16. طواف الله وطواف النساء ! المرأة جزء من العبادة !
بحث استطرادي لسماحة آية الله الشيخ مصطفى الهرندي حول رمزية المرأة وأحكامها في الحج وغيره..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحياة معرفة وشعور، ثم تطبيق لتلك الرموز في عرفات وفي المشعر.
وفي شعيرة الذبح تركيز على الجانب الدنيوي من حياة الانسان، فالانسان يأكل ويشرب ولا يعيش لوحده، لأن الحياة اجتماعية فيجب أن يفكر في اخوته وفي الفقراء وهو يعيش الحلم الأكبر للعبادة الشريفة، ففي ذلك ترميز إلى أنك جزء من المجتمع البشري، الذي يتركب من ثلاثة شرائح: أنت، وأخوك، وغيركما.
فيجب أن تفكر وأنت في منى بالمسؤولية التي تتحملها نحو الإنسانية الشريدة المعذبة.
ثم بعد ذلك ينتقل الحاج الى مكة المكرمة فيطوف والحياة طواف، ثم يصلي والحياة صلاة، لأن الإنسان يتمكن من تحويل جميع حياته الى عبادة.
يأكل ليتمكن من العبودية.
يشرب ليتمكن من العبودية.
ثم يصلي ثم يسعى، والسعي أيضاً رمز للحياة المادية.. ومن هنا وقع الكلام في عبادية السعي .. فما هي العناصر العبادية في السعي ؟
رمز إلى أن الحياة سعي وكد وتعب وهرولة ومشي، مبدأ ومنتهى.. ومن ثم تكرار لذلك أيضاً.. لأن الحياة مركبة من أعمال تتكرر كل يوم: يأكل ويشرب وينام ويعمل، وتتكرر هذه الأعمال من بداية الحياة إلى نهايتها.
فالسعي رمز إلى أن الإنسان يجب عليه أن يسعى.. أن لا يجمد.. أن لا يبقى في نقطة واحدة.
وكل عبادات الله تبارك وتعالى إذا تمكن الإنسان وتَوَفّق في تحديدها وتفسيرها يجد أنها جمعت بين الجانب المعنوي وبين الجانب المادي.. بين الجانب الأخروي وبين الجانب الدنيوي.. فليست معنوية بحتة بكل ما للكلمة من معنى.. وليست مادية بحتة بكل ما للكلمة من معنى.. لأن الإنسان روح وجسد..
يجب أن يحاول إشباع جسده كما يحاول إشباع روحه.
وطواف النساء قفزة بكل ما في الكلمة من معنى.. ترميز إلى أهمية دور المرأة في الحياة.. الإنسان يطوف حول الكعبة المكرمة لتحل له زوجته.. الطواف الأول لله تبارك وتعالى.. والطواف الثاني لحياته الدنيوية التي لا تتم إلا باقترانه بمن يكمل وجوده.. طواف النساء..
طواف الله وطواف النساء! فصعّدت الشريعة المقدسة المرأة إلى رمز يختص بالذات المقدسة جل وعلا.. لا يجوز له أن يطوف لغير الله تبارك وتعالى.. أما هنا فالطواف لحلية النساء.. فتبرز أهمية المرأة ودورها في الحياة.
ونفس الشعيرة أيضاً فيها رمز آخر.. وهي الرموز التي اكتنفت العبادة السومرية والآشورية وغيرهما، كان الواجب على المرأة أن تجلس يوماً معيناً في المعابد الخاصة وتسير مع أي رجل مال إليها وانجذب إليها لتدفع زكاة جسمها!
ويأتي طواف النساء ليثبت حرمة المرأة.. جلال المرأة.. شخصية المرأة.. وأن المرأة أصبحت جزء من العبادة الشريفة.
ثم الامتحان الذي يمر به الرجل: حرمت المرأة عليه بسبب دخوله في حالة الإحرام، لكن مع ذلك أمرتها الشريعة المقدسة بكشف وجهها ويديها، وكل عوامل الاغراء مجتمعة في الوجه وفي العينين: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.
تُدخلُ الرجل في تجربة من أكبر التجارب.. واجتمعت المرأة من الكل العالم.. المرأة الآسيوية والأفريقية والاوربية والأمريكية بكل الجاذبيات الموجودة في مختلف النساء.. ويأمر الله الرجل أن يسيطر على نفسه.. أن يسيطر على غريزته وشهوته.. في الاختلاط العجيب تدخله الشريعة المقدسة في تجربة.
المرأة بعيدة عن الرجل حتى في الصلاة فلا تصلي في جنبه وتبتعد عنه.. لكن في الحج الشريف تختلط بالرجل لتُعَلِّم الرجل كيف يتمكن من السيطرة على غريزته وعينه ويتحكم بنفسه أمام جاذبية المرأة.
كلها دروس وعبر ليعتاد الإنسان على كيفية السيطرة على نفسه.
لا يجب أن يُقرأ الحج بهذه الصورة البسيطة التي تُقرأ في المناسك الشريفة فقط.. فهذه صورة الحج..
أما الحج فدرس.. امتحان.. أحكام عرفية.. تمرين للإنسان كيف يسيطر على نفسه.. على عواطفه.. على أحاسيسه، على عينه ، على لسانه، على جسمه، على ميوله، على غرائزه..
الإنسان يحتاج إلى هذه الأمور.. ورياضة اليوغا والمعابد البوذية والهندوسية تحاول أن تزود الإنسان بهذه التجربة.. وهذه يوغا إلهية.. رياضة إلهية.. إلتزام إلهي بهذه الأمور.. تدريب.. تمرين.. كيف يختلط رجل واحد بآلاف النساء ويحاول السيطرة على غريزته وعينه وميوله وقلبه ووجوده وكيانه وشخصيته ورجولته!
ألم يكن بإمكان الشريعة أن تفصل بين الرجل والمرأة كما تفصل السلطات السعودية فعلاً بين الرجل والمرأة ؟ فتجعل زماناً معيناً للمرأة في المسجد النبوي وزمانا خاصا للرجل في المسجد النبوي.
اختلاطٌ لأن الحياة كلها اختلاط.. ليس بامكانك ان تفصل الرجل عن المرأة فصلاً كاملاً.. ففي السوق معها وفي الشارع والسيارة والطائرة والفندق معها.. حتى في ساحل البحر معها..
تُعوِّدُه السيطرة على غريزته ونفسه وميوله.. على الجاذبية الموجودة في المرأة..
كلها دروس.. كلها عبر.. واقع الحياة يتجسد في الحج..
الحج هو حياة صغيرة للإنسان من المبدأ إلى المنتهى.
إنا لله وإنا إليه راجعون: يبدأ من الله وينتهي بالله ويمر بالمحطات الحقيقة التي يمر بها في حياته.. فأكل وشرب وارتباط.. كلها تجمعت في هذه الشعيرة المباركة، والخليط مقرر من أيام النبي (ص) والإمام (ع) لم يمنع منه.
فيه إدخال للإنسان في التجربة حتى يعتاد، والإنسان إذا لم يمر بالتجربة لا يتمكن من الحكم بنفسه..
نحن قرأنا أن كثيراً من الكبار عندما واجهوا التجربة الجنسية أو المالية سقطوا في التجربة الأولى.
ليست الحياة ابتعاداً عن المباهج والزينة والواقع، فالمرأة موجودة والمال موجودد والجاذبية موجودة والغريزة موجوة وكل شيء موجود.
يجب أن ندخل هذه العناصر حقيقة في الحياة الإنسانية.
أن ندرب الإنسان ونعوده كيف يتمكن من الابتعاد عن المال المحرم..يبتعد عن الجنس المحرم، يبتعد عن الأكل المحرم. يبتعد عن ما حرمه الله تبارك وتعالى من الغيبة والكذب والافتراء واتخاذ القرارات الباطلة.
والحج يجمع كل شيء، تصغير وجمع للحياة الإنسانية، إدخال الإنسان في تجربة مُرَّة تعلمه كيف يسيطر على نفسه وعواطفه وغرائزه، وعلى كيانه، كيف يحفظ شخصيته.. وليست الحياة ابتعاداً: لا رهبانية في الإسلام.
لا نريد أن نصنع أديرة فوق الجبال ونطلب من الرجال أن يعيشوا في تلك الأديرة، فالله تعالى لم يخلق الرجل ولا المرأة لكي يكون راهباً ولا لكي تكون راهبة.
يجب أن يعيش الراهب الحقيقي في المجتمع وتتحول المرأة إلى راهبة حقيقية داخل المجتمع.
نحن نريد أن نصنع حياة سعيدة، ولا يمكن صنع الحياة السعيدة إلا بوضع الأطر الصحيحة والحقيقية للحياة الاجتماعية، بأن ندخل الانسان في تجربة يخرج منها مرفوع الرأس، لا أن يبتعد عن الحقيقة ويحاول الحفاظ على نفسه بذلك ثم يسقط في أول تجربة يمر بها ويضيع كل ما حصّله طول عمره، كما قرأناه في كثير من قصص الزهاد والعباد الذين سقطوا في أول تجربة، وقضية هاروت وماروت واردة في الكتاب الكريم.. تفاصيل القضية ليست موجودة لكن هاروت وماروت تجربة من دون شك وشبهة.
فالحج ليس مناسك جامدة صامتة، ليس مناسك غير هادفة، وليس مناسك خالية من الدروس.
ونحن بحاجة الى شرح هذه الأمور، وإلى توجيه الناس إليها.
نحترم المرأة وأحياناً نأمر باختلاطها مع الرجل.
جعلنا لها منسكاً معيناً سميناه طواف النساء، وكما يحل له كل شيء بطواف الحج تحل له المرأة بطواف النساء.
فهناك طوافان: الطواف الأول لتحليل الحياة الإنسانية بصورة مطلقة، وطواف آخر لتحليل الرجل على المرأة بصورة خاصة.
وقسمنا الحياة إلى قسمين: العناصر المكونة للحياة وتحل بطواف الزيارة، والمرأة تحل بطواف النساء.
أي شريعة أعطت للمرأة هذه الأهمية وهذا الدور ؟
الشريعة المقدسة صامتة لكن يجب أن تُستَنطَق، وبعد الاتكال على الله تبارك وتعالى يحاول الانسان الوصول الى عمق الشريعة المقدسة.
فليست الصلاة عبارة عن حركات صامتة خالية عن المفهوم والمعنى، بل هي حركات رمزية تحمل كل رموز العبادة في التاريخ.
الصوم ليس أيضاً إمساكاً مطلقاً ولكنه جزء من الحياة البشرية، فيه دروس وعبر ورموز وإشارات، فمن الذي يفكها ؟
يتوقع من رجل الدين أن يلتفت إلى هذه الأمور دون أن يتصرف في أصول الشريعة المقدسة، بل أن يعرضها بشكل يتقبله العصر.
القصة واحدة، لكن طرح القصة متنوع: كثيرون كتبوا حول ليلى ومجنونها، كثيرون كتبوا حول روميو وجولييت، كثيرون كتبوا حول ملحمة كربلاء.. لكن التمثيل مختلف.. التعبير مختلف..
مسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير ظهرت على المسرح منذ مئات السنين وفي كل سنة فيها تجديد، والتجديد ناظر إلى المتطلبات الإنسانية.. الى دراسة الوضع الاجتماعي والتحليل الاجتماعي.
يجب علينا ذلك.. من الذي يقوم بهذه المسؤولية ؟
طالب العلم يقوم بهذه المسؤولية والحوزات العلمية تقوم بها.
نحتاج الى قراءة جديدة، لا تصرفاً في المطالب، ولا تجاوزا على الأصول والقواعد، لكن بامكانك ان تصنع نفس المواد بشكل يتقبله العصر ويتوجه إليه.
لقد ساوى الله تعالى بين الطوافين، والحياة تنقسم الى قسمين:
الأول: كل المباهج الموجودة في الحيثية الدنيوية وهي الحياة.
والجانب الثاني: وهي المرأة فهي في طرف وكل الحياة في طرف آخر.
ومن هنا قيل: مع كل رجل كبير امرأة عظيمة، وغالب الهزائم التي تلحق الرجل ترجع إلى مناشئ نسائية.
عندما فتح إسكندر اليونان إيران ووصل الى تخت جمشيد وهو قصر من أجمل القصور آنذاك، جلس اليونان وسكنوا، وكان له معشوقة راقصة اسمها تائيس طلب منها ان تحرق القصر فحرقت تخت جمشيد وبقيت الأعمدة الى يومنا هذا.
هل تتمكن من انكار دور عائشة في الانحراف الكبير الذي تحقق في الشريعة الإسلامية بعد وفاة النبي (ص) ؟ لا يمكن ذلك.
وراء كل الأحداث الكبيرة في التاريخ امرأة.
وانتحر هتلر مع عشيقته.. وشنق موسوليني مع عشيقته..
للمرأة دور كبير في التاريخ.
لا أريد ان اذكر السيدة حواء لأن رأيي في تفسير القضية يختلف عن رأي الآخرين.
ومع علي بن أبي طالب امرأة تفوقت على آلهة اليونان في جبال آلب.. الزهراء العظيمة..
الحسين صلوات الله عليه معه سيدتي الكبرى زينب عليها السلام.
مع كل رجل عظيم امرأة عظيمة، ووراء كل هزيمة امرأة.
فتش عن المرأة.. الكثير من القضايا التاريخية يقال فيها: فتش عن المرأة..
وما يقال بأن الشريعة الإسلامية ظلمت المرأة يكشف عن عدم التفات الى دور المرأة في الشريعة الإسلامية.
فالنساء في جانب وكل الحياة في جانب.
من الذي صعد بالمرأة إلى هذه المرحلة لتناطح طواف الزيارة ؟ ثم يقال بأن الشريعة المقدسة ظلمت المرأة !
على أي حال نحتاج الى إعادة النظر في بعض الأمور.
يقولون أن الشريعة عاملت المرأة كأنها من طبقة ثانية، واحتجوا بأحكام الإرث وبأن المرأة لا تصلح أن تكون قاضية او مرجعاً.
وكل هذا فيه أبحاث، فلا بد أن يكون توزيع الحياة على الشرائح الاجتماعية بحسب الإمكانيات الموجودة عندها، فشخص يصلح لوزارة الداخلية وآخر للخارجية فان وضعت كلا في مكانه اكونه قد ظلمته ؟ كلا..
الحياة متنوعة وملئ التنوع يكون بالإنسان المتخصص الذي يناسب ذلك التخصص، وإذا كنتَ قد حمّلت الرجل المهر والنفقة فلا بد ان تجعل له موارد مالية منها اعطاؤه ضعفي المرأة من الإرث.
وهكذا تنظيم ميزانية الحياة، فالمرأة تأخذ النصف لها ولا يجوز للرجل ان يتصرف في حصتها، أما حصته فيصرفها على نفسه وزوجته وأولاده وأبيه وأمه، فينبغي ان يكون له موارد مالية.
اما القضاء: فالمرأة مملوءة من العاطفة، وبهذا كيف تتمكن من اصدار حكم بالاعدام ؟
خلقت الشريعة المقدسة المرأة وتعرف خصائصها فكلها عاطفة وحب، وردة بكل ما للكلمة من معنى، فلا يمكن ان تكلفها بالقضاء والحكم بإعدام انسان او قطع يد انسان او إجراء القصاص على انسان.
هذه ليست طبيعتها ولا تركيبتها.. فنفسيتها لا تتناسب إصدار احكام القتل والقطع والقصاص.
لماذا لا تكون مرجعا ؟!
ترجع لها حينها امرأة أخرى وتحتج بان زوجي مارس الحب مع غيري.. تسألها النساء مسائل جنسية، والمرأة حساسة بالنسبة للجنس، فلا ينبغي إدخالها في الأمور الحساسة والمؤثرة.
يمكن ان تجتهد وتعمل برأيها لكن لا يمكن ان تتصدر قيادة اجتماعية لا تتلاءم مع شخصيتها وتركيبتها.
ذكرت مراراً أن الشريعة مركبة من أحكام متداخلة كل جزء يفسر الجزء الآخر كالكتاب الكريم يفسر بعضه بعضاً، وليست أحكاماً متفرقة جمعت ثم صارت شريعة، إنما أحكام الهية متكاملة يكمل بعضها بعض.
فيها نسقية وفهمها صعب ولا يمكن لأي انسان ان ينظمها ويرتبها.. التنظيم والترتيب اصبح الآن مديرية خاصة فاحدى الاعمال تنظيم الغرف ويعمل بها المتخرجون من الفنون الجميلة، ولا يتمكن كل انسان من ذلك.
هذه الحياة تحتاج الى شرائح متنوعة، كل شريحة تحتل الموقع المناسب مع خصائصها.. وبيان كل هذه الأمور بيد الإمام.. ومن يتحرك دونه فحراكه جزئي اعتماداً على الله تبارك وتعالى.. اما التنظيم التام فغير ممكن لكل انسان..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي
بحث استطرادي لسماحة آية الله الشيخ مصطفى الهرندي حول رمزية المرأة وأحكامها في الحج وغيره..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحياة معرفة وشعور، ثم تطبيق لتلك الرموز في عرفات وفي المشعر.
وفي شعيرة الذبح تركيز على الجانب الدنيوي من حياة الانسان، فالانسان يأكل ويشرب ولا يعيش لوحده، لأن الحياة اجتماعية فيجب أن يفكر في اخوته وفي الفقراء وهو يعيش الحلم الأكبر للعبادة الشريفة، ففي ذلك ترميز إلى أنك جزء من المجتمع البشري، الذي يتركب من ثلاثة شرائح: أنت، وأخوك، وغيركما.
فيجب أن تفكر وأنت في منى بالمسؤولية التي تتحملها نحو الإنسانية الشريدة المعذبة.
ثم بعد ذلك ينتقل الحاج الى مكة المكرمة فيطوف والحياة طواف، ثم يصلي والحياة صلاة، لأن الإنسان يتمكن من تحويل جميع حياته الى عبادة.
يأكل ليتمكن من العبودية.
يشرب ليتمكن من العبودية.
ثم يصلي ثم يسعى، والسعي أيضاً رمز للحياة المادية.. ومن هنا وقع الكلام في عبادية السعي .. فما هي العناصر العبادية في السعي ؟
رمز إلى أن الحياة سعي وكد وتعب وهرولة ومشي، مبدأ ومنتهى.. ومن ثم تكرار لذلك أيضاً.. لأن الحياة مركبة من أعمال تتكرر كل يوم: يأكل ويشرب وينام ويعمل، وتتكرر هذه الأعمال من بداية الحياة إلى نهايتها.
فالسعي رمز إلى أن الإنسان يجب عليه أن يسعى.. أن لا يجمد.. أن لا يبقى في نقطة واحدة.
وكل عبادات الله تبارك وتعالى إذا تمكن الإنسان وتَوَفّق في تحديدها وتفسيرها يجد أنها جمعت بين الجانب المعنوي وبين الجانب المادي.. بين الجانب الأخروي وبين الجانب الدنيوي.. فليست معنوية بحتة بكل ما للكلمة من معنى.. وليست مادية بحتة بكل ما للكلمة من معنى.. لأن الإنسان روح وجسد..
يجب أن يحاول إشباع جسده كما يحاول إشباع روحه.
وطواف النساء قفزة بكل ما في الكلمة من معنى.. ترميز إلى أهمية دور المرأة في الحياة.. الإنسان يطوف حول الكعبة المكرمة لتحل له زوجته.. الطواف الأول لله تبارك وتعالى.. والطواف الثاني لحياته الدنيوية التي لا تتم إلا باقترانه بمن يكمل وجوده.. طواف النساء..
طواف الله وطواف النساء! فصعّدت الشريعة المقدسة المرأة إلى رمز يختص بالذات المقدسة جل وعلا.. لا يجوز له أن يطوف لغير الله تبارك وتعالى.. أما هنا فالطواف لحلية النساء.. فتبرز أهمية المرأة ودورها في الحياة.
ونفس الشعيرة أيضاً فيها رمز آخر.. وهي الرموز التي اكتنفت العبادة السومرية والآشورية وغيرهما، كان الواجب على المرأة أن تجلس يوماً معيناً في المعابد الخاصة وتسير مع أي رجل مال إليها وانجذب إليها لتدفع زكاة جسمها!
ويأتي طواف النساء ليثبت حرمة المرأة.. جلال المرأة.. شخصية المرأة.. وأن المرأة أصبحت جزء من العبادة الشريفة.
ثم الامتحان الذي يمر به الرجل: حرمت المرأة عليه بسبب دخوله في حالة الإحرام، لكن مع ذلك أمرتها الشريعة المقدسة بكشف وجهها ويديها، وكل عوامل الاغراء مجتمعة في الوجه وفي العينين: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.
تُدخلُ الرجل في تجربة من أكبر التجارب.. واجتمعت المرأة من الكل العالم.. المرأة الآسيوية والأفريقية والاوربية والأمريكية بكل الجاذبيات الموجودة في مختلف النساء.. ويأمر الله الرجل أن يسيطر على نفسه.. أن يسيطر على غريزته وشهوته.. في الاختلاط العجيب تدخله الشريعة المقدسة في تجربة.
المرأة بعيدة عن الرجل حتى في الصلاة فلا تصلي في جنبه وتبتعد عنه.. لكن في الحج الشريف تختلط بالرجل لتُعَلِّم الرجل كيف يتمكن من السيطرة على غريزته وعينه ويتحكم بنفسه أمام جاذبية المرأة.
كلها دروس وعبر ليعتاد الإنسان على كيفية السيطرة على نفسه.
لا يجب أن يُقرأ الحج بهذه الصورة البسيطة التي تُقرأ في المناسك الشريفة فقط.. فهذه صورة الحج..
أما الحج فدرس.. امتحان.. أحكام عرفية.. تمرين للإنسان كيف يسيطر على نفسه.. على عواطفه.. على أحاسيسه، على عينه ، على لسانه، على جسمه، على ميوله، على غرائزه..
الإنسان يحتاج إلى هذه الأمور.. ورياضة اليوغا والمعابد البوذية والهندوسية تحاول أن تزود الإنسان بهذه التجربة.. وهذه يوغا إلهية.. رياضة إلهية.. إلتزام إلهي بهذه الأمور.. تدريب.. تمرين.. كيف يختلط رجل واحد بآلاف النساء ويحاول السيطرة على غريزته وعينه وميوله وقلبه ووجوده وكيانه وشخصيته ورجولته!
ألم يكن بإمكان الشريعة أن تفصل بين الرجل والمرأة كما تفصل السلطات السعودية فعلاً بين الرجل والمرأة ؟ فتجعل زماناً معيناً للمرأة في المسجد النبوي وزمانا خاصا للرجل في المسجد النبوي.
اختلاطٌ لأن الحياة كلها اختلاط.. ليس بامكانك ان تفصل الرجل عن المرأة فصلاً كاملاً.. ففي السوق معها وفي الشارع والسيارة والطائرة والفندق معها.. حتى في ساحل البحر معها..
تُعوِّدُه السيطرة على غريزته ونفسه وميوله.. على الجاذبية الموجودة في المرأة..
كلها دروس.. كلها عبر.. واقع الحياة يتجسد في الحج..
الحج هو حياة صغيرة للإنسان من المبدأ إلى المنتهى.
إنا لله وإنا إليه راجعون: يبدأ من الله وينتهي بالله ويمر بالمحطات الحقيقة التي يمر بها في حياته.. فأكل وشرب وارتباط.. كلها تجمعت في هذه الشعيرة المباركة، والخليط مقرر من أيام النبي (ص) والإمام (ع) لم يمنع منه.
فيه إدخال للإنسان في التجربة حتى يعتاد، والإنسان إذا لم يمر بالتجربة لا يتمكن من الحكم بنفسه..
نحن قرأنا أن كثيراً من الكبار عندما واجهوا التجربة الجنسية أو المالية سقطوا في التجربة الأولى.
ليست الحياة ابتعاداً عن المباهج والزينة والواقع، فالمرأة موجودة والمال موجودد والجاذبية موجودة والغريزة موجوة وكل شيء موجود.
يجب أن ندخل هذه العناصر حقيقة في الحياة الإنسانية.
أن ندرب الإنسان ونعوده كيف يتمكن من الابتعاد عن المال المحرم..يبتعد عن الجنس المحرم، يبتعد عن الأكل المحرم. يبتعد عن ما حرمه الله تبارك وتعالى من الغيبة والكذب والافتراء واتخاذ القرارات الباطلة.
والحج يجمع كل شيء، تصغير وجمع للحياة الإنسانية، إدخال الإنسان في تجربة مُرَّة تعلمه كيف يسيطر على نفسه وعواطفه وغرائزه، وعلى كيانه، كيف يحفظ شخصيته.. وليست الحياة ابتعاداً: لا رهبانية في الإسلام.
لا نريد أن نصنع أديرة فوق الجبال ونطلب من الرجال أن يعيشوا في تلك الأديرة، فالله تعالى لم يخلق الرجل ولا المرأة لكي يكون راهباً ولا لكي تكون راهبة.
يجب أن يعيش الراهب الحقيقي في المجتمع وتتحول المرأة إلى راهبة حقيقية داخل المجتمع.
نحن نريد أن نصنع حياة سعيدة، ولا يمكن صنع الحياة السعيدة إلا بوضع الأطر الصحيحة والحقيقية للحياة الاجتماعية، بأن ندخل الانسان في تجربة يخرج منها مرفوع الرأس، لا أن يبتعد عن الحقيقة ويحاول الحفاظ على نفسه بذلك ثم يسقط في أول تجربة يمر بها ويضيع كل ما حصّله طول عمره، كما قرأناه في كثير من قصص الزهاد والعباد الذين سقطوا في أول تجربة، وقضية هاروت وماروت واردة في الكتاب الكريم.. تفاصيل القضية ليست موجودة لكن هاروت وماروت تجربة من دون شك وشبهة.
فالحج ليس مناسك جامدة صامتة، ليس مناسك غير هادفة، وليس مناسك خالية من الدروس.
ونحن بحاجة الى شرح هذه الأمور، وإلى توجيه الناس إليها.
نحترم المرأة وأحياناً نأمر باختلاطها مع الرجل.
جعلنا لها منسكاً معيناً سميناه طواف النساء، وكما يحل له كل شيء بطواف الحج تحل له المرأة بطواف النساء.
فهناك طوافان: الطواف الأول لتحليل الحياة الإنسانية بصورة مطلقة، وطواف آخر لتحليل الرجل على المرأة بصورة خاصة.
وقسمنا الحياة إلى قسمين: العناصر المكونة للحياة وتحل بطواف الزيارة، والمرأة تحل بطواف النساء.
أي شريعة أعطت للمرأة هذه الأهمية وهذا الدور ؟
الشريعة المقدسة صامتة لكن يجب أن تُستَنطَق، وبعد الاتكال على الله تبارك وتعالى يحاول الانسان الوصول الى عمق الشريعة المقدسة.
فليست الصلاة عبارة عن حركات صامتة خالية عن المفهوم والمعنى، بل هي حركات رمزية تحمل كل رموز العبادة في التاريخ.
الصوم ليس أيضاً إمساكاً مطلقاً ولكنه جزء من الحياة البشرية، فيه دروس وعبر ورموز وإشارات، فمن الذي يفكها ؟
يتوقع من رجل الدين أن يلتفت إلى هذه الأمور دون أن يتصرف في أصول الشريعة المقدسة، بل أن يعرضها بشكل يتقبله العصر.
القصة واحدة، لكن طرح القصة متنوع: كثيرون كتبوا حول ليلى ومجنونها، كثيرون كتبوا حول روميو وجولييت، كثيرون كتبوا حول ملحمة كربلاء.. لكن التمثيل مختلف.. التعبير مختلف..
مسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير ظهرت على المسرح منذ مئات السنين وفي كل سنة فيها تجديد، والتجديد ناظر إلى المتطلبات الإنسانية.. الى دراسة الوضع الاجتماعي والتحليل الاجتماعي.
يجب علينا ذلك.. من الذي يقوم بهذه المسؤولية ؟
طالب العلم يقوم بهذه المسؤولية والحوزات العلمية تقوم بها.
نحتاج الى قراءة جديدة، لا تصرفاً في المطالب، ولا تجاوزا على الأصول والقواعد، لكن بامكانك ان تصنع نفس المواد بشكل يتقبله العصر ويتوجه إليه.
لقد ساوى الله تعالى بين الطوافين، والحياة تنقسم الى قسمين:
الأول: كل المباهج الموجودة في الحيثية الدنيوية وهي الحياة.
والجانب الثاني: وهي المرأة فهي في طرف وكل الحياة في طرف آخر.
ومن هنا قيل: مع كل رجل كبير امرأة عظيمة، وغالب الهزائم التي تلحق الرجل ترجع إلى مناشئ نسائية.
عندما فتح إسكندر اليونان إيران ووصل الى تخت جمشيد وهو قصر من أجمل القصور آنذاك، جلس اليونان وسكنوا، وكان له معشوقة راقصة اسمها تائيس طلب منها ان تحرق القصر فحرقت تخت جمشيد وبقيت الأعمدة الى يومنا هذا.
هل تتمكن من انكار دور عائشة في الانحراف الكبير الذي تحقق في الشريعة الإسلامية بعد وفاة النبي (ص) ؟ لا يمكن ذلك.
وراء كل الأحداث الكبيرة في التاريخ امرأة.
وانتحر هتلر مع عشيقته.. وشنق موسوليني مع عشيقته..
للمرأة دور كبير في التاريخ.
لا أريد ان اذكر السيدة حواء لأن رأيي في تفسير القضية يختلف عن رأي الآخرين.
ومع علي بن أبي طالب امرأة تفوقت على آلهة اليونان في جبال آلب.. الزهراء العظيمة..
الحسين صلوات الله عليه معه سيدتي الكبرى زينب عليها السلام.
مع كل رجل عظيم امرأة عظيمة، ووراء كل هزيمة امرأة.
فتش عن المرأة.. الكثير من القضايا التاريخية يقال فيها: فتش عن المرأة..
وما يقال بأن الشريعة الإسلامية ظلمت المرأة يكشف عن عدم التفات الى دور المرأة في الشريعة الإسلامية.
فالنساء في جانب وكل الحياة في جانب.
من الذي صعد بالمرأة إلى هذه المرحلة لتناطح طواف الزيارة ؟ ثم يقال بأن الشريعة المقدسة ظلمت المرأة !
على أي حال نحتاج الى إعادة النظر في بعض الأمور.
يقولون أن الشريعة عاملت المرأة كأنها من طبقة ثانية، واحتجوا بأحكام الإرث وبأن المرأة لا تصلح أن تكون قاضية او مرجعاً.
وكل هذا فيه أبحاث، فلا بد أن يكون توزيع الحياة على الشرائح الاجتماعية بحسب الإمكانيات الموجودة عندها، فشخص يصلح لوزارة الداخلية وآخر للخارجية فان وضعت كلا في مكانه اكونه قد ظلمته ؟ كلا..
الحياة متنوعة وملئ التنوع يكون بالإنسان المتخصص الذي يناسب ذلك التخصص، وإذا كنتَ قد حمّلت الرجل المهر والنفقة فلا بد ان تجعل له موارد مالية منها اعطاؤه ضعفي المرأة من الإرث.
وهكذا تنظيم ميزانية الحياة، فالمرأة تأخذ النصف لها ولا يجوز للرجل ان يتصرف في حصتها، أما حصته فيصرفها على نفسه وزوجته وأولاده وأبيه وأمه، فينبغي ان يكون له موارد مالية.
اما القضاء: فالمرأة مملوءة من العاطفة، وبهذا كيف تتمكن من اصدار حكم بالاعدام ؟
خلقت الشريعة المقدسة المرأة وتعرف خصائصها فكلها عاطفة وحب، وردة بكل ما للكلمة من معنى، فلا يمكن ان تكلفها بالقضاء والحكم بإعدام انسان او قطع يد انسان او إجراء القصاص على انسان.
هذه ليست طبيعتها ولا تركيبتها.. فنفسيتها لا تتناسب إصدار احكام القتل والقطع والقصاص.
لماذا لا تكون مرجعا ؟!
ترجع لها حينها امرأة أخرى وتحتج بان زوجي مارس الحب مع غيري.. تسألها النساء مسائل جنسية، والمرأة حساسة بالنسبة للجنس، فلا ينبغي إدخالها في الأمور الحساسة والمؤثرة.
يمكن ان تجتهد وتعمل برأيها لكن لا يمكن ان تتصدر قيادة اجتماعية لا تتلاءم مع شخصيتها وتركيبتها.
ذكرت مراراً أن الشريعة مركبة من أحكام متداخلة كل جزء يفسر الجزء الآخر كالكتاب الكريم يفسر بعضه بعضاً، وليست أحكاماً متفرقة جمعت ثم صارت شريعة، إنما أحكام الهية متكاملة يكمل بعضها بعض.
فيها نسقية وفهمها صعب ولا يمكن لأي انسان ان ينظمها ويرتبها.. التنظيم والترتيب اصبح الآن مديرية خاصة فاحدى الاعمال تنظيم الغرف ويعمل بها المتخرجون من الفنون الجميلة، ولا يتمكن كل انسان من ذلك.
هذه الحياة تحتاج الى شرائح متنوعة، كل شريحة تحتل الموقع المناسب مع خصائصها.. وبيان كل هذه الأمور بيد الإمام.. ومن يتحرك دونه فحراكه جزئي اعتماداً على الله تبارك وتعالى.. اما التنظيم التام فغير ممكن لكل انسان..
والحمد لله رب العالمين
شعيب العاملي