فرضية الفراغ تسقط في مواجهة حيوية
سياسية وإسلامية عراقية
الكاتب: د. بشير موسى نافع
المصدر: القدس العربي
التاريخ: 2003/05/01
تحول الخطاب الامريكي، بعد شهور طوال من محاولة تسويغ الحرب علي العراق بادعاء العمل علي نزع أسلحة الدمار الشامل الي خطاب التحرير، تحرير الشعب العراقي من الاستبداد والعنف والقهر الذي مثله نظام صدام حسين. وما ان نجحت القوات الامريكية في ازاحة النظام واحتلال العراق، من اربيل الي البصرة، حتي ولد من خطاب التحرير خطاب المجتمع المدني والديمقراطية والحكم الشفاف والنزيه. ما تقوله الادارة الامريكية الآن، وما يؤكده حاكم العراق الجديد جاي غارنر، ان القوات الامريكية لن تغادر العراق وان ادارة غارنر لن تسلم السلطة لحكومة عراقية حتي تقام في البلاد مؤسسات ديمقراطية ومدنية قادرة علي البقاء. السيد أحمد الجلبي، الناطق العراقي باسم المشروع الامريكي، لم يتوان هو الآخر عن التصريح بأن هدفه هو المساعدة علي اقامة مؤسسات المجتمع المدني في البلاد، وان لا طموحات سياسية لديه، داعيا في الوقت نفسه الي بناء علاقات عسكرية استراتيجية (بمعني قواعد عسكرية امريكية) بين العراق الجديد والولاــيات المتحدة.
ليس من الصعب ان نري خلف هذا الخطاب مشروعا امبرياليا امريكيا، وهذا هو بالتأكيد ما يراه معظم العراقيين وما يراه الشارع العربي، وما تراه الانظمة العربية الصديقة لواشنطن في عراق اليوم. بل ليس من الصعب رؤية المشروع الامبريالي في تصريحات لا أول لها ولا آخر للمؤدلجين الامريكيين الرئيسيين للحرب. ولكن هذا الخطاب هو ايضا، وأساسا، خطاب عنصري ويتسم بقدر كبير من الجهل بالعراق وشعبه. من يتابع تداعيات مشروع تحرير العراق، اقامة نظام ديمقراطي، وتأسيس مجتمع مدني، يهيأ له انه لم يتبق في جعبة المسؤولين الامريكيين الا القول بأنهم سيوجدون العراق من عدم. العراق نتاج خمسة آلاف من التاريخ والحضارة، يقدم في الخطاب السياسي الامريكي الرسمي وكأنه وطن قاحل بلا تاريخ ولا حضارة، ما كان له من خيار الا انتظار وولفوتيز ورامسفيلد وغارنر ليعيدوه الي التاريخ والحضارة والمجتمع الانساني. ولم يكن غريبا بالتالي ان تنتاب الادارة الامريكية، بعد اسبوع واحد فقط من احتلال العراق، حالة من الصدمة والمفاجأة والارتباك. العراق الذي يولد الآن من دمار الحرب والصراع ليس هو العراق الذي تصورته واشنطن، ولا هو العراق الذي خطط كاردينالات الامبريالية الامريكية السيطرة عليه.
العراق الذي رسمت ملامحه في ملفات الخطط الامريكية هو عراق متعلمن يفتقد أية جذور أو توجهات اسلامية. فقد اعتقد مستشارو وزارة الدفاع الامريكية، ممن جعلوا احتلال العراق وإعادة بنائه حجر الرحي في تصورهم لاعادة تشكيل الشرق الاوسط، اعتقدوا ان نظام حكم البعث العلماني قد تكفل خلال الثلاثين عاما الماضية بالقضاء علي البني الاسلامية العقدية والسياسية في العراق. تصور الامريكيون ان النظام العراقي السابق قد جعل العراق مهدا، وأرضا خصبة لاستقبال المشروع الامريكي لبناء الدولة والمجتمع العراقيين. عراق النسخة الامريكية هو عراق أجوف عاجز عن مقاومة النماذج الجاهزة للثقافة والاجتماع التي أعدت في دوائر المحافظين الامبرياليين في ادارة جورج بوش.
ما وجده الامريكيون أمامهم كان عراقا آخر. خلال الأيام القليلة التي تلت احتلال العراق وانهيار مؤسسات نظام الحكم، برزت المساجد والمؤسسات الاسلامية والقوي الدينية التقليدية وغير التقليدية باعتبارها مركز ثقل المجتمع العراقي. تحولت المساجد الي مراكز قيادة للأحياء، ونظم العلماء المسلمون من سنة وشيعة قوي العمل التطوعي، وفروا الحراسة للمستشفيات، عملوا علي جمع وإعادة ما سرق ونهب من المؤسسات العامة، قاموا بدفن الموتي، عززوا توجهات التعاضد والرعاية الاجتماعية، ووضعوا أطر الخطاب السياسي للشارع العراقي. خلال أيام قليلة من الاحتلال، كان مسجد أبي حنيفة النعمان في بغداد، مسجد الإمام الكاظم، مساجد الموصل الرئيسية، حوزة النجف العلمية، وعتبات كربلاء، تستلم قيادة المجتمع العراقي.
أرسلت القوات الامريكية الي العراق علي أساس من فرضية أخري تتلخص في ان العراق هو كيان مصطنع أقامه البريطانيون من فتات الامبراطورية العثمانية، وان العراقيين يفتقدون حسا وطنيا يوحدهم، فهم لا ينقسمون الي كرد وعرب فحسب، بل وايضا الي شمال ووسط وجنوب، الي شيعة وسنة، والي قبائل وعشائر وحضر. وقد اعتقد الكثيرون في واشنطن ان الانقسام العراقي الداخلي سيجعل مهمة حكم العراق والتحكم فيه سهلة يسيرة، فالأكراد هم أصلا في الحضن الامريكي، وزعماء العشائر لن يصعب شراؤهم، وستؤدي المذابح الطائفية الي ان يلجأ السنة الي الامريكيين سراعا بينما سيري الشيعة في الجيش الامريكي المحتل مخلص القرن. ما وجده الامريكيون كان بالطبع شيئا مختلفا تماما. لقد تجلي الحس الوطني العراقي كما لم يتجل من قبل. فيما عدا الحالة الكردية (التي قد لا تطول علي أية حال)، فشلت كل توقعات الصراع الأهلي والانحياز الشعبي للغزاة.
خرج سنة وشيعة بغداد يوم الجمعة 18 نيسان (ابريل) في مظاهرة وحدة نادرة، وحتي في زيارة اربعين الإمام الحسين (رضي الله عنه) في كربلاء، حيث احتشد مئات الألوف من العراقيين المسلمين الشيعة، رفعت شعارات الوحدة كما لم يتوقع أحد من المستشارين الامريكيين. وفي سامراء وفي بعقوبة كان مشهد الوحدة واحدا. تحركت العشائر في كافة مدن الجنوب لحماية مقدرات البلاد والحفاظ علي الوحدة الدينية في النجف، وفي الموصل وتكريت كان للعشائر دور بارز في حماية المدينتين من اللصوص وقطاع الطرق. لا كركوك انفجرت بالصراع بين العرب والاتراك والكرد، ولا الموصل شهدت اياً من توقعات المجازر بين العرب والأقلية الكردية. وفي النهاية، وبعد ساعات قليلة فقط من التمظهر السريع والمحدود والمشكوك في صدقيته للترحيب بالامريكيين في هذا الحي او ذاك، بدأت التعبيرات الحقيقية للرفض والغضب في الظهور الي العلن. من مثقفي بغداد، سنة الاعظمية، شيعة الكاظمية والنجف وكربلاء، مسيحيي الموصل، الي رجال القبائل، خرج العراقيون ليقولوا لا للاحتلال وليرسلوا تحذيرات قاطعة للقوات الغازية! اخرجوا سريعا من بلدنا والا سنخرجكم.
وصل الامريكيون العراق وفي اعقابهم عدد من الزعماء العراقيين المصنوعين، منتفعون وسماسرة ولصوص، ظن مخططو الحرب في واشنطن انهم ان نجحوا في اسقاط النظام العراقي الحاكم فلن يصعب عليهم تتويج حكام جدد من حفنة الاتباع. خلال الايام الاخيرة سمع العالم وسمع العراقيون مسؤولين امريكيين، بمن فيهم الجنرال غارنر، يضعون مسافة بينهم وبين المصرفي العراقي السابق احمد الجلبي، يهددون رئيس مجلس مدينة بغداد المعين من قبل نفسه محمد محسن الزبيدي، ويديرون نصف ظهرهم لمشعان الجبوري في الموصل. ولكن هذه لم تكن الخطة الامريكية. فبعد ايام قليلة فقط من سقوط بغداد جلس بول وولفويتر امام لجنة خاصة للكونغرس الامريكي يكيل المديح للجلبي ويشيد بشعبيته المفترضة في الناصرية. كانت هيلوكبتر امريكية هي التي جاءت بالجلبي الي الناصرية من شمال العراق، وقد هبط المصرفي السابق من الطائرة الامريكية مرتديا قبعة قوات حرس تكساس، تحيط به حفنة من قواته المسلحة من خريجي معسكر المجر وعشرات القوات الامريكية الخاصة. كما عملت عصبة المحافظين الجدد في واشنطن علي التخطيط لهذه الحرب منذ مطلع التسعينات، كذلك عمل الجلبي، وكما روجت العصبة الامريكية لحرب سهلة وسريعة، كذلك روج الجلبي، وكما ادعت العصبة الامريكية في جهل فادح ان العراق سيكون لقمة سائغة يسهل اعادة تشكيلها، كذلك ادعي الجلبي، وكما توعدت العصبة الامريكية ان العراق مقدمة لتغيير شامل في المنطقة من ايران الي السعودية الي مصر، كذلك توعد الجلبي. العراقيون الذين جاءوا في اعقاب قوات المارينز الي بغداد، عاصمة العروبة والاسلام، كانوا جزءا لا يتجزأ من المشروع الامريكي.
بيد ان الامريكيين فوجئوا بهشاشة نفوذ حلفائهم وانعدام جذورهم في العراق، فوجئوا بأهالي الموصل يلفظون الجبوري وبعشيرته تتنكر له، وبجماهير الكوت وكربلاء وبغداد يسخرون من الجلبي و قواته المسلحة ، وبجماهير الناصرية تندد باجتماع الخيمة الامريكية التي نصبت في جوار مدينتهم. كنا نظنه زعيما شيعيا حقيقيا ، قال مسؤول امريكي في واشنطن بحسرة وهو ينعي حلم زعامة الجلبي. ما وجده الامريكيون ان الشعب العراقي يعرف قياداته الحقيقيين، من مناضلي الشيعة والسنة، الاسلاميين والقوميين والوطنيين، وان العراقيين لن يقبلوا قيادات مصنوعة في واشنطن القتها علي تراب بلادهم الطائرات الامريكية. وهكذا اخذت التصريحات الامريكية تتدافع في توجيه التهديدات لسورية وايران وتتهمهما بالتدخل في الشأن العراقي. ولكن ثمة خطر آخر في الأفق، خطر يبدو في محاولة الترويج لعدنان الباجه جي، الذي يطرح الآن باعتباره الشخصية القيادية ذات الماضي النظيف، المقبول عربيا، والذي سيعني وصوله الي الحكم في بغداد وضع نهاية للخطر الشيعي المتحالف مع ايران، وللخطر الاسلامي ككل. ولا يحتاج المرء لكثير من الذكاء ليدرك ان القيادة المصرية، التي استقبلت الباجه جي في الاسبوع الماضي، مضفية عليه شرعية عربية يصعب الحصول عليها من غير القاهرة، تخطيء ان حاولت دعم شخصية تعيش في المنفي منذ اربعين سنة، شخصية لا تدرك عمق المتغيرات التي عاشها ومر بها العراق وشعبه وقواه السياسية خلال العقود الماضية.
ليس هناك من فراغ ثقافي او مدني او سياسي في العراق. في العراق ولدت اول المدن في التاريخ الانساني كله، ولدت فكرة القانون والشرائع والعدالة، ولدت اول مؤسسة للدولة والحكم، وفي العراق عرفت النهضة الحضارية الاسلامية ذروة صعودها. الذين يتصورون ان المجتمع المدني لا يوجد الا عندما توجد جمعيات الدفاع عن الشذوذ الجنسي، عليهم ان يروا عمق التقاليد المسجدية، الروابط النقابية، العلاقات العائلية والعشائرية، وصلابة تقاليد التضامن المجتمعي، التي وجدت لمئات السنين قبل النظام الاستبدادي واستمرت حية نشطة رغم سيطرته وهي آخذة الآن في التجلي لتؤكد عمق جذور هذا الشعب وجماعاته. لقد بدأت قوي العراق السياسية عملها في كافة المدن العراقية وكأنها لم تختف يوما عن ساحة بلادها، فكيف يتوهم جنرالات الجيش الامريكي، العامل منهم والمتقاعد، ان العراق كان ساهراً في انتظار حملتهم الانقاذية؟
منذ الغزو المغولي شهدت بغداد جيشا وراء الآخر يدك اسوارها ويحاول ضمها الي جواهر تاجه، من العثمانيين، الي الصفويين، الي نادر شاه، الي مراد الرابع، الي العثمانيين من جديد، الي البريطانيين، مرة واخري.. من ادرك عمق بنيان مدينة السلام، اندمج في نسيجها الحيوي المعقد واصبح جزءا منها. الآخرون ذهبوا وانتهوا وبقيت بغداد.
وعاجلا او آجلا، سيذهب الامريكيون، وستبقي بغداد عاصمة للعروبة والاسلام.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
سياسية وإسلامية عراقية
الكاتب: د. بشير موسى نافع
المصدر: القدس العربي
التاريخ: 2003/05/01
تحول الخطاب الامريكي، بعد شهور طوال من محاولة تسويغ الحرب علي العراق بادعاء العمل علي نزع أسلحة الدمار الشامل الي خطاب التحرير، تحرير الشعب العراقي من الاستبداد والعنف والقهر الذي مثله نظام صدام حسين. وما ان نجحت القوات الامريكية في ازاحة النظام واحتلال العراق، من اربيل الي البصرة، حتي ولد من خطاب التحرير خطاب المجتمع المدني والديمقراطية والحكم الشفاف والنزيه. ما تقوله الادارة الامريكية الآن، وما يؤكده حاكم العراق الجديد جاي غارنر، ان القوات الامريكية لن تغادر العراق وان ادارة غارنر لن تسلم السلطة لحكومة عراقية حتي تقام في البلاد مؤسسات ديمقراطية ومدنية قادرة علي البقاء. السيد أحمد الجلبي، الناطق العراقي باسم المشروع الامريكي، لم يتوان هو الآخر عن التصريح بأن هدفه هو المساعدة علي اقامة مؤسسات المجتمع المدني في البلاد، وان لا طموحات سياسية لديه، داعيا في الوقت نفسه الي بناء علاقات عسكرية استراتيجية (بمعني قواعد عسكرية امريكية) بين العراق الجديد والولاــيات المتحدة.
ليس من الصعب ان نري خلف هذا الخطاب مشروعا امبرياليا امريكيا، وهذا هو بالتأكيد ما يراه معظم العراقيين وما يراه الشارع العربي، وما تراه الانظمة العربية الصديقة لواشنطن في عراق اليوم. بل ليس من الصعب رؤية المشروع الامبريالي في تصريحات لا أول لها ولا آخر للمؤدلجين الامريكيين الرئيسيين للحرب. ولكن هذا الخطاب هو ايضا، وأساسا، خطاب عنصري ويتسم بقدر كبير من الجهل بالعراق وشعبه. من يتابع تداعيات مشروع تحرير العراق، اقامة نظام ديمقراطي، وتأسيس مجتمع مدني، يهيأ له انه لم يتبق في جعبة المسؤولين الامريكيين الا القول بأنهم سيوجدون العراق من عدم. العراق نتاج خمسة آلاف من التاريخ والحضارة، يقدم في الخطاب السياسي الامريكي الرسمي وكأنه وطن قاحل بلا تاريخ ولا حضارة، ما كان له من خيار الا انتظار وولفوتيز ورامسفيلد وغارنر ليعيدوه الي التاريخ والحضارة والمجتمع الانساني. ولم يكن غريبا بالتالي ان تنتاب الادارة الامريكية، بعد اسبوع واحد فقط من احتلال العراق، حالة من الصدمة والمفاجأة والارتباك. العراق الذي يولد الآن من دمار الحرب والصراع ليس هو العراق الذي تصورته واشنطن، ولا هو العراق الذي خطط كاردينالات الامبريالية الامريكية السيطرة عليه.
العراق الذي رسمت ملامحه في ملفات الخطط الامريكية هو عراق متعلمن يفتقد أية جذور أو توجهات اسلامية. فقد اعتقد مستشارو وزارة الدفاع الامريكية، ممن جعلوا احتلال العراق وإعادة بنائه حجر الرحي في تصورهم لاعادة تشكيل الشرق الاوسط، اعتقدوا ان نظام حكم البعث العلماني قد تكفل خلال الثلاثين عاما الماضية بالقضاء علي البني الاسلامية العقدية والسياسية في العراق. تصور الامريكيون ان النظام العراقي السابق قد جعل العراق مهدا، وأرضا خصبة لاستقبال المشروع الامريكي لبناء الدولة والمجتمع العراقيين. عراق النسخة الامريكية هو عراق أجوف عاجز عن مقاومة النماذج الجاهزة للثقافة والاجتماع التي أعدت في دوائر المحافظين الامبرياليين في ادارة جورج بوش.
ما وجده الامريكيون أمامهم كان عراقا آخر. خلال الأيام القليلة التي تلت احتلال العراق وانهيار مؤسسات نظام الحكم، برزت المساجد والمؤسسات الاسلامية والقوي الدينية التقليدية وغير التقليدية باعتبارها مركز ثقل المجتمع العراقي. تحولت المساجد الي مراكز قيادة للأحياء، ونظم العلماء المسلمون من سنة وشيعة قوي العمل التطوعي، وفروا الحراسة للمستشفيات، عملوا علي جمع وإعادة ما سرق ونهب من المؤسسات العامة، قاموا بدفن الموتي، عززوا توجهات التعاضد والرعاية الاجتماعية، ووضعوا أطر الخطاب السياسي للشارع العراقي. خلال أيام قليلة من الاحتلال، كان مسجد أبي حنيفة النعمان في بغداد، مسجد الإمام الكاظم، مساجد الموصل الرئيسية، حوزة النجف العلمية، وعتبات كربلاء، تستلم قيادة المجتمع العراقي.
أرسلت القوات الامريكية الي العراق علي أساس من فرضية أخري تتلخص في ان العراق هو كيان مصطنع أقامه البريطانيون من فتات الامبراطورية العثمانية، وان العراقيين يفتقدون حسا وطنيا يوحدهم، فهم لا ينقسمون الي كرد وعرب فحسب، بل وايضا الي شمال ووسط وجنوب، الي شيعة وسنة، والي قبائل وعشائر وحضر. وقد اعتقد الكثيرون في واشنطن ان الانقسام العراقي الداخلي سيجعل مهمة حكم العراق والتحكم فيه سهلة يسيرة، فالأكراد هم أصلا في الحضن الامريكي، وزعماء العشائر لن يصعب شراؤهم، وستؤدي المذابح الطائفية الي ان يلجأ السنة الي الامريكيين سراعا بينما سيري الشيعة في الجيش الامريكي المحتل مخلص القرن. ما وجده الامريكيون كان بالطبع شيئا مختلفا تماما. لقد تجلي الحس الوطني العراقي كما لم يتجل من قبل. فيما عدا الحالة الكردية (التي قد لا تطول علي أية حال)، فشلت كل توقعات الصراع الأهلي والانحياز الشعبي للغزاة.
خرج سنة وشيعة بغداد يوم الجمعة 18 نيسان (ابريل) في مظاهرة وحدة نادرة، وحتي في زيارة اربعين الإمام الحسين (رضي الله عنه) في كربلاء، حيث احتشد مئات الألوف من العراقيين المسلمين الشيعة، رفعت شعارات الوحدة كما لم يتوقع أحد من المستشارين الامريكيين. وفي سامراء وفي بعقوبة كان مشهد الوحدة واحدا. تحركت العشائر في كافة مدن الجنوب لحماية مقدرات البلاد والحفاظ علي الوحدة الدينية في النجف، وفي الموصل وتكريت كان للعشائر دور بارز في حماية المدينتين من اللصوص وقطاع الطرق. لا كركوك انفجرت بالصراع بين العرب والاتراك والكرد، ولا الموصل شهدت اياً من توقعات المجازر بين العرب والأقلية الكردية. وفي النهاية، وبعد ساعات قليلة فقط من التمظهر السريع والمحدود والمشكوك في صدقيته للترحيب بالامريكيين في هذا الحي او ذاك، بدأت التعبيرات الحقيقية للرفض والغضب في الظهور الي العلن. من مثقفي بغداد، سنة الاعظمية، شيعة الكاظمية والنجف وكربلاء، مسيحيي الموصل، الي رجال القبائل، خرج العراقيون ليقولوا لا للاحتلال وليرسلوا تحذيرات قاطعة للقوات الغازية! اخرجوا سريعا من بلدنا والا سنخرجكم.
وصل الامريكيون العراق وفي اعقابهم عدد من الزعماء العراقيين المصنوعين، منتفعون وسماسرة ولصوص، ظن مخططو الحرب في واشنطن انهم ان نجحوا في اسقاط النظام العراقي الحاكم فلن يصعب عليهم تتويج حكام جدد من حفنة الاتباع. خلال الايام الاخيرة سمع العالم وسمع العراقيون مسؤولين امريكيين، بمن فيهم الجنرال غارنر، يضعون مسافة بينهم وبين المصرفي العراقي السابق احمد الجلبي، يهددون رئيس مجلس مدينة بغداد المعين من قبل نفسه محمد محسن الزبيدي، ويديرون نصف ظهرهم لمشعان الجبوري في الموصل. ولكن هذه لم تكن الخطة الامريكية. فبعد ايام قليلة فقط من سقوط بغداد جلس بول وولفويتر امام لجنة خاصة للكونغرس الامريكي يكيل المديح للجلبي ويشيد بشعبيته المفترضة في الناصرية. كانت هيلوكبتر امريكية هي التي جاءت بالجلبي الي الناصرية من شمال العراق، وقد هبط المصرفي السابق من الطائرة الامريكية مرتديا قبعة قوات حرس تكساس، تحيط به حفنة من قواته المسلحة من خريجي معسكر المجر وعشرات القوات الامريكية الخاصة. كما عملت عصبة المحافظين الجدد في واشنطن علي التخطيط لهذه الحرب منذ مطلع التسعينات، كذلك عمل الجلبي، وكما روجت العصبة الامريكية لحرب سهلة وسريعة، كذلك روج الجلبي، وكما ادعت العصبة الامريكية في جهل فادح ان العراق سيكون لقمة سائغة يسهل اعادة تشكيلها، كذلك ادعي الجلبي، وكما توعدت العصبة الامريكية ان العراق مقدمة لتغيير شامل في المنطقة من ايران الي السعودية الي مصر، كذلك توعد الجلبي. العراقيون الذين جاءوا في اعقاب قوات المارينز الي بغداد، عاصمة العروبة والاسلام، كانوا جزءا لا يتجزأ من المشروع الامريكي.
بيد ان الامريكيين فوجئوا بهشاشة نفوذ حلفائهم وانعدام جذورهم في العراق، فوجئوا بأهالي الموصل يلفظون الجبوري وبعشيرته تتنكر له، وبجماهير الكوت وكربلاء وبغداد يسخرون من الجلبي و قواته المسلحة ، وبجماهير الناصرية تندد باجتماع الخيمة الامريكية التي نصبت في جوار مدينتهم. كنا نظنه زعيما شيعيا حقيقيا ، قال مسؤول امريكي في واشنطن بحسرة وهو ينعي حلم زعامة الجلبي. ما وجده الامريكيون ان الشعب العراقي يعرف قياداته الحقيقيين، من مناضلي الشيعة والسنة، الاسلاميين والقوميين والوطنيين، وان العراقيين لن يقبلوا قيادات مصنوعة في واشنطن القتها علي تراب بلادهم الطائرات الامريكية. وهكذا اخذت التصريحات الامريكية تتدافع في توجيه التهديدات لسورية وايران وتتهمهما بالتدخل في الشأن العراقي. ولكن ثمة خطر آخر في الأفق، خطر يبدو في محاولة الترويج لعدنان الباجه جي، الذي يطرح الآن باعتباره الشخصية القيادية ذات الماضي النظيف، المقبول عربيا، والذي سيعني وصوله الي الحكم في بغداد وضع نهاية للخطر الشيعي المتحالف مع ايران، وللخطر الاسلامي ككل. ولا يحتاج المرء لكثير من الذكاء ليدرك ان القيادة المصرية، التي استقبلت الباجه جي في الاسبوع الماضي، مضفية عليه شرعية عربية يصعب الحصول عليها من غير القاهرة، تخطيء ان حاولت دعم شخصية تعيش في المنفي منذ اربعين سنة، شخصية لا تدرك عمق المتغيرات التي عاشها ومر بها العراق وشعبه وقواه السياسية خلال العقود الماضية.
ليس هناك من فراغ ثقافي او مدني او سياسي في العراق. في العراق ولدت اول المدن في التاريخ الانساني كله، ولدت فكرة القانون والشرائع والعدالة، ولدت اول مؤسسة للدولة والحكم، وفي العراق عرفت النهضة الحضارية الاسلامية ذروة صعودها. الذين يتصورون ان المجتمع المدني لا يوجد الا عندما توجد جمعيات الدفاع عن الشذوذ الجنسي، عليهم ان يروا عمق التقاليد المسجدية، الروابط النقابية، العلاقات العائلية والعشائرية، وصلابة تقاليد التضامن المجتمعي، التي وجدت لمئات السنين قبل النظام الاستبدادي واستمرت حية نشطة رغم سيطرته وهي آخذة الآن في التجلي لتؤكد عمق جذور هذا الشعب وجماعاته. لقد بدأت قوي العراق السياسية عملها في كافة المدن العراقية وكأنها لم تختف يوما عن ساحة بلادها، فكيف يتوهم جنرالات الجيش الامريكي، العامل منهم والمتقاعد، ان العراق كان ساهراً في انتظار حملتهم الانقاذية؟
منذ الغزو المغولي شهدت بغداد جيشا وراء الآخر يدك اسوارها ويحاول ضمها الي جواهر تاجه، من العثمانيين، الي الصفويين، الي نادر شاه، الي مراد الرابع، الي العثمانيين من جديد، الي البريطانيين، مرة واخري.. من ادرك عمق بنيان مدينة السلام، اندمج في نسيجها الحيوي المعقد واصبح جزءا منها. الآخرون ذهبوا وانتهوا وبقيت بغداد.
وعاجلا او آجلا، سيذهب الامريكيون، وستبقي بغداد عاصمة للعروبة والاسلام.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث