دعاة بصمت
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"أوصيكم بتقوى اللَّه والعمل بطاعته واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا دعاة لنا صامتيين، فقالوا يا ابن رسول اللَّه وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."1.
أ- مع الوصية
من ضمن الأمور التي تقدمت في هذه الوصية الشريفة الدعوة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصمت حيث قال عليه السلام:
"وأن تكونوا دعاة لنا صامتين".
ثمّ بيّن عليه السلام ما معنى الدعوة بصمت بعدما سأله أصحابه عن ذلك لأن الذي عهدوه إن الدعوة والبيان إنما يكونان باللسان وليس بالكفّ عن الكلام والدعوة لهم عليه السلام هي الدعوة إلى اللَّه لأن معناها العمل بما أمروا به من طاعته والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والمآثم.
وبالإمكان إطلاق اسم الدعوة العملية على ذلك في قبال الدعوة القولية بمعنى أن يكون العمل الصادر من أتباع آل البيت عليهم السلام داعياً قوياً للآخرين للركوب في سفينتهم والتشرف بولايتهم، أما لو كان الإنسان موالياً لهم بلسانه لكن أفعاله بأجمعها أو بعضها
71
لا تنبئ عن صدق الولاء فيأتي بما يكرهونه وما يكرهونه يكرهه اللَّه تعالى فهو ممن يؤذيهم بفعله وإن كان يظهر المودة والانقياد لأمرهم في قوله.
وعن هذا الصنف يحدثنا مولانا الباقر عليه السلام بعدما بيّن من هم أتباع آل البيت عليهم السلام وشيعتهم قائلاً:
"يا جابر يكتفي من اتخذ التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فواللَّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللَّه وأطاعه وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر اللَّه... وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... حسب الرجل أن يقول أحب علياً صلوات اللَّه عليه وأتولاّه فلو قال: إني أحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ورسول اللَّه خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً فاتقوا اللَّه واعملوا لما عند اللَّه، ليس بين اللَّه وبين أحد قرابة"2.
ب- دعوة الصمت تعبير وتأثير
1- عامل التعبير:
إعراب الأفعال خير من إعراب الأقوال وإن للصمت دلالات أبلغ بكثير من دلالات الكلام حينما تعبّر أفعال الإنسان عن المبدأ الذي يحمله والمكارم التي يتحلى بها وتحكي النسبة الصادقة للخط الإلهي وطريق آل البيت عليهم السلام ومن ذلك تحدّد الهوية حينما نقرأ ما أراده الإسلام في تصرفات ذلك الشخص فتتعرف عليه من فعله المقرون مع الصمت الدال على مدى حبّه وصدق انتمائه وولائه إلى مدرسة الأخلاق والتضحية والبذل والعطاء.
وهكذا يكون العمل معبّراً أصدق التعبير وإن لم يحرّك لسانه وداعياً حثيثاً لما يحمله من معتقد واتجاه.
72
ومسلك تحديد الانتماء والتعبير عنه عبر الأفعال لا الأقوال جاء في أخبار المعصومين عليهم السلام كما ورد التعريف عن الموالين في حديث الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك، فأولئك شيعة جعفر"3.
وفي بعض الأحاديث جاء استنكاره عليه السلام حالة كون العمل غير معبّر عن المبدأ.
يحدثنا محمد بن عجلان قائلاً: "كنت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام فدخل رجل فسلّم، فسأله كيف من خلّفت من إخوانك؟ فأحسن الثناء وزكّى وأطرى فقال له: كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال: كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً ما هي فيمن عندنا قال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم لنا شيعة؟!"4.
هذا كلّه في بيان أن العمل خير تعبير وداعٍ صامت.
2- عامل التأثير:
أما بيان أهمية دعوة الصمت من خلال كونها أشد تأثيراً وأبلغ في نفس الآخر، فبدل أن ألقي خطبة طويلة في حث الأصدقاء على معاونة المحتاجين وتقديم المساعدة لهم والاهتمام بشؤونهم ورعاية خواطرهم، فليكن ما يراه أصدقائي مني هو القيام بهذا العمل والمبادرة الدائمة لخدمة المحتاجين، فإنهم حينئذٍ سوف يبادرون بأنفسهم للقيام بهذه المهمة الشريفة، حينما تكون الظروف الحياتية. بيني وبينهم واحدة وليس هناك تفاوت في الدخل المالي وغير ذلك من الاعتبارات فضلاً إذا كانت قدرتي المالية أقل من قدراتهم فهذا مشجّع ومؤثر هام يدعوهم لفعل ذلك.
لكن حين أتحدث دائماً عن التعاون يكون تعاملي مختلفاً فلا أتعاون مع إخواني، من الطبيعي حينئذٍ أن لا تلقى هذه الدعوة القولية التي يكذّبها الفعل تجاوباً من الآخرين وإلا لو وفّق الإنسان للدعوتين من خلال القول والفعل فهو نور على نور.
73
وهذا ما قصده الإمام الصادق عليه السلام في الوصية المتقدمة ألا وهو تأثير الدعوة العملية الصامتة وتفاعل الناس وتأثّرهم بها أكثر من تأثرهم بالخطابات والشعارات المجرّدة عن التأييد بالوقائع الخارجية والسلوك الحياتي المعاش.
حيث قال عليه السلام: "ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."5.
أي أن استجابتهم العملية وقيامهم بأفضل ما نحبه ونرغب فيه وانتهاؤهم عما كانوا عليه من قبل إنما هو نتيجة رؤيتهم في الخارج لتجسّد الفضائل في حياتكم وأعمالكم من التعامل مع الناس بصدق وعدل وأمانة وغير ذلك من المكارم. وهذا المنهج هو الذي شدّد أئمتنا عليهم السلام من المحافظة عليه، كما جاء في بعض الوصايا عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: "عليكم بتقوى اللَّه وصدق الحديث... وافشاء السلام واطعام الطعام صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم... وكذلك كونوا حبّبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم"6.
بمعنى أن أعمالكم يمكن أن تكون داعية لبغضنا ونفور الناس منا وعدم الالتحاق بركبنا فعليكم الانتباه لذلك فقد يقع من حيث لا تشعرون وأنتم مكلّفون بأن تدعوهم إلى حبّنا ومودتنا أهل البيت من خلال تعاملكم الأخلاقي معهم وتصرفاتكم اللائقة وسيرتكم الحسنة.
ج- عناصر الدعوة بصمت:
ليس من الصحيح حصر عناصر الدعوة العملية الصامتة بجانب دون آخر، كي يقال إن الإنسان مطالب بأداء الحقوق لكنه غير مطالب بمراعاة الآداب، بل الأمران مطلوبان فالإمام الصادق عليه السلام وإن ذكر في الوصية عناصر بأجمعها واجبة ويترتب على بعضها
74
حقوق للطرف الآخر في التعامل كأداء الأمانة والمعاملة بصدق أي دون غش وتدليس، وأن يكون عادلاً غير متعدي ولا ظالم.
وبعضها الآخر ما هو إلا بيان للحق المولوي الإلهي بالطاعة واجتناب المعصية حيث قال عليه السلام:
"تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه"7.
لكن قوله عليه السلام في ذيل الوصية: "ولا يطلع الناس منكم إلا على خير"8.
هو إشارة إلى الفعل الجميل الشامل للالتزام بالآداب الإسلامية في مقام الدعوة العملية، كما أن ما ذكر في الوصية ليس على سبيل الحصر بل من باب المثال فالأمر غير مقتصر على أداء الأمانة والمعاملة بصدق وعدل فهناك الكتب من الحقوق والواجبات الأخرى التي لا يسوغ تفويتها والتغافل عنها.
75
من فقه الاسلام
س: إذا كانت هناك حالات يجوز فيها نبش القبر فنرجو ذكرها، وإذا كان هناك سبيل لهدم مقبرة المسلمين وتحويلها إلى مراكز أخرى فنرجو توضيح ذلك؟
ج: الموارد المستثناة من نبش القبر المحرّم مذكورة في الرسائل العملية، ولا يجوز تغيير وتبديل مقبرة المسلمين الموقوفة لدفن أموات المسلمين.
س: بعد أخذ الإذن من المرجع الديني هل يجوز نبش القبور وتبديل المقبرة الموقوفة لدن الأموات إلى أمر آخر؟
ج: الموارد التي لا يجوز فيها نبش القبر، والتي لا يجوز فيها تخريب المقبرة الموقوفة لدفن الأموات لا يجدي فيها الإجازة.
س: قبل حوالي عشرين سنة توفي رجل، وقبل عدة أيام توفيت امرأة في نفس القرية وحفروا قبر ذلك الرجل خطأً ودفنوها فيه، فما هو الحكم الآن، مع العلم بأن قبر ذلك الرجل لم توجد بداخله أية آثار؟
ج: ليس هناك تكليف حالياً على الآخرين في مفروض السؤال، ومجرد دفن الميّت في قبر ميّت آخر لا يوجب جواز نبش القبر لنقل الجسد إلى قبرٍ آخر.
س: في وسط أحد الشوارع توجد أربعة قبور تمنع من استمرار شق الطريق، ومن ناحية أخرى فإنّ نبش القبور فيه إشكال شرعي، نرجو منكم أن ترشدونا إلى ما يجب فعله حتى لا ترتكب البلدية عملاً مخالفاً للشرع؟
ج: إذا لم يتوقف إحداث الشارع على حفر ونبش القبور، وكان بالإمكان إحداث الشارع فوق القبور، أو كان إحداث الشارع حيث وجود القبور ضرورياً فلا إشكال، وإلاّ فلا يجوز شقّ الطريق على القبور9.
خلاصة الدرس
أ- مما جاء في وصايا الصادق عليه السلام لشيعته ومحبي أهل البيت (عليهم السلام) الدعوة لهم بصمت أي من خلال العمل والتحلي بالأخلاق الإسلامية التي ترغّب الناس في اتباع سبيل الولاية والهداية.
ب- ركّزت الأحاديث الشريفة في مقام تعريف الموالين على الأفعال وليس على الأقوال.
ج- تعتبر الدعوة بصمت من خلال العمل والمعاملة تعبيراً صادقاً عن الالتزام بالمبدأ الصحيح وكاشفاً عن مدى القناعة به.
د- ما تتركه الدعوة العملية أشد تأثيراً وأكثر فاعلية لإستجابة الآخرين من الدعوة الكلامية.
هـ- ليست عناصر الدعوة بصمت منحصرة في الجانب الحقوقي بل تتعداه إلى الجانب الأدبي حيث قال الصادق عليه السلام: "ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير".
أسئلة حول الدرس
1- ماذا يعني قوله عليه السلام: "وأن تكونوا دعاة لنا صامتين"؟
2- ما الفرق بين الدعوة لآل البيت (عليهم السلام) والدعوة إلى اللَّه؟
3- تحدّث عن عامل التعبير في الدعوة بصمت؟
4- اشرح عامل التأثير؟
5- اذكر حديثاً يعرّف الشيعة بأعمالهم؟
6- ما تتمة قول الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر..."؟
7- اذكر بعض عناصر الجانب الحقوقي في دعوة العمل؟
8- عدّد عنصرين من عناصر الجانب الأدبي في الدعوة بصمت؟
للحفظ
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾10.
في الحديث: "إنما شيعة علي عليه السلام المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا، إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة لمن جاوروا، وسلم لمن خالطوا"11.
للمطالعة
أخلاق ويسر ومرونة
يروى أنّ محمد بن أبي عمير (وهو من خواص أصحاب الأئمة: الإمام موسى بن جعفر، والإمام الرضا، والإمام الجواد عليهم السلام) كان رجلاً بزازاً12، فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير، فقال: ما هذا؟
فقال: هذا مالك الذي عليَّ.
قال: ورثته؟
قال: لا.
قال: وُهب لك؟
قال: لا.
فقال: هو ثمن ضيعة بعتها؟
فقال: لا.
فقال: ما هو؟
فقال: بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني.
فقال محمد بن أبي عمير: حدّثني ذريع المحاربي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال:
"لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين، ارفعها فلا حاجة لي فيها، واللّه إنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد، وما يدخل ملكي منها درهم واحد"13.
هوامش
1- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
2- صفات الشيعة، ص21، حديث 22.
3- م.ن. ص20، حديث 21.
4- م.ن. ص18، حديث 13.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
6- م.ن. ص32، حديث 39.
7- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
8- م.ن.
9- أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص78.
10- الصف:1-2.
11- صفات الشيعة للصدوقن ص21ن حديث 23.
12- البزاز: بائع الأقمشة.
13- تهذيب الأحكام، ج6، ص198.
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"أوصيكم بتقوى اللَّه والعمل بطاعته واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا دعاة لنا صامتيين، فقالوا يا ابن رسول اللَّه وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."1.
أ- مع الوصية
من ضمن الأمور التي تقدمت في هذه الوصية الشريفة الدعوة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصمت حيث قال عليه السلام:
"وأن تكونوا دعاة لنا صامتين".
ثمّ بيّن عليه السلام ما معنى الدعوة بصمت بعدما سأله أصحابه عن ذلك لأن الذي عهدوه إن الدعوة والبيان إنما يكونان باللسان وليس بالكفّ عن الكلام والدعوة لهم عليه السلام هي الدعوة إلى اللَّه لأن معناها العمل بما أمروا به من طاعته والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والمآثم.
وبالإمكان إطلاق اسم الدعوة العملية على ذلك في قبال الدعوة القولية بمعنى أن يكون العمل الصادر من أتباع آل البيت عليهم السلام داعياً قوياً للآخرين للركوب في سفينتهم والتشرف بولايتهم، أما لو كان الإنسان موالياً لهم بلسانه لكن أفعاله بأجمعها أو بعضها
71
لا تنبئ عن صدق الولاء فيأتي بما يكرهونه وما يكرهونه يكرهه اللَّه تعالى فهو ممن يؤذيهم بفعله وإن كان يظهر المودة والانقياد لأمرهم في قوله.
وعن هذا الصنف يحدثنا مولانا الباقر عليه السلام بعدما بيّن من هم أتباع آل البيت عليهم السلام وشيعتهم قائلاً:
"يا جابر يكتفي من اتخذ التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فواللَّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللَّه وأطاعه وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر اللَّه... وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء... حسب الرجل أن يقول أحب علياً صلوات اللَّه عليه وأتولاّه فلو قال: إني أحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ورسول اللَّه خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً فاتقوا اللَّه واعملوا لما عند اللَّه، ليس بين اللَّه وبين أحد قرابة"2.
ب- دعوة الصمت تعبير وتأثير
1- عامل التعبير:
إعراب الأفعال خير من إعراب الأقوال وإن للصمت دلالات أبلغ بكثير من دلالات الكلام حينما تعبّر أفعال الإنسان عن المبدأ الذي يحمله والمكارم التي يتحلى بها وتحكي النسبة الصادقة للخط الإلهي وطريق آل البيت عليهم السلام ومن ذلك تحدّد الهوية حينما نقرأ ما أراده الإسلام في تصرفات ذلك الشخص فتتعرف عليه من فعله المقرون مع الصمت الدال على مدى حبّه وصدق انتمائه وولائه إلى مدرسة الأخلاق والتضحية والبذل والعطاء.
وهكذا يكون العمل معبّراً أصدق التعبير وإن لم يحرّك لسانه وداعياً حثيثاً لما يحمله من معتقد واتجاه.
72
ومسلك تحديد الانتماء والتعبير عنه عبر الأفعال لا الأقوال جاء في أخبار المعصومين عليهم السلام كما ورد التعريف عن الموالين في حديث الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك، فأولئك شيعة جعفر"3.
وفي بعض الأحاديث جاء استنكاره عليه السلام حالة كون العمل غير معبّر عن المبدأ.
يحدثنا محمد بن عجلان قائلاً: "كنت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام فدخل رجل فسلّم، فسأله كيف من خلّفت من إخوانك؟ فأحسن الثناء وزكّى وأطرى فقال له: كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال: كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً ما هي فيمن عندنا قال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم لنا شيعة؟!"4.
هذا كلّه في بيان أن العمل خير تعبير وداعٍ صامت.
2- عامل التأثير:
أما بيان أهمية دعوة الصمت من خلال كونها أشد تأثيراً وأبلغ في نفس الآخر، فبدل أن ألقي خطبة طويلة في حث الأصدقاء على معاونة المحتاجين وتقديم المساعدة لهم والاهتمام بشؤونهم ورعاية خواطرهم، فليكن ما يراه أصدقائي مني هو القيام بهذا العمل والمبادرة الدائمة لخدمة المحتاجين، فإنهم حينئذٍ سوف يبادرون بأنفسهم للقيام بهذه المهمة الشريفة، حينما تكون الظروف الحياتية. بيني وبينهم واحدة وليس هناك تفاوت في الدخل المالي وغير ذلك من الاعتبارات فضلاً إذا كانت قدرتي المالية أقل من قدراتهم فهذا مشجّع ومؤثر هام يدعوهم لفعل ذلك.
لكن حين أتحدث دائماً عن التعاون يكون تعاملي مختلفاً فلا أتعاون مع إخواني، من الطبيعي حينئذٍ أن لا تلقى هذه الدعوة القولية التي يكذّبها الفعل تجاوباً من الآخرين وإلا لو وفّق الإنسان للدعوتين من خلال القول والفعل فهو نور على نور.
73
وهذا ما قصده الإمام الصادق عليه السلام في الوصية المتقدمة ألا وهو تأثير الدعوة العملية الصامتة وتفاعل الناس وتأثّرهم بها أكثر من تأثرهم بالخطابات والشعارات المجرّدة عن التأييد بالوقائع الخارجية والسلوك الحياتي المعاش.
حيث قال عليه السلام: "ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه عملوا أفضل ما عندنا..."5.
أي أن استجابتهم العملية وقيامهم بأفضل ما نحبه ونرغب فيه وانتهاؤهم عما كانوا عليه من قبل إنما هو نتيجة رؤيتهم في الخارج لتجسّد الفضائل في حياتكم وأعمالكم من التعامل مع الناس بصدق وعدل وأمانة وغير ذلك من المكارم. وهذا المنهج هو الذي شدّد أئمتنا عليهم السلام من المحافظة عليه، كما جاء في بعض الوصايا عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: "عليكم بتقوى اللَّه وصدق الحديث... وافشاء السلام واطعام الطعام صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم... وكذلك كونوا حبّبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم"6.
بمعنى أن أعمالكم يمكن أن تكون داعية لبغضنا ونفور الناس منا وعدم الالتحاق بركبنا فعليكم الانتباه لذلك فقد يقع من حيث لا تشعرون وأنتم مكلّفون بأن تدعوهم إلى حبّنا ومودتنا أهل البيت من خلال تعاملكم الأخلاقي معهم وتصرفاتكم اللائقة وسيرتكم الحسنة.
ج- عناصر الدعوة بصمت:
ليس من الصحيح حصر عناصر الدعوة العملية الصامتة بجانب دون آخر، كي يقال إن الإنسان مطالب بأداء الحقوق لكنه غير مطالب بمراعاة الآداب، بل الأمران مطلوبان فالإمام الصادق عليه السلام وإن ذكر في الوصية عناصر بأجمعها واجبة ويترتب على بعضها
74
حقوق للطرف الآخر في التعامل كأداء الأمانة والمعاملة بصدق أي دون غش وتدليس، وأن يكون عادلاً غير متعدي ولا ظالم.
وبعضها الآخر ما هو إلا بيان للحق المولوي الإلهي بالطاعة واجتناب المعصية حيث قال عليه السلام:
"تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة اللَّه، وتتناهون عن معاصي اللَّه"7.
لكن قوله عليه السلام في ذيل الوصية: "ولا يطلع الناس منكم إلا على خير"8.
هو إشارة إلى الفعل الجميل الشامل للالتزام بالآداب الإسلامية في مقام الدعوة العملية، كما أن ما ذكر في الوصية ليس على سبيل الحصر بل من باب المثال فالأمر غير مقتصر على أداء الأمانة والمعاملة بصدق وعدل فهناك الكتب من الحقوق والواجبات الأخرى التي لا يسوغ تفويتها والتغافل عنها.
75
من فقه الاسلام
س: إذا كانت هناك حالات يجوز فيها نبش القبر فنرجو ذكرها، وإذا كان هناك سبيل لهدم مقبرة المسلمين وتحويلها إلى مراكز أخرى فنرجو توضيح ذلك؟
ج: الموارد المستثناة من نبش القبر المحرّم مذكورة في الرسائل العملية، ولا يجوز تغيير وتبديل مقبرة المسلمين الموقوفة لدفن أموات المسلمين.
س: بعد أخذ الإذن من المرجع الديني هل يجوز نبش القبور وتبديل المقبرة الموقوفة لدن الأموات إلى أمر آخر؟
ج: الموارد التي لا يجوز فيها نبش القبر، والتي لا يجوز فيها تخريب المقبرة الموقوفة لدفن الأموات لا يجدي فيها الإجازة.
س: قبل حوالي عشرين سنة توفي رجل، وقبل عدة أيام توفيت امرأة في نفس القرية وحفروا قبر ذلك الرجل خطأً ودفنوها فيه، فما هو الحكم الآن، مع العلم بأن قبر ذلك الرجل لم توجد بداخله أية آثار؟
ج: ليس هناك تكليف حالياً على الآخرين في مفروض السؤال، ومجرد دفن الميّت في قبر ميّت آخر لا يوجب جواز نبش القبر لنقل الجسد إلى قبرٍ آخر.
س: في وسط أحد الشوارع توجد أربعة قبور تمنع من استمرار شق الطريق، ومن ناحية أخرى فإنّ نبش القبور فيه إشكال شرعي، نرجو منكم أن ترشدونا إلى ما يجب فعله حتى لا ترتكب البلدية عملاً مخالفاً للشرع؟
ج: إذا لم يتوقف إحداث الشارع على حفر ونبش القبور، وكان بالإمكان إحداث الشارع فوق القبور، أو كان إحداث الشارع حيث وجود القبور ضرورياً فلا إشكال، وإلاّ فلا يجوز شقّ الطريق على القبور9.
خلاصة الدرس
أ- مما جاء في وصايا الصادق عليه السلام لشيعته ومحبي أهل البيت (عليهم السلام) الدعوة لهم بصمت أي من خلال العمل والتحلي بالأخلاق الإسلامية التي ترغّب الناس في اتباع سبيل الولاية والهداية.
ب- ركّزت الأحاديث الشريفة في مقام تعريف الموالين على الأفعال وليس على الأقوال.
ج- تعتبر الدعوة بصمت من خلال العمل والمعاملة تعبيراً صادقاً عن الالتزام بالمبدأ الصحيح وكاشفاً عن مدى القناعة به.
د- ما تتركه الدعوة العملية أشد تأثيراً وأكثر فاعلية لإستجابة الآخرين من الدعوة الكلامية.
هـ- ليست عناصر الدعوة بصمت منحصرة في الجانب الحقوقي بل تتعداه إلى الجانب الأدبي حيث قال الصادق عليه السلام: "ولا يطّلع الناس منكم إلا على خير".
أسئلة حول الدرس
1- ماذا يعني قوله عليه السلام: "وأن تكونوا دعاة لنا صامتين"؟
2- ما الفرق بين الدعوة لآل البيت (عليهم السلام) والدعوة إلى اللَّه؟
3- تحدّث عن عامل التعبير في الدعوة بصمت؟
4- اشرح عامل التأثير؟
5- اذكر حديثاً يعرّف الشيعة بأعمالهم؟
6- ما تتمة قول الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر..."؟
7- اذكر بعض عناصر الجانب الحقوقي في دعوة العمل؟
8- عدّد عنصرين من عناصر الجانب الأدبي في الدعوة بصمت؟
للحفظ
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾10.
في الحديث: "إنما شيعة علي عليه السلام المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا، إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة لمن جاوروا، وسلم لمن خالطوا"11.
للمطالعة
أخلاق ويسر ومرونة
يروى أنّ محمد بن أبي عمير (وهو من خواص أصحاب الأئمة: الإمام موسى بن جعفر، والإمام الرضا، والإمام الجواد عليهم السلام) كان رجلاً بزازاً12، فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير، فقال: ما هذا؟
فقال: هذا مالك الذي عليَّ.
قال: ورثته؟
قال: لا.
قال: وُهب لك؟
قال: لا.
فقال: هو ثمن ضيعة بعتها؟
فقال: لا.
فقال: ما هو؟
فقال: بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني.
فقال محمد بن أبي عمير: حدّثني ذريع المحاربي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال:
"لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين، ارفعها فلا حاجة لي فيها، واللّه إنّي لمحتاج في وقتي هذا إلى درهم واحد، وما يدخل ملكي منها درهم واحد"13.
هوامش
1- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
2- صفات الشيعة، ص21، حديث 22.
3- م.ن. ص20، حديث 21.
4- م.ن. ص18، حديث 13.
5- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
6- م.ن. ص32، حديث 39.
7- مستدرك الوسائل، ج1، ص116.
8- م.ن.
9- أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص78.
10- الصف:1-2.
11- صفات الشيعة للصدوقن ص21ن حديث 23.
12- البزاز: بائع الأقمشة.
13- تهذيب الأحكام، ج6، ص198.