في النهي من أجلها
وسرد الأقوال فيها وهي ثمانية
القول الأول
إن العلة في ذلك كون الجص والآجر مما مسته النار ولا ينبغي أن يقرب ذلك من الميت إما تفاؤلاً كما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب الفأل الحسن ويستبشر به في الأقوال والأفعال والصفات والأسماء وسائر الأشياء، وإما لمعنى يعرفه الشارع فيما مسته النار. ولذلك أوجب منه الوضوء في أول الأمر ثم نسخه للضرورة ورفع الحرج والمشقة، بل هو من الفقهاء من لا يقول بنسخه ويتمسك بوجوب الوضوء منه، ولهذا المعنى لم يخصصوا النهي بظاهر القبر بل كرهوا البناء بالأجر داخل القبر لأن العلة واحدة بل هي داخل القبر أولى لقرب ما مسته النار من الميت وملاصقته لجسمه، وكأنهم أخذوا هذا من وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجريدة الرطبة على القبرين وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ". فرأوا أن ما مسته النار أشد من اليابس بالشمس والهواء. وهذا القول حكاه الحافظ العراقي في شرح الترمذي وذكره جمع من الفقهاء في كتبهم.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن زيد بن أرقم وجماعة.
قال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن ثابت بن زيد قال حدثني حمادة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم قال: مات ابن لزيد يقال له سويد فاشترى غلام له أو جارية جصاً وآجره، فقال له زيد: ما تريد إلى هذا؟. قال: أردت أن أبني قبره وأجصصه. قال: جفوت ولغوت لا يقربه شيء مسته النار.
وقال أيضا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ليث عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ولا تقربوني جصاً ولا آجراً ولا عوداً ولا تصحبنا امرأة.
وقال أيضاً حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره الآجرة. وقال أيضاً حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم.
حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر ويستحبون القصب ويكرهون الخشب.
القول الثاني
إن العلة فيه وجود الثقل على الميت والمطلوب التخفيف عنه. قالوا: ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبر وعدم وضع التراب فوقه. ونص الفقهاء على أنه يكره أن يجلب له تراب زائد على الذي خرج منه.
قال ابن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحق عن تمامة بن شفي قال خرجنا غزاة في زمن معاوية إلى هذا الدرب وعلينا فضالة بن عبيد، قال فتوفى ابن عم لي يقال له نافع فقام معنا فضالة على حفرته، فلما دفناه قال: خففوا عن حفرته فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يأمر بتسوية القبر.
القول الثالث
إن العلة كون البناء فيه تمييز عن سائر قبور المسلمين حوله.
قال ابن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي فزارة عن مولى ابن عباس قال: قال لي ابن عباس: إذا رأيت القوم قد دفنوا ميتاً فأحدثوا في قبره ما ليس في قبور المسلمين فسوه بين قبور المسلمين. ونص على هذا أيضاً بعض الفقهاء كالعدوي في حاشيته على شرح الرسالة وغيره.
القول الرابع
إن البناء يمنع من دفن الغير معه، لأن قبور أهل الحجاز والأرض الصلبة على كيفية اللحد، كما رغب فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) رواه أحمد والطحاوي من حديث جرير. والأربعة من حديث ابن عباس. واللحد إذا وع البناء عليه لم يبق سبيل إلى دفن الغير فيه. ذكره بعض الفقهاء وشراح الحديث وأشار إليه السرخسي في المبسوط .
القول الخامس
إن فيه تشبهاً بفعل الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم يضعون الرخام على قدر القبر أو يبنون فوقه. وقد بنيت الشريعة في كثير من أحكامها على مخالفة الكفار والمشركين ذكره ابن قدامة في المغني وأشار إليه ابن مفلح في الفروع.
القول السادس
إنه في الزينة الدنيوية ولا ينبغي فعل ذلك بمن انتقل إلى الآخرة، وهذا نص عليه الشافعي في الأم، والسرخسي في المبسوط، وابن قدامة في المغني، وكثير من الفقهاء الحنفية.
تعليق