كيف سبّحت الجمادات لله ؟ وكيف بكت الحسين عليه السلام ؟!
تسبيح الحيوانات والجمادات وسجودها لله
لا كلام في أن الإنسان مدرك مختار مكلف، والجن مثله، لكن وقع الكلام في الحيوانات والجمادات وسائر خلق الله مما يرى ولا يرى.. فهل لهذه المخلوقات (إدراك واختيار) أم لا ؟ وهل لها شعور ؟ وهل لها تكليف ؟
في المسألة أقوال عدة، فبين قائل أنها مدرِكة ناطقة، وقائل أنها غير مدركة ولا ناطقة، وقائل أنها مدركة غير ناطقة، ومفصل بين الحيوانات والجمادات..
ونحن نتعرض للقولين الأول والثاني وأدلتهما، ومنه يعرف حال سائر الأقوال.
القول الأول: أنها مدرِكة ناطقة
وههنا دعويان: الأولى أنها مدرِكة، والثانية أنها ناطقة.
وقد التزم أصحاب هذا القول بأن الحيوانات بل والجمادات وكافة مخلوقات الله تعالى مدركة، وأن لها شعوراً بحسبها، وأنها ناطقة فعلاً وإن لم يعرف الإنسان حقيقة نطقها.
ويستدل لهذا القول بما يلي:
الدليل الأول: آيات التسبيح
قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد : 1]
وأصرح منه قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [الإسراء : 44]
بتقريب أن الآية الثانية تشمل كل شيء ﴿وإن من شيء﴾، والتسبيح فرع المعرفة والاعتقاد، وإن لم نفقه تسبيحهم.
قال الشيخ البهائي: وأما غيرهم من الحيوانات فذهب فرقة عظيمة إلى أن كل طائفة منها تسبح ربها بلغتها وأصواتها كبني آدم وحملوا عليه قوله تعالى ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ﴾.
وأما غير الحيوانات من الجمادات فذهب جم غفير إلى أن لها تسبيحا لسانياً أيضا واعتضدوا بقوله سبحانه ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
و قالوا لو أريد به التسبيح بلسان الحال لاحتاج قوله جل شأنه ﴿وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ إلى تأويل، وذكروا أن الإعجاز في تسبيح الحصى في كف النبي (ص) ليس من حيث نفس التسبيح بل من حيث إسماعه للصحابة وإلا فهي في التسبيح دائماً (مفتاح الفلاح ص130)
ومما استدل به على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور : 41]
وقوله تعالى عن داوود عليه السلام: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [صـ : 18]
فدلّت هذه النصوص على معرفة هذه المخلوقات بالله تعالى وتسبيحها له تسبيحاً خاصاً، وهي تشمل الإنس والجن والملائكة والحيوان والنبات والجماد.
فإن قيل: هذا مخالف للواقع إذ أن غير المؤمنين من الإنس والجن لا يسبحون الله تعالى.
أجابوا: بأنه ما من عام إلا وقد خصّ، وهؤلاء مستثنون من عموم الآية إن أريد منها التسبيح اللفظي.
على أنه يمكن أن يراد أيضاً التسبيحان، التكويني واللفظي، فإن انتفى اللفظي يبقى التكويني، بمعنى شهادة أعضائهم بذلك، أو بغيره من الوجوه.
الدليل الثاني: آيات السجود
قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل : 49]
وقال تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد : 15]
والسجود لله فرع معرفته تعالى، وفي الآيات دلالة واضحة على سجود ما ومن في السماوات والأرض له تعالى، بل على سجود الظلال له تعالى إن أريد بأن الظل نفسه يسجد، أو أريد أن الظل هو نوع سجود تكويني للموجودات، والظل ليس من الناس ولا من الملائكة، فتشمل الآية كل المخلوقات حتى الجمادات على الوجهين.
وقد صرّحت بهذا المعنى آيات أخرى فشمل التسبيح فيها الشمس والقمر والنجوم والجبال، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج : 18]
وفي الآية إشارة إلى نوعين من السجود:
السجود العام الذي يشترك فيه كل الخلق ولا يتخلف أحد منهم عنه، وهو سجود تكويني بمعنى الخضوع والإقرار والانقياد، وهذا يشترك فيه كل البشر مع الجمادات.
والسجود الخاص الاختياري التكليفي وهذا يختص به المطيعون اختياراً، وقد سجد بهذا السجود (كثير من الناس) الذين أطاعوا الله، فيما سجد بالسجود العام كل الخلق بما فيهم كلّ الناس.
الدليل الثالث: آيات النمل والهدهد
قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾[النمل : 16]
وقال تعالى عن لسان النملة: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل : 18]
وعن لسان الهدهد: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾
إلى أن يقول: ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾
إلى ان يصرح الهدهد بالتوحيد فيقول: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل : 26]
وذكر في دلالة آيات الهدهد وجوه منها: أن الحوار بين النبي سليمان والهدد يدل على تنزيل الهدهد منزلة العقلاء، وعلى علمه بما يقول من توحيد الله ومن وجود الأقوام المكذبين، وعلى كونه مكلفاً وإلا لم يصح توعده بالعذاب، وغير ذلك من الوجوه..
أما سائر الآيات فتدل على أن للطير (منطقاً) وللنمل كلاماً وفهماً وإدراكاً.
الدليل الرابع: الروايات عن الحيوان
وهي روايات عديدة تشير إلى تسبيح الحيوانات وتثني على جملة من الطيور، وتتعرض لأذكارها وأدعيتها، ومن ذلك:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: مَا مِنْ طَيْرٍ يُصَادُ فِي الْبَرِّ وَلَا فِي الْبَحْرِ وَلَا يُصَادُ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْشِ إِلَّا بِتَضْيِيعِهِ التَّسْبِيحَ.( تفسير القمي ج2 ص107)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) قال: نهى رسول الله (ص) عن أن توسم البهائم في وجوهها، وأن يضرب وجوهها فإنها تسبح بحمد ربها (تفسير العياشي ج2 ص294)
و عَنِ الْحُسَيْنِ (ع) أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَاحَ النَّسْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ عِشْ مَا شِئْتَ فَآخِرُهُ الْمَوْتُ، وَإِذَا صَاحَ الْبَازِي يَقُولُ يَا عَالِمَ الْخَفِيَّاتِ..
ثم ذكر قول الطاووس والدراج والديك والدجاجة والباشق والغراب والهدهد والببغاء والزرافة والفيل والفرس وغير ذلك من الحيوانات الكثيرة.. راجع الخرائج والجرائح ج1 ص248.
وهذه الروايات واضحة الدلالة على تسبيح الطيور بل ونطقها وتبين معاني هذا النطق، ومثلها جملة من الروايات الأخرى.
الدليل الخامس: الروايات في الجمادات
وهي روايات متعددة وردت في أبواب مختلفة، تتضمن مدحاً لبعض البلدان لقبولها الولاية، وذماً لغيرها لرفضها لها، وكذا المياه التي عذب بعضها وملح بعضها، وما تميز من الحجارة.. ومن ذلك:
ما روي عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ؟
قَالَ: تَنَقُّضُ الْجُدُرِ تَسْبِيحُهَا.(الكافي ج6 ص531)
وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: أتسبح الشجرة اليابسة ؟
فقال: نعم، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض وذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال. (تفسير العياشي ج2 ص294)
وعن رسول الله (ص): تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ جَبَلٍ أَقَرَّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالنُّبُوَّةِ وَلَكَ يَا عَلِيُّ بِالْوَصِيَّةِ وَلِشِيعَتِكَ بِالْجَنَّةِ. (عيون أخبار الرضا ج2 ص70)
وعن رسول الله (ص): إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ عَقْدَ مَوَدَّتِنَا عَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَبْتٍ فَمَا قَبِلَ الْمِيثَاقَ كَانَ عَذْباً طَيِّباً وَمَا لَمْ يَقْبَلِ الْمِيثَاقَ كَانَ مِلْحاً زُعَاقا (علل الشرائع ج2 ص464)
ٍ وعن أمير المؤمنين في قول النبي له: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَرَحَ حُبِّي عَلَى الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالشَّجَرِ فَمَا أَجَابَ إِلَى حُبِّي عَذُبَ وَمَا لَمْ يُجِبْ إِلَى حُبِّي خَبُثَ وَمَرَّ (بشارة المصطفى ج2 ص168).
وهي تدل في الجملة على إدراك هذه الجمادات بما فيها الحجر والمدر والشجر لمعنى الولاية وقبولها لها أو إنكارها، وعلى أن الصوت الصادر من الحجر والشجر هو صوت تسبيح لا نفقهه.
أقوال العلماء
وقد التزم بإدراك الجمادات أو بإدراكها ونطقها جملة من العلماء أو احتملوا ذلك أو استقربوه، منهم المجلسي الأول حينما قال عن شكاية الكعبة: كما هو ظاهر الآيات والأخبار من شعور الحيوانات والجمادات (روضة المتقين ج1ص177)
ولم يستبعد الالتزام بشعورهم المجلسي الثاني، قال: ولا يبعد أن يكون للجمادات نوع من الشعور لا نعرفه (مرآة العقول ج22ص237)
واحتمله أيضاً الشريف الشيرازي في شرحه لحديث بكاء الأرض والسماء على المؤمن: ويحتمل أن يكون المراد نفس تلك البقاع بناءً على أن يكون لكلّ شيء شعور ونفس مدركة كما ذهب إليه بعض، ويدلّ على ذلك ظاهر بعض الآيات والأحاديث (الكشف الوافي في شرح أصول الكافي ص146)
وكذا المازندراني، قال: ويمكن أن يقال: لجميع الممكنات تسبيح بلسان القال أيضا، ولا يبعد اعطاء هذه القدرة لهم من القدرة القاهرة الإلهية، ويؤيده نطق الاحجار والحصا للنبي والوصي عليهما السلام، وسماعه بعض الحاضرين، ونطق الجوارح يوم القيامة.. (شرح الكافي ج11ص322)
قال الميرزا حبيب الله الخوئي: أما ذوو العقول فلا كلام في تسبيحهم للّه سبحانه حالا وقالا، كما لا كلام في اتّصاف غير ذوى العقول حيوانا أو جمادا بالتسبيح الحالي، وإنما الكلام في اتّصافها بالتسبيح القالي، والحقّ فيه أيضا الامكان بل الوقوع(منهاج البراعة ج11 ص228)
وقال السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر بنفسه بعض الشعور ... وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة... والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة..
وغيرهم من العلماء سواء صرحوا بانها مدرِكة فقط أو مدركة وناطقة.
شعيب العاملي
تسبيح الحيوانات والجمادات وسجودها لله
لا كلام في أن الإنسان مدرك مختار مكلف، والجن مثله، لكن وقع الكلام في الحيوانات والجمادات وسائر خلق الله مما يرى ولا يرى.. فهل لهذه المخلوقات (إدراك واختيار) أم لا ؟ وهل لها شعور ؟ وهل لها تكليف ؟
في المسألة أقوال عدة، فبين قائل أنها مدرِكة ناطقة، وقائل أنها غير مدركة ولا ناطقة، وقائل أنها مدركة غير ناطقة، ومفصل بين الحيوانات والجمادات..
ونحن نتعرض للقولين الأول والثاني وأدلتهما، ومنه يعرف حال سائر الأقوال.
القول الأول: أنها مدرِكة ناطقة
وههنا دعويان: الأولى أنها مدرِكة، والثانية أنها ناطقة.
وقد التزم أصحاب هذا القول بأن الحيوانات بل والجمادات وكافة مخلوقات الله تعالى مدركة، وأن لها شعوراً بحسبها، وأنها ناطقة فعلاً وإن لم يعرف الإنسان حقيقة نطقها.
ويستدل لهذا القول بما يلي:
الدليل الأول: آيات التسبيح
قال تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد : 1]
وأصرح منه قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [الإسراء : 44]
بتقريب أن الآية الثانية تشمل كل شيء ﴿وإن من شيء﴾، والتسبيح فرع المعرفة والاعتقاد، وإن لم نفقه تسبيحهم.
قال الشيخ البهائي: وأما غيرهم من الحيوانات فذهب فرقة عظيمة إلى أن كل طائفة منها تسبح ربها بلغتها وأصواتها كبني آدم وحملوا عليه قوله تعالى ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ﴾.
وأما غير الحيوانات من الجمادات فذهب جم غفير إلى أن لها تسبيحا لسانياً أيضا واعتضدوا بقوله سبحانه ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
و قالوا لو أريد به التسبيح بلسان الحال لاحتاج قوله جل شأنه ﴿وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ إلى تأويل، وذكروا أن الإعجاز في تسبيح الحصى في كف النبي (ص) ليس من حيث نفس التسبيح بل من حيث إسماعه للصحابة وإلا فهي في التسبيح دائماً (مفتاح الفلاح ص130)
ومما استدل به على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور : 41]
وقوله تعالى عن داوود عليه السلام: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [صـ : 18]
فدلّت هذه النصوص على معرفة هذه المخلوقات بالله تعالى وتسبيحها له تسبيحاً خاصاً، وهي تشمل الإنس والجن والملائكة والحيوان والنبات والجماد.
فإن قيل: هذا مخالف للواقع إذ أن غير المؤمنين من الإنس والجن لا يسبحون الله تعالى.
أجابوا: بأنه ما من عام إلا وقد خصّ، وهؤلاء مستثنون من عموم الآية إن أريد منها التسبيح اللفظي.
على أنه يمكن أن يراد أيضاً التسبيحان، التكويني واللفظي، فإن انتفى اللفظي يبقى التكويني، بمعنى شهادة أعضائهم بذلك، أو بغيره من الوجوه.
الدليل الثاني: آيات السجود
قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل : 49]
وقال تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد : 15]
والسجود لله فرع معرفته تعالى، وفي الآيات دلالة واضحة على سجود ما ومن في السماوات والأرض له تعالى، بل على سجود الظلال له تعالى إن أريد بأن الظل نفسه يسجد، أو أريد أن الظل هو نوع سجود تكويني للموجودات، والظل ليس من الناس ولا من الملائكة، فتشمل الآية كل المخلوقات حتى الجمادات على الوجهين.
وقد صرّحت بهذا المعنى آيات أخرى فشمل التسبيح فيها الشمس والقمر والنجوم والجبال، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج : 18]
وفي الآية إشارة إلى نوعين من السجود:
السجود العام الذي يشترك فيه كل الخلق ولا يتخلف أحد منهم عنه، وهو سجود تكويني بمعنى الخضوع والإقرار والانقياد، وهذا يشترك فيه كل البشر مع الجمادات.
والسجود الخاص الاختياري التكليفي وهذا يختص به المطيعون اختياراً، وقد سجد بهذا السجود (كثير من الناس) الذين أطاعوا الله، فيما سجد بالسجود العام كل الخلق بما فيهم كلّ الناس.
الدليل الثالث: آيات النمل والهدهد
قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾[النمل : 16]
وقال تعالى عن لسان النملة: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل : 18]
وعن لسان الهدهد: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾
إلى أن يقول: ﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾
إلى ان يصرح الهدهد بالتوحيد فيقول: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل : 26]
وذكر في دلالة آيات الهدهد وجوه منها: أن الحوار بين النبي سليمان والهدد يدل على تنزيل الهدهد منزلة العقلاء، وعلى علمه بما يقول من توحيد الله ومن وجود الأقوام المكذبين، وعلى كونه مكلفاً وإلا لم يصح توعده بالعذاب، وغير ذلك من الوجوه..
أما سائر الآيات فتدل على أن للطير (منطقاً) وللنمل كلاماً وفهماً وإدراكاً.
الدليل الرابع: الروايات عن الحيوان
وهي روايات عديدة تشير إلى تسبيح الحيوانات وتثني على جملة من الطيور، وتتعرض لأذكارها وأدعيتها، ومن ذلك:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: مَا مِنْ طَيْرٍ يُصَادُ فِي الْبَرِّ وَلَا فِي الْبَحْرِ وَلَا يُصَادُ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْشِ إِلَّا بِتَضْيِيعِهِ التَّسْبِيحَ.( تفسير القمي ج2 ص107)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) قال: نهى رسول الله (ص) عن أن توسم البهائم في وجوهها، وأن يضرب وجوهها فإنها تسبح بحمد ربها (تفسير العياشي ج2 ص294)
و عَنِ الْحُسَيْنِ (ع) أَنَّهُ قَالَ: إِذَا صَاحَ النَّسْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ عِشْ مَا شِئْتَ فَآخِرُهُ الْمَوْتُ، وَإِذَا صَاحَ الْبَازِي يَقُولُ يَا عَالِمَ الْخَفِيَّاتِ..
ثم ذكر قول الطاووس والدراج والديك والدجاجة والباشق والغراب والهدهد والببغاء والزرافة والفيل والفرس وغير ذلك من الحيوانات الكثيرة.. راجع الخرائج والجرائح ج1 ص248.
وهذه الروايات واضحة الدلالة على تسبيح الطيور بل ونطقها وتبين معاني هذا النطق، ومثلها جملة من الروايات الأخرى.
الدليل الخامس: الروايات في الجمادات
وهي روايات متعددة وردت في أبواب مختلفة، تتضمن مدحاً لبعض البلدان لقبولها الولاية، وذماً لغيرها لرفضها لها، وكذا المياه التي عذب بعضها وملح بعضها، وما تميز من الحجارة.. ومن ذلك:
ما روي عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ؟
قَالَ: تَنَقُّضُ الْجُدُرِ تَسْبِيحُهَا.(الكافي ج6 ص531)
وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: أتسبح الشجرة اليابسة ؟
فقال: نعم، أما سمعت خشب البيت كيف ينقض وذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال. (تفسير العياشي ج2 ص294)
وعن رسول الله (ص): تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ جَبَلٍ أَقَرَّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالنُّبُوَّةِ وَلَكَ يَا عَلِيُّ بِالْوَصِيَّةِ وَلِشِيعَتِكَ بِالْجَنَّةِ. (عيون أخبار الرضا ج2 ص70)
وعن رسول الله (ص): إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ عَقْدَ مَوَدَّتِنَا عَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَبْتٍ فَمَا قَبِلَ الْمِيثَاقَ كَانَ عَذْباً طَيِّباً وَمَا لَمْ يَقْبَلِ الْمِيثَاقَ كَانَ مِلْحاً زُعَاقا (علل الشرائع ج2 ص464)
ٍ وعن أمير المؤمنين في قول النبي له: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَرَحَ حُبِّي عَلَى الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالشَّجَرِ فَمَا أَجَابَ إِلَى حُبِّي عَذُبَ وَمَا لَمْ يُجِبْ إِلَى حُبِّي خَبُثَ وَمَرَّ (بشارة المصطفى ج2 ص168).
وهي تدل في الجملة على إدراك هذه الجمادات بما فيها الحجر والمدر والشجر لمعنى الولاية وقبولها لها أو إنكارها، وعلى أن الصوت الصادر من الحجر والشجر هو صوت تسبيح لا نفقهه.
أقوال العلماء
وقد التزم بإدراك الجمادات أو بإدراكها ونطقها جملة من العلماء أو احتملوا ذلك أو استقربوه، منهم المجلسي الأول حينما قال عن شكاية الكعبة: كما هو ظاهر الآيات والأخبار من شعور الحيوانات والجمادات (روضة المتقين ج1ص177)
ولم يستبعد الالتزام بشعورهم المجلسي الثاني، قال: ولا يبعد أن يكون للجمادات نوع من الشعور لا نعرفه (مرآة العقول ج22ص237)
واحتمله أيضاً الشريف الشيرازي في شرحه لحديث بكاء الأرض والسماء على المؤمن: ويحتمل أن يكون المراد نفس تلك البقاع بناءً على أن يكون لكلّ شيء شعور ونفس مدركة كما ذهب إليه بعض، ويدلّ على ذلك ظاهر بعض الآيات والأحاديث (الكشف الوافي في شرح أصول الكافي ص146)
وكذا المازندراني، قال: ويمكن أن يقال: لجميع الممكنات تسبيح بلسان القال أيضا، ولا يبعد اعطاء هذه القدرة لهم من القدرة القاهرة الإلهية، ويؤيده نطق الاحجار والحصا للنبي والوصي عليهما السلام، وسماعه بعض الحاضرين، ونطق الجوارح يوم القيامة.. (شرح الكافي ج11ص322)
قال الميرزا حبيب الله الخوئي: أما ذوو العقول فلا كلام في تسبيحهم للّه سبحانه حالا وقالا، كما لا كلام في اتّصاف غير ذوى العقول حيوانا أو جمادا بالتسبيح الحالي، وإنما الكلام في اتّصافها بالتسبيح القالي، والحقّ فيه أيضا الامكان بل الوقوع(منهاج البراعة ج11 ص228)
وقال السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: فما من موجود مخلوق إلا وهو يشعر بنفسه بعض الشعور ... وبذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة... والحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة وأصوات مقروعة..
وغيرهم من العلماء سواء صرحوا بانها مدرِكة فقط أو مدركة وناطقة.
شعيب العاملي
تعليق