الكـرَم
الكرَم ضدّ البُخل ، وهو : بذلُ المال أو الطعام ، أو أيّ نفعٍ مشروعٍ عن طيب نفس .
وهو من أشرف السجايا ، وأعزّ المواهب ، وأخلَد المآثر . وناهيك في فضله أنّ كلّ نفيسٍ جليلٍ يوصَف بالكرَم ، ويُعزى إليه ، قال تعالى :
( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ( الواقعة : 77 ) . ( وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ )( الدخان : 17 ) . ( وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ )(الدخان : 26 ) .
لذلك أشاد أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكرم والكرماء ، ونوّهوا عنهما أبلغ تنويه :
قال الباقر ( عليه السلام ) : ( شاب سخيّ مرهق في الذنوب ، أحبّ إلى اللّه من شيخ عابد بخيل )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( أتى رجلٌ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فقال : يا رسول اللّه ، أيّ الناس أفضلهم إيماناً ؟ فقال : أبسطهم كفّاً )(2) .
وعن جعفر بن محمّد عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول اللّه
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي والفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي .
الصفحة 72
( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( السخيّ قريبٌ من اللّه ، قريبٌ من الناس ، قريبٌ من الجنّة . والبخيل بعيدٌ من اللّه ، بعيدٌ من الناس ، قريبٌ من النار )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( أنفِق وأيقن بالخلَف مِن اللّه ، فإنّه لم يبخل عبدٌ ولا أَمَةٌ بنفقةٍ فيما يُرضي اللّه ، إلاّ أنفق أضعافها فيما يُسخِط اللّه )(2) .
محاسن الكرَم :
لا يسعد المجتمع ، ولا يتذوّق حلاوة الطمأنينة والسلام ، ومفاهيم الدِّعَة والرخاء ، إلاّ باستشعار أفراده روح التعاطف والتراحم ، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس ، في سرّاء الحياة وضرائها ، وبذلك يغدو المجتع كالبنيان المرصوص ، يشدّ بعضه بعضاً .
وللتعاطف صور زاهرة ، تشع بالجمال والروعة والبهاء ، ولا ريب أنّ أسماها شأناً ، وأكثرها جمالاً وجلالاً ، وأخلدها ذِكراً هي : عطف الموسرين ، وجودهم على البؤساء والمعوزين ، بما يخفّف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان .
وبتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل ( مبدأ التعاطف والتراحم ) يستشعر المعوزون إزاء ذوي العطف عليهم ، والمحسنين إليهم ، مشاعر
_____________________
(1) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة و التبصرة .
(2) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي .
الصفحة 73
الصفاء والوئام والودّ ، ممّا يسعد المجتمع ، ويشيع فيه التجاوب ، والتلاحم والرخاء .
وبإغفاله يشقى المجتمع ، وتسوده نوازع الحسَد ، والحِقد ، والبغضاء ، والكيد . فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة ، تزهق النفوس ، وتمحق الأموال ، وتُهدّد الكرامات .
من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلاميّة إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين ، واستنكرت على المجتمع أنْ يراهم يتضوّرون سُغَباً وحرماناً ، دون أنْ يتحسّس بمشاعرهم ، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم . واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام ، وقد قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(1) .
وقال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره جائع ، وما من أهلِ قريةٍ يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(2) .
وإنّما حرّض الإسلام أتباعه على الأريحيّة والسخاء ، ليكونوا مثلاً عالياً في تعاطفهم ومواساتهم ، ولينعموا بحياة كريمة ، وتعايش سلمي ، ولأنّ الكرم حمام أمن المجتمع ، وضمان صفائه وازدهاره .
مجالات الكرَم :
تتفاوت فضيلة الكرَم ، بتفاوت مواطنه ومجالاته . فأسمى فضائل
_____________________
(1) و (2) عن الكافي .
الصفحة 74
الكرم ، وأشرف بواعثه ومجالاته ، ما كان استجابةً لأمر اللّه تعالى ، وتنفيذاً لشرعهِ المُطاع ، وفرائضه المقدّسة ، كالزكاة ، والخُمس ، ونحوهما .
وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلاميّة ، كما قال النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( مِن أدّى ما افترض اللّه عليه، فهو أسخى الناس )(1) .
وأفضل مصاديق البِر والسخاء بعد ذلك ، وأجدرها - عيال الرجل وأهل بيته ، فإنّهم فضلاً عن وجوب الإنفاق عليهم ، وضرورته شرعاً وعرفاً ، أولى بالمعروف والإحسان ، وأحقّ بالرعاية واللطف .
وقد يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل ، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على الأباعد والغرباء ، طلباً للسمعة والمباهاة ، ويتّصفون بالشحّ والتقتير على أهلهم و عوائلهم ، ممّا يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين ، وهُم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم ، وذلك من لؤم النفس ، وغباء الوعي .
لذلك أوصى أهل البيت ( عليه السلام ) بالعطف على العيال ، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة :
قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( ينبغي للرجل أنْ يوسِع على عياله ، لئلاّ يتمنّوا موته )(2) .
وقال الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : ( إنّ عيال الرجل أسراؤه ، فمَن أنعم اللّه عليه نعمةً فليوسع على أسرائه ، فإنْ لم يفعل
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
الصفحة 75
أوشك أنْ تزول تلك النعمة )(1) .
والأرحام بعد هذا وذاك ، أحقّ الناس بالبِر ، و أحراهم بالصلة والنوال ، لأواصرهم الرحميّة ، وتساندهم في الشدائد والأزَمات .
ومن الخطأ الفاضح ، حرمانهم من تلك العواطف ، وإسباغها على الأباعد والغرباء ، ويعتبر ذلك إزدراءً صارخاً ، يستثير سخطهم ونفارهم ، ويَحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم .
وهكذا يجدر بالكريم ، تقديم الأقرب الأفضل ، من مستحقّي الصلة والنوال : كالأصدقاء والجيران ، وذوي الفضل والصلاح ، فإنّهم أولى بالعطف من غيرهم .
بواعِث الكرَم :
وتختلف بواعث الكرم ، باختلاف الكرماء ، ودواعي أريحيّتهم ، فأسمى البواعث غاية ، وأحمدها عاقبة ، ما كان في سبيل اللّه ، وابتغاء رضوانه ، وكسب مثوبته .
وقد يكون الباعث رغبة في الثناء ، وكسب المحامد والأمجاد ، وهنا يغدو الكريم تاجراً مساوماً بأريحيّته وسخائه .
وقد يكون الباعث رغبةً في نفع مأمول ، أو رهبةً مِن ضرر مخوف ، يحفّزان على التكرّم والإحسان .
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
الصفحة 76
ويلعب الحبّ دوراً كبيراً في بعث المُحِبّ وتشجيعه على الأريحيّة والسخاء ، استمالةً لمحبوبه ، واستداراً واستدراراً لعطفه .
والجدير بالذكر أنّ الكرم لا يجمل وقعه ، ولا تحلو ثِماره ، إلاّ إذا تنزّه عن المنّ ، وصفي مِن شوائب التسويف والمطل ، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه ، كما قال الصادق ( عليه السلام ) : ( رأيت المعروف لا يصلح إلاّ بثلاث خصال : تصغيره ، وستره ، وتعجيله . فإنّك إذا صغّرته عظّمته عند مَن تصنعه إليه . وإذا ستَرته تمّمته ، وإذا عجّلته هنّيته ، وإنْ كان غير ذلك محقته ونكدته )(1) .
_____________________
(1) البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل الشرائع للصدوق (ره) .
الصفحة 77
الإيثـار
وهو : أسمى درجات الكرَم ، وأرفع مفاهيمه ، ولا يتحلّى بهذه الصفة المثالية النادرة ، إلاّ الذين جلَوا بالأريحيّة ، وبلغوا قمّة السخاء ، فجادوا بالعطاء ، وهُم بأمَسّ الحاجة إليه ، وآثروا بالنوال ، وهُم في ضنك من الحياة . وقد أشادَ القرآن بفضلهم قائلاً : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )( الحشر : 9 )
وسئُل الصادق ( عليه السلام ) : أيُّ الصدقة أفضل ، قال : ( جُهد المُقِلّ ، أما سمعت اللّه تعالى يقول : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ))(1) .
ولقد كان النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) المثل الأعلى في عظمة الإيثار ، وسموّ الأريحيّة .
قال جار بن عبد اللّه : ما سُئل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) شيئاً فقال لا .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ رسول اللّه أقبَل إلى الجِعرانة ، فقسم فيها الأموال ، وجعَل الناس يسألونه فيُعطيهم ، حتّى ألجؤوه إلى
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه .
الصفحة 78
شجرة فأخذت بُرده ، وخدَشت ظهره ، حتّى جلَوه عنها ، وهُم يسألونه . فقال : ( أيّها الناس ردّوا عليّ بُردي ، واللّه لو كان عندي عدد شَجَرِ تهامة نِعماً لقسمته بينكم ، ثُمّ ما ألفيتموني جَباناً ولا بَخيلاً...)(1) .
وقد كان ( صلّى اللّه عليه وآله ) يؤثِر على نفسه البؤساء والمعوزين ، فيجود عليهم بماله وقوّته ، ويظلّ طاوياً ، وربّما شدّ حجَر المجاعة على بطنه مواساةً لهم .
قال الباقر ( عليه السلام ) : ( ما شبَع النبيّ مِن خبز بُر ثلاثة أيّامٍ متوالية ، مُنذ بعثَه اللّه إلى أنْ قبَضَه )(2) .
وهكذا كان أهل بيته ( عليهم السلام ) في كرمهم وإيثارهم :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( كان عليّ أشبه الناس برسول اللّه ، كان يأكل الخبز والزيت ، ويطعم الناس الخبز واللحم )(3) .
وفي عليّ وأهل بيته الطاهرين ، نزلت الآية الكريمة :
( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً )( الدهر : 8 - 9 )
فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في عليّ وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم ، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير
_____________________
(1) سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكّة والطائف .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي .
(3) البحار م 9 ص 538 عن الكافي .
الصفحة 79
السورة من الكشّاف .
قال : ( وعن ابن عبّاس أنّ الحسن والحسين مرِضا ، فعادهما رسول اللّه في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذَرت على ولَدَيك ، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة جاريةً لهما ، إنّ برئا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثةَ أيّام فَشُفيا ، وما معهم شيء ، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوِع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسةَ أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة ، فآثروه ، وباتوا ولم يذوقوا إلاّ الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك .
فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللّه ، فلمّا أبصرهم وهُم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ( ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ) ، فنزل جبرائيل وقال : ( خُذها يا محمّد ، هنّاك اللّه في أهل بيتك ، فأقرأه السورة )(1) .
وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم ، وأريحيّتهم ، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل .
_____________________
(1) عن الكلمة الغرّاء - للمرحوم آية اللّه السيّد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نُقِل بتصرّفٍ وتلخيص .
الكرَم ضدّ البُخل ، وهو : بذلُ المال أو الطعام ، أو أيّ نفعٍ مشروعٍ عن طيب نفس .
وهو من أشرف السجايا ، وأعزّ المواهب ، وأخلَد المآثر . وناهيك في فضله أنّ كلّ نفيسٍ جليلٍ يوصَف بالكرَم ، ويُعزى إليه ، قال تعالى :
( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ( الواقعة : 77 ) . ( وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ )( الدخان : 17 ) . ( وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ )(الدخان : 26 ) .
لذلك أشاد أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكرم والكرماء ، ونوّهوا عنهما أبلغ تنويه :
قال الباقر ( عليه السلام ) : ( شاب سخيّ مرهق في الذنوب ، أحبّ إلى اللّه من شيخ عابد بخيل )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( أتى رجلٌ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فقال : يا رسول اللّه ، أيّ الناس أفضلهم إيماناً ؟ فقال : أبسطهم كفّاً )(2) .
وعن جعفر بن محمّد عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول اللّه
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي والفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي .
الصفحة 72
( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( السخيّ قريبٌ من اللّه ، قريبٌ من الناس ، قريبٌ من الجنّة . والبخيل بعيدٌ من اللّه ، بعيدٌ من الناس ، قريبٌ من النار )(1) .
وقال الباقر ( عليه السلام ) : ( أنفِق وأيقن بالخلَف مِن اللّه ، فإنّه لم يبخل عبدٌ ولا أَمَةٌ بنفقةٍ فيما يُرضي اللّه ، إلاّ أنفق أضعافها فيما يُسخِط اللّه )(2) .
محاسن الكرَم :
لا يسعد المجتمع ، ولا يتذوّق حلاوة الطمأنينة والسلام ، ومفاهيم الدِّعَة والرخاء ، إلاّ باستشعار أفراده روح التعاطف والتراحم ، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس ، في سرّاء الحياة وضرائها ، وبذلك يغدو المجتع كالبنيان المرصوص ، يشدّ بعضه بعضاً .
وللتعاطف صور زاهرة ، تشع بالجمال والروعة والبهاء ، ولا ريب أنّ أسماها شأناً ، وأكثرها جمالاً وجلالاً ، وأخلدها ذِكراً هي : عطف الموسرين ، وجودهم على البؤساء والمعوزين ، بما يخفّف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان .
وبتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل ( مبدأ التعاطف والتراحم ) يستشعر المعوزون إزاء ذوي العطف عليهم ، والمحسنين إليهم ، مشاعر
_____________________
(1) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة و التبصرة .
(2) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي .
الصفحة 73
الصفاء والوئام والودّ ، ممّا يسعد المجتمع ، ويشيع فيه التجاوب ، والتلاحم والرخاء .
وبإغفاله يشقى المجتمع ، وتسوده نوازع الحسَد ، والحِقد ، والبغضاء ، والكيد . فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة ، تزهق النفوس ، وتمحق الأموال ، وتُهدّد الكرامات .
من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلاميّة إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين ، واستنكرت على المجتمع أنْ يراهم يتضوّرون سُغَباً وحرماناً ، دون أنْ يتحسّس بمشاعرهم ، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم . واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام ، وقد قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(1) .
وقال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره جائع ، وما من أهلِ قريةٍ يبيت فيهم جائع ينظر اللّه إليهم يوم القيامة )(2) .
وإنّما حرّض الإسلام أتباعه على الأريحيّة والسخاء ، ليكونوا مثلاً عالياً في تعاطفهم ومواساتهم ، ولينعموا بحياة كريمة ، وتعايش سلمي ، ولأنّ الكرم حمام أمن المجتمع ، وضمان صفائه وازدهاره .
مجالات الكرَم :
تتفاوت فضيلة الكرَم ، بتفاوت مواطنه ومجالاته . فأسمى فضائل
_____________________
(1) و (2) عن الكافي .
الصفحة 74
الكرم ، وأشرف بواعثه ومجالاته ، ما كان استجابةً لأمر اللّه تعالى ، وتنفيذاً لشرعهِ المُطاع ، وفرائضه المقدّسة ، كالزكاة ، والخُمس ، ونحوهما .
وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلاميّة ، كما قال النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( مِن أدّى ما افترض اللّه عليه، فهو أسخى الناس )(1) .
وأفضل مصاديق البِر والسخاء بعد ذلك ، وأجدرها - عيال الرجل وأهل بيته ، فإنّهم فضلاً عن وجوب الإنفاق عليهم ، وضرورته شرعاً وعرفاً ، أولى بالمعروف والإحسان ، وأحقّ بالرعاية واللطف .
وقد يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل ، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على الأباعد والغرباء ، طلباً للسمعة والمباهاة ، ويتّصفون بالشحّ والتقتير على أهلهم و عوائلهم ، ممّا يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين ، وهُم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم ، وذلك من لؤم النفس ، وغباء الوعي .
لذلك أوصى أهل البيت ( عليه السلام ) بالعطف على العيال ، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة :
قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : ( ينبغي للرجل أنْ يوسِع على عياله ، لئلاّ يتمنّوا موته )(2) .
وقال الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : ( إنّ عيال الرجل أسراؤه ، فمَن أنعم اللّه عليه نعمةً فليوسع على أسرائه ، فإنْ لم يفعل
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه .
(2) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
الصفحة 75
أوشك أنْ تزول تلك النعمة )(1) .
والأرحام بعد هذا وذاك ، أحقّ الناس بالبِر ، و أحراهم بالصلة والنوال ، لأواصرهم الرحميّة ، وتساندهم في الشدائد والأزَمات .
ومن الخطأ الفاضح ، حرمانهم من تلك العواطف ، وإسباغها على الأباعد والغرباء ، ويعتبر ذلك إزدراءً صارخاً ، يستثير سخطهم ونفارهم ، ويَحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم .
وهكذا يجدر بالكريم ، تقديم الأقرب الأفضل ، من مستحقّي الصلة والنوال : كالأصدقاء والجيران ، وذوي الفضل والصلاح ، فإنّهم أولى بالعطف من غيرهم .
بواعِث الكرَم :
وتختلف بواعث الكرم ، باختلاف الكرماء ، ودواعي أريحيّتهم ، فأسمى البواعث غاية ، وأحمدها عاقبة ، ما كان في سبيل اللّه ، وابتغاء رضوانه ، وكسب مثوبته .
وقد يكون الباعث رغبة في الثناء ، وكسب المحامد والأمجاد ، وهنا يغدو الكريم تاجراً مساوماً بأريحيّته وسخائه .
وقد يكون الباعث رغبةً في نفع مأمول ، أو رهبةً مِن ضرر مخوف ، يحفّزان على التكرّم والإحسان .
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه .
الصفحة 76
ويلعب الحبّ دوراً كبيراً في بعث المُحِبّ وتشجيعه على الأريحيّة والسخاء ، استمالةً لمحبوبه ، واستداراً واستدراراً لعطفه .
والجدير بالذكر أنّ الكرم لا يجمل وقعه ، ولا تحلو ثِماره ، إلاّ إذا تنزّه عن المنّ ، وصفي مِن شوائب التسويف والمطل ، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه ، كما قال الصادق ( عليه السلام ) : ( رأيت المعروف لا يصلح إلاّ بثلاث خصال : تصغيره ، وستره ، وتعجيله . فإنّك إذا صغّرته عظّمته عند مَن تصنعه إليه . وإذا ستَرته تمّمته ، وإذا عجّلته هنّيته ، وإنْ كان غير ذلك محقته ونكدته )(1) .
_____________________
(1) البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل الشرائع للصدوق (ره) .
الصفحة 77
الإيثـار
وهو : أسمى درجات الكرَم ، وأرفع مفاهيمه ، ولا يتحلّى بهذه الصفة المثالية النادرة ، إلاّ الذين جلَوا بالأريحيّة ، وبلغوا قمّة السخاء ، فجادوا بالعطاء ، وهُم بأمَسّ الحاجة إليه ، وآثروا بالنوال ، وهُم في ضنك من الحياة . وقد أشادَ القرآن بفضلهم قائلاً : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )( الحشر : 9 )
وسئُل الصادق ( عليه السلام ) : أيُّ الصدقة أفضل ، قال : ( جُهد المُقِلّ ، أما سمعت اللّه تعالى يقول : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ))(1) .
ولقد كان النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) المثل الأعلى في عظمة الإيثار ، وسموّ الأريحيّة .
قال جار بن عبد اللّه : ما سُئل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) شيئاً فقال لا .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ رسول اللّه أقبَل إلى الجِعرانة ، فقسم فيها الأموال ، وجعَل الناس يسألونه فيُعطيهم ، حتّى ألجؤوه إلى
_____________________
(1) الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه .
الصفحة 78
شجرة فأخذت بُرده ، وخدَشت ظهره ، حتّى جلَوه عنها ، وهُم يسألونه . فقال : ( أيّها الناس ردّوا عليّ بُردي ، واللّه لو كان عندي عدد شَجَرِ تهامة نِعماً لقسمته بينكم ، ثُمّ ما ألفيتموني جَباناً ولا بَخيلاً...)(1) .
وقد كان ( صلّى اللّه عليه وآله ) يؤثِر على نفسه البؤساء والمعوزين ، فيجود عليهم بماله وقوّته ، ويظلّ طاوياً ، وربّما شدّ حجَر المجاعة على بطنه مواساةً لهم .
قال الباقر ( عليه السلام ) : ( ما شبَع النبيّ مِن خبز بُر ثلاثة أيّامٍ متوالية ، مُنذ بعثَه اللّه إلى أنْ قبَضَه )(2) .
وهكذا كان أهل بيته ( عليهم السلام ) في كرمهم وإيثارهم :
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( كان عليّ أشبه الناس برسول اللّه ، كان يأكل الخبز والزيت ، ويطعم الناس الخبز واللحم )(3) .
وفي عليّ وأهل بيته الطاهرين ، نزلت الآية الكريمة :
( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً )( الدهر : 8 - 9 )
فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في عليّ وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم ، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير
_____________________
(1) سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكّة والطائف .
(2) سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي .
(3) البحار م 9 ص 538 عن الكافي .
الصفحة 79
السورة من الكشّاف .
قال : ( وعن ابن عبّاس أنّ الحسن والحسين مرِضا ، فعادهما رسول اللّه في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذَرت على ولَدَيك ، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة جاريةً لهما ، إنّ برئا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثةَ أيّام فَشُفيا ، وما معهم شيء ، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوِع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسةَ أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمّد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة ، فآثروه ، وباتوا ولم يذوقوا إلاّ الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك .
فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللّه ، فلمّا أبصرهم وهُم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، قال : ( ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ) ، فنزل جبرائيل وقال : ( خُذها يا محمّد ، هنّاك اللّه في أهل بيتك ، فأقرأه السورة )(1) .
وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم ، وأريحيّتهم ، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل .
_____________________
(1) عن الكلمة الغرّاء - للمرحوم آية اللّه السيّد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نُقِل بتصرّفٍ وتلخيص .