إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

فدك في التاريخ للشهيد السعيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فدك في التاريخ للشهيد السعيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه

    فدك في التاريخ
    محكمة الكتاب(1)

    آية الله العظمى الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر


    (إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إنّ الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً)(2).

    إذا أردنا أن نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة فلابدّ أن نأخذ أنفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين:


    الناحية الأولى:
    موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء (عليها السلام) الذي كان يستند فيه إلى ما رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موضوع الميراث بأساليب متعدّدة وصور مختلفة لتعدّد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته وهي لا تتفق على حد تعبير واحد، ولا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها، واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدّد الروايات التي رواها في المسألة.

    1- وقبل كلّ شيء نريد أن نلاحظ مقدار تأكّد الخليفة من صحّة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وثباته عليه ويمكننا فهم ذلك ممّا تحدّثنا به الروايات(3). من أن الخليفة سلم فدكاً للحوراء، وكاد الأمر أن يتمّ لولا أن دخل عمر وقال له: ما هذا؟ فقال له: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، فقال ماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى. ثمّ أخذ الكتاب فشقّه، ونحن ننقل هذه الرواية في تحفّظ وإن كنّا نستقرب صحّتها لأنّ كل شيء كان يشجّع على عدم حكاية هذه القصّة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. وإذا صحّت فهي تدلّ على أنّ أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الإرث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنّ حروب الردّة التي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيام(4) وخطبة الزهراء (عليها السلام) قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق(5).

    2- وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة(6)، وقد بلغ به التأثر حيناً أن قال للناس وقد اجتمعوا حوله: أقيلوني بيعتي. وندرك من هذا أنّ الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مردّه إلى الشعور بنقص مادّي في حكمه على فاطمة، وضعف في المدرك الذي استند إليه ويثور به ضميره أحياناً فلا يجد في مستنداته ما يهدئ نفسه المضطربة، وقد ضاق بهذه الحالة المريرة فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء (عليها السلام) تلك الساعة الحرجة التي يتمثّل فيها للإنسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أوشك الستار أن يسدل عليها وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها إلاّ التبعات.

    3- ولا ننسى أنّ أبا بكر أوصى أن يدفن إلى جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يصحّ ذلك إلاّ إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونياً في الموضوع، واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة - إذا كان للزّوجة نصيب في الأرض وكان نصيب عائشة يسع ذلك - ولو كان يرى أن تركة النبي (صلى الله عليه وآله) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم، وهب أنّ البالغين أجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.

    4- ونحن نعلم أيضاً أنّ الخليفة لم ينتزع من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) بيوتهنّ ومساكنهنّ التي كنّ ممّن يسكن فيها في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما عساه أن يكون سبب التفريق الذي أنتج انتزاع فدك من الزهراء (عليها السلام) وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامة وإبقاء بيوت نساء النبي (صلى الله عليه وآله) لهنّ يتصرّفن فيها كما يتصرّف المالك في ماله؟ حتى تستأذن عائشة في الدّفن في حجرتها، أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً بيضعة النبي (صلى الله عليه وآله) أو أنّ بيوت الزوجات كانت نحلة لهنّ، فلنا أن نستفهم عمّا أثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بيّنة عليه ولا ادّعته واحدة منهنّ وليست حيازتهنّ للبيوت في زمان رسول لله (صلى الله عليه وآله) شاهداً على ملكيتهنّ لها لأنها ليست حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (صلى الله عليه وآله) ككل زوجة بالنسبة إلى زوجها. كما أنّ نسبة البيوت إليهنّ في الآية الكريمة: (وقرن في بيوتكنّ) لا يدلّ على ذلك، لأنّ الإضافة يكفي في صحّتها أدنى ملابسة، وقد نسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل، إذ قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ أن يؤذن لكم)، فإذا كان الترتيب القرآني حجّة لزم الأخذ بما تدلّ عليه هذه الآية وورد في صحاح السنة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسناد البيت إليه في قوله: (إنّ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).

    5 - ولنتساءل عمّا إذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب إليه الخليفة ممّا اختزنه الوحي لخاتم المرسلين (صلى الله عليه وآله) واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة وإجراءه على الصديقة دون سائر ورثة الأنبياء أو أنّ الرسل السابقين قد أهملوا تبليغه وتعريف خلفائهم وورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة واستبقاءً لها في أولادهم وآلهم أو أنهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث، ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً أو أنّ السياسة السائدة يومذاك هي التي أنشأت هذا الحكم؟

    6 - ومن جهة أخرى هل يمكننا أن نقبل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجر على أحبّ الناس إليه وأقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسرّ لسرورها وينقبض لإنقباضها(7)، ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من إعلامها بحقيقة الأمر لئلاً تطلب ما ليس لها بحقّ، وكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لذّله أن ترزى ابنته ثمّ تتسع هذه الرّزية فتكون أداة اختلاف وصخب بين المسلمين عامة، وهو الذي أرسل رحمة للعالمين فبقي مصراً على كتمان الخبر عنها مع الإسرار به إلى أبي بكر.

    1 - لأجل أن نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنوية بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع إلى قسمين:

    الأولى: ما جاء في بعضها من أنّ أبا بكر بكى لما كلّمته فاطمة، ثم قال: يا بنت رسول الله، والله ما ورث أبوك ديناراً ولا درهماً وإنه قال: إن الأنبياء لا يورّثون، وما ورد في حديث الخطبة من قوله: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً ولكنّنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة.

    الثاني: التعبير الذي تنقله عدّة أخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أنّا لا نورّث ما تركناه صدقة.

    2 - والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما إذا كانت هذه الصيغ تدل بوضوح لا يقبل تشكيكاً ولا تأويلاً - وهو النص في العرف العلمي - على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تورّث تركته أو ما إذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر وإن كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح - وهو الظاهر في الاصطلاح -، وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجح المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدّي باللفظ من معان أخر - وهو المجمل -.

  • #2
    تابع

    3 - إذا لاحظنا القسم الأول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل أن تكون بياناً لعدم تشريع توريث الأنبياء كما فهمه الخليفة ويمكن أن تكون كناية عن معنى لا يبعد أن يقع في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيانه وهو تعظيم مقام النبوة وتجليل الأنبياء. وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الإلهية أجلى دلالة وأكثر مادية من الزهد في الدنيا ولذائذها الزائفة ومتعها الفانية، فلماذا لا يجوز لنا افتراض أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يشير إلى أن الأنبياء أناس ملائكيون وبشر من الطراز الأسمى الذي لا تشوبه الأنانيات الأرضية والأهواء البشرية لأنّ طبيعتهم قد اشتقّت من عناصر السماء - بمعناها الرّمزي - المتدفّقة بالخير لا من مواد هذا العالم الأرضي فهم أبداً ودائماً منابع الخير والطالعون بالنور والمورثون للإيمان والحكمة والمركّزون للسلطان الإلهي في الأرض، وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس ولا بالسّاعين وراء نفائسها، ولماذا لا يكون قوله: إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً كناية عن هذا المعنى لأنّ توريثهم لهذه الأشياء إنما يكون بحيازتهم لها وتركهم إياها بعد موتهم وهم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً ولا يقيمون لها وزناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركة كما إذا قلنا: إنّ الفقراء لا يورّثون لا أنهم يختصّون عن سائر الناس بحكم يقضي بعدم جريان أحكام الإرث على تركاتهم. والهدف الأصلي من الكلام بيان جلال الأنبياء. وهذا الأسلوب من البيان مما يتفق مع الأساليب النبوية الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.

    4 - ولكي تتّفق معي على تفسير معين للحديث يلزم أن نعرف معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم، ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورّث من يكون سبباً لإنتقال المال من الميت إلى قريبه. وهذا الانتقال يتوقّف على أمرين:

    (أحدهما) وجود التركة.

    (والآخر) القانون الذي يجعل للوارث حصّة من مال الميت، ويحصل الأول بسبب نفس الميت والثاني بسبب المشرع الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً أسندت إليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبياً يشرع بوحي من السماء، فلكل من الميت والمشرع نصيب من إيجاد التوارث ولكن المورّث الحقيقي الذي يستحقّ التعبير عنه بهذا اللفظ بحق هو الميت الذي أوجد مادة الإرث لأنّه هو الذي هيّأ للإرث شرطه الأخير بما خلفه من ثروة، وأمّا المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لأنه لم يجعل بوصفه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاماً يقضي بأنّ الميت إذا كان قد ملك شيئاً وخلفه بعد موته فهو لأقاربه وهذا وحده لا يكفي لإيجاد مال موروث في الخارج بل يتوقف على أن يكون الميت قد أصاب شيئاً من المال وخلفه بعده.

    فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً إلى طبيعة من الطّبائع فيجعلها قابلة لإحراق ما يلاقيها فإذا ألقيت إليها بورقة فاحترقت أنت الذي أحرقتها لا من أضاف ذلك العنصر المحرق إلى الطبيعة والقاعدة التي تعلل ذلك أنّ كلّ شيء يسند بحسب أصول التعبير إلى المؤثر الأخير فيه، وعلى ضوء هذه القاعدة نعرف أنّ نسبة التوريث إلى شخص تدلّ على أنه المؤثّر الأخير في الإرث وهو الموروث الذي أوجد التركة فالمفهوم من جملة أن الأنبياء يورثون أنهم يحصلون على الأموال ويجعلونها تركة من بعدهم وإذا نفي التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي أنهم لا يهيّؤون للإرث شرطه الأخير ولا يسعون وراء الأموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم، وإذن فليس معنى أنّ الأنبياء لا يورّثون عدم التوريث التشريعي ونفي الحكم بالإرث لأنّ الحكم بالإرث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في الحديث.

    وعلى طراز آخر من البيان أن التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الأنبياء إن كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي إلغاء قانون الإرث من شرائع السماء، لأنّ توريثهم التشريعي لا يختصّ بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصّة وإن كان التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب للإرث سقطت العبارة عمّا أراد لهما الصدّيق من معنى وكان معناها أنّ الأنبياء لا تركة لهم لتورث.

    5 - وفي الرواية الأولى مهّد الخليفة للحديث بقوله: (والله وما ورث أبوك ديناراً ولا درهماً، وهذا التعبير واضح كلّ الوضوح في نفي التركة وعدم ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً من المال فإذا صحّ للخليفة أن يستعمل تلك الجملة في هذا المعنى فليصحّ أن تدلّ صيغة الحديث عليه أيضاً ويكون هو المقصود منها.

    6 - وإذ لاحظنا الأمثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزّز قيمة هذا التفسير لأنّ ذكر الذهب والفضة والعقار والدار - مع أنها من مهمات التركة - لا يتفق مع تفسير الحديث بأنّ التركة لا تورّث لأنّ اللازم ذكر أتفه الأشياء لبيان عموم الحكم بعدم الإرث لسائر مصاديق التركة كما أنّا إذا أردنا أن نوضح عدم إرث الكافر لشيء من تركة أبيه لم نقل: إنّ الكافر لا يرث ذهباً ولا فضّة ولا داراً وإنما نقول: إنه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميت وبتعبير واضح أنّ الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل أقسام التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهّم متوهّم عدم اندراجه في التركة التي لا تورّث وقولنا: الأنبياء لا يورّثون أو أنّ الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم يدلّ أول ما يدلّ على عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمّها فذكر هذه الأمور في الحديث يرجح أنّ المقصود بنفي توريث الأنبياء بيان زهدهم وعدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأنّ المناسب لهذا الغرض ذكر الأموال المهمّة التي تكون حيازتها وتوريثها منافياً للزهد والمقامات الأخروية العليا، وأمّا الأخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون أقسامها الواضحة المهمة.

    7 - وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الإيجابية في الحديث أي جملة: ولكنّا نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنة، فإنها لا تدلّ على تشريع وراثة هذه الأمور بل على توفّرها في الأنبياء إلى حدٍ يؤهّلهم لنشرها وإشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذٍ أنّ المراد بالجملة الأولى التي نفت التوريث بيان أنّ الأنبياء لا يسعون للحصول على الذهب والعقار ونحوهما ولا يكون لهم من ذلك شيء ليرثه آلهم.

    8 - ولا يجوز لنا أن نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: إنّ الناس لا يورثّون الكافر من أقاربهم، بل يلزمنا أن نفرّق بين التعبيرين لأنّ المشرع إذا تكلم عمّن يشرع لهم أحكامهم كان الظاهر من كلامه أنّه يلقي بذلك عليهم حكماً من الأحكام، فإخبار النبي (صلى الله عليه وآله) عن عدم توريث الناس للكافر من أقاربهم لا يصحّ تفسيره بأنه إخبار فقط يدلّ فوق هذا على أنّ الكافر لا يرث في شريعته وتختلف عن ذلك العبارة التي نقلها الخليفة لأنّ موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعة ممّن تشملهم تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله) وأحكامه فليس في الأمر ما يدلّ على حكم وراء الإخبار عن عدم توريثهم.

    تعليق


    • #3
      تابع

      9 - وليس لك أن تعترض بأنّ الأنبياء كثيراً ما يحوزون على شيء ما ذكر في الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير أن يكون الحديث كاذباً لأنك قد تتذكر أن الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصة وهو ينطوي على معنى خاص، وأعني به إسناد الإرث إلى المورّث وهذا الإسناد يتوقّف على أن يكون المورّث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تركه ميراثاً بعده كما يتوقّف معنى المهذّب على استعمال وسائل التهذيب، فإذا استطاع شخص أن يقرأ أفكار عالم من علماء الأخلاق ويهذّب نفسه على هدى تلك الأفكار لم يصحّ تسمية ذلك العالم مهذباً لأن إيجاد أيّ شيء سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليماً أو نحو ذلك لا يستقيم إسناده إلى شخص إلاّ إذا كان للشخص عمل إيجابي وتأثير ملحوظ في تحقّق ذلك الشيء الموجود والأنبياء وإن حازوا شيئاً من العقارات والدور ولكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً.

      ونقرّر علاوة على هذا أنّ المقصود من الكلام ليس هو بيان أنّ الأنبياء لا يورّثون ولا يتركون مالاً بل ما يدلّ عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم ومادامت الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الأنبياء لبعض تلك الأموال عن صواب التفسير الذي قدّمناه كما أنّ من كنّى قديماً عن الكريم بأنه كثير الرّماد لم يكن كاذباً سواء أكان في بيت الكريم رماد أو لا لأنه لم يرد نعته بهذا الوصف حقاً وإنما أشار به إلى كرمه لأنّ أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرّماد، وعدم التوريث من أوضح آثار الزهد والورع فيجوز أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أشار إلى ورع الأنبياء بقوله: إنّ الأنبياء لا يورّثون.

      10 - ولأجل أن نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا أن نميّز بين معان ثلاثة:

      الأول: إن تركة الميت لا تورّث ومعنى هذا أنّ ما كان يملكه إلى حين وفاته وتركه بعده لا ينتقل إلى آله بل يصبح صدقة حين موته.

      الثاني: إنّ ما تصدق به الميت في حياته أو أوقفه على جهات معينة لا يورّث بل يبقى صدقة ووقفاً، والورثة إنما يرثون غير الصدقات من الأموال التي كان يملكها الميت إلى حين وفاته.

      الثالث: إن الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورّث وكلّ ما سوف يتركه من أموال إنما هو من الصدقات والأوقاف.

      ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر أنّ صيغة الحديث ليست واضحة كلّ الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص بل في طاقتها التعبيرية إمكانيات التفسير بالمعاني الآنفة الذكر جميعاً فإنّ النصف الثاني من الحديث وهو - ما تركناه صدقة - يجوز أن يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدأ وخبر يمكن أن يكون تكملة لجملة لا نورث ففي الحالة الأولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأول والثالث من المعاني السّابقة لأنّ جملة - ما تركناه صدقة - قد لا يراد بها أن التركة لا تنتقل من ملك الميت إلى آله، وإنما تصبح صدقة بعد موته، وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث وهو أنّ جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميت شيئاً ليورث كما إذا أشار الإنسان إلى أمواله وقال: إنّ هذه الأموال ليست ملكاً لي وإنما هي صدقات أتولاها والحديث على تقدير أن تكون له وحدة معنوية يدلّ على المعنى الثاني أي أنّ الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا تورث دون سائر تركته ويكون الموصول مفعولاً لا مبتدأ، ويتّضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا: - ما تركناه صدقة لا نورثه - فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان أنّ الصدقات لا تورّث لا أن كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح أن يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلاً على عدم انتقال الصدقات إلى الورثة لا على عدم تشريع الإرث إطلاقاً، وقد يكون من حقّ سيبويه علينا أن نشير إلى أنّ قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال - ما تركناه صدقة - معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح أنّ الحركات الإعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة إلى الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.

      11 - وإذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدّة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله وليس من الإسراف في القول أن نقرّر أنّ تفسير الحديث بما يدلّ على أنّ أموال النبي (صلى الله عليه وآله) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نتبين لوناً من الرّجحان للمعنى الثاني - وهو أنّ المتروك صدقة لا يورّث - دون سائر التركة، إذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث وهو (النون) وهضمنا دلالته كما يجب لأنّ استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصحّ إلاّ على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كلّ البعد عن تواضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله وفعله فالظواهر تجمع على أنّ النون قد استعلت في جماعة وأنّ الحكم الذي تقرّره العبارة ثابت لها وليس مختصاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) والأوفق بأصول التعبير أن تكون الجماعة جماعة المسلمين لا الأنبياء لأنّ الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء ولم يسبق بعهد يدلّ عليهم وليس لك أن تعترض بأنّ صيغة الحديث يجوز أنها كانت مقترنة حال صدورها من النبي (صلى الله عليه وآله) بقرينة أو مسبوقة بعهد يدلّ على أنّ مراده من الضمير جماعة الأنبياء لأنّ اللازم أن نعتبر عدم ذكر الخليفة لشيء من ذلك - مع أنّ الراوي لحديث لابدّ له من نقل سائر ما يتصل به ممّا يصلح لتفسيره - دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. وأضف إلى هذا أنّ إغفال ذلك لم يكن من صالحه، وإذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيصة.

      والمفهوم من الضّمير حينئذٍ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (صلى الله عليه وآله) وقد جرت عادة المتكلّمين على أنهم إذا أوردوا جملة في مجتمع من الناس وأدرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة، فلو أنّ شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه وأخذ يحدّثهم وهو يعبّر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء لفهم من الضمير أنّ المتكلم يعني بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم ولو أراد جماعة غير أولئك الحاضرين لم يكن مبيناً بل ملغزاً، وتعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي أثبته الحديث للمسلمين - الذين قد عرفنا أنّ الضمير يدلّ عليهم - هل يجوز أن يكون عبارة عن عدم توريث المسلم لتركته؟ أو أنّ الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له وإنما هي من الصدقات. كلا! فإنّ هذا لا يتفق مع الضروري من تشريع الإسلام، لأنّ المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعدّدة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين. وأنت ترى معي الآن بوضوح أن الحكم ليس إلاّ أنّ الصدقة لا تورّث فإنّ هذا أمر عام لا يختصّ بصدقة دون صدقة بل يطَّرد في سائر صدقات المسلمين ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن. لأنّ قواعد الشريعة وأحكامها لم تكن قد تقرّرت واشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والأوقاف بموت المالك ورجوعها إلى الورثة متّسع. ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء (عليها السلام) له واعتراضها به على الخليفة.

      أما أولاً: فلأنّ الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء (عليها السلام) في ساعتها الشديدة لم يكن ليتّسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث أنّ السلطة الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالاً، ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الأنبياء على الدّعوى الصّارمة، إذ يقول هكذا هو - كما في [طبقات] ابن سعد - فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدّر لها أن تساهم في الثورة بنصيب إلاّ الردّ والفشل.

      وأما ثانياً: فلأنّ هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء (عليها السلام) وغرضها الذي كان يتلخّص في القضاء على الأساليب التي هي أقرب إلى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلاً في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معاً ولكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب أن يستنكر إغضاء الخليفة عنها كل أحد، ويجر ذلك الاستنكار إلى معارضة حامية.

      فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين(8)، والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الأنبياء كيحيى وداود (عليه السلام)، ثم عرضت المسألة على وجه آخر وهو: إنّ ما حكم به الخليفة لو كان حقاً للزم أن يكون أعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه لأنهما لم يخبراها بالخبر مع أنهما لو كانا على علم به لأخبراها به، ومن الواضح أنّ الصديق لا يمكن أن يكون أعلم بحكم التركة النبوية من النبي (صلى الله عليه وآله) أو علي الذي ثبتت وصايته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك في قولها:

      يا ابن أبي قحافة.. أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وورث سليمان داود)، وقال فيما اقتصّ من خير يحيى بن زكريا: (ربّي هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب)(9)، وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(10)، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟! أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟!(11).

      وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية، وليس من العجيب أن تصرف الزهراء (عليها السلام) أكثر جهودها في كسب معركة القلب فإنه السلطان الأول على النفس والمهد الطبيعي الذي ترعرعت فيه روح الثورة. وقد نجحت الحوراء (عليها السلام) في تلوين صورة فنية رائعة تهزّ المشاعر وتكهرب العواطف وتهيمن على القلوب، كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء (عليها السلام).

      ولأجل أن نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملوّنة بأروع الألوان لا بأس بأن نستمع إلى الصديقة (عليها السلام) حين خاطبت الأنصار بقولها: (يا معشر البقية، وأعضاد الملّة، وحضنة الإسلام، ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، وألسِّنة عن ظلامتي، أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم، الآن مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمتم دينه ما أن مات لعمري خطب جليل، استوسع وهنه، واستبهم فتقه، وفقد راتقه وأظلمت الأرض له، وخشعت الجبال وأكدت الآمال، أضيع بعده الحريم وهتكت الحرمة وأذيلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته وأنبأكم بها قبل وفاته فقال: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)(12) إيهاً بني قيلة، اهتضم تراث أبي بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العدّة والعدد، ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله التي انتخب، وخيرته التي اختار...).

      وإذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث وتأويله مما تهضمها السلطات الحاكمة ولا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للثائر من ثورتها. وهذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحلة في خطابها أيضاً.


      (1) يجب الآن توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء (عليها السلام) في مسألة الميراث وتحديد رأيه فيها - بعد أن أوضحنا حظّ الصّيغ السابقة من وضوح المعنى وخفائه - وهو موقف لا يخلو من تعقيد إذا تعمّقنا شيئاً ما في درس المستندات التاريخية للقضية، ومع أن المستندات كثيرة فإنها مسألة محيّرة أن نعرف ماذا عسى أن تكون النقطة التي اختلف فيها المتنازعان، ومن الصعوبة توحيد هذه النقطة.

      تعليق


      • #4
        تابع

        والناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر والزهراء (عليها السلام) هو مسألة توريث الأنبياء فكانت الصديقة تدعي توريثهم والخليفة ينكر ذلك. وتقدير الموقف على هذا الشكل لا يحلّ المسألة حلاً نهائياً ولا يفسّر عدّة أمور:

        الأول: قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها - وقد طالبته بفدك -: إن هذا المال لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) وإنما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليته كما كان يليه. فإنّ هذا الكلام يدلّ بوضوح على أنه كان يناقش في أمر آخر غير توريث الأنبياء.

        الثاني: قوله لفاطمة في محاورة أخرى: أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا نورث ما تركناه صدقة يعني هذه الأموال القائمة، وهذه الجملة التفسيرية التي ألحقها الخليفة بالحديث تحتاج إلى عناية فإنها تفيدنا أنّ الخليفة كان يرى أن الحكم الذي تدلّ عليه عبارة الحديث مختص بالنبي (صلى الله عليه وآله) وليس ثابتاً لتركة سائر الأنبياء ولا لتركة سائر المسلمين جميعاً فحدّد التركة التي تورث بالأموال القائمة، وذكر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعنيها هي بالحديث. وعلى هذا التحديد نفهم أنّ المفهوم للخليفة من الحديث ليس عدم توريث الصدقات لأنّ هذا الحكم عام ولا اختصاص له بالنبي (صلى الله عليه وآله) فلا يجوز أن يحدّد موضوعه بالأموال القائمة بل كان اللازم حينئذٍ أن يأتي الخليفة بجملة تطبيقية بأن يقول: إنّ الأموال القائمة ممّا ينطبق عليها الحديث.

        كما يتضح لدينا أنّ الخليفة لم يكن يفسّر الحديث بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تورث تركته وأملاكه التي يخلفها بل تصبح صدقة بعد موته لأنه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على أسلوب آخر لأنّ المقصود من موضوع الحديث حينئذٍ تركة النبي (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق ولا يعني الأموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء (عليها السلام) خاصة، وأعني بذلك أنّ هذه الأموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك النبي (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتاً لها كما أن غيرها من الأموال لو حصل (للنبي) لما ورثها آله أيضاً، فعدم توريث التركة النبوية إن ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي (صلى الله عليه وآله) من أملاك سواء أكانت هذه التي خلفها أو غيرها. ولا يصح أن يقال: إنه عنى بالتركة الأموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء (عليها السلام).

        ونظير ذلك قولك لصاحبك: أكرم كلّ من يزورك الليلة ثم يزوره شخصان فإنك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصة وإنما انطبق عليهما الأمر دون غيرهما على سبيل الصدفة. وعلى أسلوب أوضح أن تفسير التركة التي لا تورث بأموال معينة - وهي الأموال القائمة - يقضي بأن الحكم المدلول عليه بالحديث مختص - عند المفسّر - بهذه الأموال المحدودة.

        ولا ريب أنّ تركة النبي (صلى الله عليه وآله) لو كانت لا تورث لما اختص الحكم بالأموال المعينة المتروكة بالفعل بل لثبت لكل ملك يتركه النبي (صلى الله عليه وآله) وإن لم يكن من تلك الأموال وأيضاً فمن حق البحث أن أتساءل عن فائدة الجملة التفسيرية والغرض المقصود من ورائها فيما إذا كان الحكم المفهوم للخليفة من الحديث أن أملاك النبي (صلى الله عليه وآله) لا تورث فهل كان صدق التركة على الأموال القائمة مشكوكاً؟ فأراد أن يرفع الشكّ لينطبق عليها الحديث ويثبت لها الحكم بعدم التوريث، وإذا صحّ هذا التقدير فالشكّ المذكور في صالح الخليفة لأنّ المال إذا لم يتضح أنه من تركة الميت لا ينتقل إلى الورثة فلا يجوز أن يكون الخليفة قد حاول رفع هذا الشك ولا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء (عليها السلام) من المناقشة في انطباق الحديث على ما تطالب به من أموال لأنها ما دامت قد طالبت بالأموال القائمة على وجه الإرث فهي تعترف بأنها من تركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولنفترض أنّ الأموال القائمة قسم من التركة النبوية وليس المقصود منها مخلفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) جميعاً - ولعلها عبارة عن الأموال والعقارات الثابتة نحو فدك - فهل يجوز لنا تقدير أن غرض الخليفة من الجملة تخصيص الأموال التي لا تورث بها؟ لا أظن ذلك، لأنّ أملاك النبي (صلى الله عليه وآله) لا تختلف في التوريث وعدمه. ونخرج من هذه التأملات بنتيجة وهي أن المفهوم من الحديث للخليفة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبر عن عدم تملكه للأموال القائمة وأشار إليها بوصف التركة فقال: ما تركناه صدقة. شأنه من يجمع ورثته ثم يقول لهم: إنّ كل تركتي صدقة يحاول بذلك أن يخبرهم بأنها ليست ملكاً له ليرثوها بعده لأنّ ذلك هو المعنى الذي يمكن أن يختصّ بالأموال القائمة ويحدّد موضوعه بها.

        الثالث: جواب الخليفة لرسول أرسلته فاطمة (عليها السلام) ليطالب بما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة وفدك وما بقي من خُمس خيبر، إذ قال له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله). فإننا إذا افترضنا أن معنى الحديث في رأي الخليفة عدم توريث النبي (صلى الله عليه وآله) لأملاكه كان كلامه متناقضاً لأنّ استدلاله بالحديث في صدر كلامه يدلّ حينئذٍ على أنه يعترف بأنّ ما تطالب به الزهراء (عليها السلام) هو من تركة النبي (صلى الله عليه وآله) وأملاكه التي مات عنها - ليصحّ انطباق الحديث عليه - والجملة الأخيرة من كلامه وهي قوله: وإني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعاكس هذا المعنى لأنّ ما طلبت الزهراء (عليها السلام) تغييره عن أيام النبي (صلى الله عليه وآله) - بزعم الخليفة - هو فدك وعقاراته في المدينة وما بقي من خمس خيبر، فأبو بكر حين يقول: إني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء (عليها السلام) ورأى معنى مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقة، ومعنى تسميته لها بصدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن من رأيه أنها ليست ملكاً للنبي (صلى الله عليه وآله) بل من صدقاته التي كان يتولاّها في حياته، ويوضح لنا هذا أنّ استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم يكن لإثبات أنّ أملاك النبي (صلى الله عليه وآله) لا تورث وإنما أراد بذلك توضيح أنّ الأموال القائمة ليست من أملاك النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر أنها صدقة.

        تعليق


        • #5
          تابع

          2) ونستطيع أن نتبيّن من بعض روايات الموضوع أنّ الخليفة ناقش في توريث الأنبياء لأملاكهم ولم يقصر النزاع على الناحية السابقة فإن الرواية التي تحدّثنا بخطبة الزهراء (عليها السلام) واستدلال أبي بكر بما رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من حديث: إنا معاشر الأنبياء لا نورث إلخ.. واعتراض الزهراء (عليها السلام) عليه بالآيات العامة المشرعة للميراث والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الأنبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعة، إذ ينكر أبو بكر توريث النبي (صلى الله عليه وآله) لأمواله ويستند إلى الحديث في ذلك ويلح في الإنكار كما تلحّ فاطمة (عليها السلام) في مناقشته والتشبّث بوجهة نظرها في المسألة.


          (3) وإذن فللخليفة حديثان:

          الأول: لا نورث ما تركناه صدقة.

          الثاني: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة. وقد ادعى أمرين:

          أحدهما: أنّ فدكاً صدقة فلا تورث.

          والآخر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تورث أملاكه، واستدلّ بالحديث الأول على أنّ فدكاً صدقة وبالحديث الثاني على أن الني لا يورث.


          1- قد لا يكون من العسير تصفية الحساب مع الخليفة بعد أن اتضح موقفه وتقرّرت الملاحظات التي لاحظناها في الحديثين الذين رواهما عن النبي (صلى الله عليه وآله) وتتلخص المؤاخذة التي آخذناه بها حتى الآن في عدة أمور نشير إليها لنجمع نتائج ما سبق:

          الأول: إن الخليفة لم يصدق روايته في بعض الأحايين كما المعنى في مستهل هذا الفصل.

          الثاني: إنّ من الإسراف في الاحتمال أن يحوز إسرار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الخليفة بحكم تركته وإخفاءه عن بضعته وسائر ورثته وكيف اختصّ الخليفة دون غيره بمعرفة الحكم المذكور(13) مع أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن من عادته الاجتماع بأبي بكر وحده إلاّ بأن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بالخبر في خلوة متعمّدة ليبقى الأمر مجهولاً لدى ورثته وبضعته، ويضيف بذلك إلى آلامها من ورائه محنة جديدة.

          الثالث: إن علياً هو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا ريب للحديث الدال على ذلك الذي ارتفع به رواته إلى درجة التواتر واليقين حتى شاع في شعر أكابر الصحابة فضلاً عن روايتهم كعبد الله بن عباس وخزيمة بن ثابت الأنصاري وحجر بن عدي وأبي الهيثم بن التيهان وعبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وحسان بن ثابت وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(14)، وإذن فالوصاية من الأوسمة الإسلامية الرفيعة التي اختصّ بها الإمام بلا ريب(15).

          وقد اختلف شيعة علي وشيعة أبي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب السّابقون الأوّلون إلى أنها بمعنى النص عليه بالخلافة، وتأوّلها الآخرون فقالوا: إنّ علياً وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) على علمه أو شريعته أو مختصّاته، ولا نريد الآن الاعتراض على هؤلاء أو تأييد أولئك وإنما نتكلم على الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث ونقرّر النتيجة التي يقضى بها على كل من تلك التفاسير.

          الهوامش

          1 - مقتبس من كتابه (فدك في التاريخ): ص 149، ط الدار العالية بيروت - الطبعة الأولى 1987 م.

          2 - سورة النساء: الآية 58.

          3 - ذكره سبط ابن الجوزي كما في سيرة الحلبية: ج 3 ص 391.

          4 - راجع مروج الذهب: ج 2 ص 193.

          5 - ولعل هذا يضعف من شأن الرواية لأن الخليفة لو كان مستعداً للتراجع لأجاب الزهراء إلى ما تطلب في المسجد حينما خطبت وأسمعته من التأنيب والتقريع الشيء الكثير.

          6 - رواه الطبري كما في: 18 من سمو المعنى في سمو الذات، للأستاذ الكبير عبد الله بعلايني.

          7 - هذه صيغ أحاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي (ص).

          8 - من الواضحات العلمية أخيراً أن الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لأنه حاكم أو وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم وأصالة الإطلاق، وإنما احتجت الزهراء (عليها السلام) بالآيات العامة لأنها لم تكن تعترف بوثاقة الصدّيق وعدالته.

          9 - سورة مريم: الآية 6.

          10 - سورة الأنفال: الآية 75.

          11 - نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.

          12 - سورة آل عمران: الآية 144.

          13 - حتى قالت عائشة في كلام لها: واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث...، راجع: صواعق ابن حجر.

          14 - راجع: شرح النهج: ج 1 ص 47 - 49، وج 3 ص 15.

          15 - قال ابن أبي الحديد: 1 ص 46: فلا ريب عندنا أن علياً (عليه السلام) كان وصي رسول الله (ص)، وإن خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد

          تعليق


          • #6
            سر المطالبة بفدك؟؟

            يقول احد كتاب الشيعة :

            _السر في مُطَالَبَةِ فَاطِمَة الزهْراء (عليها السلام) بفَدك

            من الممكن أن يقال: أن السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟

            وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسمو المقام؟

            وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟

            وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكليف، وتتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟

            هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.

            أولاً: إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أَرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون عليّ فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله.

            ثانيا: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد.

            وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار ولعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلافهم السنين.

            وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها.

            ثالثاً: إنها كانت تطالب (من وراء المطالبة بفدك) بالخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

            فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت عليّ بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة وشهود.

            رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، لأنه حقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق.

            خامساً: إن الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة.

            أما ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أزهد الزهاد كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلى الله عليه وآله) حول أموال خديجة.

            سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا يخلو من أحد وجهين:

            إما أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة.

            وإما أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنه مظلوم، وأن أمواله غصبت منه.

            هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإن المظلوم يعرّفه للأجيال أنه غير صادق فيما يدَّعي.

            سابعاً: إن حملة المبادئ يتشبثون بشتى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك من يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك.

            ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب (قلوب كافة الطبقات) هو التظلّم وإظهار المظلومية فإن القلوب تعطف على المظلوم كائناً من كان، وتشمئز من الظالم كائناً من كان.

            وهذه خطة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم.

            وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها.

            لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل المطالبة بحقها.

            إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

            كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات وسيدة المحجبات.

            كانت هذه النقاط مهمة جداً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كله.

            خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية، منظمة، منسقّة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع.

            بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية.

            وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء.

            وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بدَّ من الاستعانة بذهن القارئ.

            كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم.

            جلست السيدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، ولعل دخولها يومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

            فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة.

            إنني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس.

            أنَّة واحدة فقط - بلا كلام- تهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء.

            أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنّة من المعاني؟

            ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟

            وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟

            هذه ألغازٌ لا أعرف حلَّها، ولعل غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!!.


            رؤوس نُقَاط الخطْبَة

            اختارت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لخطبتها هذا الأُسلوب للبداية والنهاية إنها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبيِّن لهم علل الشرائع والأحكام وضمناً تهيئ الجو لكلامها المقصود وهدفها المطلوب.

            وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها:

            الحمد والثناء على الله.

            التوحيد الاستدلالي.

            النبوة.

            التحدث عن العهد الجاهلي.

            إنجازات الرسول.

            توجيه الخطاب إلى الحاضرين.

            التحدث عن القرآن.

            بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام.

            الدخول في صميم الموضوع.

            حوادث فترة الرسالة.

            موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث.

            بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول.

            بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت

            توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث.

            إقامة الأدلة والبراهين.

            توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم.

            جواب رئيس الدولة.

            تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته.

            اعتذار رئيس الدولة.

            توجيه الخطاب إلى الحاضرين، شكوى إلى رسول الله.

            تعليق


            • #7
              قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة: لما سمع أبو بكر خطبتها المذكورة وما وقع بين الناس من الاختلاف والهمهمة في سوء تلك المقدمة وخاف أن تنعكس القضية شق عليه ذلك فصعد المبر فقال:

              أيها الناس! ما هذه الرعة إلى كل قاله؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا! من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذَنَبه مربّ لكل فتنة هو الذي يقول: كرّوها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي ألا: إني لو أشاء لقلت: ولو قلت لَبُحت، إني ساكت ما تُركت.

              ثم التفت إلى الأنصار فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا: إني لست باسطاً يداً ولساناً على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل.

              ثم قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعترض؟ فقال: بل يصرّح. قلت: لو صرّح لم أسألك. فضحك فقال: لعلي بن أبي طالب !! قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟ قال: نعم إنه المُلك يا بني. قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بقول عليّ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم. فسألته عن غريبة (أي شرح الكلمات) فقال:

              أما الرعة - بالتخفيف - أي الاستماع والإصغاء. والقالة: القول. وثعالة: اسم الثعلب، مثل ذؤالة للذئب. وشهيده ذَنَبه: أي لا شاهد له على ما يدّعيه إلاّ بعضه وجزء منه، وأصله مَثَل: قالوا: إن الثعلب أراد أن يُغري الأسد بالذئب فقال له: إنه قد أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك، وكنت حاضراً، قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذَنَبه وعليه دم. وكان الأسد قد افتقد الشاة، فقبل شهادته، وقتل الذئب. و(مربّ): ملازم من أربّ بالمكان و (كروها جذعة): أعيدوها إلى الحال الأولى يعني الفتنة والهرج و(أم طحال) امرأة بغي في الجاهلية يضرب بها المثل، فيقال: أزنى من أم طحال.

              نحن لا نقول شيئاً على هذه الكلمات التي استعملها أبو بكر في آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً، ولا نعاتبه على أدبه في المنطق وتعبيره في الكلام!، ولكن نقول: قرّت عينك - يا رسول الله - فهكذا يقال في حق ابنتك وعزيزتك وحبيبتك فاطمة الزهراء وهكذا يقال في حق أخيك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وكل هذا على منبرك وفي مسجدك وفي جوار مرقدك، قرّت عيناك يا أبا فاطمة الزهراء وبشراك بل بشريان!! فهذه كرامة أهل بيتك، وعترتك عند أبي بكر وأشباهه!

              وفي الدر النظيم للشيخ جمال الدين الشامي قال - بعد خطبة فاطمة (عليها السلام) في المسجد وكلام أبي بكر -: فقالت أم سلمة (رضي الله عنها) حين سمعت ما جرى لفاطمة (عليها السلام): ألِمثل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال هذا القول؟ هي والله الحوراء بين الإنس، والنَفَس للنفس، رُبّيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأة، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله حرّم عليها ميراثه ولم يُعلمها، وقد قال الله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) أفأنذرها وخالفت متطلبه؟

              وهي خيرَة النسوان وأمّ سادة الشبّان، وعديلة مريم، تمّت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ، ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله، رويداً ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بمرأى منكم، وعلى الله تردون واهاً لكم، فسوف تعلمون.

              قال: فَحُرمت عطاءها تلك السنة‍!

              تعليق


              • #8
                فدك في التاريخ

                فنفترض أولاً: إنّ الوصاية بمعنى الخلافة ثم نتبين الصديق على هدى الحديث فإننا سوف نراه شخصاً سارقاً لأنفس المعنويات الإسلامية ومتصرّفاً في مقدرات الأمة بلا سلطان شرعي. ولا مجال لهذا الشخص حينئذٍ أن يحكم بين الناس ولا يسعنا أن نؤمن له بحديث، ولنترك هذا التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا، ونقول: إن علياً وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) على علمه وشريعته فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية المقدّسة أن نؤمن بحديث ينكره الوصي. وما دام هو العين الساهرة على شريعة السماء فلابدّ أن يؤخذ رأيه في كل مسألة نصاً لا مناقشة فيه لأنه أدرى بما أوصاه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وائتمنه عليه، وخذ إليك بعد ذلك الأسلوب الثالث فإنه ينتهي إلى النتيجة السابقة عينها لأنّ علياً إذا كان وصياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على تركته ومختصّاته فلا معنى لسطو الخليفة على التركة النبوية ووصي النبي (صلى الله عليه وآله) عليها موجود وهو أعرف بحكمها ومصيرها الشرعي.

                الرابع: إنّ تأميم التركة النبوية من أوليات الخليفة في التاريخ ولم يؤثر في تواريخ الأمم السابقة ذلك، ولو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها الخلفاء بالنسبة إلى تركة سائر الأنبياء لاشتهر الأمر وعرفته أمم الأنبياء جميعاً.

                كما أنّ إنكار الخليفة لملكية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفدك - كما تدلّ عليه بعض المحاورات السابقة - كان فيه من التسرّع شيء كثير لأنّ فدك ممّا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً باتفاق أعلام المؤرّخين م السنة والشّيعة. وكل أرض يستسلم أهلها على هذا الأسلوب فهي للنبي (صلى الله عليه وآله) خالصة. وقد أشار الله تعالى في الكتاب الكريم إلى أنّ فدكاً للنبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتهم عليه بخيل ولا ركاب)(16)، ولم يثبت تصدق النبي بها ووقفه لها.

                الخامس: إنّ الحديثين اللذين استدلّ بهما في الموضوع لا يقوم منهما دليل على ما أراد، وقد خرجنا من دراستهما قريباً بمعنى لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفة عن قرب أو بعد، وإن أبيت فلتكن المعاني الآنفة الذكر متكافئة ولتكن العبارة ذات تقادير متساوية، ولا يجوز حينئذٍ ترجيح معنى لها والاستدلال بها عليه.

                2 - هذه هي الاعتراضات التي انتهينا إليها آنفاً. ونضيف إليها الآن اعتراضاً سادساً بعد أن نفترض أن جملة: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) أقرب إلى نفي الحكم بالميراث منها إلى نفي التركة الموروثة، ونقدر لجملة: (لا نورث ما تركناه صدقة). من المعنى ما ينفع الخليفة ونلغي تفسيرها بأنّ الصدقة المتروكة لا تورّث ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقارير. وهذا الاعتراض الجديد هو أنّ اللازم - في العرف العلمي - متى صحت هذه الفروض تأويل الخبر ولم يجز الركون إلى أوضح معانيه لأنه يقرر حينئذٍ عدم توريث سائر الأنبياء لتركاتهم لما جاء في بعضها من التصريح بالتعميم نحو: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث...) ولما دلّ بالنون في قوله: (لا نورث ما تركناه صدقة)، من تعليق الحكم على جماعة وحيث يتضح أن الحكم في الحديث عدم توريث التركة يتجلّى أنّ المراد بالجماعة جماعة الأنبياء إذ لا توجد جماعة أخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها إلى الورثة، وقد دلّ صريح القرآن الكريم على توريث بعض الأنبياء إذ قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم مخبراً عن زكريا (عليه السلام): (وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّي رضياً)(17)، والإرث في الآية بمعنى إرث المال لأنه هو الذي ينتقل حقيقة من الموروث إلى الوارث، وأما العلم والنبوة فلا ينتقلان انتقالاً حقيقياً، وامتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل والمعقول(18)، واضح كلّ الوضوح، وأمّا إذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما فلا ريب في تجرّد الصور العلمية(19) وإنها قائمة بالنفس قياماً صدورياً(20) بمعنى أنها معلولة للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات - لا بمجرّد الاتصال فقط - متقوّم بعلّته ومرتبط الهوية به فيستحيل انتقاله إلى علة أخرى، ولو افترضنا أنّ الصورة المدركة أعراض وكيفيات قائمة بالمدرك قياماً حلولياً فيستحيل انتقالها لاستحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع كما برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجرّده أو بماديتها بأنّ اعترافنا باشتمال الصّور المدركة على الخصائص العامة للمادة من قابلية الانقسام ونحوها. وإذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول الصور العلمية جميعاً.

                وإذا لاحظنا النبوة وجدنا أنها هي الأخرى أيضاً ممّا لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقلنا أنها مرتبة من مراتب الكمال النفسي ودرجة من درجات الوجود الإنساني الفاضل الذي ترتفع إليه الماهية الإنسانية في ارتقاءاتها الجوهرية وتصاعداتها نحو الكمال المطلق، أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من الكلمة واعتبرنا النبوة منصباً إلهياً مجعولاً لا كمنصب الملك والوزير ويكون ذلك التكامل النفسي شرطاً له فالمفهوم الأول يمتنع انتقاله بالضرورة لأنه نفس وجود النبي (صلى الله عليه وآله) وكمالاته الذاتية، والنبوة بالمعنى يستحيل انتقالها أيضاً لأنها حينئذٍ أمر اعتباري متشخّص الأطراف ولا يعقل تبدّل طرف من أطرافه إلاّ بتبدّل نفسه وانقلابه إلى فرد آخر، فنبوّة زكريا (عليه السلام) مثلاً هي هذه التي اختصّ بها زكريا (عليه السلام) ولن يعقل ثبوتها لشخص آخر لأنها لا تكون حينئذٍ تلك النبوة الثابتة لزكريا (عليه السلام) بل منصباً جديداً أو مقام نبوياً حادثاً.

                والنظر الأولي في المسألة يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوة من دون حاجة إلى هذا التعمّق والتوسّع، وإذن فالنتيجة التي يقرّرها العقل في شوطه الفكري القصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي أنّ المال وحده الذي ينتقل دون العلم والنبوة.


                3 - وقد يعترض على تفسير الإرث في كلام زكريا (عليه السلام) بإرث المال بأنّ يحيى (عليه السلام) لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بإرث النبوة لأنّ يحيى (عليه السلام) قد حصل عليها ويكون دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) حينئذٍ قد أستجيب. ولكن هذا الاعتراض لا يختصّ بتفسير دون تفسير لأنّ يحيى (عليه السلام) كما أنه لم يرث مال أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. وما ثبت له من النبوة لم يكن وراثياً وليس هو مطلوب زكريا (عليه السلام) وإنما سأل زكريا ربّه وارثاً يرثه بعد موته، ولذا قال: (وإني خفت الموالي من ورائي) أي بعد موتي فإنّ كلامه يدلّ بوضوح على أنه أراد وارثاً يخلفه ولم يرد نبياً يعاصره وإلاّ لكان خوفه من الموالي بعد وفاته باقياً - فلابدّ - على كل تقدير أن نوضح الآية على أسلوب يسلم على الاعتراض وهو أن تكون جملة (يرثني ويرث من آل يعقوب)، جواباً للدعاء بمعنى إن رزقتني ولداً يرث لا صفة ليكون زكريا (عليه السلام) قد سأل ربّه ولياً وارثاً. فما طلبه النبي (صلى الله عليه وآله) من ربّه تحقّق وهو الولد، وتوريثه المال أو النبوة لم يكن داخلاً في جملة ما سأل ربه وإنما كان لازماً لما رجاه في معتقد زكريا (عليه السلام).

                ويختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جواباً من النواحي اللفظية في الإعراب لأنّ الفعل إذا كان صفة فهو مرفوع وإذا كان جواباً يتعيّن جزمه، وقد ورد في قراءته كلا الوجهين. وإذا لاحظنا قصّة زكريا (عليه السلام) في موضعها القرآني الآخر وجدنا أنّه لم يسأل ربه إلاّ ذرية طيبة فقد قال تبارك وتعالى في سورة آل عمران: هنالك دعا زكريا (عليه السلام) ربّه قال: (ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة).

                تعليق


                • #9
                  فدك في التاريخ

                  وأفضل الأساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزاً على القرآن نفسه وعلى هذا فنفهم من هذه الآية أنّ زكريا (عليه السلام) كان مقتصداً في دعائه ولم يطلب من ربّه إلاّ ذرية طيبة، وقد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا (عليه السلام) في جملة واحدة تارة وجعل لكل من الذرية ووصفها دعوة مستقلة في موضوع آخر فكانت جملة (هب لي من لدنك ولياً) طلباً للذرية وجملة (واجعله ربّي رضياً) دعوة بأن تكون الذرية طيبة. وإذا جمعنا هاتين الجملتين أدّت نفس المعنى الذي تفيده عبارة (هب لي من لدنك ذرية طيبة). وتخرج كلمة (يرثني) بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء ولابدّ حينئذٍ أن تكون جواباً له.


                  4 - وعلى ذلك يتّضح أن كلمة الإرث في الآية الكريمة قد أعطيت حقّها من الاستعمال وأريد بها إرث المال لا إرث النبوة لأنّ الشيء إنما يصحّ أن يقع جواباً للدعاء فيما إذا كان ملازماً للمطلوب ومتحققاً عند وجوده دائماً أو في أكثر الأحايين. ووراثة النبوة ليست ملازمة لوجود الذرية إطلاقاً بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الأشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذة وكمال عظيم فلا يجوز أن توضع النبوة بجلالها الفريد جواباً لسؤال الله تعالى ذرية طيبة لأن النسبة بين الذرية الإنسانية وبين الجديرين بتحمّل أعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين، وأمّا وراثة المال فيمكن أن تكون جواباً لدعاء زكريا (عليه السلام) لأنّ الولد يبقى بعد أبيه على الأكثر فوراثته للمال ممّا يترتّب على وجوده غالباً وأضف إلى ذلك أنّ زكريا (عليه السلام) نفسه لم يكن يرى النبوة ملازمة لذريته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية ولذا سأل ربّه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضياً.


                  5 - ولنترك هذا لندرس كلمة الإرث في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جواباً للدعاء. وفي رأيي أنّ هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج بنتيجة جديدة بل الإرث في كلمة (يرثني) هو إرث المال في الحالين معاً بلا ريب. والذي يعين هذا المعنى للكلمة على التقدير الجدير أمران:

                  الأول: إنّ زكريا (عليه السلام) لو كان قد طلب من ربّه ولداً وارثاً لنبوّته لما طلب بعد ذلك أن يكون رضياً لأنه دخل في دعوته الأولى ما هو أرفع من الرضا.

                  الثاني: إن إغفال الإرث بالمرة في قصّة زكريا (عليه السلام) الواردة في سورة آل عمران إن لم يدل على أن الإرث خارج عن حدود الدعاء فهو في الأقل يوضح أنّ معنى الإرث في الموضع القرآني الآخر للقصة إرث المال لا إرث النبوة لأنّ زكريا لو كان قد سأل ربّه أمرين أحدهما أن يكون ولده طيباً رضياً والآخر أن يرث نبوته لما اقتصر القرآن الكريم على ذكر الوصف الأول الذي طلبه زكريا (عليه السلام) فإنه ليس شيئاً مذكوراً بالإضافة إلى النبوة، ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما إذا سألك سائل بستاناً ودرهماً فأعطيته الأمرين معاً ثم أردت أن تنقل القصة وتخص الدرهم بالذكر. لا أراك تفعل ذلك إلاّ إذا كنت كثير التواضع ورجحان البستان على الدرهم في حساب القيم المادية دون امتياز النبوة على طيب الذرية في موازين المعنويات الروحية وإذن فقصة زكريا (عليه السلام) التي جاءت في سورة آل عمران ولم يذكر فيها عن الإرث كثير أو قليل دليل على أن الإرث المذكور في الصورة الأخرى للقصة بمعنى إرث المال لا إرث النبوة وإلاّ لكان من أبرز عناصر القصة التي لا يمكن إغفالها.

                  6 - ولاحظ بعض الباحثين في الآية الكريمة نقطتين تفسّران الإرث فيها بإرث النبوة.

                  الأولى: قول زكريا (عليه السلام) عاطفاً على كلمة (يرثني): (ويرث من آل يعقوب) فإنّ يحيى لا يرث أموال آل يعقوب، وإنما يرث منهم النبوة والحكمة.

                  الثانية: ما قدّمه النبي تمهيداً لدعائه من قوله: (وإني خفت الموالي من ورائي) حيث إنّ خوفه إنما كان بسبب الاشفاق على معالم الدين والرّغبة في بقائها باستمرار النبوة لأنّ هذا هو اللائق بمقام الأنبياء دون الحرص على الأموال والخوف من وصولها إلى بعض الورثة.

                  واعترض أصحابنا على النقطة الأولى بأنّ زكريا (عليه السلام) لم يسأل ربّه أن يرث ولده أموال آل يعقوب جميعاً وإنما أراد أن يرث منها فلا يكون دليلاً على التفسير المزعوم.وأما النقطة الثانية فهي من القرائن على التفسير الذي اخترناه لأن الخوف على الدين والعلم من أبناء العم لا معنى له لأنّ اللطف الإلهي لا يترك الناس سدىً بلا حجّة بالغة فمعالم الدين وكلمة السماء محفوظة بالرعاية الإلهية والنبوة مخصوصة أبداً بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشى عليها من السطو والنهب، وإذن فماذا كان يحسب زكريا (عليه السلام) ربّه صانعاً لو لم يمنّ عليه بيحيى، أكان يحتمل أن يكلف برسالته مواليه أعني بني عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الإلهية وعدم جدارتهم بهذا الشرف أو كان يرى أنّ الله (تعالى) يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجّة عليه ليس هذا ولا ذاك ممّا يجوزه نبي. وإنما خاف زكريا (عليه السلام) من بني أعمامه على أمواله فطلب من الله ولداً رضياً يرثها. ولا جناح عليه في ذلك إذ يحتمل أن تكون رغبته في صرف أمواله عن بني عمومته بسبب أنها لو آلت إليهم لوضعوها في غير مواضعها وأنفقوها في المعاصي وألوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشر وأمارات السوء حتى قيل إنهم شرار بني إسرائيل.

                  تعليق


                  • #10
                    فدك في التاريخ

                    وقد حاول ابن أبي الحديد أن يصوّر وجهاً لخوف زكريا (عليه السلام) من الموالي على الدين من ناحيتين:

                    الأولى: عن طريق أصول الشيعة فذكر أن دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبي غير مستقيم على مذهب الشيعة لأنّ المكلفين قد حرموا بغيبة الإمام عندهم ألطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد وهم يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلاّ جاز أن يخاف زكريا (عليه السلام) من تبديل الدين وتغييره وإفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان وبدلّوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف.

                    ولأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم أنتقل بك إلى الناحية الثانية، فأقول: إنّ الخوف من انقطاع النبوة إنما يصحّ على أصول الشيعة إذا نشأ عن احتمال إفساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك كما هو الحال في زمن غيبة الإمام المنتظر (عج) لا فيما إذا كان سببه الإطلاع على عدم لياقة جماعة خاصّة للنبوة مع استحقاق الناس لها فإنّ إرسال الرسول أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله (تعالى) لما أوجبه على نفسه من اللطف بعباده، وإذن فقصور أبناء العمومة عن نيل المنصب الإلهي لا يجوز أن ينتهي بزكريا (عليه السلام) إلى احتمال انقطاع النبوة وانطماس معالم الدين إذا كان الناس مستحقين للألطاف الإلهية. وإذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين السماء والأرض سواء أكان بنو العمومة صالحين للنبوة أو لا، وسواء منَّ الله عليه بذرية أو بقي عقيماً. والآية الكريمة تدلّ على أنّ الباعث إلى الخوف في نفس زكريا (عليه السلام) إنما هو فساد الموالي لا فساد الناس.


                    الناحية الثانية:
                    عن طريق تفسير الموالي بالأمراء بمعنى أن زكريا (عليه السلام) خاف أن يلي بعد موته أمراء ورؤساء يفسدون في الأرض من الدين فطلب من الله ولداً ينعم عليه بالنبوة والعلم ليبقى الدين محفوظاً ولنا أن نتساءل عما إذا كان هؤلاء الرؤساء الذين أشفق على الدين منهم هم الأنبياء الذين يخلفونه أو أنهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء. ولا خوف منهم على التقدير الأول إطلاقاً لأنهم أنبياء معصومون. وأمّا إذا كانوا ملوكاً فقد يخشى منهم على الدين ولكن ينبغي أن نلاحظ أن وجود النبي حينئذٍ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة والاستخفاف بالدستور الإلهي أو لا؟ فإن كان كافياً لوقاية الشريعة وصون كرامتها فلماذا خاف زكريا (عليه السلام) من أولئك الأمراء ما دامت الألطاف الإلهية قد ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الإنسانية الواعية وخلود الاتصال بين الأرض والسماء ما بقيت الأرض أهلاً للتثقيف السماوي. وإن لم يكن وجود النبي كافياً للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد لزكريا (عليه السلام) يرث عنه النبوة ما دام النبي قاصراً عن مقاومة القوة الحاكمة وما دام الأمراء من الطراز المغشوش مع أن الآية تدلّ على أنّ زكريا (عليه السلام) كان يرى أنّ خوفه يرتفع فيما إذا منَّ الله عليه بولد رضي يرثه.

                    ونتيجة هذا البحث أنّ الإرث في الآية هو إرث المال بلا ريب. وإذن فبعض الأنبياء يورثون وحديث الخليفة يقضي بأنّ الجميع لا يورّثون. فالآية والرواية متعاكستان، وكلّ ما عارض الكتاب الكريم فهو ساقط. ولا يجوز أن نستثني زكريا (عليه السلام) خاصة من سائر الأنبياء لأنّ حديث الخليفة لا يقبل هذا الاستثناء وهذا التفريق بين زكريا (عليه السلام) وغيره والنبوة إن اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون ولا نحتمل أن يكون لنبوة زكريا (عليه السلام) خاصية جعلته يورث دون سائر الأنبياء، وما هو ذنب زكريا (عليه السلام) أو ما هو فضله الذي يسجّل له هذا الامتياز. أضف إلى ذلك أن تخصيص كلمة الأنبياء الواردة في الحديث والخروج بها عمّا تستحقه من وضع لا ضرورة له بعد أن كان الحديث قابلاً للتفسير على أسلوب آخر إن لم يكن هو المفهوم الظاهر من الحديث كما أوضحناه سابقاً فهو تفسير على كل حال فلماذا نفسر الحديث بأنّ تركة النبي لا تورث لنضطر إلى أن نقول بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعني بالأنبياء غير زكريا (عليه السلام) بل لنأخذ بالتفسير الآخر ونفهم من الحديث أنّ الأنبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه ونحفظ للفظ العام حقيقته(21).

                    ونعرف ممّا سبق أن صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما أراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم ومصيرها الإهمال حينئذٍ وليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركاً قانونياً في موضوع التوريث، ولذا لم يتفطن الصديق إلى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآية الآنفة الذكر ولم يوفق واحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه. وليس ذلك إلاّ لأنهم أحسّوا بوضوح أنّ الحديث يناقض الآية بمعناه الذي يبرّر موقف الحاكمين. ولا يمكن أن نعتذر عن الخليفة بأنه يجوز اختيار أحد النصّين المتناقضين وتنفيذه كما يرتئيه جماعة من علماء الإسلام، وقد اختار أن ينفذ مدلول الحديث وذلك لأنّ المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق وهل بعد الحق إلاّ الضلال.


                    الناحية الثانية:

                    المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إياها فدكاً فقد ادّعت الصديقة النحلة وشهد بذلك قرينها وأم أيمن فلم يقبل الخليفة دعواها ولم يكتف بشاهديها وطالبها ببينة كاملة وهي رجلان أو رجل وامرأتان.


                    (1) والنقطة الأولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم في المسألة مع أنّ خلافته لم تكتسب لوناً شرعياً إلى ذلك الحين على أقل تقدير ولكننا لا نريد الآن أنّ نضع هذه المؤاخذة قيد الدرس لأنّ المناقشة على هذا الشكل تبعثنا إلى آفاق واسعة من البحث وتضطرنا إلى نسف الحجر الأساس لدنيا السياسة في الإسلام وهي عملية لها حساب طويل.


                    (2) والملاحظة الثانية: في الموضوع هي أنّ فدكاً إذا كانت في حيازة الزهراء (عليها السلام) فلا حاجة لها إلى البيّنة، وفي هذه الملاحظة أمران:

                    أولاً: من هو الذي كانت فدك في حيازته؟ وهل كانت في يد الزهراء حقاً؟ قد يمكن أن نفهم ذلك من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالته الخالدة إلى عثمان بن حنيف: (بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين). فإنّ المفهوم من كلمة أيدينا أنّ فدكاً كانت في أيدي أهل البيت وقد نصّت على ذلك روايات الشيعة. وحصر ما كانت في تلك الأيدي التي عناها الإمام بفدك يدلّ على أنها كانت في حيازة علي وزوجه خاصة ويمنع عن تفسير العبارة بأنّ فدكاً كانت في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) باعتبار أنّ حيازته حيازة أهل البيت لأننا نعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت في يده أشياء أخرى غير فدك من مختصّاته وأملاكه.

                    ثانياً: هل الحيازة دليل على الملكية؟ والجواب الإيجابي عن هذه المسألة مما أجمع عليه المسلمون ولولا اعتبارها كذلك لاختلّ النظام الاجتماعي للحياة الإنسانية. وقد يعترض على دعوى أنّ فدكاً كانت في يد الزهراء (عليها السلام) بأنها لم تحتج بذلك، ولو كانت في يدها لكفاها ذلك عن دعوى النحلة والاستدلال بآيات الميراث، وفي المستندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الاعتراض لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة غير أننا لا نريد دراسة المسألة على ضوء شيء منها.

                    ولكن ينبغي أن نلاحظ أنّ فدكاً كانت أرضاً مترامية الأطراف وليس شأنها شأن التوافه من الأملاك والمختصّات الصغيرة التي تتّضح حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة. فإذا افترضنا أن فدكاً كانت في يد فاطمة (عليها السلام) يتعّهدها وكيلها الذي يقوم بزراعتها فمن يجب أن يعرف ذلك من الناس غير الوكيل. ونحن نعلم أنّ فدكاً لم تكن قريبة من المدينة ليطّلع أهلها على شؤونها ويعرفوا من يتولاّها فقد كانت تبعد عنها بأيام ثمّ أنها قرية يهودية وليست في محيط إسلامي لتكون حيازة فاطمة (عليها السلام) لها معروفة بين جماعة المسلمين.

                    فماذا كان يمنع الزهراء (عليها السلام) عن الاعتقاد بأنّ الخليفة سوف يطالبها بالبيّنة على أنّ فدكاً في يدها إذا ادّعت ذلك كما طالبها على النحلة مادام في نظرها مسيراً في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشيء. وكان من السهل في ذلك اليوم أن تبتلع الحوت وكيل فاطمة (عليه السلام) على فدك أو أي شخص لو اطلع على حقيقة الأمر كما ابتلعت أبا سعيد الخدري فلم يروا النحلة وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة وأراحت الفاروق(22) و أن يتّهم بالردّة لأنه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما اتهم مانعوا الزكاة والرافضون لتسليمها له.

                    تعليق


                    • #11
                      فدك في التاريخ

                      3) ولنترك هذه المناقشة لنصل إلى المسألة الأساسية وهي: إنّ الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء (عليها السلام) ويؤمن بآية التطهير التي نفت الرّجس عن جماعة منهم فاطمة (عليها السلام) أولاً.

                      ونحن لا نريد أن نتوسّع في الكلام على العصمة وإثباتها للصديقة (عليها السلام) بآية التطهير لأن موسوعات الإمامية في فضائل أهل البيت (عليهم السلام) تكفينا هذه المهمة ولانشكّ في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت تحدث بنزول آية التطهير في فاطمة (عليها السلام) وقرينها وولديها(23)، وقد صرحت بذلك صحاح الشيعة والسنة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما خرج إلى الفجر بعد نزول الآية يمر ببيت فاطمة (عليها السلام) ويقول: «الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)»، وقد استمر على هذا ستة أشهر(24).

                      وإذن فلماذا طلب الخليفة بيّنة من فاطمة (عليها السلام) على دعواها؟! وهل تحتاج الدعوى المعلوم صدقها إلى بيّنة؟ قال المعترضون على أبي بكر: إن البينة إنما تراد ليغلب في الظنّ صدق المدّعي والعلم أقوى منها فإذا لزم الحكم للمدّعي الذي تقوم البينة على دعواه يجب الحكم للمدّعي الذي يعلم الحاكم بصدقه.

                      وألاحظ أنّ في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البينة وعلم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنما لوحظ مدى تأثير كلّ منهما في نفس الحاكم وكانت النتيجة حينئذٍ أن العلم أقوى من البينة لأنّ اليقين أشدّ من الظن، وكان من حقّ المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في كلّ مخاصمة. ولا يفضل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة لأن الحاكم قد يخطئ كما أن البينة قد تخطئ فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظّنة للزلل والاشتباه.

                      ولكن في المسألة أمر غفل عنه الباحثون أيضاً وهو أن ما يعلمه الخليفة من صدق الزهراء (عليها السلام) يستحيل أن لا يكون حقيقة، لأنّ سبب علمه بصدقها ليس من الأسباب التي قد تنتج توهماً خاطئاً وجهلاً مركباً وإنما هو قرآن كريم يدلّ على عصمة المدّعية. وعلى ضوء هذه الخاصية التي يمتاز بها العلم بصدق الزهراء (عليها السلام) يمكننا أن نقرّر أنّ البينة التي قد تخطئ إذا كانت دليلاً شرعياً مقتضياً للحكم على طبقه فالعلم الذي لا يخطئ وهو ما كان بسبب شهادة الله (تعالى) بعصمة المدّعي وصدقه أولى بأن يكتسب تلك الصفة في المجالات القضائية.

                      وعلى أسلوب آخر من البيان نقول: إن القرآن الكريم لو كان قد نصّ على ملكية الزهراء (عليها السلام) لفدك وصدقها في دعوى النحلة لم يكن في المسألة متّسع للتشكيك لمسلم أو مساغ للتردّد لمحكمة من محاكم القرآن، ومن الواضح أنّ نصّه على عصمة الزهراء (عليها السلام) في قوة النص على النحلة لأنّ المعصوم لا يكذب فإذا ادعى شيئاً فدعواه صائبة بلاشك ولا فرق بين النص على العصمة والنص على النحلة فيما يتّصل بمسألتنا سوى أنّ ملكية الزهراء (عليها السلام) لفدك هي المعنى الحرفي للنص الثاني والمعنى المفهوم من النص الأول عن طريق مفهومه الحرفي.


                      (4) ونقول من ناحية أخرى: إنّ أحداً من المسلمين لم يشكّ في صدق الزهراء (عليها السلام) ولم يتهمها بالافتراء على أبيها وإنما قام النزاع بين المتنازعين في أنّ العلم بصواب الدّعوى هل يكفي مدركاً للحكم على وفقها أو لا؟ فلندع آية التطهير ونفترض أن الخليفة كان كأحد هؤلاء المسلمين وعلمه بصدق الزهراء (عليها السلام) حينئذٍ ليس حاوياً على الامتياز الذي أشرنا إليه في النقطة السابقة بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضة للخطأ والاشتباه ولا يدلّ حينئذٍ جعل البيّنة دليلاً على مشاركته لها في تلك الخاصية لأنّه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقاً.

                      ولكن الحاكم يجوز له مع ذلك - أن يحكم على وفق علمه كما يجوز له أن يستند في الحكم إلى البيّنة بدليل ما جاء في الكتاب الكريم ممّا يقرّر ذلك، إذ قال الله (تعالى) في سورة النساء: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وقال في سورة الأعراف: (ممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) أي يحكمون. وللحقّ والعدل ملاحظتان:

                      إحداهما: الحق والعدل في نفس الأمر والواقع.

                      والأخرى: الحقّ والعدل بحسب الموازين القضائية، فالحكم على وفق البيّنة حق واعتدال في عرف هذه الملاحظة وإن أخطأت ويعاكسه الحكم على وفق شهادة الفاسق فإنه ليس حقاً ولا عدلاً وإن كان الفاسق صادقاً في خبره.

                      والمعنى بالكلمتين في الآيتين الكريمتين إن كان هو المعنى الأول والعدل كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى البينة فإذا أحرز الحاكم ملكية شخص لمال صحّ له أن يحكم بذلك لأنه يرى أنه الحق الثابت في الواقع والحقيقة العادلة فحكمه بملكية ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به الله (تعالى). وأما إذا فسّرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني أعني ما يكون حقاً وعدلاً بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصّين القرآنيين على شيء في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذٍ أن أي قضاء يكون قضاء بالحق وعلى طبق النظام وأي قضاء لا يكون كذلك.

                      ومن الواضح أن المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الأول دون الثاني وخاصة كلمة الحق فإنها متى وصف بها شيء فهو أنّ ذلك الشيء أمر ثابت في الواقع فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. ويدلّ على ذلك الأسلوب الذي صيغت عليه الآية الأولى فإنها تضمّنت أمراً بالحكم بالعدل وواضح جداً أن تطبيق التنظيمات الإسلامية في موارد الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي لأن نفس وضعها قانوناً لقضاء معناه لزوم تطبيقها فلا يكون الأمر بالتزام القانون إلاّ تكراراً أو تنبيهاً وليس من حقيقة الأمر في شيء، وأما الأمر بالحكم على طبق الحقائق الواقعية سواء أكان عليها دليل من بيّنة وشهادة أو لا فهو من طبيعة الأمر بالصّميم لأنه تقرير جديد يوضح أن الواقع هو ملاك القضاء الإسلامي والمحور الذي ينبغي أن يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والأدلة الخاصة(25).

                      وإذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء الإسلامية(26).

                      وأضف إلى ذلك أن الصديق نفسه كان يكتفي كثيراً بالدعوة المجرّدة عن البيّنة فقد جاء عنه في البخاري(27) أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما مات جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال: من كان له علَيَّ دين أو كانت قبله عدّة فليأتنا، قال جابر: وعدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يده ثلاث مرات فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة.

                      وروي في الطبقات(28) عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين: من كانت له عدّة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فليأت؟ فيأتيه رجال فيعطيهم فجاء أبو بشير المازني فقال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يا أبا بشير إذا جاءنا شيء فأتنا، فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدوها ألفاً وأربعمائة درهم.

                      فإذا كان الصديق لا يطلب أحداً من الصحابة بالبيّنة على الدين أو العدة فكيف طلب من الزهراء (عليها السلام) بينة على النِحلة. وهل كان النظام القضائي يخص الزهراء (عليها السلام) وحدها بذلك أو أنّ الظروف السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص؟

                      ومن الغريب حقاً أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي (صلى الله عليه وآله) بمبلغ من المال وتردّ دعوى بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنها لم تجد بيّنة على ما تدّعيه. وإذا كان العلم بصدق المدّعي مجوزاً لإعطائه ما يدّعيه فلا ريب أن الذي لا يتهم جابراً أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء (عليها السلام) عن ذلك أيضاً. وإذا لم يكن إعطاء الخليفة لمدّعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ بدعواه وإنما دعاه احتمال صدقِهِ إلى إعطائه ذلك وللإمام أن يعطي أيّ شخص المبلغ الذي يراه فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة فدك. وهكذا أنجز الصديق وعود رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي لم تقم عليها بيّنة وأهمل هباته المنجزة التي ادّعتها سيدة نساء العالمين (عليها السلام) وبقي السؤال عن الفارق بين الديون والعدات وبين نِحلة بلا جواب مقبول.


                      (5) ولنستأنف مناقشتنا على أساس جديد وهو: إنّ الحاكم لا يجوز له الحكم على طبق الدّعوى المصدّقة لديه إذا لم يحصل المدّعي على بيّنة تشهد له ونهمل النتيجة التي انتهينا إليها في النقطة السابقة ونسأل على هذا التقدير.

                      أولاً: عمّا منع الصديق من التقدم بالشهادة على النِحلة إذا كان عالماً بصدق الحوراء (سلام الله عليها) إذ يضّم بذلك شهادته إلى شهادة علي (عليه السلام)، وتكتمل بهما البيّنة ويثبت الحق واعتباره لنفسه حاكماً لا يوجب سقوط شهادته لأنّ شهادة الحاكم معتبرة وليست خارجة عن الدليل الشرعي الذي أقام البيّنة مرجعاً في موارد الخصومة.

                      ثانياً: عن التفسير المقبول لإغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه بحسب الفرض. ولأجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرّق بين أمرين اختلطا على جملة الباحثين في المسألة.

                      أحدهما: الحكم للمدّعي بما يدّعيه.

                      والآخر: تنفيذ آثار الواقع وإذا افترضنا أن الأول محدود بالبيّنة فالآخر واجب على كلّ تقدير لأنّه ليس حكماً ليحدّد بحدوده فإذا علم شخص بأن بينه لآخر فسلمه لمالكه لم يكن هذا حكماً بملكيته له وإنما هو إجراء للأحكام التي نصّ عليها القانون. كما أنّ الحاكم نفسه إذا ادّعى شخص عنده ملكية بيت وكان في حيازته أو دلّ الاستصحاب على الملكية المدعاة فاللازم عليه وعلى غيره من المسلمين أن يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدّعي وليس معنى هذا أنّ الحاكم حكم بأنّ البيت ملك لمدّعيه مستنداً إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب وأنّ المسلمين أخذوا أنفسهم باتباع هذا الحكم بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك وليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعة وإنما يوجبان تطبيق أحكام الواقع. والفارق بين حكم الحاكم بملكية شخص لمال أو فسقه ونحوهما من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم وبين تطبيق آثار تلك الأمور هو: امتياز الحاكم بفصل الخصومة ونعني بهذا الامتياز أنّ الحاكم إذا أصدر حكماً حرم نقضه على جميع المسلمين ولزم اتباعه من دون نظر إلى مدرك آخر سوى ذلك الحكم.

                      وأما تطبيق القاضي لآثار الملكية عملياً بلا حكم فلا يترتّب عليه ذلك المعنى ولا يجب على كلّ مسلم متابعته وإجراء تلك الآثار كما يجريها إلاّ إذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.

                      والنتيجة: إن الخليفة إذا كان يعلم بملكية الزهراء (عليها السلام) لفدك، فالواجب عليه أن لا يتصرّف فيها بما تكرهه ولا ينزعها منها سواء أجازله أن يحكم على وفق علمه أو لا. ولم يكن في المسألة منكر ينازع الزهراء (عليها السلام) ليلزم طلب اليمين منه واستحقاقه للمال إذا أقسم لأنّ الأموال التي كانت تطالب بها الزهراء (عليها السلام) إمّا أن تكون لها أو للمسلمين. وقد افترضنا أنّ أبا بكر هو الخليفة الشرعي للمسلمين يومئذٍ، وإذن فهو وليهم المكلّف بحفظ حقوقهم وأموالهم فإذا كانت الزهراء (عليها السلام) صادقة في رأيها ولم يكن في الناس من ينازعها فليس للخليفة أن ينتزع فدكاً منها وتحديد الحكم بالبيّنة خاصة إنما يحرم الحكم ولا يجيز انتزاع الملك من صاحبه.

                      وإذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه لا يخفّف من صعوبة الحساب ولا يخرج الخليفة ناجحاً من الامتحان.

                      تعليق


                      • #12
                        فدك في التاريخ

                        16 - راجع سيرة ابن هشام: ج 2 ص 239، وتاريخ الكامل: ج 2 ص 85، وشرح النهج: ج 4 ص 78.

                        17 - سورة مريم: الآية 5 - 6.

                        18 - وتقوم الفكرة في هذه النظرية على أنّ الصور المعقولة - وهي عبارة عن وجود مجرد عن المادة - لا قوام لها إلاّ بكونها معقولة فالمعقولية نفس هويتها وتجريدها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. وهذا آية الوحدة الوجودية، وإذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود وكلما صار الوجود النفسي مصداقاً فالمفهوم عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري وأصبح من طراز أرفع، ولا مانع مطلقاً من اتحاد مفاهيم متعدّدة في الوجود كما يتحد الجنس والفصل، وليس ذلك كالوحدة الوجودية لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين فإن هاتين الوحدتين مستحيلتان في حسب العقل دون ذاك الاتحاد والتوسع لا مجال له.

                        19 - فإن الحق تجرّد جميع مراتب العلم والصور المدركة ولكن على تفاوت في مراتب التجريد فإنّ المدرك بالذات لا يمكن أن يكون نفس الشيء بهويته المادية فحتى المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرد وليس في نورية خروج الشعاع أو الانطباع وما ثبت حول الرؤية في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسّر الإدراك البصري تفسيراً فلسفياً فلابد من الاعتراف بتجرده فضلاً عن الخيال والعقل وقد أوضحنا هذا المذهب في كتابنا [العقيدة الإلهية في الإسلام].

                        20 - لا قياماً حلولياً بمعنى كونها أعراضاً لها وإنما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة لحل المشكلة التي اعترضت الباحثين عندما أرادوا أن يوفقوا بين أدلة الوجود الذهني وبين ما اشتهر من كون العلم كيفاً وهي أنّ الصورة المعقولة إذا كانت كيفاً فما نتعلقه من الإنسان ليس جوهراً لأنه كيف وليس إنساناً إذن لأن كل إنسان جوهر وإنما هو مثال. ولما أفلست جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهة من إنكار الوجود الذهني وتقرير مذهب المثالية، واختيار التعدد وكون العلم عرضاً والمعلوم جوهراً وتفسير الجوهر بأنه الموجود المستقل خارجاً لا ذهناً، والانقلاب: اضطر الباحثون المتأخرون إلى تقرير أنّ الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا كيف غير أن الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي اختار في الأسفار أنها جوهر بحسب ماهيتها وكيف بالعرض. ويمكن الاعتراض عليه بأنّ كل ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذات، وإذن، فلابدّ أن نفترض كيفاً حقيقياً متحداً مع الصورة لتكون كيفاً بالعرض وتنتهي النظرية حينئذٍ بصاحبها إلى أحد أمرين إما الالتزام بتعدد ما في النفس أو الاصطدام بالمشكلة الأولى نفسها، ولذا كان الأفضل تقرير أن الصورة المدركة من الإنسان مثلاً جوهر وليست بعرض اطلاقاً وارتباطها بالنفس ارتباط المعلول بالعلة لا العرض بموضوعه.

                        21 - والجملة خبرية وليست إنشائية لأن إنشاء حكم على الأنبياء بعد وفاتهم وانقراض ورثتهم لا معنى له، وحينئذٍ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال وليس شأن صيغة الحديث شأن الجمل الإنشائية التي يكشف تخصيصها عن عدم إرادة الخاص بالإرادة الجدية ويقدم لذلك على سائر التأويلات والتجوزات بل هي خبرية، والجملة الخبرية إذا خالفت الإرادة الاستعمالية فيها الجد والحقيقة كانت كذباً فتخصيصها يستلزم صرفها إلى المعنى المجازي وحينئذٍ فلا يرجع على تجوز آخر إذا دار الأمر بينهما.

                        22 - وقد جاءت الرواية مصرحة بأن عمر أرسل رسولاً إلى سعد ليقتله إن لم يبايع فلما أبى سعد قتله الرسول راجع: العقد الفريد: ج 3 ص 63.

                        23 - راجع: صحيح مسلم: ج 2 ص 331.

                        24 - رواه الإمام أحمد في مسنده: ج 3 ص 295، عن أنس وأخرجه الحاكم أيضاً وشهد بصحته.

                        25 - وإذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العلمية قلنا: إنّ الأمر على التقدير الثاني يكون إرشادياً إذ لا ملاك للأمر المولوي في المقام حيث إن المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث والتحريك فظهور الأمر في المولوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الأول لجواز الأمر مولوياً باتباع الواقع فيما إذ دلّت عليه البيّنة خاصة وإمكان الأمر باتباعه مطلقاً. وأنا اعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلمية الدائرة في مباحث المنطق والفلسفة والفقه والأصول - إلا حين اضطر إلى ذلك اضطراراً - لأنني أحاول أن تكون بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم.

                        26 - إن قيل: إنّ الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق وهو لا يعلم الحكم باستحقاقه للعقاب يدل على عدم كون القضاء من آثار الواقع فيدور الأمر بين صرف هذه الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم وحمل العقاب فيها على التجري وبين صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت: لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة للآيات بصورة العلم فيكون موضوع القضاء مركباً من الواقع والعلم به وبتعبير آخر من آثار الواقع الواصل.

                        27 - صحيح البخاري: ج 3 ص 180.

                        28 - الطبقات: ج 4 ص 134

                        تعليق


                        • #13
                          لابناء الشيعة فقط__للفائدة

                          ثاني جنايات السقيفة

                          فدك ومظلومية الزهراء (عليها السلام)

                          الاستاذ إبراهيم جواد

                          تمهيد:

                          بعد ذلك الحوار الخفيف مع صاحبي الذي سألني عن مجريات السقيفة المشؤومة، وموقف الإمام علي (عليه السلام) من النتيجة الباطلة التي أسفرت عنهما، وتمثلت ظاهراً في إقصاء الإمام علي (عليه السلام) عن خلافة المسلمين الذي هو سبيل استمرار الإسلام واستقامة منهجه ورسوخ دولته، واستبداله بأبي بكر وما جر ذلك من جريمة الإقدام على حرق دار فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإخراج المعتصمين فيه من المهاجرين والأنصار، وإكراههم على البيعة، والإقرار بالبيعة المغتصبة من قبل أبي بكر ورفيقيه في المؤامرة عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، والتي كانت بدء الانحراف عن منهج الإسلام، والسوسة الأولى التي بدأت بنخر كيان دولته الفتية.

                          أقول: بعد ذلك الحوار، عاد صاحبي ذاك يسألني في إلحاح عن قضية فدك.

                          قلت لصاحبي: عماذا تسأل من تلك القضية؟

                          قال: أسال عن مجرياتها، وسبب - ربطها بالسقيفة، وما ترتب عليها من نتائج.

                          قلت: أنا أسألك بدوري: لماذا لا تتعب نفسك قليلاً، وتبحث في كتب التاريخ، وتقارن بين مروياته لتميز بين الصحيح والمزيف منها، فتكون أكثر اطمئناناً إلى النتائج التي تتوصل إليها بنفسك؟.

                          قال: أنت تعلم أن تلك المهمة صعبة جداً وشاقة على أمثالي، ولكني أعدك أنني سأفعل إن أنت وضعتني على بداية الطريق، وأنرت لي بعض زواياه المظلمة، وزودتني ببعض البصائر التي تعينني على المسير.

                          قلت: حباً وكرامة إذن، سأبدأ حديثي عن قضية فدك بحوار بين أبي بكر ونجيّه ووزيره عمر، أنقله من كتابي (فاطمة الزهراء صوت الحق وصرخة الصدق) جاء فيه:

                          استدعى الخليفة الأول أبو بكر صاحبه عمر، وجلسا يتذاكران أحداث الخلافة وعواقبها، قال عمر: هاقد استقرت الأمور، وخفت صوت المعارضة، وعادت الحياة في المدينة إلى مجراها الطبيعي، وانصرف المسلمون لشؤونهم.

                          - كل ذلك بفضلك يا عمر، لقد أبليت في هذا الأمر البلاء الحسن، وأبديت من الحزم والعزم ما أنت به خليق.

                          لكني غير مطمئن تماماً يا أبا بكر، إن امتناع علي وبني هاشم يقلقني ويؤرقني، وإن جمعاً من الأنصار وبعضاً من المهاجرين ما يزالون يترددون إليه ويلتفون حوله رغم بيعتهم لك وخضوعهم الظاهر لسلطتك.

                          إن وراء هذا الكلام ما وراءه، فبم تفكر يا ابن الخطاب؟ كأني بك تدبر في رأسك أمراً جديداً!!.

                          - يا أبا بكر، إن ابن أبي طالب أجود من السحاب وأندى من المزن وأكرم من الكرم نفسه، ولو خيرت له الدنيا وخيراتها لم يحبس منها شيئاً عن الناس، والإنسان عبد الإحسان، والناس ذوو ميل إلى الدنيا وأنسٍ بالأموال، فإن أردت أن يتفرق الناس عن علي ويميلوا إليك، فامنع عنه الفيء وخمس الغنائم واحبس عنه فدكاً (1).

                          انتفض أبو بكر مرعوباً، وقام من مجلسه فزعاً كمن عضته أفعى أو لدغته عقرب:

                          - ما تقول يا عمر؟! أين تريد بنا؟! أنهيج النزاع من جديد بعد ما هدأت صائلته، ونعود إلى القلق بعد ما انقطعت عنا غائلته؟! أما يكفينا من أهل بيت رسول الله ما قدمنا؟!.

                          - إنه كما أقول لك يا أبا بكر، ولا أريد بك إلا خيراً، وإنه لن ينفض عن آل رسول الله مريدوهم ما لم تفعل ذلك.

                          - والله إني لمتخوف مغبة هذا الأمر يا عمر.

                          - أطعني يا أبا بكر واسمع مشورتي، فأنك أن تفعل ذلك انفض عن علي شيعته، وأقبلوا إليك رغبة فيما عندك من الدنيا.

                          افعل ما أنت فاعل يا عمر، ولا تدخلني معك في هذا الأمر، فإني أراه أصعب من سابقه.

                          - قد علمت يا أبا بكر أنه هذا لا يكون، فأطعني فيما أقول.

                          - فامض إذن إلى وكيل فاطمة على فدك، فانزع الوكالة منه ولنرقب ما يكون بعد ذلك، ولكل حادث حديث(2).

                          - إني ماض لما أمرتني به، فهيئ للأمر عدته، والزم الحزم، وإياك أن يلحق بك الخور.


                          • ما هي فدك:

                          قال صاحبي: هذه بداية لطيفة مع هذا الحوار العجيب، أريد أن تحدثني بعده عن فدك هذه ما هي، وكيف صارت إلى الزهراء (عليها السلام)؟!

                          قلت: فدك قرية زراعية من قرى الحجاز تقع بالقرب من خيبر، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، وهي أرض واسعة جداً فيها عين خوارة ونخيل كثيرة، وهي ذات قيمة عالية لوفرة مائها وكثرة نخيلها وطيب ثمرها(3).

                          وكانت فدك ملكاًً لليهود حتى السنة السابعة للهجرة، وحين نقض اليهود عهودهم التي أبرموها مع النبي (صلى الله عليه وآله) وراحوا يكيدون للإسلام والمسلمين، ويجرون الاتصالات مع المعسكر الوثني الجاهلي، ويقفون إلى جانبه في حربه على الإسلام، ويتآمرون لاغتيال النبي، صمم على قتالهم واجتثاث خطرهم المائل على الدولة الإسلامية.

                          ولما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر، قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر، واستحوذ عليهم الفزع، ودب في نفوسهم الذعر والهلع، فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك، فكانت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(4)، طبقاً لقوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)[سورة الحشر:الآية 5 – 6].

                          وعند ما نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقه)[سورة الإسراء: الآية 26].

                          دخل رسول الله على ابنته فاطمة (عليها السلام) وعندها (أم أيمن) فقال: يا بنية إن الله قد أفاء على أبيك بفدك خالصة له من دون المسلمين، وإن الله قد أمرني فقال (وآت ذا القربى حقه) فأنت أحق من أوتيه حقه، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك صداق ودين وفضل، وقد جعلت لك فدكاً بذلك نحلةً لك ولولدك من بعدك(5).

                          تعليق


                          • #14
                            تابع

                            • موقف الزهراء (عليها السلام) من اغتصاب فدك:

                            وجدت الزهراء نفسها أمام مشكلة جديدة بعد خرق حرمة دارها، وفي مواجهة ابتزاز آخر بعد غصب الخلافة من زوجها علي (عليه السلام) وعرفت أن السلطة لن تدع آل رسول الله في محنتهم ومصيبتهم برسول الله، ولن تكتفي باغتصاب الخلافة منهم، وهاهو وكيلها يخبرها أنه الوكالة على فدك قد سحبت منه بأمر الخليفة، وأن فدك قد زويت عنها ملكيتها، فماذا تفعل الزهراء؟!، أتؤثر الجلوس في بيتها وتسكت عن هذا الابتزاز الجديد؟ أتتخاذل عن مواجهة المشكلة وهي تعلم أن القضية محبوكة من قبل السلطة وأزلامها وأنها ستكون خاسرة إن هي واجهت؟! أترضخ للظلم والجور؟ إنها لو فعلت لتعوّد المظلوم على الاستسلام للظلم، وازداد الظالم جرأة وإقداماً على الجور والظلم!، أم تنبري للمطالبة بالحق وفضح الظلم والجور، لتكون بذلك أسوة وقدوة لكل مظلوم فينتصب لظالمه يطالبه برفع الظلم عنه وإعادة الحق لصاحبه؟!

                            لاثت فاطمة خمارها، وشدت عليها إزارها، وانطلقت إلى أبي بكر في المسجد تقف قبالته ببسالة نادرة، تسأله وعمر إلى جنبه والمسلمون حوله:

                            - لم أخرجت وكيلي من فدك وهي نحلتي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

                            - ما بينتكِ؟ ومن يشهد لكِ؟

                            - أمن بنت رسول الله تطلب البينة يا أبا بكر، وعلى كلامها تريد الشهود؟!

                            - وما يميزكِ عن بقية الناس من أمة أبيك؟!

                            - أتجعل علمك جهلاً يا أبا بكر؟! ألست تعلم ما يميزني؟! ألست تقرأ كتاب الله تعالى، أفما تجد فيه قول ربك: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[سورة الأحزاب: الآية 33].

                            - أو ليس أولئك نساءه (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟!

                            - أنى يستقيم لك ذلك يا أبا بكر وقد جمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما نزلت عليه هذه الآية وضمنا أنا وعلي وابناي الحسن والحسين بكسائه دون جميع نسائه وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم وطهرهم تطهيراً، فجاءت زوجه أم سلمة، فجذبت الكساء تريد أن تدخل معنا، فقال لها النبي: مكانكِ يا أم سلمة، فقالت: أولستُ منهم يا رسول الله؟ قال: لا ولكنك إلى خير(6)، ويميزني يا أبا بكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

                            فاطمة بضعة مني(7)، وهي حوراء إنسية(8)، ولولا علي لم يكن لها كفؤ من آدم فما دونه(9)، وقوله كذلك: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة(10)، فهل في نساء الأولين والآخرين من هي مثلي؟!.

                            - فذلك في الفضل والمكانة يا خير النساء، لا في القضاء والمحاكمة.

                            - إذا كان الأمر كما تقول - وهو ليس كذلك - فاليمين علي لأن فدك كانت بحيازتي في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والبينة عليك لأنك أخرجت وكيلي منها وحبستها عني.

                            - وكيف ذلك ولم يا ابنة رسول الله؟!

                            - أليست يدي كانت ثابتة على فدك أربع سنين في حياة رسول الله، أتصرف فيها تصرف المالك دون نكير، وكان وكيلي فيها حتى أخرجته أمس منها أنت وصاحبك هذا عمر؟!

                            - أنتِ صادقة يا فاطمة، لكن ذلك وأبوك حي، فكنت تتصرفين في مال أبيك، أما الآن وأنا خليفته فالأمر إلي أتصرف فيها كما كان يتصرف فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

                            - إن قولك هذا يا أبا بكر تلزمك فيه البينة ولا يلزمني أنا إلا اليمين، أم تريد أن تغير الأحكام وتبلي سنن الإسلام؟! أليس قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (البينة على من أدعى واليمين على من أنكر؟!)

                            - يا ابنة رسول الله، كنت تتصرفين في مال أبيك كحاكم على المسلمين، فلما خلفته آل أمر ذلك المال إليّ.

                            - أعنتاً تكرر ذلك القول وتصر عليه بلا حجة ولا برهان؟! إن الأمر ليس كما تدعي يا أبا بكر، ولكن أبي رسول الله قد نحلني فدكاً بأمر الله تعالى، فأصبحت ملكاً خالصاً لي ولذريتي من بعدي، فلا طريق لك إليها يا أبا بكر إلا بالبينة.

                            - ألست من الأول قد سألتك الشهود على ذلك؟!

                            - إذن هو أمر أبرمته وأعددت جوابك عليه سلفاً، ونصبت نفسك قاضياً، وحقّك أن تكون مدّعياً، وطلبت البينة مني وهي عليك، فأنت يريدني أن أطلب الشهود وقد قدمت لك ما قدمت؟!.

                            - ما أنت إلا صادقة مصدوقة يا خير النساء وبنت خير الأنبياء، ولابد من الشهود.

                            - مع إصرارك على موقفك، وطلبك الشهود من المدعى عليه، المهضوم حقه، المغصوب ماله، فأحب أنه أبين لك أن لدي شهوداً صادقين مصدوقين، طاهرين مطهرين، لا تُردُّ شهادتهم ولا يُراجع كلامهم، فأقم قاضياً يحكم بيني وبينك بكتاب الله وسنة رسول الله.

                            هلمي شهودك يا فاطمة، فلا قاضي في هذا الأمر سواي.


                            • مع الشهود على قضية فدك:

                            مع إصرار أبي بكر على تنصيب نفسه خصماً وحكماً في آن واحد في هذه القضية المحبوكة والمؤامرة المدبرة، تقدم علي (عليه السلام) بشهادته فقال:

                            - دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ابنته فاطمة وعندها أم أيمن، فقال: يا بنية إن الله قد أفاء على أبيك بفدك خالصة له من دون المسلمين وإن الله قد أمرني فقال (وآت ذا القربى حقه) فأنت أحق من أوتيه حقه، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك صداق ودين وفضل، وقد جعلت لك فدكاً بذلك نحلة لك ولولدك من بعدك(11).

                            ثم جاءت أم أيمن مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوقفت أمام أبي بكر وعمر وقالت:

                            - أتعرفاني أم أعرّفكما نفسي؟!

                            - ومن لا يعرفك يا أم أيمن؟!

                            - ألستما تعلمان وتشهدان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من أراد (أو من سره) أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن(12)؟!

                            - بلى نعم ونشهد.

                            - وهل يدخل الجنة كذاب أو مدّع ؟!

                            - حاشا لله، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، والمؤمن لا يكذب أبداً.

                            - فإني - وأنا امرأة من أهل الجنة - أشهد أن الله تعالى قد أوحى إلى نبيّه (وآت ذا القربى حقه) فجعل النبي لا بنته فدكاً بأمر الله، لها ولذريتها(13).

                            قال أبو بكر:

                            - فرجل آخر أو امرأة أخرى لتكتمل البينة وتستحقي القضية(14).

                            وعجبت فاطمة من إصرار أبي بكر ومضيّه في هذا العناد، رغم وضوح القضية وصدق الشهادة، إن من هو خير من أبي بكر قد قبل شهادة من هو أدنى من علي وسماه (ذا الشهادتين) فكيف بأبي بكر وقد شهدت أم أيمن مع علي وهي أمرأة من أهل الجنة لا تخش غائلتها ولا يخاف نسيانها(15).

                            ثم جاء الحسنان فشهدا بما شهدت به أم أيمن، ثم جاءت أم المؤمنين أم سلمة، وأسماء بنت عميس - وهي يومئذ زوجة أبي بكر - فشهدتا كذلك.

                            وأسقط في يد أبي بكر فسكت، فما كان يظن أن يشهد كل هؤلاء مع الزهراء، وأطرق برأسه إلى لأرض، لعل فكره المتوقد وذهنه الفطن ينجده بجواب أو يسعفه بمخرج من هذا المأزق.

                            وتصدى ابن الخطاب إذ رأى الخليفة ساكتاً مطرقاً، وراح يطعن بأولئك الشهود، قال عمر:

                            - أما علي فزوجها، وأما الحسنان فابناها، وهم يجرّون القرص إلى أنفسهم(16)، وأما أسماء بنت عميس فكانت زوجة جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم(17)، وأما أم أيمن فامرأة أعجمية لا تفصح(18).

                            وهنا أنبرى علي يرد مقالة عمرو يسفه رأيه:

                            - أما فاطمة فبضعة من رسول الله، من آذاها فقد آذى رسول الله، ومن كذّبها وردّ عليها فقد كذّب رسول الله وردّ عليه، وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة، من كذبها فقد كذب رسول الله إذ كان أهل الجنة صادقين، وأما أنا فقال لي - رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت مني وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، والرادّ عليك كالرادّ عليّ، من أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني، وأما أم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنة، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها وهي صاحبته الهجرتين، وأما أم سلمة فهي زوجة رسول الله وأم المؤمنين وقد شهد لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها: أنت إلى خير.

                            - أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكن شهادة الجارَّ إلى نفسه لا تقبل.

                            - إذا كنا نحن كما تعرفون ولا تنكرون، وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل، وشهادة رسول الله لنالا تقبل، فإنا لله وإنا إليه راجعون(19).

                            ورفع أبو بكر رأسه مشرق الوجه متهلل الأسارير، وقد أعجبه طعن عمر بشهادة هؤلاء الشهود، فتمسك به متغافلاً عن تفنيد عليّ لزعم عمر وردّه عليه، والتفت إلى الزهراء يعيد عليها مقالته الأولى:

                            - يا ابنة رسول الله، هذا مال كان بيد أبيك، وكان يعطي منه أهله ونساءه مؤونة سنتهم وينفق الباقي في مصالح المسلمين، وقد آل أمر هذا المال إليّ، ولن أعدو فيه تصرف رسول الله.

                            - ومن يشهد لك بذلك يا أبا بكر؟

                            - يشهد لي المسلمون ممن حضر فسمع، أو غاب ثم علم.

                            - هلم شهودك فليشهدوا يا أبا بكر، وإني لأظنهم سيشهدون زوراً وبهتاناً.

                            وتوجه أبو بكر إلى الحاضرين من المسلمين يسألهم:

                            - من سمع أو علم فليتقدم فليشهد بما سمع أو علم.

                            وقالت فاطمة للمسلمين:

                            -(ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى)[سورة طه: الآية 61].

                            أحجم المسلمون جميعاً فلم يتقدم منهم أحد، وطفق أبو بكر يتأمل وجوه القوم قلقاً، وما أسرع ما بادر عمر فشهد على ما قاله أبو بكر، وتلاه عبد الرحمن بن عوف فشهد مثل شهادته، فالتفت أبو بكر إلى فاطمة يطيب خاطرها ويهدئ من سورتها إذ شعر أنه قد ربح القضية أخيراً:

                            - صدقت يا ابنة رسول الله وصدق زوجك علي وصدقت أم أيمن وأم سلمة وأسماء، وصدق عمر وعبد الرحمن، وذلك أن مالك لأبيك(20)، فكان يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله(21).

                            وكم عجبت أم سلمة من جرأة عمر على سيد الأوصياء وابنيه الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وأمهما فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين حين نسب إليهم الإقدام على طلب غير الحق، والإدلاء بشهادات باطلة جراً للنفع إلى أنفسهم، كما عجبت من طعنه بالشهادات التي أدلت بها هي وأسماء بنت عميس وأم أيمن، وعجبت أكثر ما يكون العجب من خليفة ينصب نفسه قاضياً في قضية هو طرف فيها، ثم لم يكتف بذلك حتى رجح شهادة عمر وابن عوف على شهادة علي والحسين وأم سلمة وأم أيمن وأسماء، ليتمكن بذلك من رد فاطمة خائبة خاسرة، فالتفتت إلى أبي بكر وعمر تقول لهما وهي تغادر المجلس: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً)[سورة الكهف: الآية 5].

                            تعليق


                            • #15
                              تابع

                              لكن الزهراء (عليها السلام) لم تسلّم بحكم أبي بكر، ولم تستسلم أمام مناورته ومداورته، وإنما انتقلت به إلى مورد أصعب، ووضعته في موقف أحرج:

                              - إذا رددتم بيّنتي الواضحة، وكذبتم شهودي الصادقين، فإني أطالبكم بحقي من فدك ميراثاً من أبي.

                              وسكت أبو بكر وعمر طويلاً عاجزين عن جواب فاطمة، فما كان يدور في خلدهما أن توردهما فاطمة هذا المورد، ولذلك لم يكونا قد أعدا جواباً لدفع هذا الطلب.

                              وفيما تنفس المسلمون في المسجد الصعداء، ظانين أن الزهراء قد ربحت القضية، وانجابت عنهم غمة هذه الظلامة الفادحة، فاجأهم أبو بكر يقول لفاطمة:

                              - لقد سمعت أباك يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).

                              يالله على هذه الفرية التي تخالف كتاب الله وسنة رسول الله، وتجافي ما يعلمه المسلمون من دينهم وشريعة نبيهم، واندفعت الزهراء تعنف أبا بكر وتفند دعواه هذه.

                              - أفي دين الله يا أبا بكر أن ترث أباك وترثك بناتك ولا أرث أبي؟! وكتاب الله بين أيديكم يتلى أناء الليل وأطراف النهار، وفيه قول الله عز وجل: (وورث سليمان داوود)[سورة النمل: الآية 16]، وفيه دعاء زكريا (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[سورة مريم: الآية 5 - 6].

                              - أبوك خاتم الأنبياء وناسخ الشرائع، وقد قال: لا نورث.

                              - أبي لا يخالف قرآن ربه فلقد كان خلقه القرآن، أفكان رسول الله يعلمك ويتركنا نجهل - نحن الأقربين - والله سبحانه يقول له (وانذر عشيرتك الأقربين)! أم كنت تظن أنه أعلمنا فكتمنا علمه وخالفنا شرعه؟!

                              ونادى أبو بكر في الحاضرين:

                              - ألا من سمع أو علم فليشهد بما سمع أو علم.

                              وشهدت عائشة بنت أبي بكر لأبيها ودعمت شهادتها حفصة بنت عمر، واكتمل حبك المؤامرة بشهادة رجل من الأعراب يدعى أوس بن الحدثان أو مالك بن أوس بن الحدثان فشهد أنه سمع كما سمع أبو بكر(22).

                              ومرة أخرى تدخلت أم المؤمنين أم سلمة فأطلعت رأسها من باب حجرتها المطلة على المسجد، وقالت تخاطب الجمع المحتشد من المهاجرين والأنصار:

                              - ألمثل فاطمة يقال هذا الكلام وهي الحوراء بين الإنس، والأنس للنفس؟! ربّيت في حجور الأنبياء، وتداولتها أيدي الملائكة، ونمت في المغارس الطاهرات، أتزعمون أن أباها رسول الله حرّم عليها ميراثه ولم يعلمها؟! أم أنه أعلمها وخالفت عن قوله وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة مريم بنت عمران!!.. واهاً لكم وسوف تعلمون(23).

                              وعقبت فاطمة قبل أن تجر أذيالها خارجة من المجلس:

                              - ألا إن هذه أول شهادة زور في الإسلام.

                              ثم انكفأت إلى دارها ومازالت مريضة حتى لحقت بأبيها غاضبة على أبي بكر وعمر ودفنها زوجها علي سراً وليلاً دون أن يتيح لهما التظاهر أمام المسلمين بأنهما يودان فاطمة ولا يحملان لها ضغناً ولا كرهاً، وطفق المسلمون يضربون كفاً بكف أسً وحسرة ويقول بعضهم لبعض: لم يخلف فينا نبينا إلا بنتاً واحدة، تموت وتدفن ولم نحضر وفاتها ولا الصلاة عليها ولا نعرف قبرها فنزورها(24).



                              الهوامش:

                              1- فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الإسلام للشيخ إبراهيم الأميني ص 129 - 120 ينقله عن ناسخ التواريخ - جزء الزهراء ص 122 - أعيان النساء ص 420 للحكيمي ينقله عن الكشكول للسيد حيدر الآملي. وما أشبه قول عمر هذا بما قاله المنافقون يوصي بعضهم بعضاً (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا...)[سورة المنافقون: الآية 7].

                              2- فاطمة الزهراء صوت الحق وصرخة الصدق ص 224 - 226 المؤلف.

                              3- انظر: لسان العرب لابن منظور مادة فدك - المصباح المنير للفيوضي - البلاذري في فتوح البلدان ص 46 - ابن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 14 ابن الأثير في الكامل في التاريخ ج 3 ص 221.

                              4- تاريخ الأمم والملوك للطبري ج 3 ص 98 طبعة دار القلم - بيروت ، السيرة الحلبية ج 3 ص 58 - 59 طبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، يذكر أن أهل فدك صالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم ويخلوا بينه وبين الأموال، وقيل تصالحوا معه على أن يكون لهم نصف الأرض ولرسول الله المنصف لآخر، فكانت فدك على القول الأول كلها لرسول وعلى الثاني كان له نصفها فقط وانظر المصادر المذكورة في الحاشية السابقة وتاريخ ابن خياط ص 28 - 40.

                              5- المجلسي في بحار الأنوار ج 8 ص 105 - والهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 49 والذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 228 والمتقي الهندي في كنز العمال ج 2 ص 158 والحاكم في التاريخ وانظر فضائل الخمسة في الصحاح الستة ج 3 ص 136.

                              6- صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة الحديث - رقم 4450 - الترمذي في كتاب الأدب حديث رقم 2728 وفي كتاب تفسير القرآن الحديث 2129 و 2120 - أبو داوود في كتاب الليالي الحديث رقم 2512 - أحمد في باقي مسند المكثرين الحديث - رقم 1220 وفي باقي مسند الأنصار الحديث رقم 24122 و 25200.

                              7- أخرجه البخاري.

                              8- بحار الأنوار ج 26 ص 261 و ج 43 ص 4- 6.

                              9- كشف الغمة ج 2 ص 98 عن الصدوق - أمالي الطوسي ج 1 ص 42 - مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 29.. عيون أخبار الرضا ج 1 ص 177 - بحار الأنوار ج 43 ص 97 و 107 و 141 - عوالم العلوم والمعارف ج 11 ص 128 - 141.

                              10- أخرجه الإمام أحمد في مسنده.

                              11- رواه المجلسي في بحار الأنوار ج 8 ص 105 عن كتاب الخرائج للراوندي - وذكره الميرزا محمد علي الأنصاري في اللمعة البيضاء شرح خطبة الزهراء ص 380 - وأورده المفيد في الاختصاص - ونقل كل ذلك الحكيمي في أعيان النساء ص 421.

                              12- الإصابة لابن حجر ص 422 عن سفيان بن عيينة وقال: فتتزوجها زيد بن حارثة - تهذيب التهذيب ج 12 ص 459 - أعلام النساء للزركلي ج 1 ص 107 - أسد الغابة ج 5 ص 567 - كما ذكرها البخاري في قاموس الرجال وابن سعد في الطبقات.

                              13- الطبري في الاحتجاج ج 1 ص 121 - المجلسي في بحار الأنوار ج 8 ص 105 - الميرزا الأنصاري في الحجة البيضاء ص 28 الجوهري في السقيفة وفدك ص 102 - 107 ونقله عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 4 ص 112 طبع بيروت 1954 والشيخ المفيد في الاختصاص وذكر ذلك الحكيمي في أعيان النساء ص 420 - 421.

                              14- في السيرة الحلبية ج 3 ص 399 طبع مصطفى البابي الحلبي - مصر، فقال لها أبو بكر: أبرجل وامرأة تستحقين ؟!.

                              15- قصة خزيمة بن ثابت الأنصاري قصة معروفة ومشهورة، ولأجلها سماه النبي ذا الشهادتين، وقد جاء أبا بكر بآية من القرآن لم يذكرها غيره فقبلها منه وضمها إلى القرآن لهذا السبب، فأيهما أعظم: فدك أم القرآن؟ وأيهما لا يجب قبول شهادته: خزيمة بن ثابت أم أم أيمن؟!.

                              16- في بعض الروايات: وهم يجرون النار إلى قرصهم، وحاشاهم وهم ما هم في الفضل والعلم والتقوى والسابقة، فأنى لعمر ولغير عمر أن يوجه إليهم هذا الاتهام الباطل!!.

                              17- تزوج أبو بكر أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها الأول جعفر، وكانت زوجة أبي بكر عندما شهدت هذه الشهادة أمامه.

                              18- الطبري في الاحتجاج ج 1 ص 90 - 91، والحكيمي في أعيان النساء ص 421.

                              19- المصدر السابق.

                              20- يا سبحان الله، مال الابن لأبيه.. نعم، ولكن ذلك مشروط بشرطين: الأول أن يكون ذلك في حياة الأب لا بعد مماته، والثاني يتعلق برغبة الأب في تناول مال الابن، أما هنا فلا مجال لتحقق أي من الشرطين، فالمال كان للأب فنحله للابن، ثم إن الأب توفي والمال في يد الابن، فبقي المال خالصاً للابن لاحق لأحد أن ينازعه فيه.

                              21- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 111.

                              22- كشف الغمة ج 2 ص 104، الاحتجاج ج 1 ص 121، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 274.

                              23- دلائل الإمامة لابن جرير الطبري ص 29.

                              24- بحار الأنوار ج 43 ص 212

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X