النظام من الإيمان
تمهيد:
قبل الدخول في التعرّض لما هو المهمّ من الحفاظ على النظام العامّ، لا بأس بالتعرّض لبعض الأمور الضروريّة، من تعريف النظام العامّ وأهمّيته، سيّما من الناحية الإسلاميّة، حتّى يمكن لنا فصل البحث ووضع النقاط في مواضعها الصحيحة.
ـ ما هو النظام العام؟
النظام هو العادة أو الطريقة، وعندما نضيف إلى هذه الكلمة مفردة أخرى فنضيف (العامّ)، فإنّ المراد هو الطريقة المتّبعة في مجتمع ما أو بلد ما بهدف تنظيم أمور هذه الدولة وهذا المجتمع.
ولو أضفنا إلى ذلك مفردة أخرى فقلنا (حفظ النظام العامّ) فإنّ المراد من ذلك هو: إدارة شؤون المجتمع بنحو تنتظم علاقاته الداخليّة بنحو لا يقع في الفوضى، نتيجة عدم الالتزام بما تلزمنا به هذه العلاقات من أحكام.
9
وإذا أضفنا كلمة (تطبيق النظام العامّ) فإنّ المراد الالتزام العمليّ في حياتنا اليوميّة بهذا النظام المطلوب، بنحو لا نقع في الفوضى بسبب عدم تطبيقه، من تعدٍّ على حقوق الآخرين، أو هدر مصالحهم، أو إيصال الأذى إليهم في أيّ جانب من الجوانب.
إذاً، النظام العامّ هو عبارة عن القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامّة للمجتمع، فتشمل الأمور الاجتماعيّة، والاقتصاديّة وغيرها ممّا يتعلّق بحياة الناس الماديّة والمعنويّة.
ـ أهميـّة حفظ النظام العامّ
إنّ الحفاظ على النظام العامّ من الأمور التي لا ينبغي أن يختلف في أهمّيته اثنان، لكن لا بأس بالإشارة إلى ذلك، ليكون دافعاً وحافزاً للعمل به، والالتزام بتطبيق قوانيه، ومنبّهاً لتحصيل نيّة القربى عند امتثال مفرداته، لما في ذلك من النفع في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
1ـ العقل والعقلاء
إنّ مسألة حفظ النظام هي من الأمور العقليّة التي يدركها
10
الإنسان بفطرته، لأنّه يرى فيها حفظ مصالحه التي تتوقّف عليها حياته، ويحتاج إليها في معاشه.
كما أنّ العقلاء متّفقون على أنّ حفظ النظام ضروريّ، لنفس السبب المتقدّم، من حفظ مصالح الناس، فلا نجد مجتمعاً من الناس مهما كان صغيراً، إلا ويرى ضرورة ذلك، بل ويوجهّون لومهم لكلّ من يخالف النظام العامّ، ويسبّب الفوضى في هذه المجتمعات.
ويشهد على ذلك وجدانُ كلِّ إنسان منّا، فإنّه يشعر بالانزعاج وعدم الرضا من مظاهر الإخلال بالنظام العامّ، لا سيما عندما يرتبط ذلك بأموره الشخصيّة، وبالأخص عندما تصدر من إنسان مسلم، يعيش معه ويشاركه في العقيدة والإيمان، وهو المتوقّع منه أن يكون القدوة في تطبيق تعاليم الإسلام التي ليست هي إلا نظاماً عامّاً لصلاح البشريّة جمعاء.
2ـ التعاليم الدينيـّة وحفظ النظام
أـ الهدف من بعثة الأنبياء
لقد اهتمّ الدين الإسلاميّ بكلّ ناحية من نواحي الحياة
11
الإنسانية بالقدر اللازم من الاهتمام، وعلى هذا الأساس بذل بالنسبة إلى صيانة حقوق الإنسان وحفظ النظام العامّ الأهميّة البالغة لهذه الناحية من حياة الإنسان، فشرع لها القوانين الحقوقية الثابتة، وحدّد علاقة الإنسان وما يجب له، وما يجب عليه تجاه الآخرين، ونظّم صلة الفرد بالمجتمع، وحدود المسؤوليّات الفرديّة والاجتماعيّة، إلى غير ذلك من المسائل المتعلّقة بهذا المجال من مجالات الحياة.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ 1 فالغرض من خلق الإنسان هو إيصاله عن اختيار إلى الكمال المعنويّ، والفوز برضى الله عزّ وجلّ والقرب منه، وذلك لا يتحقّق إلا بتنمية الروح الإنسانيّة المودعة فيه وفطرته السليمة التي خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، فأرسل الله سبحانه رسله بالبيّنات، وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا الغرض، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم: بتعاليم أخلاقيّة سامية، وعلّم الكتاب والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح - إلى حدّ بعيد - في هذا المجال، فكان في نفس كلّ
12
إنسان مسلم متأدّب بآدابه، وازع داخليّ يمنعه من الاقتراب من أموال الآخرين، والنيل من أعراضهم، والتعدّي على حقوقهم.
من أدوار الإمام
كذلك الإمامة فإنّ الله عزّ وجلّ جعل للناس أئمّة من بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليحفظ بذلك نظامهم وحياتهم العامّة، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله: "فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك . . . والإمامة نظاماً للأمّة والطاعة تعظيماً للإمامة"2.
وفي أصول الكافي عن الرضا عليه السلام في حديث طويل: "إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين"3.
ب ـ سنّة الاستخلاف
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ 4.
13
أي طلب إليكم أن تعمروها. وبحسب تعبير العلامة الطباطبائيّ في تفسير الآية، أنّه تعالى هو الذي أوجد على الموادّ الأرضيّة هذا الموجود المسمّى بالإنسان، ثمّ كمّله بالتربية شيئاً فشيئاً، وفطره على أن يتصرّف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، أي فطره على أن يسعى في طلب إعمارها، فعمارة الأرض هي من فطرة الله في خلقه.
وعمارة الأرض تقتضي حمايتها، وحظر الإفساد فيها بتخريب عامرها، وتلويث طاهرها، وإهلاك أحيائها، وإتلاف طيّباتها.
كما أنّ الإنسان أنيط به خلافة الأرض: ﴿...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...﴾ 5.
ومعنى الاستخلاف هو أنَّ الإنسان وصيٌّ على هذه البيئة (الأرض)، ومستخلَف على إدارتها وإعمارها وأمينٌ عليها، ومقتضى هذه الأمانة أن يتصرّف فيما استخلف فيه تصرّف الأمين عليها من حسن استغلالها وصيانتها والمحافظة عليها.
14
والدين من خلال اهتمامه بالإنسان، باعتباره محور هذا الوجود، وكلّ ما فيه مسخّر لأجله، كان لا بدّ من أن ينعكس هذا الاهتمام على كلّ ما له علاقة به، ومن ضمنها الطبيعة التي هي المحور الآخر لعلاقة الإنسان بعد علاقته بأخيه الإنسان، وكلّ واحد من المحورين له تأثير في الآخر، كما ربما يظهر من الآية الكريمة: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ....﴾ 6.
3ـ الإخلال بالنظام العامّ وتشويه صورة الإسلام
يترصّد الغرب المسلمين، فهو لا يدع فرصةً ينفذ من خلالها لتشويه صورة الإسلام إلا واستغلّها، ومن الأمور التي يثيرها الغرب دائماً ويعكس عن الإسلام صورة غير نقيّة هي، طريقة عيش المسلمين، فعندما يرى الفوضى سائدة في مجتمعاتهم يستغلّ ذلك ليتّهم المسلمين بأنّهم فوضويّون، بل ولأجل أن يتّهم الإسلام بالتقصير في هذا المجال، معتبراً ذلك سبباً للنفور من هذا الدين القيّم.
بينما نجد في المقابل الحثّ الأكيد للدين بشكل عامّ، وللأئمّة من أهل البيت عليهم السلام بشكل خاصّ لأتباعهم على
15
أن يتجنّبوا كلّ ما يكون سبباً لتشنيع الأعداء عليهم، وبابُ التشنيع هذا يفتحه أتباع الأئمّة عليهم السلام من خلال سلوكهم، ما يكون موجباً لنفور الناس منهم، ففي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "عليكم بتقوى الله والورع والاجتهاد وأداء الأمانة وصدق الحديث، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، صِلوا في عشائركم، وصِلوا أرحامكم، وعودوا مرضاكم، واحضروا جنائزكم، كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبّبونا إلى الناس، ولا تبغّضونا، جرّوا إلينا كلَّ مودة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح، وما قيل فينا من خير فنحن أهله، وما قيل فينا من شرّ فما نحن كذلك، والحمد لله ربّ العالمين"7.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتّى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمّد فلقد أدّب أصحابه"8.
4ـ حرمة التصرف في مال الغير (الغصب)
يقول الإمام الخامنائيّ في جواب له عن استفتاء حول ماليّة المرافق والمؤسّسات العامّة التي تملكها الدولة:
16
(أموال الدولة ولو كانت غير إسلاميّة تعتبر شرعاً ملكاً للدولة، ويتعامل معها معاملة الملك المعلوم مالكه، ويتوقّف جواز التصرّف فيها على إذن المسؤول الذي بيده أمر التصرّف في هذه الأموال)9.
ويقول أيضاً في جواب عن سؤال آخر يرتبط بنفس الموضوع:
(لا فرق في وجوب مراعاة احترام مال الغير، وفي حرمة التصرّف فيه بغير إذنه، بين أملاك الأشخاص وبين أموال الدولة، مسلمة كانت أو غير مسلمة، ولا بين أن يكون ذلك في بلاد الكفر أو في البلاد الإسلاميّة، ولا بين كون المالك مسلماً أو كافراً، وبشكل عامّ تكون الاستفادة والتصرّف غير الجائز شرعاً في أموال وأملاك الغير غصباً وحراماً وموجباً للضمان)10.
ـ كيف نحافظ على النظام العامّ؟
إنّ المحافظة على النظام العامّ تتمّ من خلال التزام كلّ فرد منّا بقرارة نفسه، بعدم فعل كلّ ما يكون موجباً للفوضى أو التعدّي على حقوق الآخرين.
17
ونشير هنا إلى بعض المفردات التي يقع فيها الكثير من الناس، وهي نماذج بارزة للإخلال بالنظام العامّ، وقد شاعت حتّى صارت عادةً لدى البعض منهم:
1ـ الكهرباء
يجب على الإنسان نبذ الإسراف وسلوك الطريق الوسطى، فلا إفراط ولا تفريط، وهو مبدأ عامّ لا يختصّ في جانب معيّن، فقد نهى الإسلام عن الإسراف لما فيه من أضرار كثيرة، وهو كلّ سلوك يتعدّى الحدود المعقولة والمقبولة، ﴿...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ 11.
﴿... وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ 12.
فهذا النصّ القرآنيّ عامّ يشمل كلّ سلوك إنسانيّ.
عليك التطبيق:
ـ ضوء لا تحتاجه إسراف.
ـ جهاز لا تستخدمه إسراف.
18
2ـ الماء
لا شكّ أنّ قلّة الماء تؤثّر سلباً على نموّ النبات، وبالتالي على حياة الحيوان، فالواجب يقتضي الحفاظ على هذا الماء، وعدم الإسراف في استخدامه، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أدنى الإسراف هراقة فضل الإناء"13.
فالنهي عن الإسراف يشمل استخدام هذه الثروة المائيّة، التي بدأ العلماء يتحدّثون عن قلّتها وعدم كفايتها لسدّ حاجات البشر، نتيجة الإسراف وسوء الاستخدام.
وعدم الإسراف في الماء مطلوب حتّى في العبادات، كالوضوء والغسل، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خيار أمّتي يتوضّؤون بالماء اليسير"14.
3ـ الطرقات ونظام السير
إنّ حسن استخدام الطرق وإزالة الأذى والضرر عنها ممّا أكّد عليه الإسلام، ورغّب فيه انطلاقاً، من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
19
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطته الأذى عن الطريق..."15.
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مرّ عيسى بن مريم بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العامّ وهو ليس يعذّب! فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روح الله قد أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه"16.
وفي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ على كلّ مسلم في كلّ يوم صدقة"17.
قيل: من يطيق ذلك؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إماطتك الأذى عن الطريق صدقة".
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن"18.
20
ويدخل ضمن الأذى الذي دعا الإسلام إلى رفعه وإماطته عن الطريق، كلّ ما يضرّ بمستخدمي هذه الطرق، نذكر منها على سبيل المثال:
1ـ إلقاء الزجاجات الفارغة، والأوراق، والنفايات، وبقايا الطعام.
2ـ الإخلال المضرّ بقوانين السير، بحيث يمنع من تعدّي السيارات على الأماكن المعدّة للمشاة (الأرصفة).
3ـ عدم السير على الأرصفة بنحو يعرّض الإنسان للخطر.
4ـ اللعب في غير الأماكن المخصّصة لذلك، كالطرق والأرصفة.
5ـ الجلوس على الأرصفة وفي أماكن مرور الناس كمداخل العمارات.
4ـ البيئة
وقد أشار القرآن الكريم إلى عمق ارتباط الإنسان ببيئته في الكثير من آياته الشريفة، ومن هذه الآيات:
21
﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ *وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ 19.
﴿الْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ 20.
﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ 21.
﴿... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ 22.
ـ البيئة خـُلقت بدقّة بالغة ومتوازنة
خلق اللَّه سبحانه وتعالى البيئة وأحكم صنعها بدقّة بالغة، من حيث الكمّ والنوع والخصائص والوظيفة.
قال تعالى: ﴿... صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...﴾ 23.
22
فكلّ عنصر من عناصر البيئة بهذا القدر وبهذه الصفات، كما حدّدها تعالى يكفل لهذه العناصر أن تؤدّي دورها المحدّد والمرسوم لها من قبل الخالق القدير، في المشاركة البنّاءة في الحياة في توافقيّة وانسجاميّة غاية في الدقّة والتوازن: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ 24.
﴿... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ 25.
هذا التقدير البالغ الدقّة، الذي هو من صنع حكيمٍ خبير هو الذي يعطي لكلّ عنصر أو مكوّن من مكوّنات البيئة طبيعته الكمية والنوعية، ووظيفته وعلاقته بالمكوّنات الأخرى.
فإذا كانت الأرض قد خلقت لخدمة هذا الإنسان فكيف يسعى الإنسان لنشر الفساد فيها، لقد نهى الإسلام عن الفساد والإفساد: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا..﴾ 26.
فكلّ شيء بما فيه الأرض بشؤونها قائم على الصلاح
23
ولكن الإنسان هو الذي يفسد، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ 27.
ورد أنّها نزلت في الأخنس بن شريق الذي أقبل على النبيّ صلى الله عليه وأله وسلم وأعلن إسلامه، ثمّ خرج فمرّ بزرع فأحرقه، وحُمُر فعقرها، فذكر تعالى ما فعله الأخنس بأنّه إفساد ومخالف للسلوك الإسلاميّ القويم.
والتصرّفات المذمومة التي تعتبر من مصاديق الإخلال بالبيئة عديدة، قد ابتلي بها بعض المجتمعات ينبغي أن نحذر من الوقوع فيها منها:
1ـ قلع الأشجار، والأغصان دون غرض مفيد ومهمّ.
2ـ إيجاد أسباب التلّوث بشتى أنواعه.
الضوضاء
من أنواع التلوّث البيئيّ الذي يشكو منه الكثيرون، التلوّث الضوضائيّ أو السمعيّ، ويراد به الضجيج والأصوات العالية التي تؤذي السمع وتقلق الراحة وتتلف الأعصاب،
24
وخصوصاً المرضى والأطفال ومن عملهم يحتاج إلى فكر وسكينة وهدوء.
والمحرّك لهذه الأمور كلّها هو الإنسان، فهو المسؤول عمّا يعانيه هو نفسه، والسبب في كلّ هذا السلوك غير السوي: هو الغفلة عن نتائج تصرّفاتنا تجاه الآخرين، والاستهتار بمشاعرهم وحريّاتهم، والانغماس في محبّة الذات وما يرضيها، لذا تجد في الأحاديث والروايات ما يحثّ الفرد المسلم على الإحساس بالآخرين حتّى يتخلّى عن النوازع الذاتيّة والعوامل الفرديّة: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها"28.
فهذه الأطر العامّة تعطي الجواب الجلّي لأيّ تساؤل عن الموقف الشرعيّ، والرواية الإسلاميّة، في مجال ما يمكن أن تسميه بالتلوّث الضوضائيّ، ولكن ماذا عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الخاصّة الواردة في هذا المجال.
25
الموقف القرآنيّ
في البداية نقف عند قوله تعالى: ﴿... وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ 29.
فنجد ذلك الأسلوب الذي يركّز على إبعاد الإنسان نفسيّاً عن رفع صوته، بتجريد علوّ الصوت عن كلّ قيمة جماليّة أو عقلانيّة، ويا له من تشبيه، فصوت الحمير أنكر الأصوات لمبالغتها في رفعه، ولذا أمر تعالى بغضّ الصوت، أي النقص والقصر فيه، وليس القبح من جهة ارتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً، قالوا إنّ هذا الحيوان (الحمار) يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داعٍ، ومن دون أيّ حاجة أو مقدّمة، ويطلقه في محلّه ووقته وفي غيره.
وما يستهدفه القرآن الكريم هو تربية الذوق الإنسانيّ، على أن يمارس الإنسان وظائف أعضائه بحكمة وهدوء، دون أن يسيئ إلى نفسه وإلى الآخرين.
وما قدّمناه من شجب الإسلام للأصوات العالية والجلبة
26
والضجيج، هل يقتصر فيه على مضمون دون مضمون؟ أم أنّ الأمر مرتبط بطبيعة الصوت أيّاً كان المحتوى؟
هناك أمور ورد الشرع برفع الصوت فيها من شأنها ألا تحدث ضجيجاً، إذا روعيت فيها تعاليم الشرع وآدابه كالأذان والتلبية في الحجّ، ومن الأمور التي يرجح رفع الصوت فيها صيحات التكبير في الحرب، التي لها تأثيرها في تقوية قلوب الجنود المؤمنين، وبثّ الرعب في قلوب أعدائهم.
أمّا أن تطلق الأصوات والمكبّرات في أيّ وقت كان، وأن ترفع إلى أبعد الحدود، بحجّة تضمنها القرآن الكريم، أو غير ذلك ممّا هو راجح في نفسه، فهذا خاضع للقاعدة العامّة القاضية بضرورة عدم الإساءة إلى الآخرين.
ومن هنا أفتى بعض الفقهاء بحرمة استعمال الجهاز الصوتيّ بشكل مزعج، إذا كان في ذلك إيذاء للناس، وإن تضمّن قراءة القرآن الكريم.
ختام
بعد هذا العرض الوجيز لأهميّة النظام العام في النظرة الإسلاميّة والعقلية، وبعد عرض أهمّ مفردات هذا النظام،
27
من الحفاظ على الكهرباء والماء والبيئة والطرقات ونظام السير، نجد أن الإسلام يدعو لتطبيق أنظمته وتعاليمه ليكون المسلمون هم السبّاقين في نيل شرف صلاح المجتمع، وفي حيازة قصب السبق في الرقيّ الإنسانيّ، كما كان الإسلام هو السبّاق في وضع الأنظمة والقوانين والتعاليم السامية.
يداً بيد نحو مجتمع أمثل.
والحمد لله ربّ العالمين.
28
هوامش
1- الحديد: 25
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج6، ص111
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج1، ص200
4- هود: 61
5- البقرة: 30
6- الروم- 41
7- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج75، ص349
8- موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام الحاج حسين الشاكري ج9، ص200
9- أجوبة الاستفتاءات السيد علي الخامنئي - ج2، ص325
10- م. ن. 2 ص325
11- الأعراف: 31
12- الإسراء: 26-27
13- ميزان الحكمة، ج3، ص6921
14- الشيخ حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج1، ص348
15- ميزان الحكمة، ج1، ص199
16- الكافي - الشيخ الكليني - ج6، ص3
17- مستدرك الوسائل، ج2، ص402، باب16، الحديث السادس
18- وسائل الشيعة، ج29، ص241
19- إبراهيم: 32-33-34
20- الرحمن: 10
21- الذاريات: 48
22- هود: 61
23- النمل: 88
24- القمر: 49
25- الفرقان: 2
26- الأعراف: 56-85
27- البقرة: 205
28- نهج البلاغة، ج3، وصية31، من وصية الإمام علي لإبنه الحسن عليهما السلام
29- لقمان: 19
تمهيد:
قبل الدخول في التعرّض لما هو المهمّ من الحفاظ على النظام العامّ، لا بأس بالتعرّض لبعض الأمور الضروريّة، من تعريف النظام العامّ وأهمّيته، سيّما من الناحية الإسلاميّة، حتّى يمكن لنا فصل البحث ووضع النقاط في مواضعها الصحيحة.
ـ ما هو النظام العام؟
النظام هو العادة أو الطريقة، وعندما نضيف إلى هذه الكلمة مفردة أخرى فنضيف (العامّ)، فإنّ المراد هو الطريقة المتّبعة في مجتمع ما أو بلد ما بهدف تنظيم أمور هذه الدولة وهذا المجتمع.
ولو أضفنا إلى ذلك مفردة أخرى فقلنا (حفظ النظام العامّ) فإنّ المراد من ذلك هو: إدارة شؤون المجتمع بنحو تنتظم علاقاته الداخليّة بنحو لا يقع في الفوضى، نتيجة عدم الالتزام بما تلزمنا به هذه العلاقات من أحكام.
9
وإذا أضفنا كلمة (تطبيق النظام العامّ) فإنّ المراد الالتزام العمليّ في حياتنا اليوميّة بهذا النظام المطلوب، بنحو لا نقع في الفوضى بسبب عدم تطبيقه، من تعدٍّ على حقوق الآخرين، أو هدر مصالحهم، أو إيصال الأذى إليهم في أيّ جانب من الجوانب.
إذاً، النظام العامّ هو عبارة عن القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامّة للمجتمع، فتشمل الأمور الاجتماعيّة، والاقتصاديّة وغيرها ممّا يتعلّق بحياة الناس الماديّة والمعنويّة.
ـ أهميـّة حفظ النظام العامّ
إنّ الحفاظ على النظام العامّ من الأمور التي لا ينبغي أن يختلف في أهمّيته اثنان، لكن لا بأس بالإشارة إلى ذلك، ليكون دافعاً وحافزاً للعمل به، والالتزام بتطبيق قوانيه، ومنبّهاً لتحصيل نيّة القربى عند امتثال مفرداته، لما في ذلك من النفع في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
1ـ العقل والعقلاء
إنّ مسألة حفظ النظام هي من الأمور العقليّة التي يدركها
10
الإنسان بفطرته، لأنّه يرى فيها حفظ مصالحه التي تتوقّف عليها حياته، ويحتاج إليها في معاشه.
كما أنّ العقلاء متّفقون على أنّ حفظ النظام ضروريّ، لنفس السبب المتقدّم، من حفظ مصالح الناس، فلا نجد مجتمعاً من الناس مهما كان صغيراً، إلا ويرى ضرورة ذلك، بل ويوجهّون لومهم لكلّ من يخالف النظام العامّ، ويسبّب الفوضى في هذه المجتمعات.
ويشهد على ذلك وجدانُ كلِّ إنسان منّا، فإنّه يشعر بالانزعاج وعدم الرضا من مظاهر الإخلال بالنظام العامّ، لا سيما عندما يرتبط ذلك بأموره الشخصيّة، وبالأخص عندما تصدر من إنسان مسلم، يعيش معه ويشاركه في العقيدة والإيمان، وهو المتوقّع منه أن يكون القدوة في تطبيق تعاليم الإسلام التي ليست هي إلا نظاماً عامّاً لصلاح البشريّة جمعاء.
2ـ التعاليم الدينيـّة وحفظ النظام
أـ الهدف من بعثة الأنبياء
لقد اهتمّ الدين الإسلاميّ بكلّ ناحية من نواحي الحياة
11
الإنسانية بالقدر اللازم من الاهتمام، وعلى هذا الأساس بذل بالنسبة إلى صيانة حقوق الإنسان وحفظ النظام العامّ الأهميّة البالغة لهذه الناحية من حياة الإنسان، فشرع لها القوانين الحقوقية الثابتة، وحدّد علاقة الإنسان وما يجب له، وما يجب عليه تجاه الآخرين، ونظّم صلة الفرد بالمجتمع، وحدود المسؤوليّات الفرديّة والاجتماعيّة، إلى غير ذلك من المسائل المتعلّقة بهذا المجال من مجالات الحياة.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ 1 فالغرض من خلق الإنسان هو إيصاله عن اختيار إلى الكمال المعنويّ، والفوز برضى الله عزّ وجلّ والقرب منه، وذلك لا يتحقّق إلا بتنمية الروح الإنسانيّة المودعة فيه وفطرته السليمة التي خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، فأرسل الله سبحانه رسله بالبيّنات، وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا الغرض، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم: بتعاليم أخلاقيّة سامية، وعلّم الكتاب والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح - إلى حدّ بعيد - في هذا المجال، فكان في نفس كلّ
12
إنسان مسلم متأدّب بآدابه، وازع داخليّ يمنعه من الاقتراب من أموال الآخرين، والنيل من أعراضهم، والتعدّي على حقوقهم.
من أدوار الإمام
كذلك الإمامة فإنّ الله عزّ وجلّ جعل للناس أئمّة من بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليحفظ بذلك نظامهم وحياتهم العامّة، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله: "فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك . . . والإمامة نظاماً للأمّة والطاعة تعظيماً للإمامة"2.
وفي أصول الكافي عن الرضا عليه السلام في حديث طويل: "إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين"3.
ب ـ سنّة الاستخلاف
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ 4.
13
أي طلب إليكم أن تعمروها. وبحسب تعبير العلامة الطباطبائيّ في تفسير الآية، أنّه تعالى هو الذي أوجد على الموادّ الأرضيّة هذا الموجود المسمّى بالإنسان، ثمّ كمّله بالتربية شيئاً فشيئاً، وفطره على أن يتصرّف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، أي فطره على أن يسعى في طلب إعمارها، فعمارة الأرض هي من فطرة الله في خلقه.
وعمارة الأرض تقتضي حمايتها، وحظر الإفساد فيها بتخريب عامرها، وتلويث طاهرها، وإهلاك أحيائها، وإتلاف طيّباتها.
كما أنّ الإنسان أنيط به خلافة الأرض: ﴿...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...﴾ 5.
ومعنى الاستخلاف هو أنَّ الإنسان وصيٌّ على هذه البيئة (الأرض)، ومستخلَف على إدارتها وإعمارها وأمينٌ عليها، ومقتضى هذه الأمانة أن يتصرّف فيما استخلف فيه تصرّف الأمين عليها من حسن استغلالها وصيانتها والمحافظة عليها.
14
والدين من خلال اهتمامه بالإنسان، باعتباره محور هذا الوجود، وكلّ ما فيه مسخّر لأجله، كان لا بدّ من أن ينعكس هذا الاهتمام على كلّ ما له علاقة به، ومن ضمنها الطبيعة التي هي المحور الآخر لعلاقة الإنسان بعد علاقته بأخيه الإنسان، وكلّ واحد من المحورين له تأثير في الآخر، كما ربما يظهر من الآية الكريمة: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ....﴾ 6.
3ـ الإخلال بالنظام العامّ وتشويه صورة الإسلام
يترصّد الغرب المسلمين، فهو لا يدع فرصةً ينفذ من خلالها لتشويه صورة الإسلام إلا واستغلّها، ومن الأمور التي يثيرها الغرب دائماً ويعكس عن الإسلام صورة غير نقيّة هي، طريقة عيش المسلمين، فعندما يرى الفوضى سائدة في مجتمعاتهم يستغلّ ذلك ليتّهم المسلمين بأنّهم فوضويّون، بل ولأجل أن يتّهم الإسلام بالتقصير في هذا المجال، معتبراً ذلك سبباً للنفور من هذا الدين القيّم.
بينما نجد في المقابل الحثّ الأكيد للدين بشكل عامّ، وللأئمّة من أهل البيت عليهم السلام بشكل خاصّ لأتباعهم على
15
أن يتجنّبوا كلّ ما يكون سبباً لتشنيع الأعداء عليهم، وبابُ التشنيع هذا يفتحه أتباع الأئمّة عليهم السلام من خلال سلوكهم، ما يكون موجباً لنفور الناس منهم، ففي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "عليكم بتقوى الله والورع والاجتهاد وأداء الأمانة وصدق الحديث، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، صِلوا في عشائركم، وصِلوا أرحامكم، وعودوا مرضاكم، واحضروا جنائزكم، كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، حبّبونا إلى الناس، ولا تبغّضونا، جرّوا إلينا كلَّ مودة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح، وما قيل فينا من خير فنحن أهله، وما قيل فينا من شرّ فما نحن كذلك، والحمد لله ربّ العالمين"7.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتّى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمّد فلقد أدّب أصحابه"8.
4ـ حرمة التصرف في مال الغير (الغصب)
يقول الإمام الخامنائيّ في جواب له عن استفتاء حول ماليّة المرافق والمؤسّسات العامّة التي تملكها الدولة:
16
(أموال الدولة ولو كانت غير إسلاميّة تعتبر شرعاً ملكاً للدولة، ويتعامل معها معاملة الملك المعلوم مالكه، ويتوقّف جواز التصرّف فيها على إذن المسؤول الذي بيده أمر التصرّف في هذه الأموال)9.
ويقول أيضاً في جواب عن سؤال آخر يرتبط بنفس الموضوع:
(لا فرق في وجوب مراعاة احترام مال الغير، وفي حرمة التصرّف فيه بغير إذنه، بين أملاك الأشخاص وبين أموال الدولة، مسلمة كانت أو غير مسلمة، ولا بين أن يكون ذلك في بلاد الكفر أو في البلاد الإسلاميّة، ولا بين كون المالك مسلماً أو كافراً، وبشكل عامّ تكون الاستفادة والتصرّف غير الجائز شرعاً في أموال وأملاك الغير غصباً وحراماً وموجباً للضمان)10.
ـ كيف نحافظ على النظام العامّ؟
إنّ المحافظة على النظام العامّ تتمّ من خلال التزام كلّ فرد منّا بقرارة نفسه، بعدم فعل كلّ ما يكون موجباً للفوضى أو التعدّي على حقوق الآخرين.
17
ونشير هنا إلى بعض المفردات التي يقع فيها الكثير من الناس، وهي نماذج بارزة للإخلال بالنظام العامّ، وقد شاعت حتّى صارت عادةً لدى البعض منهم:
1ـ الكهرباء
يجب على الإنسان نبذ الإسراف وسلوك الطريق الوسطى، فلا إفراط ولا تفريط، وهو مبدأ عامّ لا يختصّ في جانب معيّن، فقد نهى الإسلام عن الإسراف لما فيه من أضرار كثيرة، وهو كلّ سلوك يتعدّى الحدود المعقولة والمقبولة، ﴿...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ 11.
﴿... وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ 12.
فهذا النصّ القرآنيّ عامّ يشمل كلّ سلوك إنسانيّ.
عليك التطبيق:
ـ ضوء لا تحتاجه إسراف.
ـ جهاز لا تستخدمه إسراف.
18
2ـ الماء
لا شكّ أنّ قلّة الماء تؤثّر سلباً على نموّ النبات، وبالتالي على حياة الحيوان، فالواجب يقتضي الحفاظ على هذا الماء، وعدم الإسراف في استخدامه، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أدنى الإسراف هراقة فضل الإناء"13.
فالنهي عن الإسراف يشمل استخدام هذه الثروة المائيّة، التي بدأ العلماء يتحدّثون عن قلّتها وعدم كفايتها لسدّ حاجات البشر، نتيجة الإسراف وسوء الاستخدام.
وعدم الإسراف في الماء مطلوب حتّى في العبادات، كالوضوء والغسل، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خيار أمّتي يتوضّؤون بالماء اليسير"14.
3ـ الطرقات ونظام السير
إنّ حسن استخدام الطرق وإزالة الأذى والضرر عنها ممّا أكّد عليه الإسلام، ورغّب فيه انطلاقاً، من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
19
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطته الأذى عن الطريق..."15.
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مرّ عيسى بن مريم بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العامّ وهو ليس يعذّب! فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روح الله قد أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه"16.
وفي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ على كلّ مسلم في كلّ يوم صدقة"17.
قيل: من يطيق ذلك؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إماطتك الأذى عن الطريق صدقة".
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن"18.
20
ويدخل ضمن الأذى الذي دعا الإسلام إلى رفعه وإماطته عن الطريق، كلّ ما يضرّ بمستخدمي هذه الطرق، نذكر منها على سبيل المثال:
1ـ إلقاء الزجاجات الفارغة، والأوراق، والنفايات، وبقايا الطعام.
2ـ الإخلال المضرّ بقوانين السير، بحيث يمنع من تعدّي السيارات على الأماكن المعدّة للمشاة (الأرصفة).
3ـ عدم السير على الأرصفة بنحو يعرّض الإنسان للخطر.
4ـ اللعب في غير الأماكن المخصّصة لذلك، كالطرق والأرصفة.
5ـ الجلوس على الأرصفة وفي أماكن مرور الناس كمداخل العمارات.
4ـ البيئة
وقد أشار القرآن الكريم إلى عمق ارتباط الإنسان ببيئته في الكثير من آياته الشريفة، ومن هذه الآيات:
21
﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ *وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ 19.
﴿الْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ 20.
﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ 21.
﴿... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ 22.
ـ البيئة خـُلقت بدقّة بالغة ومتوازنة
خلق اللَّه سبحانه وتعالى البيئة وأحكم صنعها بدقّة بالغة، من حيث الكمّ والنوع والخصائص والوظيفة.
قال تعالى: ﴿... صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...﴾ 23.
22
فكلّ عنصر من عناصر البيئة بهذا القدر وبهذه الصفات، كما حدّدها تعالى يكفل لهذه العناصر أن تؤدّي دورها المحدّد والمرسوم لها من قبل الخالق القدير، في المشاركة البنّاءة في الحياة في توافقيّة وانسجاميّة غاية في الدقّة والتوازن: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ 24.
﴿... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ 25.
هذا التقدير البالغ الدقّة، الذي هو من صنع حكيمٍ خبير هو الذي يعطي لكلّ عنصر أو مكوّن من مكوّنات البيئة طبيعته الكمية والنوعية، ووظيفته وعلاقته بالمكوّنات الأخرى.
فإذا كانت الأرض قد خلقت لخدمة هذا الإنسان فكيف يسعى الإنسان لنشر الفساد فيها، لقد نهى الإسلام عن الفساد والإفساد: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا..﴾ 26.
فكلّ شيء بما فيه الأرض بشؤونها قائم على الصلاح
23
ولكن الإنسان هو الذي يفسد، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ 27.
ورد أنّها نزلت في الأخنس بن شريق الذي أقبل على النبيّ صلى الله عليه وأله وسلم وأعلن إسلامه، ثمّ خرج فمرّ بزرع فأحرقه، وحُمُر فعقرها، فذكر تعالى ما فعله الأخنس بأنّه إفساد ومخالف للسلوك الإسلاميّ القويم.
والتصرّفات المذمومة التي تعتبر من مصاديق الإخلال بالبيئة عديدة، قد ابتلي بها بعض المجتمعات ينبغي أن نحذر من الوقوع فيها منها:
1ـ قلع الأشجار، والأغصان دون غرض مفيد ومهمّ.
2ـ إيجاد أسباب التلّوث بشتى أنواعه.
الضوضاء
من أنواع التلوّث البيئيّ الذي يشكو منه الكثيرون، التلوّث الضوضائيّ أو السمعيّ، ويراد به الضجيج والأصوات العالية التي تؤذي السمع وتقلق الراحة وتتلف الأعصاب،
24
وخصوصاً المرضى والأطفال ومن عملهم يحتاج إلى فكر وسكينة وهدوء.
والمحرّك لهذه الأمور كلّها هو الإنسان، فهو المسؤول عمّا يعانيه هو نفسه، والسبب في كلّ هذا السلوك غير السوي: هو الغفلة عن نتائج تصرّفاتنا تجاه الآخرين، والاستهتار بمشاعرهم وحريّاتهم، والانغماس في محبّة الذات وما يرضيها، لذا تجد في الأحاديث والروايات ما يحثّ الفرد المسلم على الإحساس بالآخرين حتّى يتخلّى عن النوازع الذاتيّة والعوامل الفرديّة: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها"28.
فهذه الأطر العامّة تعطي الجواب الجلّي لأيّ تساؤل عن الموقف الشرعيّ، والرواية الإسلاميّة، في مجال ما يمكن أن تسميه بالتلوّث الضوضائيّ، ولكن ماذا عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الخاصّة الواردة في هذا المجال.
25
الموقف القرآنيّ
في البداية نقف عند قوله تعالى: ﴿... وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ 29.
فنجد ذلك الأسلوب الذي يركّز على إبعاد الإنسان نفسيّاً عن رفع صوته، بتجريد علوّ الصوت عن كلّ قيمة جماليّة أو عقلانيّة، ويا له من تشبيه، فصوت الحمير أنكر الأصوات لمبالغتها في رفعه، ولذا أمر تعالى بغضّ الصوت، أي النقص والقصر فيه، وليس القبح من جهة ارتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً، قالوا إنّ هذا الحيوان (الحمار) يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داعٍ، ومن دون أيّ حاجة أو مقدّمة، ويطلقه في محلّه ووقته وفي غيره.
وما يستهدفه القرآن الكريم هو تربية الذوق الإنسانيّ، على أن يمارس الإنسان وظائف أعضائه بحكمة وهدوء، دون أن يسيئ إلى نفسه وإلى الآخرين.
وما قدّمناه من شجب الإسلام للأصوات العالية والجلبة
26
والضجيج، هل يقتصر فيه على مضمون دون مضمون؟ أم أنّ الأمر مرتبط بطبيعة الصوت أيّاً كان المحتوى؟
هناك أمور ورد الشرع برفع الصوت فيها من شأنها ألا تحدث ضجيجاً، إذا روعيت فيها تعاليم الشرع وآدابه كالأذان والتلبية في الحجّ، ومن الأمور التي يرجح رفع الصوت فيها صيحات التكبير في الحرب، التي لها تأثيرها في تقوية قلوب الجنود المؤمنين، وبثّ الرعب في قلوب أعدائهم.
أمّا أن تطلق الأصوات والمكبّرات في أيّ وقت كان، وأن ترفع إلى أبعد الحدود، بحجّة تضمنها القرآن الكريم، أو غير ذلك ممّا هو راجح في نفسه، فهذا خاضع للقاعدة العامّة القاضية بضرورة عدم الإساءة إلى الآخرين.
ومن هنا أفتى بعض الفقهاء بحرمة استعمال الجهاز الصوتيّ بشكل مزعج، إذا كان في ذلك إيذاء للناس، وإن تضمّن قراءة القرآن الكريم.
ختام
بعد هذا العرض الوجيز لأهميّة النظام العام في النظرة الإسلاميّة والعقلية، وبعد عرض أهمّ مفردات هذا النظام،
27
من الحفاظ على الكهرباء والماء والبيئة والطرقات ونظام السير، نجد أن الإسلام يدعو لتطبيق أنظمته وتعاليمه ليكون المسلمون هم السبّاقين في نيل شرف صلاح المجتمع، وفي حيازة قصب السبق في الرقيّ الإنسانيّ، كما كان الإسلام هو السبّاق في وضع الأنظمة والقوانين والتعاليم السامية.
يداً بيد نحو مجتمع أمثل.
والحمد لله ربّ العالمين.
28
هوامش
1- الحديد: 25
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج6، ص111
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج1، ص200
4- هود: 61
5- البقرة: 30
6- الروم- 41
7- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج75، ص349
8- موسوعة المصطفى والعترة عليهم السلام الحاج حسين الشاكري ج9، ص200
9- أجوبة الاستفتاءات السيد علي الخامنئي - ج2، ص325
10- م. ن. 2 ص325
11- الأعراف: 31
12- الإسراء: 26-27
13- ميزان الحكمة، ج3، ص6921
14- الشيخ حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج1، ص348
15- ميزان الحكمة، ج1، ص199
16- الكافي - الشيخ الكليني - ج6، ص3
17- مستدرك الوسائل، ج2، ص402، باب16، الحديث السادس
18- وسائل الشيعة، ج29، ص241
19- إبراهيم: 32-33-34
20- الرحمن: 10
21- الذاريات: 48
22- هود: 61
23- النمل: 88
24- القمر: 49
25- الفرقان: 2
26- الأعراف: 56-85
27- البقرة: 205
28- نهج البلاغة، ج3، وصية31، من وصية الإمام علي لإبنه الحسن عليهما السلام
29- لقمان: 19