السلام على الجميع ...
أن شيوع الغناء والموسيقى وغير ذلك. إنما بدأت بذوره في زمن بني أمية، فإنه إن لم تنص الكثير من التواريخ على ذلك في زمن معاوية ولكن ورد ما يدل على ذلك في زمن يزيدو مَنْ وَلِيَهُ من الحُكام.
ورد في رسالة من الإمام الحسين (ع) إلى معاوية ينقلها ابن قتيبة جاء فيها حول نية الأخير تعيين ولده يزيد خليفة على المسلمين:
(... تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه) (1).
ويقول المسعودي في يزيد أيضاً: (.. وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب... وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب) (2).
وتطور الأمر بعد ذلك بشكل سافر وفاضح. حيث ظهر الخلفاء للندماء والمطربين. وظهرت منهم حركات مريبة وغريبة أثارتها نشوة الطرب في نفوسهم. بل أصبح للمغنين إسم وشهرة وجمهور. وكل بلد يُفضل مطرباً معيناً. فأهل المدينة مثلاً كانوا يفضلون المطرب طويساً، وآثروه على كل أحد.
واشتهر أيضاً أبو مروان الغريض ونشيط الفارسي وسائب بن جابر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره(3).
ويبدو أن خلفاء بني أمية، وفي الوقت الذي أظهر بعضهم التحلل والتخلع كان يُبرز بين الحين والآخر من ينادي بمنع ذلك.
وربما كان تحت تأثير الجو الفقهي حيث لم تختص حرمة الغناء بمذهب أهل البيت فقد ورد التحريم أيضاً لدى المذاهب الأربعة واعتبر أبو حنيفة الغناء وسماعه من الذنوب. وعدهم مالك من الفساق ونحوه قال ابن حنبل وأنه يُنبت النفاق. بل إن الشافعي صنف في الغناء وذمه كتاباً. وقال ابن الصلاح أنه حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين.
وربما كان تحت ضغط الآثار الفاضحة لتلك المحافل وما سادها من مجون. فالوليد بن عبدالملك كان صاحب شراب ولهو وتهتك واستدعى المغنين إلى البلاط من مكة إلى دمشق(4).
وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حمل المغنين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي والعزف، وفي أيامه كان ابن سريج المغني، ومعبدٌ، والغريض، وابن عائشة، وابن محرز، وطويس، ودحمان، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه.. واتخذ القيان، وكان متهتكاً ماجناً خليعاً(5).
ومن مجونه أيضاً على شرابه قوله لساقيه:
اسقني يا يزيد بالقرقاره***قد طربنا وحنَّتِ الزُّمَاره
اسقني اسقني؛ فإن ذنوبي***قد أحاطت فما لها كفّاره(6)
وكان يزيد بن عبدالملك صاحب طرب ومجون وبلغ الحال به أن يقول لما طرب من سماع صوت حبابة وسلامة (أريد أن أطير).
واعترف المسعودي في مروجه ....
(وكان يزيد ذات يوم في مجلسه وقد غنته حبابه وسلاَّمة فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريدُ أن أطير، فقال له حبَابه، يا مولاي، فعلى مَنْ تَدَع الاُمة وتدعنا.
وكان أبو حمزة الخارجي إذا ذكر بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبدالملك فقال: أقْعَدُ حبابه عن يمينه وسلامة عن يساره، ثم قال: أريدُ أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه(7).
وإن حبابة لما ماتت أظهر عليها من الجزع ما دفعه إلى تركها أياماً من دون دفن حتى جيفت، ولم جيفت والناس يتحدثون بجزعه عليها وعاب الخوارج عليه ذلك وكذا عابه أخوه هشام بن عبدالملك، فدفنها وأقام على قبرها فقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى *** فباليأس تسلو النفسُ لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.
وقيل لَمّا ماتت حبابة حزن عليها يزيد بن عبدالملك حزناً شديداً، وضمَّ إليه جويرية لها كانت تحدثها فكانت تخدمه، فتمثلت الجارية يوماً:
كفى حَزَناً للهائم الصب أن يَرَى***منازل من يهوى مُعَطلة قَفْرا
فبكى يزيد حتى كاد أن يموت، ولم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات(8).
ويذكر أبو الفرج في أغانيه أن يزيداً المذكور استدعى ابن عائشة المطرب، وغناه وألحد وكفر في طربه ثم قال لساقيه (اسقنا في السماء الرابعة).
وابن عائشة غنى للوليد بن عبدالملك فقال له الوليد أحسنت والله يا أميري وقام إلى ابن عائشة فأكبَّ عليه ولم يُبق عضواً من أعضائه إلا وقبله... وقال واطرباه واطرباه، ونزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقي مجرداً إلى أن جاءوه بثياب غيرها، ودعا له بألف دينار فدفعت إليه، وحمله على بغلة له وقال: إركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من الغَضَى(9).
ويقول اليعقوبي في الوليد بن يزيد بن عبدالملك المتوفي سنة 126هـ وخليع بني مروان.
(... وكان الوليد مهملاً لأمره، قليل العناية بأطرافه وكان صاحب ملاهٍٍ وقيان وإظهار للقتل والجور، وتشاغلٍ عن أمور الناس، وشربٍ ومجونٍ، فبلغ من مجونه أنه أراد أن يبني على الكعبة الشريفة بيتاً يجلس فيه للّهو،...)(10).
ويقول السيوطي عنه:
(كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً)(11).
وهذا الجو من السفور الفاضح والمجون الواضح. كان يواجه ومن قِبَل الخلفاء أنفسهم.
فالسيوطي يذكر في تاريخه أن سليمان بن عبدالملك، كان ينهى عن الغناء(12).
بل إن يزيداً الناقص توجه بنداءٍ إلى بني أمية للتورع عن ذلك (يا بني أمية إياكم والغِناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعيةُ الزنا)(13).
هذا كله في العصر الأموي.
وأما في العهد العباسي ...
فلم يكن الحال بأفضل منه عندهم وإن تنازع عصرهم المدُ تارةً والجزر أُخرى، بين النهي عنه طوراً. وبين التشجيع عليه أُخرى.
فيذكر التاريخ أنه في بداية العهد العباسي اتخذ الخلفاء موقفاً من اللهو والغناء. حتى إن المنصور كان يُعيِّر آل الزبير بذلك.
قال السيوطي نقلاً عن الموصلي: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشربٍ ولا غناء، بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة، وبينهم وبينها عشرون ذراعاً، وبينها وبينه كذلك، وأولُ من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهديُّ(14).
وللمهدي في نديمه عمر بن بزيع:
رَبِّ تَممِّ لي نعيمي***بأبـي حَفْـصٍ نديمي
إنـما لـذة عيشـي***فـي غنـاء وكروم
وجَــوَارٍ عطِـرَات***وســماع ونـعيم
قال الصولي: شعر المهدي أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير(15).
بل إن المهتدي العباسي أصدر قراراً بمنع الغناء في البلاد، وينقل عن المأمون أنه فعل ذلك سبع سنين من خلافته..
وكان المهتدي قد اطرَحَ الملاهي، وحرم الغناء(16).
وقال السيوطي فلم يستطع الإنكار .....
(القاهر بالله أبو منصور، محمد بن المعتمد بن طلحة بن المتوكل، في سنة إحدى وعشرين أمر بتحريم القِيَان والخمر، وقبض على المغانين، ونفى المخانيث، وكسر الآت اللهو، وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يَفْترُ عن سماع الغناء) (17).
بل إن المقتدى بأمر الله، أبو القاسم عبدالله بن محمد بن القائم بأمر الله. أنه نفى المغنيات والخواطي ببغداد، وأمر أن لايدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وخَرّبَ أبراج الحمام صيانة لِحُرم الناس(18).
ولكن الغناء وكما عرفت كان يعود بإطلالته وبأشكاله المجونية فقد كان أبو العباس يظهر لندمائه في مجلسه، ويظهر سروره لهم وللمغنين ويمنحهم الصلات. مع أنه في فترة المنصور امتنع عن ذلك. ولم يجلس إلا وبينه وبينهم مسافة وستارة(19).
وحاول المهدي العباسي (158هـ) التشبيه بأبيه المنصور لمدة سنة ولكنه فيما بعد كما يقول السيوطي في تاريخه (كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبيها بالمنصور نحواً من سنة، ثم ظهر لهم، فأُشير عليه أن يحتجب، فقال: إنما اللذة مع مشاهدتهم) (20).
وتطور الحال في عهد الرشيد إلى درجة أنه قسم المغنين إلى طبقات ومراتب وظهرت منه أحوال غريبة.
يقول السيوطي نقلاً مؤيدا عن الذهبي ....
(أخبار الرشيد يطول شرحها، ومحاسنه جمة، وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء سامحه الله بل لعنه الله) (21).
ويقول المسعودي معترفا أيضا في مروجه ...
(... وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان ورمى بالنشَّاب في البرجاس، ولعب بالأكرة والطبطاب وقرب الحذّاق في ذلك فعمَّ الناس ذلك الفعل، وكان أول من لعب بالشطرنج من خلفاء بني العباس، وبالنرد وقد اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمى الناس أيامه ـ لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها ـ أيام العروس، وكثير مما يجاوز النعت ويتفاوت فيه الوصف) (22).
وقال علي بن سليمان النوفلي غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوماً فأنشده:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا***كفى لمطايانا برؤياك هاديا
ذكرتك بالديرين يوماً فأشرفت***بنات الهوى حتى بلغنا التراقيا
إذا ما طواك الدهر يا أمّ مالك***فشأن المناي القاضيات وشانيا
قال: فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده منه مرات، ثم قال له تمنّ علي، قال أتمنى الهنيء والمريء، وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة، فأمر له بهما(23).
وذكر المسعودي في مروجه نقلاً عن الموصلي قال: بينا أنا ذات ليلة عند الرشيد أغنيه إذ طرب لغنائي، وقال: لا تبرح، ولم أزل أغنيه حتى نام، فأمسكت، ووضعت العود في حجري، وجلست مكاني، فإذا بشاب صبيح الوجه، حسن القدِّ عليه مقطعات خز وهيئة جميلة، فدخل وسلم وجلس، فجعلت أعجب من دخوله في ذلك الوقت إلى ذلك الموضع بغير استئذان، ثم قلت في نفسي: عسى بعض ولد الرشيد ممن لا نعرفه ولم نره، فضرب بيده إلى العود، فأخذه ووضعه في حجره وجسَّه، فرأيت أنه جس أحسن خلق الله، ثم أصلحه إصلاحاً ما أدري ماهو، ثم ضرب ضرباً، فما سمعت أذني صوتاً أجود منه، ثم اندفع يغني:
ألا عَلِّلاني قبل أن نتفرقا***وهات اسقني صرفاً شراباً مُروَّما
فقدكاد ضوء الصبح أن يفضَح الدجى***وكاد قميص الليل أن يتمزقا
ثم وضع العود من حجره، وقال: يا عاضَّ بظر أمه، إذا غنيت فغن هكذا ثم خرج، فقمت على أثره، فقلت للحاجب: من الفتى الذي خرج الساعة؟ فقال: ما دخل هنا أحد ولا خرج، قلت: نعم الساعة مرَّ بين يديَّ فتىً صفته كيت وكيت، قال: لا والله ما دخل أحد ولا خرج، فبقيت متعجباً، ورجعت إلى مجلسي، وانتبه الرشيد فقال: ما شأنك؟ فحدثته القصة، فبقي متعجباً، وقال: لقد صادفت شيطاناً، ثم قال: أعد عليَّ الصوت، فأعدته عليه، فطرب طرباَ شديداً، وأمر لي بجائزة، وانصرف.
وتطور الامر في عهد الأمين (193هـ) حيث غلب عليه الهوى واللعب. وسماع المغنين(24).
ومما قيل في الأمين عند موته:
لِمَ نبكيك؟ لماذا؟ للطرب***يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها***حرصاً منك على ماء العنب
وشنيف، أنا لا أبكي له***وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تصلح للملك، ولم***تعطك الطاعَةَ بالملك العرب
لم نبكيك؟ لما عرضتنا***للمجانيق، وطوراً للسَّلَب(25)
وزاد المأمون في ذلك أنه شرب النبيذ مع الغناء وكان المأمون يحب لعب الشطرنج شديداً، ويقول: هذا يشحذ الذهن، وكان يقول: (ألذ الغناء ما طَرِبَ له السامع خطأ كان أو صواباً) (26).
وقال الصولي:
كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقاً بضرب العود، راوِية للأشعار والأخبار(27).
والمعتمد انهمك في اللهو واللذات واشتغل عن الرعية، فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة(28).
يتبع ......
أن شيوع الغناء والموسيقى وغير ذلك. إنما بدأت بذوره في زمن بني أمية، فإنه إن لم تنص الكثير من التواريخ على ذلك في زمن معاوية ولكن ورد ما يدل على ذلك في زمن يزيدو مَنْ وَلِيَهُ من الحُكام.
ورد في رسالة من الإمام الحسين (ع) إلى معاوية ينقلها ابن قتيبة جاء فيها حول نية الأخير تعيين ولده يزيد خليفة على المسلمين:
(... تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه) (1).
ويقول المسعودي في يزيد أيضاً: (.. وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب... وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب) (2).
وتطور الأمر بعد ذلك بشكل سافر وفاضح. حيث ظهر الخلفاء للندماء والمطربين. وظهرت منهم حركات مريبة وغريبة أثارتها نشوة الطرب في نفوسهم. بل أصبح للمغنين إسم وشهرة وجمهور. وكل بلد يُفضل مطرباً معيناً. فأهل المدينة مثلاً كانوا يفضلون المطرب طويساً، وآثروه على كل أحد.
واشتهر أيضاً أبو مروان الغريض ونشيط الفارسي وسائب بن جابر ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره(3).
ويبدو أن خلفاء بني أمية، وفي الوقت الذي أظهر بعضهم التحلل والتخلع كان يُبرز بين الحين والآخر من ينادي بمنع ذلك.
وربما كان تحت تأثير الجو الفقهي حيث لم تختص حرمة الغناء بمذهب أهل البيت فقد ورد التحريم أيضاً لدى المذاهب الأربعة واعتبر أبو حنيفة الغناء وسماعه من الذنوب. وعدهم مالك من الفساق ونحوه قال ابن حنبل وأنه يُنبت النفاق. بل إن الشافعي صنف في الغناء وذمه كتاباً. وقال ابن الصلاح أنه حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين.
وربما كان تحت ضغط الآثار الفاضحة لتلك المحافل وما سادها من مجون. فالوليد بن عبدالملك كان صاحب شراب ولهو وتهتك واستدعى المغنين إلى البلاط من مكة إلى دمشق(4).
وكان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء، وهو أول من حمل المغنين من البلدان إليه، وجالس الملهين، وأظهر الشرب والملاهي والعزف، وفي أيامه كان ابن سريج المغني، ومعبدٌ، والغريض، وابن عائشة، وابن محرز، وطويس، ودحمان، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه.. واتخذ القيان، وكان متهتكاً ماجناً خليعاً(5).
ومن مجونه أيضاً على شرابه قوله لساقيه:
اسقني يا يزيد بالقرقاره***قد طربنا وحنَّتِ الزُّمَاره
اسقني اسقني؛ فإن ذنوبي***قد أحاطت فما لها كفّاره(6)
وكان يزيد بن عبدالملك صاحب طرب ومجون وبلغ الحال به أن يقول لما طرب من سماع صوت حبابة وسلامة (أريد أن أطير).
واعترف المسعودي في مروجه ....
(وكان يزيد ذات يوم في مجلسه وقد غنته حبابه وسلاَّمة فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريدُ أن أطير، فقال له حبَابه، يا مولاي، فعلى مَنْ تَدَع الاُمة وتدعنا.
وكان أبو حمزة الخارجي إذا ذكر بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبدالملك فقال: أقْعَدُ حبابه عن يمينه وسلامة عن يساره، ثم قال: أريدُ أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه(7).
وإن حبابة لما ماتت أظهر عليها من الجزع ما دفعه إلى تركها أياماً من دون دفن حتى جيفت، ولم جيفت والناس يتحدثون بجزعه عليها وعاب الخوارج عليه ذلك وكذا عابه أخوه هشام بن عبدالملك، فدفنها وأقام على قبرها فقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى *** فباليأس تسلو النفسُ لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.
وقيل لَمّا ماتت حبابة حزن عليها يزيد بن عبدالملك حزناً شديداً، وضمَّ إليه جويرية لها كانت تحدثها فكانت تخدمه، فتمثلت الجارية يوماً:
كفى حَزَناً للهائم الصب أن يَرَى***منازل من يهوى مُعَطلة قَفْرا
فبكى يزيد حتى كاد أن يموت، ولم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات(8).
ويذكر أبو الفرج في أغانيه أن يزيداً المذكور استدعى ابن عائشة المطرب، وغناه وألحد وكفر في طربه ثم قال لساقيه (اسقنا في السماء الرابعة).
وابن عائشة غنى للوليد بن عبدالملك فقال له الوليد أحسنت والله يا أميري وقام إلى ابن عائشة فأكبَّ عليه ولم يُبق عضواً من أعضائه إلا وقبله... وقال واطرباه واطرباه، ونزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقي مجرداً إلى أن جاءوه بثياب غيرها، ودعا له بألف دينار فدفعت إليه، وحمله على بغلة له وقال: إركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من الغَضَى(9).
ويقول اليعقوبي في الوليد بن يزيد بن عبدالملك المتوفي سنة 126هـ وخليع بني مروان.
(... وكان الوليد مهملاً لأمره، قليل العناية بأطرافه وكان صاحب ملاهٍٍ وقيان وإظهار للقتل والجور، وتشاغلٍ عن أمور الناس، وشربٍ ومجونٍ، فبلغ من مجونه أنه أراد أن يبني على الكعبة الشريفة بيتاً يجلس فيه للّهو،...)(10).
ويقول السيوطي عنه:
(كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً)(11).
وهذا الجو من السفور الفاضح والمجون الواضح. كان يواجه ومن قِبَل الخلفاء أنفسهم.
فالسيوطي يذكر في تاريخه أن سليمان بن عبدالملك، كان ينهى عن الغناء(12).
بل إن يزيداً الناقص توجه بنداءٍ إلى بني أمية للتورع عن ذلك (يا بني أمية إياكم والغِناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعيةُ الزنا)(13).
هذا كله في العصر الأموي.
وأما في العهد العباسي ...
فلم يكن الحال بأفضل منه عندهم وإن تنازع عصرهم المدُ تارةً والجزر أُخرى، بين النهي عنه طوراً. وبين التشجيع عليه أُخرى.
فيذكر التاريخ أنه في بداية العهد العباسي اتخذ الخلفاء موقفاً من اللهو والغناء. حتى إن المنصور كان يُعيِّر آل الزبير بذلك.
قال السيوطي نقلاً عن الموصلي: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشربٍ ولا غناء، بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة، وبينهم وبينها عشرون ذراعاً، وبينها وبينه كذلك، وأولُ من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهديُّ(14).
وللمهدي في نديمه عمر بن بزيع:
رَبِّ تَممِّ لي نعيمي***بأبـي حَفْـصٍ نديمي
إنـما لـذة عيشـي***فـي غنـاء وكروم
وجَــوَارٍ عطِـرَات***وســماع ونـعيم
قال الصولي: شعر المهدي أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير(15).
بل إن المهتدي العباسي أصدر قراراً بمنع الغناء في البلاد، وينقل عن المأمون أنه فعل ذلك سبع سنين من خلافته..
وكان المهتدي قد اطرَحَ الملاهي، وحرم الغناء(16).
وقال السيوطي فلم يستطع الإنكار .....
(القاهر بالله أبو منصور، محمد بن المعتمد بن طلحة بن المتوكل، في سنة إحدى وعشرين أمر بتحريم القِيَان والخمر، وقبض على المغانين، ونفى المخانيث، وكسر الآت اللهو، وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يَفْترُ عن سماع الغناء) (17).
بل إن المقتدى بأمر الله، أبو القاسم عبدالله بن محمد بن القائم بأمر الله. أنه نفى المغنيات والخواطي ببغداد، وأمر أن لايدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وخَرّبَ أبراج الحمام صيانة لِحُرم الناس(18).
ولكن الغناء وكما عرفت كان يعود بإطلالته وبأشكاله المجونية فقد كان أبو العباس يظهر لندمائه في مجلسه، ويظهر سروره لهم وللمغنين ويمنحهم الصلات. مع أنه في فترة المنصور امتنع عن ذلك. ولم يجلس إلا وبينه وبينهم مسافة وستارة(19).
وحاول المهدي العباسي (158هـ) التشبيه بأبيه المنصور لمدة سنة ولكنه فيما بعد كما يقول السيوطي في تاريخه (كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبيها بالمنصور نحواً من سنة، ثم ظهر لهم، فأُشير عليه أن يحتجب، فقال: إنما اللذة مع مشاهدتهم) (20).
وتطور الحال في عهد الرشيد إلى درجة أنه قسم المغنين إلى طبقات ومراتب وظهرت منه أحوال غريبة.
يقول السيوطي نقلاً مؤيدا عن الذهبي ....
(أخبار الرشيد يطول شرحها، ومحاسنه جمة، وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء سامحه الله بل لعنه الله) (21).
ويقول المسعودي معترفا أيضا في مروجه ...
(... وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان ورمى بالنشَّاب في البرجاس، ولعب بالأكرة والطبطاب وقرب الحذّاق في ذلك فعمَّ الناس ذلك الفعل، وكان أول من لعب بالشطرنج من خلفاء بني العباس، وبالنرد وقد اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمى الناس أيامه ـ لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها ـ أيام العروس، وكثير مما يجاوز النعت ويتفاوت فيه الوصف) (22).
وقال علي بن سليمان النوفلي غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوماً فأنشده:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا***كفى لمطايانا برؤياك هاديا
ذكرتك بالديرين يوماً فأشرفت***بنات الهوى حتى بلغنا التراقيا
إذا ما طواك الدهر يا أمّ مالك***فشأن المناي القاضيات وشانيا
قال: فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده منه مرات، ثم قال له تمنّ علي، قال أتمنى الهنيء والمريء، وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة، فأمر له بهما(23).
وذكر المسعودي في مروجه نقلاً عن الموصلي قال: بينا أنا ذات ليلة عند الرشيد أغنيه إذ طرب لغنائي، وقال: لا تبرح، ولم أزل أغنيه حتى نام، فأمسكت، ووضعت العود في حجري، وجلست مكاني، فإذا بشاب صبيح الوجه، حسن القدِّ عليه مقطعات خز وهيئة جميلة، فدخل وسلم وجلس، فجعلت أعجب من دخوله في ذلك الوقت إلى ذلك الموضع بغير استئذان، ثم قلت في نفسي: عسى بعض ولد الرشيد ممن لا نعرفه ولم نره، فضرب بيده إلى العود، فأخذه ووضعه في حجره وجسَّه، فرأيت أنه جس أحسن خلق الله، ثم أصلحه إصلاحاً ما أدري ماهو، ثم ضرب ضرباً، فما سمعت أذني صوتاً أجود منه، ثم اندفع يغني:
ألا عَلِّلاني قبل أن نتفرقا***وهات اسقني صرفاً شراباً مُروَّما
فقدكاد ضوء الصبح أن يفضَح الدجى***وكاد قميص الليل أن يتمزقا
ثم وضع العود من حجره، وقال: يا عاضَّ بظر أمه، إذا غنيت فغن هكذا ثم خرج، فقمت على أثره، فقلت للحاجب: من الفتى الذي خرج الساعة؟ فقال: ما دخل هنا أحد ولا خرج، قلت: نعم الساعة مرَّ بين يديَّ فتىً صفته كيت وكيت، قال: لا والله ما دخل أحد ولا خرج، فبقيت متعجباً، ورجعت إلى مجلسي، وانتبه الرشيد فقال: ما شأنك؟ فحدثته القصة، فبقي متعجباً، وقال: لقد صادفت شيطاناً، ثم قال: أعد عليَّ الصوت، فأعدته عليه، فطرب طرباَ شديداً، وأمر لي بجائزة، وانصرف.
وتطور الامر في عهد الأمين (193هـ) حيث غلب عليه الهوى واللعب. وسماع المغنين(24).
ومما قيل في الأمين عند موته:
لِمَ نبكيك؟ لماذا؟ للطرب***يا أبا موسى وترويج اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها***حرصاً منك على ماء العنب
وشنيف، أنا لا أبكي له***وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تصلح للملك، ولم***تعطك الطاعَةَ بالملك العرب
لم نبكيك؟ لما عرضتنا***للمجانيق، وطوراً للسَّلَب(25)
وزاد المأمون في ذلك أنه شرب النبيذ مع الغناء وكان المأمون يحب لعب الشطرنج شديداً، ويقول: هذا يشحذ الذهن، وكان يقول: (ألذ الغناء ما طَرِبَ له السامع خطأ كان أو صواباً) (26).
وقال الصولي:
كان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقاً بضرب العود، راوِية للأشعار والأخبار(27).
والمعتمد انهمك في اللهو واللذات واشتغل عن الرعية، فكرهه الناس وأحبوا أخاه طلحة(28).
يتبع ......
تعليق