بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
وبعد
قال تعالى في آيات كتابه الكريم:
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258]
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة : 264]
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة : 108]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر : 28]
طرح بعضهم إشكالاً مفاده أن هذه الآيات تدلّ على أنه تعالى لا يهدي من هم في أمسّ الحاجة للهداية ! وهم الكفار والظالمون والفاسقون والمسرفون والكذابون !
وهذا مما لا يمكن قبوله بحكم العقل، لأنه نظير الطبيب الذي لا يداوي من كان مريضاً بأمس الحاجة للعلاج !
ثم إن الكتاب نسب الهداية لله تارة وللناس تارة أخرى، وكذا الضلال.. وهذا نوع من التناقض في الكتاب !!
ولحلّ ما أعضل على هؤلاء لا بد من ردّ (المتشابه) إلى (المحكم) فراراً من قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)
ومحكم الكتاب الكريم يرشدنا إلى أمور منها:
1. أن الله سبحانه وتعالى هيّأ أسباب الهداية لكل الخلق، وللإنسان أن يختار طريق الهداية أو طريق الضلال.
قال تعالى عن الإنسان: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان : 3]
وقال تعالى عنه أيضاً: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : 10]
فالهداية من الله تعالى عامة لبني البشر جميعاً، وهي تتم بتمامية مقدماتها من حجة باطنة وهي العقل وحجة ظاهرة وهم الرسل، وأمر بالتفكر والتدبر واختيار طريق الحق.
والقرآن الكريم نفسه كتاب هداية للتي هي أقوم، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء : 9]
2. أن الله سبحانه وتعالى لم يجبر الإنسان على اختيار طريق الهداية أو طريق الضلال، فالهداية فعلٌ بشريّ، قال تعالى في ذلك:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس : 108]
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل : 92]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ [النساء : 44]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً [النساء : 167]
ومثلها آيات أخرى، وهي تدلّ على الإنسان هو الذي يختار الهداية أو الضلال.
3. أن من ضلّ فقد فضّل واستحب طريق العمى على طريق الهدى باختياره، قال تعالى في هؤلاء:
قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت : 17]
فإنهم بعد أن هداهم الله تعالى وهيأ لهم كل السبل استحبوا العمى على الهدى..
4. بما أن الإنسان فاعل مختار لا على سبيل التفويض، فلا بد أن تتعلق الإرادة الإلهية بما يختاره، وإلا فلا يمكن تحقق شيء في الكون دون تعلق إرادة الله تعالى به.
وبما أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن زيداً سيختار الهدى، فإن إرادته تعالى تتعلق بذلك، ولو لم تتعلق لما أمكن لزيدٍ أن يختار الهداية ولصار مجبراً !
وبما أنه تعالى علم أن عمراً سيختار الضلال، فإن إرادته تعالى تتعلق بذلك، لئلا يلزم جبره على الهداية !
فإرادة الله تعالى تتعلق بتفعيل إرادة الفاعل أو إمضائها سواء اختار الهداية أم العمى.
قال تعالى:
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس : 25]
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل : 93]
فلو شاء الله أن يجبر الناس على أن يكونوا أمة واحدة لفعل، لكن (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، فمن اختار الهدى شاء الله هدايته ومن اختار الضلال شاء الله إضلاله. وإلا لزم الجبر والإكراه.
5. أن ملاحظة السياق الكامل لآيات نفي الهداية عن فئة يرشد إلى ما ذكرنا، فإن الله لم يباشرهم بمنع الهداية، إنما علق منع الهداية عنهم على اختيارهم للكفر أو الضلال أو الانحراف.. وفيما يلي سياق هذه الآيات:
قال تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258]
فإن الذي كفر قد اختار الضلال بنفسه فلن يهده الله لذلك.
وقال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران : 86]
فإن هؤلاء كفروا بعد إيمانهم ومعرفتهم للحق، وهداية الله لهم هنا هي نوع إلجاء وجبر لا يريده الله تعالى لعباده.
ومثلها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء : 137]
وكأن هؤلاء اتخذوا دين الله لعباً مرددين بين الإيمان والكفر ثم (ازدادوا كفراً)، فاختاروا الكفر بأنفسهم فلن يجبرهم الله تعالى على سلوك سبيل الهداية.
وفي هذا المضمون جملة من الآيات الأخرى التي نفت هذا النوع من الهداية عن الكافرين والظالمين والمفترين على الله كذباً والمحلين ما حرم الله ومن لا يؤمن بآيات الله ومن يتبع هواه ويتخذه إلهاً على علم ومن اختار الزيغ ومن افترى على الله الكذب ومن كذب بآيات الله وغيرهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً [النساء : 168]
- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 144]
- فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة : 37]
- إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل : 104]
- وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50]
- أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية : 23]
- فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف : 5]
- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف : 7]
- مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة : 5]
6. أن الهداية والضلال على مراتب، فقد يختار الإنسان الهداية ويسلك بعض مراتبها فيوفقه الله تعالى لمزيد منها تفضلاً منه ورحمة، قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً [النساء : 175]
فإنهم بعد اختيارهم الإيمان واعتصامهم بالله تعالى يدخلهم ربهم في مزيد رحمة وفضل وهداية..
وكذا من اتبع رضوانه: قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة : 16]
وأصرح منها قوله تعالى في أصحاب الكهف:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف : 13]
وفي مقابلهم أهل الخداع الذين قال فيهم تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة : 10]
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة : 125]
والخلاصة..
1. أن أسباب الهداية متاحة لجميع الخلق.
2. أن الهداية فعل بشري والإنسان يختار الهداية أو الضلال.
3. أن من اختار الضلال فقد استحبه وفضله على الهدى بنفسه.
4. تعلق إرادة الله تعالى بهداية زيد أو ضلاله نوع إمضاء لما يختاره زيد تثبيتاً لعقيدة (أمر بين الأمرين) فلا جبر على الهداية أو الضلال.
5. آيات نفي الهداية ناظرة إلى هذا المعنى ويظهر ذلك بملاحظتها كاملة.
6. أن اختيار الهداية يستوجب مزيد توفيق من الله تعالى، واختيار الضلال يستوجب مزيد رجسٍ ومرض والعياذ بالله.
فلا تعارض بين آيات الكتاب العزيز.. ولا جبر ولا تفويض.. وكله يتضح برد المتشابه إلى المحكم..
ومن اختار الكفر كان كمن لم يلتزم بتوجيهات الطبيب..
فإذا أهلكه الداء..
لم يكن له حجة ولا عزاء..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
والحمد لله رب العالمين
وبعد
قال تعالى في آيات كتابه الكريم:
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258]
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة : 264]
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة : 108]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر : 28]
طرح بعضهم إشكالاً مفاده أن هذه الآيات تدلّ على أنه تعالى لا يهدي من هم في أمسّ الحاجة للهداية ! وهم الكفار والظالمون والفاسقون والمسرفون والكذابون !
وهذا مما لا يمكن قبوله بحكم العقل، لأنه نظير الطبيب الذي لا يداوي من كان مريضاً بأمس الحاجة للعلاج !
ثم إن الكتاب نسب الهداية لله تارة وللناس تارة أخرى، وكذا الضلال.. وهذا نوع من التناقض في الكتاب !!
ولحلّ ما أعضل على هؤلاء لا بد من ردّ (المتشابه) إلى (المحكم) فراراً من قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)
ومحكم الكتاب الكريم يرشدنا إلى أمور منها:
1. أن الله سبحانه وتعالى هيّأ أسباب الهداية لكل الخلق، وللإنسان أن يختار طريق الهداية أو طريق الضلال.
قال تعالى عن الإنسان: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان : 3]
وقال تعالى عنه أيضاً: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : 10]
فالهداية من الله تعالى عامة لبني البشر جميعاً، وهي تتم بتمامية مقدماتها من حجة باطنة وهي العقل وحجة ظاهرة وهم الرسل، وأمر بالتفكر والتدبر واختيار طريق الحق.
والقرآن الكريم نفسه كتاب هداية للتي هي أقوم، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء : 9]
2. أن الله سبحانه وتعالى لم يجبر الإنسان على اختيار طريق الهداية أو طريق الضلال، فالهداية فعلٌ بشريّ، قال تعالى في ذلك:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس : 108]
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل : 92]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ [النساء : 44]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً [النساء : 167]
ومثلها آيات أخرى، وهي تدلّ على الإنسان هو الذي يختار الهداية أو الضلال.
3. أن من ضلّ فقد فضّل واستحب طريق العمى على طريق الهدى باختياره، قال تعالى في هؤلاء:
قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت : 17]
فإنهم بعد أن هداهم الله تعالى وهيأ لهم كل السبل استحبوا العمى على الهدى..
4. بما أن الإنسان فاعل مختار لا على سبيل التفويض، فلا بد أن تتعلق الإرادة الإلهية بما يختاره، وإلا فلا يمكن تحقق شيء في الكون دون تعلق إرادة الله تعالى به.
وبما أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن زيداً سيختار الهدى، فإن إرادته تعالى تتعلق بذلك، ولو لم تتعلق لما أمكن لزيدٍ أن يختار الهداية ولصار مجبراً !
وبما أنه تعالى علم أن عمراً سيختار الضلال، فإن إرادته تعالى تتعلق بذلك، لئلا يلزم جبره على الهداية !
فإرادة الله تعالى تتعلق بتفعيل إرادة الفاعل أو إمضائها سواء اختار الهداية أم العمى.
قال تعالى:
وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس : 25]
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل : 93]
فلو شاء الله أن يجبر الناس على أن يكونوا أمة واحدة لفعل، لكن (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، فمن اختار الهدى شاء الله هدايته ومن اختار الضلال شاء الله إضلاله. وإلا لزم الجبر والإكراه.
5. أن ملاحظة السياق الكامل لآيات نفي الهداية عن فئة يرشد إلى ما ذكرنا، فإن الله لم يباشرهم بمنع الهداية، إنما علق منع الهداية عنهم على اختيارهم للكفر أو الضلال أو الانحراف.. وفيما يلي سياق هذه الآيات:
قال تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة : 258]
فإن الذي كفر قد اختار الضلال بنفسه فلن يهده الله لذلك.
وقال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران : 86]
فإن هؤلاء كفروا بعد إيمانهم ومعرفتهم للحق، وهداية الله لهم هنا هي نوع إلجاء وجبر لا يريده الله تعالى لعباده.
ومثلها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء : 137]
وكأن هؤلاء اتخذوا دين الله لعباً مرددين بين الإيمان والكفر ثم (ازدادوا كفراً)، فاختاروا الكفر بأنفسهم فلن يجبرهم الله تعالى على سلوك سبيل الهداية.
وفي هذا المضمون جملة من الآيات الأخرى التي نفت هذا النوع من الهداية عن الكافرين والظالمين والمفترين على الله كذباً والمحلين ما حرم الله ومن لا يؤمن بآيات الله ومن يتبع هواه ويتخذه إلهاً على علم ومن اختار الزيغ ومن افترى على الله الكذب ومن كذب بآيات الله وغيرهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً [النساء : 168]
- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 144]
- فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة : 37]
- إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل : 104]
- وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص : 50]
- أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية : 23]
- فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف : 5]
- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف : 7]
- مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة : 5]
6. أن الهداية والضلال على مراتب، فقد يختار الإنسان الهداية ويسلك بعض مراتبها فيوفقه الله تعالى لمزيد منها تفضلاً منه ورحمة، قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً [النساء : 175]
فإنهم بعد اختيارهم الإيمان واعتصامهم بالله تعالى يدخلهم ربهم في مزيد رحمة وفضل وهداية..
وكذا من اتبع رضوانه: قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة : 16]
وأصرح منها قوله تعالى في أصحاب الكهف:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف : 13]
وفي مقابلهم أهل الخداع الذين قال فيهم تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة : 10]
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة : 125]
والخلاصة..
1. أن أسباب الهداية متاحة لجميع الخلق.
2. أن الهداية فعل بشري والإنسان يختار الهداية أو الضلال.
3. أن من اختار الضلال فقد استحبه وفضله على الهدى بنفسه.
4. تعلق إرادة الله تعالى بهداية زيد أو ضلاله نوع إمضاء لما يختاره زيد تثبيتاً لعقيدة (أمر بين الأمرين) فلا جبر على الهداية أو الضلال.
5. آيات نفي الهداية ناظرة إلى هذا المعنى ويظهر ذلك بملاحظتها كاملة.
6. أن اختيار الهداية يستوجب مزيد توفيق من الله تعالى، واختيار الضلال يستوجب مزيد رجسٍ ومرض والعياذ بالله.
فلا تعارض بين آيات الكتاب العزيز.. ولا جبر ولا تفويض.. وكله يتضح برد المتشابه إلى المحكم..
ومن اختار الكفر كان كمن لم يلتزم بتوجيهات الطبيب..
فإذا أهلكه الداء..
لم يكن له حجة ولا عزاء..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي