قبسات الهدى (5).. شريعتي وانتحار الرسول الخاتم !
بسم الله الرحمن الرحيم
عبّر الدكتور شريعتي عن حالة أصابت النبي عند انقطاع الوحي عنه فكان من ضمن ما وصف به سيد الكائنات عليه السلام بأنه (استولى عليه الرعب والهلع بما لا يطيق) وأصابته (حالة اليأس والقنوط) وكان (لا أمل لديه بالغد) وأنه كان (يتمنى الموت) ثم وصل لحد التفكير بالانتحار ! وأنه (حدّثته نفسه مرات بأن يلقي نفسه إلى أعماق الوادي، كيما يريحه الموت المحتوم).. (معرفة الإسلام 268 - 275) وقد مرت الإشارة إليها تفصيلاً فلتراجع..
واللافت في هذه الأقوال أنها تنسب حالات للنبي (ص) بعد بعثته أي حال كونه نبياً لا يتصف ببعضها إلا الكفار وأهل الضلال:
أولها: أنها تنسب الرعب والهلع للنبي (ص)، في حين يقول القرآن عن النبي: ﴿ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة : 40]
فلا يجتمع في قلب النبي (ص) (رعب وهلع) و(سكينة)..
والرعب في اللغة هو الخوف (معجم مقاييس اللغة ج2 ص410) .. والفزع (لسان العرب ج1 ص420) والهلع هو أفحش الجزع (الصحاح ج3 ص1308) ..
والسكينة هي الوقار (معجم مقاييس اللغة ج2 ص88) ... وزوال الرعب (مفردات ألفاظ القرآن ص417) ..
ثانيها: أنها تنسب للنبي (ص) اليأس وقد قال تعالى عن لسان يعقوب لبنيه: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف : 87]
ثالثها: أنها تنسب له القنوط وقد قال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر : 56]
فإذا كان اليأس من روح الله لا يليق بأبناء يعقوب الذين ظلموا أخاهم يوسف وألقوه في غيابة الجبّ، أفهل يصح نسبته لسيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله ؟! وإذا كان يعقوب عليه السلام يقول لهم ﴿لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ والإستثناء (إلا القوم الكافرون) بعد النفي (لا ييأس) يفيد الحصر، فهل كانت قمة (التحرر من التشيع الصفوي) عند الدكتور شريعتي هي بالالتزام ب(كفر النبي) صلى الله عليه وآله والعياذ بالله ؟! وكونه من (الضالين) ؟!
وهل يرى الدكتور شريعتي أن من لوازم الصفاء في ينابيع آل محمد الاعتقاد بكفر النبي آناً ما ؟! حتى بعد بعثته ؟!
فإن قيل: لعلّ الرجل لم يلتفت إلى هذه اللوازم ولم يلتزم بها !
قلنا: فضلاً عن تصريحاته الكثيرة التي تتضمن انتقاصاً هائلاً من شخصية النبي (ص) قبل البعثة وبعدها، فإن في هذا القول من الشناعة ما فيه حتى مع عدم الاعتقاد بكفر النبي في تلك الحالات، إذ يكفي الاعتقاد بأنه صلى الله عليه وآله كان في حالة من اليأس والقنوط والهلع وتمني الموت وأمثالها من الأمور وهو نبي مرسل مكلف بهداية البشرية .. يكفي مثل هذا الاعتقاد لتبطل الحجة الإلهية على الخلق وتهتز أركان الشريعة وتضطرب ركائزها..
فأي ثقة للناس في نبي لم يعرف الاستقرار العَقَدي ولا السكينة الروحية ولا اتصف بما اتصف به الأنبياء من قبله !
بل أيّ رب هذا الذي ما أرسل إلا رسولاً مضطرباً غير مستقر الحال يحتاج إلى من يأخذ بيده بدلاً من أن يأخذ بيد الناس !! وقد قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس : 35]
رابعها: أنها تنسب للنبي بأنه كان يحدّث نفسه بالانتحار ملقياً نفسه إلى أعماق الوادي..
فهل يعقل أن يحدّث (رسول الإنسانية) نفسه (مرّات) بما يذمّه العقل البشريّ قبل الشرائع السماوية ؟! إذ أي خيرٍ في سلب الحياة التي خلقها الله تعالى عن النفس الإنسانية ؟! بل عن أطهر نفس وأشرف مخلوق على وجه البسيطة ؟!
وإذا كان من أشنع ما ذمّ الله تعالى به الأقوام السالفة قتل النبيين أفلا يستحق النبي الذي تحدثه نفسه بالانتحار ذماً ؟
وقد قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21] ﴿.. وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181]
بل إن آيات الكتاب الكريم صريحة في النهي عن قتل النفس، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [النساء : 29]
وفي الحديث الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مُتَعَمِّداً فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها. (الكافي ج7 ص45)
وعند العامة في صحيح البخاري عن النبي (ص): من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً (صحيح البخاري ج7 ص32، وقريب منه صحيح مسلم ج1 ص72)
فأي نبيّ هذا الذي يحدّث نفسه بالانتحار مراراً ثم تتوعد شريعته المنتحر بالخلود في نار جهنم ليكون على حد الكفر بالله تعالى، ومن المعلوم أن عقوبة المعاصي (دخول النار دون الخلود فيها) وعقوبة الكفر هي (الخلود في النار)!
وفضلاً عن كل هذا فلا نعرف وجهاً للجمع بين ما قاله الدكتور شريعتي هنا وما قاله في مورد آخرعن العصمة حيث كان مما شرحها به أن المعصوم: لا يحدّث نفسه بارتكاب الرذائل أبداً (الشيع العلوي والتشيع الصفوي ص250)
ثم ننقل الحديث إلى أصل القصة التي أسهب الدكتور شريعتي في سردها وبيان مفرداتها وهي مسألة (انقطاع الوحي) أو (احتباس الوحي) عن النبي صلى الله عليه وآله.. والتي دعت النبي لأن يحدث نفسه بالانتحار !!
وترجع هذه القصة إلى ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة كما في صحيح البخاري وغيره: ثم لم ينشب ورقه ان توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد انك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه (صحيح البخاري ج8 ص67-68)
أما الطبري فينقل عن عائشة أيضاً أن النبي (همّ بالانتحار) عندما نزل عليه الوحي في أول البعثة (وليس أثناء انقطاع الوحي بحسب فريتهم فقط)، فقد روى: عن عائشة أنها قالت كان أول ما ابتدئ به رسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة.. ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار بحراء.. حتى فجأه الحق فأتاه فقال يا محمد أنت رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم زحفت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني حتى ذهب عنى الروع ثم أتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله، قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل... (تاريخ الطبري ج2 ص47)
وإلى هذه الروايات ونظائرها يرجع الاعتقاد بمحاولات النبي الانتحار!!
ومن العجيب جداً أن يلتزم منظّر للإسلام كالدكتور شريعتي وداعٍ له ومحرّض على تنقيته من (الإسرائيليات) وأمثالها بأسوا ما (أو مما) ورد فيها.. ويعتمد على كتب تعمدت الإساءة للنبي (ص)، ولم تكن هذه المصادر إلا كتب التاريخ الصفراء التي شنّعت على النبي صلى الله عليه وآله في كل صغيرة وكبيرة منذ بدء الوحي فجعلته (شاكاً) في (نبوّته) متردداً خائفاً مذهولاً مرعوباً، تفوقه زوجته في الإيمان والاطمئنان تارة وتشاركه في شكه تارة أخرى !! ولا يركن النبي عندهم إلى الوحي بقدر ما يركن إلى (ورقة بن نوفل) ! ويطمئن بما عند ورقة من أوراق تنسب لكتب الأنبياء السابقين أكثر مما يطمئن إلى وحي ربه!
ويلاحظ أن هذه المرويات كانت في الغالب عن عائشة كما يصرّح الطبري! فهل كانت عائشة في هذه الدنيا حين نزل الوحي على النبي (ص) وكانت عالمة بما يحدث به نفسه ؟ أم خص النبي (ص) عائشة من بين الخلق بأن أسرّ لها بمكنونات نفسه التي تجعله في مصاف (الشاكين المترددين الجاهلين) ؟
إلا أن جملة من علماء المخالفين أنكروا نقل هذه الروايات عن عائشة، ولم تسلم من النقد عندهم رغم روايتها في أصح كتبهم كصحيح البخاري، فيما قبلها أمثال الدكتور شريعتي !!
فها هو ابن حجر يقول: ثم إن القائل "فيما بَلَغَنا" هو الزهري.. وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً (راجع فتح الباري ج12 ص316) فيما صرّح الشافعي قبل ذلك بعدم اعتبار مرسلات الزهري قائلاً: وإرسال الزهري عندنا ليس بشيء (نقله عنه الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في علم الرواية ص425).. ومن بعدهم صرّح الألباني بتضعيفها فقال: إنها زيادة منكرة من حيث المعنى (دفاع عن الحديث النبوي ص42) بل يعد عزوه للبخاري خطأ فاحشاً وينفي صحته على شرط البخاري (ص40) ونسب له قوله: هذا الحديث ضعيف إسنادا منكر متنا..
وحرص بعض علمائهم غيره أيضاً على تقصي مثل هذه الروايات وتضعيفها وبيان بطلانها سنداً ومتناً، باعتبارها منافية لمكانة النبي (ص) وعصمته التي تعدّ حتى عندهم (أصلاً من أصول الإسلام) ولو بمفهومهم، مصرحين ب (رسوخ الإيمان بنبوته وكمال اليقين برسالته)!
هذا في خصوص محاولة النبي الإنتحار، أما في فرية انقطاع الوحي عنه صلى الله عليه وآله التي وردت في كتبهم فقد أوردوا لها وجوهاً عدة لتبريرها، لكن الإمامية لم يعتقدوا بصحة مثل هذه الدعوى رأساً، ولا يركن إلى ما رواه القمي مثلاً في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام: وَ ذَلِكَ أَنَّ جَبْرَئِيلَ أَبْطَأَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص ... فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لَعَلَّ رَبَّكَ قَدْ تَرَكَك (ج2 ص428) ولا يعول عليه لوجوه:
أولها: أنه لم يصرح بانقطاع الوحي إنما ذكر بأنه (أبطأ)، والوحي إنما ينزل بحسب الإرادة الإلهية الناظرة للمصلحة، وبحسب اختلاف الموارد فقد يتنزل الوحي مرات في يوم وقد لا يتنزل في أيام وهكذا..
ثانيها: أنه من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً، وراويها هو أبو الجارود الذي تنسب إليه فرقة الجارودية، وهو ممن لم يوثق وإن اعتمد عليه بعضهم لتوثيقات عامة، إلا أن فيه كلام وكلام..
وثالثها: أنها مخالفة للمقطوع به من نسبة الشك بالنبوة للسيدة خديجة وهي المنزهة عن ذلك بلا ارتياب.. فهي التي صدّقت النبي حين كذّبه الناس، وآمنت به حين كفروا به..
ثم نترك لخيال القارئ أمر محاكمة ما نسبه الدكتور شريعتي للنبي (ص) بعد أن تنبّه جملة من علماء المخالفين إلى خطورة مثل هذه الافتراءات بحق النبي (ص) فأنكروا صحتها!
وبعد هذا هل يصحّ نسبة مثل هذه الاعتقاد إلى (تشيع علوي) نقي من الشوائب كما يزعم الدكتور شريعتي ؟!
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
عبّر الدكتور شريعتي عن حالة أصابت النبي عند انقطاع الوحي عنه فكان من ضمن ما وصف به سيد الكائنات عليه السلام بأنه (استولى عليه الرعب والهلع بما لا يطيق) وأصابته (حالة اليأس والقنوط) وكان (لا أمل لديه بالغد) وأنه كان (يتمنى الموت) ثم وصل لحد التفكير بالانتحار ! وأنه (حدّثته نفسه مرات بأن يلقي نفسه إلى أعماق الوادي، كيما يريحه الموت المحتوم).. (معرفة الإسلام 268 - 275) وقد مرت الإشارة إليها تفصيلاً فلتراجع..
واللافت في هذه الأقوال أنها تنسب حالات للنبي (ص) بعد بعثته أي حال كونه نبياً لا يتصف ببعضها إلا الكفار وأهل الضلال:
أولها: أنها تنسب الرعب والهلع للنبي (ص)، في حين يقول القرآن عن النبي: ﴿ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة : 40]
فلا يجتمع في قلب النبي (ص) (رعب وهلع) و(سكينة)..
والرعب في اللغة هو الخوف (معجم مقاييس اللغة ج2 ص410) .. والفزع (لسان العرب ج1 ص420) والهلع هو أفحش الجزع (الصحاح ج3 ص1308) ..
والسكينة هي الوقار (معجم مقاييس اللغة ج2 ص88) ... وزوال الرعب (مفردات ألفاظ القرآن ص417) ..
ثانيها: أنها تنسب للنبي (ص) اليأس وقد قال تعالى عن لسان يعقوب لبنيه: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف : 87]
ثالثها: أنها تنسب له القنوط وقد قال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر : 56]
فإذا كان اليأس من روح الله لا يليق بأبناء يعقوب الذين ظلموا أخاهم يوسف وألقوه في غيابة الجبّ، أفهل يصح نسبته لسيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله ؟! وإذا كان يعقوب عليه السلام يقول لهم ﴿لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ والإستثناء (إلا القوم الكافرون) بعد النفي (لا ييأس) يفيد الحصر، فهل كانت قمة (التحرر من التشيع الصفوي) عند الدكتور شريعتي هي بالالتزام ب(كفر النبي) صلى الله عليه وآله والعياذ بالله ؟! وكونه من (الضالين) ؟!
وهل يرى الدكتور شريعتي أن من لوازم الصفاء في ينابيع آل محمد الاعتقاد بكفر النبي آناً ما ؟! حتى بعد بعثته ؟!
فإن قيل: لعلّ الرجل لم يلتفت إلى هذه اللوازم ولم يلتزم بها !
قلنا: فضلاً عن تصريحاته الكثيرة التي تتضمن انتقاصاً هائلاً من شخصية النبي (ص) قبل البعثة وبعدها، فإن في هذا القول من الشناعة ما فيه حتى مع عدم الاعتقاد بكفر النبي في تلك الحالات، إذ يكفي الاعتقاد بأنه صلى الله عليه وآله كان في حالة من اليأس والقنوط والهلع وتمني الموت وأمثالها من الأمور وهو نبي مرسل مكلف بهداية البشرية .. يكفي مثل هذا الاعتقاد لتبطل الحجة الإلهية على الخلق وتهتز أركان الشريعة وتضطرب ركائزها..
فأي ثقة للناس في نبي لم يعرف الاستقرار العَقَدي ولا السكينة الروحية ولا اتصف بما اتصف به الأنبياء من قبله !
بل أيّ رب هذا الذي ما أرسل إلا رسولاً مضطرباً غير مستقر الحال يحتاج إلى من يأخذ بيده بدلاً من أن يأخذ بيد الناس !! وقد قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس : 35]
رابعها: أنها تنسب للنبي بأنه كان يحدّث نفسه بالانتحار ملقياً نفسه إلى أعماق الوادي..
فهل يعقل أن يحدّث (رسول الإنسانية) نفسه (مرّات) بما يذمّه العقل البشريّ قبل الشرائع السماوية ؟! إذ أي خيرٍ في سلب الحياة التي خلقها الله تعالى عن النفس الإنسانية ؟! بل عن أطهر نفس وأشرف مخلوق على وجه البسيطة ؟!
وإذا كان من أشنع ما ذمّ الله تعالى به الأقوام السالفة قتل النبيين أفلا يستحق النبي الذي تحدثه نفسه بالانتحار ذماً ؟
وقد قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21] ﴿.. وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181]
بل إن آيات الكتاب الكريم صريحة في النهي عن قتل النفس، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [النساء : 29]
وفي الحديث الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ مُتَعَمِّداً فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها. (الكافي ج7 ص45)
وعند العامة في صحيح البخاري عن النبي (ص): من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً (صحيح البخاري ج7 ص32، وقريب منه صحيح مسلم ج1 ص72)
فأي نبيّ هذا الذي يحدّث نفسه بالانتحار مراراً ثم تتوعد شريعته المنتحر بالخلود في نار جهنم ليكون على حد الكفر بالله تعالى، ومن المعلوم أن عقوبة المعاصي (دخول النار دون الخلود فيها) وعقوبة الكفر هي (الخلود في النار)!
وفضلاً عن كل هذا فلا نعرف وجهاً للجمع بين ما قاله الدكتور شريعتي هنا وما قاله في مورد آخرعن العصمة حيث كان مما شرحها به أن المعصوم: لا يحدّث نفسه بارتكاب الرذائل أبداً (الشيع العلوي والتشيع الصفوي ص250)
ثم ننقل الحديث إلى أصل القصة التي أسهب الدكتور شريعتي في سردها وبيان مفرداتها وهي مسألة (انقطاع الوحي) أو (احتباس الوحي) عن النبي صلى الله عليه وآله.. والتي دعت النبي لأن يحدث نفسه بالانتحار !!
وترجع هذه القصة إلى ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة كما في صحيح البخاري وغيره: ثم لم ينشب ورقه ان توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال يا محمد انك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه (صحيح البخاري ج8 ص67-68)
أما الطبري فينقل عن عائشة أيضاً أن النبي (همّ بالانتحار) عندما نزل عليه الوحي في أول البعثة (وليس أثناء انقطاع الوحي بحسب فريتهم فقط)، فقد روى: عن عائشة أنها قالت كان أول ما ابتدئ به رسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة.. ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار بحراء.. حتى فجأه الحق فأتاه فقال يا محمد أنت رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم زحفت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني حتى ذهب عنى الروع ثم أتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله، قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل... (تاريخ الطبري ج2 ص47)
وإلى هذه الروايات ونظائرها يرجع الاعتقاد بمحاولات النبي الانتحار!!
ومن العجيب جداً أن يلتزم منظّر للإسلام كالدكتور شريعتي وداعٍ له ومحرّض على تنقيته من (الإسرائيليات) وأمثالها بأسوا ما (أو مما) ورد فيها.. ويعتمد على كتب تعمدت الإساءة للنبي (ص)، ولم تكن هذه المصادر إلا كتب التاريخ الصفراء التي شنّعت على النبي صلى الله عليه وآله في كل صغيرة وكبيرة منذ بدء الوحي فجعلته (شاكاً) في (نبوّته) متردداً خائفاً مذهولاً مرعوباً، تفوقه زوجته في الإيمان والاطمئنان تارة وتشاركه في شكه تارة أخرى !! ولا يركن النبي عندهم إلى الوحي بقدر ما يركن إلى (ورقة بن نوفل) ! ويطمئن بما عند ورقة من أوراق تنسب لكتب الأنبياء السابقين أكثر مما يطمئن إلى وحي ربه!
ويلاحظ أن هذه المرويات كانت في الغالب عن عائشة كما يصرّح الطبري! فهل كانت عائشة في هذه الدنيا حين نزل الوحي على النبي (ص) وكانت عالمة بما يحدث به نفسه ؟ أم خص النبي (ص) عائشة من بين الخلق بأن أسرّ لها بمكنونات نفسه التي تجعله في مصاف (الشاكين المترددين الجاهلين) ؟
إلا أن جملة من علماء المخالفين أنكروا نقل هذه الروايات عن عائشة، ولم تسلم من النقد عندهم رغم روايتها في أصح كتبهم كصحيح البخاري، فيما قبلها أمثال الدكتور شريعتي !!
فها هو ابن حجر يقول: ثم إن القائل "فيما بَلَغَنا" هو الزهري.. وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً (راجع فتح الباري ج12 ص316) فيما صرّح الشافعي قبل ذلك بعدم اعتبار مرسلات الزهري قائلاً: وإرسال الزهري عندنا ليس بشيء (نقله عنه الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في علم الرواية ص425).. ومن بعدهم صرّح الألباني بتضعيفها فقال: إنها زيادة منكرة من حيث المعنى (دفاع عن الحديث النبوي ص42) بل يعد عزوه للبخاري خطأ فاحشاً وينفي صحته على شرط البخاري (ص40) ونسب له قوله: هذا الحديث ضعيف إسنادا منكر متنا..
وحرص بعض علمائهم غيره أيضاً على تقصي مثل هذه الروايات وتضعيفها وبيان بطلانها سنداً ومتناً، باعتبارها منافية لمكانة النبي (ص) وعصمته التي تعدّ حتى عندهم (أصلاً من أصول الإسلام) ولو بمفهومهم، مصرحين ب (رسوخ الإيمان بنبوته وكمال اليقين برسالته)!
هذا في خصوص محاولة النبي الإنتحار، أما في فرية انقطاع الوحي عنه صلى الله عليه وآله التي وردت في كتبهم فقد أوردوا لها وجوهاً عدة لتبريرها، لكن الإمامية لم يعتقدوا بصحة مثل هذه الدعوى رأساً، ولا يركن إلى ما رواه القمي مثلاً في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام: وَ ذَلِكَ أَنَّ جَبْرَئِيلَ أَبْطَأَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص ... فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لَعَلَّ رَبَّكَ قَدْ تَرَكَك (ج2 ص428) ولا يعول عليه لوجوه:
أولها: أنه لم يصرح بانقطاع الوحي إنما ذكر بأنه (أبطأ)، والوحي إنما ينزل بحسب الإرادة الإلهية الناظرة للمصلحة، وبحسب اختلاف الموارد فقد يتنزل الوحي مرات في يوم وقد لا يتنزل في أيام وهكذا..
ثانيها: أنه من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً، وراويها هو أبو الجارود الذي تنسب إليه فرقة الجارودية، وهو ممن لم يوثق وإن اعتمد عليه بعضهم لتوثيقات عامة، إلا أن فيه كلام وكلام..
وثالثها: أنها مخالفة للمقطوع به من نسبة الشك بالنبوة للسيدة خديجة وهي المنزهة عن ذلك بلا ارتياب.. فهي التي صدّقت النبي حين كذّبه الناس، وآمنت به حين كفروا به..
ثم نترك لخيال القارئ أمر محاكمة ما نسبه الدكتور شريعتي للنبي (ص) بعد أن تنبّه جملة من علماء المخالفين إلى خطورة مثل هذه الافتراءات بحق النبي (ص) فأنكروا صحتها!
وبعد هذا هل يصحّ نسبة مثل هذه الاعتقاد إلى (تشيع علوي) نقي من الشوائب كما يزعم الدكتور شريعتي ؟!
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
تعليق