سيماء التائبين
وكان من دعائه عليه السلام :
فَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرِّعـاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشِّعَاً، وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً، وَأَبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خَضُوعاً، وَعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ مَا أَنْتَ أَحْصَى لَهَا خُشُوعاً وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ.
36
تمهيد:
عندما نسير في الحياة ونعاشر الناس فإنّنا لا يمكن أن نعاشرهم بدون مراعاة لأخلاقيّات المخالطة, والآداب الّتي يراعيها الناس فيما بينهم, إذ لا بدّّ من ضوابط وأصول لكي لا يصبح أفراد المجتمعات الإنسانية ذئاباً ينهش بعضها بعضاً, ومن ذلك آداب الاعتذار.
فحينما يخطىء الواحد منّا ويلجأ للاعتذار من الآخر، لا بدّّ وأن يراعي في ذلك آداباً خاصّة, وكمثال على ذلك تخيّل لو أنّ رجلاً قد أخطأ بحقّك, وجاء إليك ليعتذر وقد رفع رأسه ونظر إليك من طرفي عينيه, وقد شمخ بأنفه, وأظهر لك عدم المبالاة، وقال لك من طرف لسانه: آسف، ومشى.
إنّ أي واحد منّا لو حصل هذا معه، سيُعتبر هذا النوع من الاعتذار إهانة جديدة, ولن يقبل هذا النوع من التصرّف المشين.
وكذا الحال بين الإنسان وربّه، فإنّ للتوبة أصولاً وآداباً، ينبغي مراعاتها لكي تكون التوبة بالشكل الّذي يرضي الله تعالى, ولا يزيد من سخطه علينا، فما هي هذه الآداب؟
آداب التائب
إنّ التوبة هي فعل يتضمّن الدعاء إلى الله تعالى؛ لغفران الذنب والصفح عمّا سلف, ولذا ينبغي مراعاة أدب الدعاء عند طلب التوبة من الله تعالى, ومن هذه الآداب:
1- إقبال القلب:
بمعنى أن يكون التوجّه لله تعالى بكلّ الفكر والقلب, لا أن يكون الترديد باللسان
37
والشفتين لكلمات والقلب في غفلة عمّا يقول, ففي الرواية عن كميل بن زياد أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : " العبد يصيب الذنب فيستغفر الله، فقال عليه السلام : يا ابن زياد، التوبة، قلت: ليس؟ قال عليه السلام : لا، قلت: كيف؟ قال عليه السلام : إنَّ العبد إذا أصاب ذنباً قال: أستغفر الله بالتحريك، قلت: وما التحريك؟ قال عليه السلام : الشفتان واللسان يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال عليه السلام : تصديق القلب وإضمار أن لا تعود إلى الذنب الّذي استغفر منه..."1 .
و عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: " قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يقبل الله عزّ وجلّّ دعاء قلب لاه ٍ"2 .
2- الاستيقان بالإجابة:
بأن تكون على يقين بأنّ الله تعالى قد وعد العباد بقبولهم في حال توبتهم وندمهم, فلا يدخل اليأس إلى قلبك، فبدل أن تحصل على التوبة تكون قد ارتكبت إحدى الكبائر وهي اليأس من روح الله تعالى, وقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " إنّ الله عزّ وجلّّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة"3 .
وعنه عليه السلام أنّه قال: " إذا دعوت فأقبل بقلبك وظُنّ حاجتك بالباب"4 .
3- البكاء:
كما دعت لذلك الروايات الشريفة, فإنّ البكاء أجلى مظاهر الندم الحقيقيّ, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " ما من عين إلّا وهي باكية يوم القيامة، إلّا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عزّ وجلّّ, إلّا حرّم
38
الله عزّ وجلّّ سائر جسده على النار، ولا فاضت على خدّه فرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذلةٌ, وما من شيءٍ إلّا وله كيلٌ ووزنٌ إلّا الدمعة، فإنّ الله عزّ وجلّّ يطفئ باليسير منها البحار من النار، فلو أنّ عبداً بكى في أمّةٍ لرحم الله عزّ وجلّّ تلك الأمّة ببكاء ذلك العبد"5 .
وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: " ما من قطرة أحبُّ إلى الله عزّ وجلّّ من قطرة دموع في سواد الليل مخافةً من الله لا يراد بها غيره"6 .
4- الثناء على الله:
وقد تقدّم في الدرس الأوّل سبب استهلال الإمام عليه السلام دعاء التوبة بالتمجيد, ونضيف على ما مرَّ روايتين فعن الإمام الصادق عليه السلام : إنّ في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام : " إنّ المدحة قبل المسألة فإذا دعوت الله عزّ وجلّّ فمجّده"7 .
وعنه عليه السلام في رواية أخرى: " إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّّ والمدح له والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمثمّ يسأل الله حوائجه"8 .
وكذا الصلاة على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الكرام فإنّها من آداب الدعاء أيضاً كما في الرواية السابقة.
5- الاستغفار في الأسحار:
فهذا الوقت محبوب لدى الله تعالى, وبارك الله تعالى في المستغفرين فيه, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " قال أبي عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله جلّ جلاله إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي وفيها
39
ثلاثة نفر من المؤمنين ناداهم جلّ جلاله: يا أهل معصيتي لولا مَن فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي، العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي والمستغفرين بالأسحار خوفاً منّي لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي"9 .
وعن الإمام الكاظم, عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: " إنَّ الله عزَّ وجلّ إذا أراد أن يصيبَ أهلَ الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابون بجلالي ويعمرون مساجدي ويستغفرون بالأسحار لأنزلت عذابي"10 .
بين سطور الدعاء
يقول عليه السلام : " فَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرِّعـاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشِّعَاً، وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً" .
فهذه هي الآداب الظاهرية للتائب من إظهار الذلّ والعبودية والندم أمام المعبود, وقوله متضرّعاً إشارة لقوله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾11, " وذلك لما فيه من الاعتراف بذلّ العبوديّة وعزّة الربوبيّة"12 .
وقوله عليه السلام : " وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً" : والطأطأة هي خفض الرأس, والعزّة هي الرفعة والامتناع والشدّة والغلبة، وفي التنزيل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾13 ،أي: من كان يريد بعبادة غير الله العزّة فإنّما العزّة لله وحده لا لغيره، عزّة الدنيا وعزّة الآخرة جميعاً، فليطلبها منه لا من غيره14 .
وقوله عليه السلام : " وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ" .
40
فساعة اللّذة تنتهي, وحينها تأتي ساعات الندامة، اللّذة الدنيويّة الّتي غالباً ما تتبعها قذارة البدن, وقذارة السمعة أحياناً تنتهي بثوان ٍ أحياناً, ولكن قد تكون هذه الثواني القليلة مفتاح جهنّم, حيث لا تنفع الندامة، لأنّ الذنب ما لم يُستغفر منه لزم، واللزوم هو الثبات والدوام15 , فهل نشتري اللّذة الفانية بالذنب اللازم في الرقاب المانع من نزول الرحمة الإلهيّّة؟!
41
المفاهيم الأساس
للدعاء آداب خاصّة ولا بدّ من مراعاة خطاب يليق بالله تعالى.
من آداب الدعاء للتوبة: إقبال القلب, الاستيقان بالإجابة, البكاء, الثناء على الله, الاستغفار في الأسحار.
للمطالعة
ذكر المرحوم الشيخ البهائيّ رضوان الله عليه في شرح الأربعين:
لا شكّ في وجوب الإسراع في التوبة.. فالمعاصي كالسموم للأبدان، وكما أنّ من يتناول السمّ عليه الإسراع إلى المعالجة لكي لا يموت، فكذا الخائف من موت الأبد يجب عليه التعجيل في ترك الذنب والمبادرة إلى التوبة.
و المذنب المتهاون في التوبة ويرجئها إلى وقت آخر، يجعل نفسه بين خطرين إذا نجا من أحدهما وقع في الآخر:
أوّلهما: حلول الأجل بغتة، بحيث لا تتسنّى له اليقظة من سبات الغفلة، إلّا أنّ يرى أجله قد حان، كما جاء في القراَن الكريم:
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾16.
وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم:
﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾17.
قيل في تفسير هذه الآية إن المحتضر يقول لملك الموت: أمهلني يوماً لأتوب من ذنوبي، وأعدّ نفسي للآخرة، فيقول له: قُضي أجلك، أي أنّ باب التوبة يغلق بوجهه، وتخرج روحه من بدنه، فتأخذه الحسرة والندم على ما فرّط فيه من عمره، وحتّى أنّ أصل الإيمان قد يتعرّض في مثل هذه المواقف للخطر.
وثانيهما: إنّه إذا لم يطهرّ قلبه من الذنوب - عن طريق التوبة - فإن الاَثام تتراكم على قلبه حتّى لا يعود من الممكن تطهيره، لأنّ كلّ معصية يقترفها الإنسان تجعل حجاباً من الظلمة على قلبه، كالنَفس على المرآة يُعتّم على صفوها.
وإذا تراكمت الذنوب على القلب زادته كدورة، وتتصلّب الكدورة تدريجياً حتّى تصبح طبقة صلبة، وتغدو في عداد طباع الإنسان، بحيث يطبع عليه ولا تعد له قدرة على استيعاب الحقّ أو القبول به.. أيّ أنّه يفقد على أثر تراكم الذنوب صفاءه ونقاءه.
أجل، مثل هذا القلب يسمّى في الروايات بالقلب المنكوس أو القلب الأسود.. قال الإمام الباقر عليه السلام :
" ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته. إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتّى تغلب فتصيّر أعلاه أسفله"18 .
و قال في حديث آخر: " لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"19 .
و هذا يدلّ على أنّ صاحب مثل هذا القلب لا يكفّ عن ذنوبه ولا يتوب منها، وإذا قال بلسانه: تبت، فهو مجرّد كلام يجري على لسانه، ولا يترتّب عليه أيّ أثر، وهو كمن يدّعي أنّه غسل ثيابه ؛ فمثل هذا الادّعاء لا يؤدّي إلى طهارة ثيابه أبداً. وقد يكون شخصاً كهذا على درجة من اللامبالاة في دينه حتّى أنّ أساس إيمانه يكون عرضة للخطر، وتنتهي عاقبته إلى الشرّ.
قال الشاعر:
مضى أمسك الباقي شهــيداً معدلاًر وأصبحت في يومٍ عليك شهيد
فـإن كنت بالأمس اقـترفت إساءةً فـثنِّ بـإحسان وأنت حـميد
و لا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غد لعـل ّغـداً يأتـي وأنت فقيد
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 16 ص 78.
2- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 473.
3- م.ن.
4- م.ن.
5- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 482 .
6- م.ن.
7- م.ن, ج2 ص484.
8- م.ن.
9- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، الحر العاملي، ج 16 ص 92.
10- م.ن، ج 16 ص91.
11- سورة الأعراف، الآية: 55.
12- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
13- سورة فاطر، الآية: 10.
14- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
15- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
16- سورة الأعراف: الآية 97.
17- سورة المنافقون: الآيتان 10، 11.
18- أصول الكافي، ج2 ص268 ح1، بحار الأنوار: ج73 ص312ح1.
19- أصول الكافي، ج2 ص273ح20
وكان من دعائه عليه السلام :
فَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرِّعـاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشِّعَاً، وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً، وَأَبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خَضُوعاً، وَعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ مَا أَنْتَ أَحْصَى لَهَا خُشُوعاً وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ.
36
تمهيد:
عندما نسير في الحياة ونعاشر الناس فإنّنا لا يمكن أن نعاشرهم بدون مراعاة لأخلاقيّات المخالطة, والآداب الّتي يراعيها الناس فيما بينهم, إذ لا بدّّ من ضوابط وأصول لكي لا يصبح أفراد المجتمعات الإنسانية ذئاباً ينهش بعضها بعضاً, ومن ذلك آداب الاعتذار.
فحينما يخطىء الواحد منّا ويلجأ للاعتذار من الآخر، لا بدّّ وأن يراعي في ذلك آداباً خاصّة, وكمثال على ذلك تخيّل لو أنّ رجلاً قد أخطأ بحقّك, وجاء إليك ليعتذر وقد رفع رأسه ونظر إليك من طرفي عينيه, وقد شمخ بأنفه, وأظهر لك عدم المبالاة، وقال لك من طرف لسانه: آسف، ومشى.
إنّ أي واحد منّا لو حصل هذا معه، سيُعتبر هذا النوع من الاعتذار إهانة جديدة, ولن يقبل هذا النوع من التصرّف المشين.
وكذا الحال بين الإنسان وربّه، فإنّ للتوبة أصولاً وآداباً، ينبغي مراعاتها لكي تكون التوبة بالشكل الّذي يرضي الله تعالى, ولا يزيد من سخطه علينا، فما هي هذه الآداب؟
آداب التائب
إنّ التوبة هي فعل يتضمّن الدعاء إلى الله تعالى؛ لغفران الذنب والصفح عمّا سلف, ولذا ينبغي مراعاة أدب الدعاء عند طلب التوبة من الله تعالى, ومن هذه الآداب:
1- إقبال القلب:
بمعنى أن يكون التوجّه لله تعالى بكلّ الفكر والقلب, لا أن يكون الترديد باللسان
37
والشفتين لكلمات والقلب في غفلة عمّا يقول, ففي الرواية عن كميل بن زياد أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : " العبد يصيب الذنب فيستغفر الله، فقال عليه السلام : يا ابن زياد، التوبة، قلت: ليس؟ قال عليه السلام : لا، قلت: كيف؟ قال عليه السلام : إنَّ العبد إذا أصاب ذنباً قال: أستغفر الله بالتحريك، قلت: وما التحريك؟ قال عليه السلام : الشفتان واللسان يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال عليه السلام : تصديق القلب وإضمار أن لا تعود إلى الذنب الّذي استغفر منه..."1 .
و عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: " قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يقبل الله عزّ وجلّّ دعاء قلب لاه ٍ"2 .
2- الاستيقان بالإجابة:
بأن تكون على يقين بأنّ الله تعالى قد وعد العباد بقبولهم في حال توبتهم وندمهم, فلا يدخل اليأس إلى قلبك، فبدل أن تحصل على التوبة تكون قد ارتكبت إحدى الكبائر وهي اليأس من روح الله تعالى, وقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " إنّ الله عزّ وجلّّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة"3 .
وعنه عليه السلام أنّه قال: " إذا دعوت فأقبل بقلبك وظُنّ حاجتك بالباب"4 .
3- البكاء:
كما دعت لذلك الروايات الشريفة, فإنّ البكاء أجلى مظاهر الندم الحقيقيّ, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " ما من عين إلّا وهي باكية يوم القيامة، إلّا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عزّ وجلّّ, إلّا حرّم
38
الله عزّ وجلّّ سائر جسده على النار، ولا فاضت على خدّه فرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذلةٌ, وما من شيءٍ إلّا وله كيلٌ ووزنٌ إلّا الدمعة، فإنّ الله عزّ وجلّّ يطفئ باليسير منها البحار من النار، فلو أنّ عبداً بكى في أمّةٍ لرحم الله عزّ وجلّّ تلك الأمّة ببكاء ذلك العبد"5 .
وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: " ما من قطرة أحبُّ إلى الله عزّ وجلّّ من قطرة دموع في سواد الليل مخافةً من الله لا يراد بها غيره"6 .
4- الثناء على الله:
وقد تقدّم في الدرس الأوّل سبب استهلال الإمام عليه السلام دعاء التوبة بالتمجيد, ونضيف على ما مرَّ روايتين فعن الإمام الصادق عليه السلام : إنّ في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام : " إنّ المدحة قبل المسألة فإذا دعوت الله عزّ وجلّّ فمجّده"7 .
وعنه عليه السلام في رواية أخرى: " إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّّ والمدح له والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمثمّ يسأل الله حوائجه"8 .
وكذا الصلاة على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الكرام فإنّها من آداب الدعاء أيضاً كما في الرواية السابقة.
5- الاستغفار في الأسحار:
فهذا الوقت محبوب لدى الله تعالى, وبارك الله تعالى في المستغفرين فيه, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " قال أبي عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله جلّ جلاله إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي وفيها
39
ثلاثة نفر من المؤمنين ناداهم جلّ جلاله: يا أهل معصيتي لولا مَن فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي، العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي والمستغفرين بالأسحار خوفاً منّي لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي"9 .
وعن الإمام الكاظم, عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: " إنَّ الله عزَّ وجلّ إذا أراد أن يصيبَ أهلَ الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابون بجلالي ويعمرون مساجدي ويستغفرون بالأسحار لأنزلت عذابي"10 .
بين سطور الدعاء
يقول عليه السلام : " فَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرِّعـاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشِّعَاً، وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً" .
فهذه هي الآداب الظاهرية للتائب من إظهار الذلّ والعبودية والندم أمام المعبود, وقوله متضرّعاً إشارة لقوله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾11, " وذلك لما فيه من الاعتراف بذلّ العبوديّة وعزّة الربوبيّة"12 .
وقوله عليه السلام : " وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً" : والطأطأة هي خفض الرأس, والعزّة هي الرفعة والامتناع والشدّة والغلبة، وفي التنزيل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾13 ،أي: من كان يريد بعبادة غير الله العزّة فإنّما العزّة لله وحده لا لغيره، عزّة الدنيا وعزّة الآخرة جميعاً، فليطلبها منه لا من غيره14 .
وقوله عليه السلام : " وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذَّاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ" .
40
فساعة اللّذة تنتهي, وحينها تأتي ساعات الندامة، اللّذة الدنيويّة الّتي غالباً ما تتبعها قذارة البدن, وقذارة السمعة أحياناً تنتهي بثوان ٍ أحياناً, ولكن قد تكون هذه الثواني القليلة مفتاح جهنّم, حيث لا تنفع الندامة، لأنّ الذنب ما لم يُستغفر منه لزم، واللزوم هو الثبات والدوام15 , فهل نشتري اللّذة الفانية بالذنب اللازم في الرقاب المانع من نزول الرحمة الإلهيّّة؟!
41
المفاهيم الأساس
للدعاء آداب خاصّة ولا بدّ من مراعاة خطاب يليق بالله تعالى.
من آداب الدعاء للتوبة: إقبال القلب, الاستيقان بالإجابة, البكاء, الثناء على الله, الاستغفار في الأسحار.
للمطالعة
ذكر المرحوم الشيخ البهائيّ رضوان الله عليه في شرح الأربعين:
لا شكّ في وجوب الإسراع في التوبة.. فالمعاصي كالسموم للأبدان، وكما أنّ من يتناول السمّ عليه الإسراع إلى المعالجة لكي لا يموت، فكذا الخائف من موت الأبد يجب عليه التعجيل في ترك الذنب والمبادرة إلى التوبة.
و المذنب المتهاون في التوبة ويرجئها إلى وقت آخر، يجعل نفسه بين خطرين إذا نجا من أحدهما وقع في الآخر:
أوّلهما: حلول الأجل بغتة، بحيث لا تتسنّى له اليقظة من سبات الغفلة، إلّا أنّ يرى أجله قد حان، كما جاء في القراَن الكريم:
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾16.
وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم:
﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾17.
قيل في تفسير هذه الآية إن المحتضر يقول لملك الموت: أمهلني يوماً لأتوب من ذنوبي، وأعدّ نفسي للآخرة، فيقول له: قُضي أجلك، أي أنّ باب التوبة يغلق بوجهه، وتخرج روحه من بدنه، فتأخذه الحسرة والندم على ما فرّط فيه من عمره، وحتّى أنّ أصل الإيمان قد يتعرّض في مثل هذه المواقف للخطر.
وثانيهما: إنّه إذا لم يطهرّ قلبه من الذنوب - عن طريق التوبة - فإن الاَثام تتراكم على قلبه حتّى لا يعود من الممكن تطهيره، لأنّ كلّ معصية يقترفها الإنسان تجعل حجاباً من الظلمة على قلبه، كالنَفس على المرآة يُعتّم على صفوها.
وإذا تراكمت الذنوب على القلب زادته كدورة، وتتصلّب الكدورة تدريجياً حتّى تصبح طبقة صلبة، وتغدو في عداد طباع الإنسان، بحيث يطبع عليه ولا تعد له قدرة على استيعاب الحقّ أو القبول به.. أيّ أنّه يفقد على أثر تراكم الذنوب صفاءه ونقاءه.
أجل، مثل هذا القلب يسمّى في الروايات بالقلب المنكوس أو القلب الأسود.. قال الإمام الباقر عليه السلام :
" ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته. إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتّى تغلب فتصيّر أعلاه أسفله"18 .
و قال في حديث آخر: " لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"19 .
و هذا يدلّ على أنّ صاحب مثل هذا القلب لا يكفّ عن ذنوبه ولا يتوب منها، وإذا قال بلسانه: تبت، فهو مجرّد كلام يجري على لسانه، ولا يترتّب عليه أيّ أثر، وهو كمن يدّعي أنّه غسل ثيابه ؛ فمثل هذا الادّعاء لا يؤدّي إلى طهارة ثيابه أبداً. وقد يكون شخصاً كهذا على درجة من اللامبالاة في دينه حتّى أنّ أساس إيمانه يكون عرضة للخطر، وتنتهي عاقبته إلى الشرّ.
قال الشاعر:
مضى أمسك الباقي شهــيداً معدلاًر وأصبحت في يومٍ عليك شهيد
فـإن كنت بالأمس اقـترفت إساءةً فـثنِّ بـإحسان وأنت حـميد
و لا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غد لعـل ّغـداً يأتـي وأنت فقيد
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
هوامش
1- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 16 ص 78.
2- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 473.
3- م.ن.
4- م.ن.
5- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 482 .
6- م.ن.
7- م.ن, ج2 ص484.
8- م.ن.
9- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسّسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، الحر العاملي، ج 16 ص 92.
10- م.ن، ج 16 ص91.
11- سورة الأعراف، الآية: 55.
12- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
13- سورة فاطر، الآية: 10.
14- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
15- المدني الشيرازي، السيد عليّ خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين Q، ج 4 ص 401.
16- سورة الأعراف: الآية 97.
17- سورة المنافقون: الآيتان 10، 11.
18- أصول الكافي، ج2 ص268 ح1، بحار الأنوار: ج73 ص312ح1.
19- أصول الكافي، ج2 ص273ح20