في ذكرى شهادة الإمام الصادق عليه السلام نذكر هذه الرواية حتى نتذكر ما عاناه اهل بيت العصمة , هشام بن عبد الملك الأموي -لعنات الله المتتالية عليه- بعد أن يخبره أهل البيت صلوات الله عليهم بحقّهم يخرجهم من الإسلام ويجعلهم كفار مشركين مرتدين شر الخلق ويؤجج العامة عليهم بل ويريد قتلهم شرّ قتلة إلى درجة أنهم طلبوا أن تؤخذ منهم الجزية كأهل الكتاب ...!
===
روي ان هشام بن عبد الملك ابن مروان حجّ سنة من السنين، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمد عليهم السلام فقال جعفر بن محمد في بعض كلامه:
الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يوالي أعداءنا، ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم أعداؤنا فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به.
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فأخبر مسيلمة (بن عبد الملك) أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق، وانصرفنا إلى المدينة، فانفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأشخصنا فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم أذن لنا في اليوم الرابع، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين، وقد نصب البرجاس حذاه وأشياخ قومه يرمون.
فلما دخلنا وأبي أمامي يقدمني عليه بدأه وأنا خلفه على يد أبي حتى حاذيناه فنادى أبي: يا محمد ارم مع أشياخ قومك الغرض وإنما أراد أن يهتك بأبي وظن أنه يقصر ويخطئ، ولا يصيب إذا رمى، فيشتفي منه بذلك، فقال له أبي: قد كبرت عن الرمي فان رأيت إن تعفيني فقال: وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله لا أعفيك ثم أومى إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك.
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر! وأنت أرمى العرب والعجم كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة على ما قال، وكان هشام لم يكن أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهم به وأطرق إطراقة يرتوي فيه رأيا، وأبي واقف بحذاه. مواجها له، وأنا وراء أبي.
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهم به، وكان أبي عليه وعلى آبائه السلام إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبين للناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي قال له: يا محمد اصعد! فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه فلما دنى من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك من علمك هذا الرمي، وفي كم تعلمته؟
فقال له أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه.
فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، وما ظننت إن في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي، أين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام والدين إذ أنزل الله على نبيه في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
قال: فلما سمع ذلك من أبى انقلبت عينه اليمنى فأحولت واحمر وجهه وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه فقال لأبي: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: نحن كذلك. ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحدا غيرنا، فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها؟ من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة وذلك قول الله تبارك وتعالى: " وما من غائبة في السماء والأرض " إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء؟ فقال: من قوله تعالى لنبيه: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " [فالذي أبداه فهو للناس كافة و] الذي لم يحرك به لسانه أمر الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجى أخاه عليا من دون أصحابه، وأنزل الله بذلك قرآنا في قوله: " وتعيها اذن واعية " فقال رسول الله صلى عليه عليه وآله لأصحابه: سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي فلذلك قال علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب، خصه به رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون سره فكما خص الله أكرم الخلق عليه كذلك خص نبيه أخاه عليا من مكنون سره وعلمه بما لم يخص به أحدا من قومه، حتى صار إلينا، فتوارثنا من دون أهلها.
فقال هشام بن عبد الملك: إن عليا كان يدعي علم الغيب، والله لم يطلع على غيبه أحدا فمن أين ادعى ذلك؟ فقال أبي: إن الله جل ذكره أنزل على نبيه كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " " وهدى وموعظة للمتقين " وفي قوله: " كل شئ أحصيناه في إمام مبين " وفي قوله: " وما فرطنا في الكتاب من شئ " وفي قوله:
" وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين " وأوحى الله إلى نبيه عليه السلام أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شئ إلا يناجي به عليا، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي فإنه مني وأنا منه، له مالي وعليه ما علي، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.
ثم قال صلى الله عليه وآله لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي عليه السلام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: أقضاكم علي. أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحد غيره.
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك، فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي، فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم، ولا تقم أكثر من يومك، فاعتنقه أبي ودعا له وودعه، وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض ونهضت معه، وخرجنا إلى بابه، وإذا ميدان ببابه، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير.
قال أبي: من هؤلاء؟ قال الحجاب: هؤلاء القسيسون والرهبان، وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم، فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه، وفعلت أنا فعل أبي، فاقبل نحوهم حتى قعد نحوهم، وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك في الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي.
فاقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه فجاء إلى صدر المجلس، فقعد فيه وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم فأدار نظره ثم قال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة فقال: من أين أنت من علمائها أم من جهالها؟ فقال له أبي: لست من جهالها فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال له: أسألك؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندعي من شاهد لا يجهل الجنين في بطن أمه، يطعم ولا يحدث، قال: فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال: كلا زعمت إنك ليست من علمائها، فقال له أبي: ولا من جهالها وأصحاب هشام يسمعون ذلك؟
فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخرى؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية موجودة غير معدومة، عند جميع أهل الجنة، لا تنقطع، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي:
دليل ما ندعي أن قرآننا أبدا غض طري موجود غير معدوم عند جميع المسلمين لا ينقطع، فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال: كلا زعمت إنك لست من علمائها فقال له أبي: ولا من جهالها.
فقال: أسألك عن مسألة؟ فقال له: سل قال: أخبرني عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار، فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلى، ويرقد فيها الساهر، ويفيق المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين، وفي الآخرة للعاملين لها، ودليلا واضحا وحجابا بالغا على الجاحدين المنكرين التاركين لها.
قال: فصاح النصراني صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة، والله لاسألنك عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا فأسألك؟ فقال له أبي: سل فإنك حانث في يمينك، فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد، عمر أحدهما خمسون ومائة سنة، والاخر خمسون سنة في دار الدنيا.
فقال له أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما مر عزير على حماره راكبا على قرية بأنطاكية، وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيى الله هذه بعد موتها، وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول، غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطا عليه بما قال، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه.
فعاد إلى داره. وعزرة أخوه لا يعرفه، فاستضافه فأضافه، وبعث إلى ولد عزرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن ابن خمس وعشرين سنة، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم، ويقولون ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور، ويقول له عزرة وهو شيخ ابن مائة وخمس وعشرين سنة ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنه أعلم بما كان بيني وبين أخي عزيز أيام شبابي منك، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟
فقال عزير لأخيه عزرة: أنا عزير سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني، فأماتني مائة سنة، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقينا إن الله على كل شئ قدير، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله لي كما كان يعيدها فأيقنوا، فأعاشه الله بينهم خمسا وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد.
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما وقام النصارى على أرجلهم فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني ويعلم المسلمون أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة ولا قعدت لكم أن عشت سنة.
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه، وأنا معه، ورفع ذلك الخبر إلى هشام بن عبد الملك فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه فوافانا رسول هشام بالجايزة، وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا، ولا نحتبس لان الناس ماجوا وخاضوا فيما جرى بين أبي وبين عالم النصارى.
فركبنا دوابنا منصرفين، وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة أن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الاسلام وردا علي فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وتقربا إليهم بالنصرانية فكرهت أن انكل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاريهم أو يبايعهم أو يصافحهم أو يسلم عليهم، فإنهما قد ارتدا عن الاسلام، ورأي أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما أشر قتلة.
قال: فورد البريد إلى مدينة مدين، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا له منزلا، ويشتروا لدوابنا علفا، ولنا طعاما، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا، وشتمونا وذكروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقالوا: لا نزول لكم عندنا، ولا شري ولا بيع، يا كفار! يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين.
فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي، ولين لهم القول، وقال لهم اتقوا الله ولا تغلطون، فلسنا كما بلغكم، ولا نحن كما تقولون، فاسمعونا.
فقال أبي: فهبنا كما تقولون، افتحوا لنا الباب، وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس، فقالوا: أنتم أشر من اليهود والنصارى والمجوس، لان هؤلاء يؤدون الجزية، وأنتم ما تؤدون، فقال لهم أبي: افتحوا لنا الباب وأنزلونا، وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم، فقالوا: لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا مياعا وتموت دوابكم تحتكم.
فوعظهم أبي فازدادوا عتوا ونشوزا قال: فثنى أبي برجله عن سرجه وقال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع؟ فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وحده ثم وضع أصبعيه في اذنيه، ثم نادى بأعلى صوته:
" وإلى مدين أخاهم شعيبا " إلى قوله: " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " نحن والله بقية الله في أرضه. فأمر الله ريحا سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء والصبيان، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح وأبي مشرف عليهم، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر إلى أبي على الجبل، فنادى بأعلى صوته: اتقوا الله يا أهل مدين، فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه السلام حين دعى على قومه فان أنتم لم تفتحوا الباب ولم تنزلوه، جائكم من العذاب وأتى عليكم، وقد أعذر من أنذر.
ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام، فارتحلنا في اليوم الثاني فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطموه فأخذوه فطموه رحمة الله عليه وصلواته، وكتب إلى عامل المدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي شئ من ذلك .
ابن طاووس : دلائل الإمامة للطبري الامامي: عن حسن بن معاذ الرضوي، عن لوط بن يحيى الأزدي، عن عمارة بن زيد الواقدي قال:
===
روي ان هشام بن عبد الملك ابن مروان حجّ سنة من السنين، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمد عليهم السلام فقال جعفر بن محمد في بعض كلامه:
الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يوالي أعداءنا، ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم أعداؤنا فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به.
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام فأخبر مسيلمة (بن عبد الملك) أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق، وانصرفنا إلى المدينة، فانفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأشخصنا فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ثم أذن لنا في اليوم الرابع، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين، وقد نصب البرجاس حذاه وأشياخ قومه يرمون.
فلما دخلنا وأبي أمامي يقدمني عليه بدأه وأنا خلفه على يد أبي حتى حاذيناه فنادى أبي: يا محمد ارم مع أشياخ قومك الغرض وإنما أراد أن يهتك بأبي وظن أنه يقصر ويخطئ، ولا يصيب إذا رمى، فيشتفي منه بذلك، فقال له أبي: قد كبرت عن الرمي فان رأيت إن تعفيني فقال: وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله لا أعفيك ثم أومى إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك.
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر! وأنت أرمى العرب والعجم كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة على ما قال، وكان هشام لم يكن أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهم به وأطرق إطراقة يرتوي فيه رأيا، وأبي واقف بحذاه. مواجها له، وأنا وراء أبي.
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهم به، وكان أبي عليه وعلى آبائه السلام إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبين للناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي قال له: يا محمد اصعد! فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه فلما دنى من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك من علمك هذا الرمي، وفي كم تعلمته؟
فقال له أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه.
فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت، وما ظننت إن في الأرض أحدا يرمي مثل هذا الرمي، أين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام والدين إذ أنزل الله على نبيه في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
قال: فلما سمع ذلك من أبى انقلبت عينه اليمنى فأحولت واحمر وجهه وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه فقال لأبي: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: نحن كذلك. ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحدا غيرنا، فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها؟ من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة وذلك قول الله تبارك وتعالى: " وما من غائبة في السماء والأرض " إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء؟ فقال: من قوله تعالى لنبيه: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " [فالذي أبداه فهو للناس كافة و] الذي لم يحرك به لسانه أمر الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان يناجى أخاه عليا من دون أصحابه، وأنزل الله بذلك قرآنا في قوله: " وتعيها اذن واعية " فقال رسول الله صلى عليه عليه وآله لأصحابه: سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي فلذلك قال علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب، خصه به رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون سره فكما خص الله أكرم الخلق عليه كذلك خص نبيه أخاه عليا من مكنون سره وعلمه بما لم يخص به أحدا من قومه، حتى صار إلينا، فتوارثنا من دون أهلها.
فقال هشام بن عبد الملك: إن عليا كان يدعي علم الغيب، والله لم يطلع على غيبه أحدا فمن أين ادعى ذلك؟ فقال أبي: إن الله جل ذكره أنزل على نبيه كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " " وهدى وموعظة للمتقين " وفي قوله: " كل شئ أحصيناه في إمام مبين " وفي قوله: " وما فرطنا في الكتاب من شئ " وفي قوله:
" وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين " وأوحى الله إلى نبيه عليه السلام أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شئ إلا يناجي به عليا، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي فإنه مني وأنا منه، له مالي وعليه ما علي، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.
ثم قال صلى الله عليه وآله لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي عليه السلام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: أقضاكم علي. أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحد غيره.
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك، فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي، فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم، ولا تقم أكثر من يومك، فاعتنقه أبي ودعا له وودعه، وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض ونهضت معه، وخرجنا إلى بابه، وإذا ميدان ببابه، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير.
قال أبي: من هؤلاء؟ قال الحجاب: هؤلاء القسيسون والرهبان، وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم، فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه، وفعلت أنا فعل أبي، فاقبل نحوهم حتى قعد نحوهم، وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك في الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي.
فاقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه فجاء إلى صدر المجلس، فقعد فيه وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم فأدار نظره ثم قال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة فقال: من أين أنت من علمائها أم من جهالها؟ فقال له أبي: لست من جهالها فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال له: أسألك؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندعي من شاهد لا يجهل الجنين في بطن أمه، يطعم ولا يحدث، قال: فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال: كلا زعمت إنك ليست من علمائها، فقال له أبي: ولا من جهالها وأصحاب هشام يسمعون ذلك؟
فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخرى؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية موجودة غير معدومة، عند جميع أهل الجنة، لا تنقطع، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي:
دليل ما ندعي أن قرآننا أبدا غض طري موجود غير معدوم عند جميع المسلمين لا ينقطع، فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال: كلا زعمت إنك لست من علمائها فقال له أبي: ولا من جهالها.
فقال: أسألك عن مسألة؟ فقال له: سل قال: أخبرني عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار، فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يهدأ فيها المبتلى، ويرقد فيها الساهر، ويفيق المغمي عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين، وفي الآخرة للعاملين لها، ودليلا واضحا وحجابا بالغا على الجاحدين المنكرين التاركين لها.
قال: فصاح النصراني صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة، والله لاسألنك عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا فأسألك؟ فقال له أبي: سل فإنك حانث في يمينك، فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد، عمر أحدهما خمسون ومائة سنة، والاخر خمسون سنة في دار الدنيا.
فقال له أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما مر عزير على حماره راكبا على قرية بأنطاكية، وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيى الله هذه بعد موتها، وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول، غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطا عليه بما قال، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه.
فعاد إلى داره. وعزرة أخوه لا يعرفه، فاستضافه فأضافه، وبعث إلى ولد عزرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن ابن خمس وعشرين سنة، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم، ويقولون ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور، ويقول له عزرة وهو شيخ ابن مائة وخمس وعشرين سنة ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنه أعلم بما كان بيني وبين أخي عزيز أيام شبابي منك، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟
فقال عزير لأخيه عزرة: أنا عزير سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني، فأماتني مائة سنة، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقينا إن الله على كل شئ قدير، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله لي كما كان يعيدها فأيقنوا، فأعاشه الله بينهم خمسا وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد.
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما وقام النصارى على أرجلهم فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني ويعلم المسلمون أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة ولا قعدت لكم أن عشت سنة.
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه، وأنا معه، ورفع ذلك الخبر إلى هشام بن عبد الملك فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه فوافانا رسول هشام بالجايزة، وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا، ولا نحتبس لان الناس ماجوا وخاضوا فيما جرى بين أبي وبين عالم النصارى.
فركبنا دوابنا منصرفين، وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة أن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الاسلام وردا علي فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وتقربا إليهم بالنصرانية فكرهت أن انكل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاريهم أو يبايعهم أو يصافحهم أو يسلم عليهم، فإنهما قد ارتدا عن الاسلام، ورأي أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما أشر قتلة.
قال: فورد البريد إلى مدينة مدين، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا له منزلا، ويشتروا لدوابنا علفا، ولنا طعاما، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا، وشتمونا وذكروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقالوا: لا نزول لكم عندنا، ولا شري ولا بيع، يا كفار! يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين.
فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي، ولين لهم القول، وقال لهم اتقوا الله ولا تغلطون، فلسنا كما بلغكم، ولا نحن كما تقولون، فاسمعونا.
فقال أبي: فهبنا كما تقولون، افتحوا لنا الباب، وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس، فقالوا: أنتم أشر من اليهود والنصارى والمجوس، لان هؤلاء يؤدون الجزية، وأنتم ما تؤدون، فقال لهم أبي: افتحوا لنا الباب وأنزلونا، وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم، فقالوا: لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا مياعا وتموت دوابكم تحتكم.
فوعظهم أبي فازدادوا عتوا ونشوزا قال: فثنى أبي برجله عن سرجه وقال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع؟ فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وحده ثم وضع أصبعيه في اذنيه، ثم نادى بأعلى صوته:
" وإلى مدين أخاهم شعيبا " إلى قوله: " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " نحن والله بقية الله في أرضه. فأمر الله ريحا سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء والصبيان، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح وأبي مشرف عليهم، وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر إلى أبي على الجبل، فنادى بأعلى صوته: اتقوا الله يا أهل مدين، فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه السلام حين دعى على قومه فان أنتم لم تفتحوا الباب ولم تنزلوه، جائكم من العذاب وأتى عليكم، وقد أعذر من أنذر.
ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام، فارتحلنا في اليوم الثاني فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطموه فأخذوه فطموه رحمة الله عليه وصلواته، وكتب إلى عامل المدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي شئ من ذلك .
ابن طاووس : دلائل الإمامة للطبري الامامي: عن حسن بن معاذ الرضوي، عن لوط بن يحيى الأزدي، عن عمارة بن زيد الواقدي قال: