الغيبة
وهي : ذِكر المؤمن المُعيّن بما يكره ، سَواءً أكان ذلك في خَلقِه ، أم خُلُقه ، أو مختصّاته .
وليست الغيبة محصورةٌ باللسان ، بل تشمل كلّ ما يُشعر باستنقاص الغير ، قولاً أو عمَلاً ، كنايةً أو تصريحاً .
وقد عرّفها الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله ) قائلاً : ( هل تدرون ما الغيبة ؟) قالوا : اللّه ورسوله أعلم .
قال : ( ذِكرُك أخاكَ بما يَكره ) .
قيل له : أرأيت إنْ كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإنْ لم يكن فيه فقد بهتّه ) .
وهي مِن أخسّ السجاياً ، وألأم الصفات ، وأخطَر الجرائم والآثام ، وكفاها ذمّاً أنّ اللّه تعالى شبّه المُغتاب بآكل لحم الميتة ، فقال : ( يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ )( الحجرات : 12) .
وقال سُبحانه ناهياً عنها : ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً )( النساء : 148 ) .
وهكذا جاءت النصوص المتواترة في ذمّها، والتحذير منها :
الصفحة 222
قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( الغيبةُ أسرَع في دين الرجل المسلم مِن الآكلة في جوفه )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً يُريد بها شَينه ، وهدْم مروّته ، ليسقط مِن أعين الناس ، أخرجه اللّه عزّ وجل مِن ولايته إلى ولاية الشيطان )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( لا تَغتَب فتُغتَب ، ولا تَحفُر لأخيك حُفرة ، فتقَع فيها ، فإنّك كما تَدين تُدان )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ، ومِن عيّر مؤمناً بشيءٍ لا يموت حتّى يركبه )(4) .
التصامُم عن الغيبة :
وجديرٌ بالعاقل أنْ يترفّع عن مجاراة المغتابين ، والاستماع إليهم ،
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 177 عن الكافي .
(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 187 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي وأمالي الصدوق .
(3) البحار م 15 كتاب العشرة ص 185 عن أمالي الصدوق .
(4) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي .
الصفحة 223
فإنّ المستمع للغيبة صنو المستغيب ، وشريكُه في الإثم .
ولا يعفيه مِن ذلك إلاّ أنْ يستنكر الغيبة بلسانه ، أو يطوّر الحديث بحديثٍ بريء ، أو النفار من مجلس الاغتياب ، فإنْ لم يستطع ذلك كلّه ، فعليه الإنكار بقلبه ، ليأمن جريرة المشاركة في الاغتياب .
قال بعض الحكماء : ( إذا رأيت مَن يغتاب الناس ، فاجهد جُهدَك أنْ لا يعرفك ، فإنّ أشقى الناس به معارفه ).
وكما يجب التوقّي مِن استماع الغيبة ، كذلك يجدر حفظ غَيبة المؤمن ، والذب عن كرامته ، إذا ما ذُكر بالمزريات ، فعن الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن رَدَّ عن عرض أخيه المسلم وجبَت له الجنّة ألبتّة )(1) .
وجدير بالذكر أنّ حُرمة الاغتياب مختصّةٌ بمَن يعتقد الحق ، فلا تسري إلى غيره من أهل الضلال .
بواعث الغيبة :
للغيبة بواعثٌ ودوافع أهمّها ما يلي :
1 - العِداء أو الحسَد ، فإنّهما أقوى دواعي الاغتياب والتشهير بالمعادي أو المحسود . نكايةً به ، وتشّفياً منه .
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال .
الصفحة 224
2 - الهزل : وهو باعث على ثلب المستغات ، ومحاكاته إثارة للضحِك والمجون .
3 - المباهاة : وذلك بذكرِ مساوئ الغير تشدّقاً ومباهاةً بالترفّع عنها والبراءةِ منها.
4 - المجاراة : فكثيراً ما يندفع المرء على الاغتياب مجاراةً للأصدقاء والخُلَطاء اللاهين بالغيبة ، وخشيةً مِن نفرتهم إذا لم يُحاورهم في ذلك .
مساوئ الغيبة :
مِن أهمّ الأهداف والغايات التي حقّقها الإسلام ، وعنى بها عنايةً كبرى ، اتّحاد المسلمين وتآزرهم وتآخيهم ، ليكونوا المثَل الأعلى في القوّة والمنعة ، وسموّ الكرامة ، والمجد . وعزّز تلك الغاية السامية بما شرّعه من نُظُم وآداب ، لتكون دستوراً خالداً للمسلمين ، فحثّهم على ما ينمّي الأُلفة والمودّة ، ويوثّق العلائق الاجتماعيّة ، ويحقّق التآخي والتآزر ، كحُسن الخُلق ، وصِدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والاهتمام بشؤون المسلمين ، ورعاية مصالحهم العامّة . ونهاهم عن كلّ ما يعكّر صفو القلوب ، ويثير الأحقاد والضغائن الموجِبة لتناكر المسلمين ، وتقاطعهم كالكذِب ، والغش ، والخيانة ، والسُّخرية .
وحيث كانت الغيبة عاملاً خطيراً، ومِعولاً هدّاماً، في تقويض صرح المجتمع، وإفساد علاقاته الوثيقة، فقد حرّمها الشرع الإسلامي ،
الصفحة 225
وعدّها مِن كبائر الآثام .
فمن مساوئها : أنّها تبذر سموم البغضة والفُرقة في صفوف المسلمين ، فتعكّر صفو المحبّة ، وتفصم عُرى الصداقة ، وتقطع وشائج القرابة .
وذلك بأنّ الغيبة قد تبلغ المغتاب ، وتستثير حَنَقَه على المستغيب ، فيثأر منه ، ويُبادله الذمّ والقدح ، وطالما أثارت الفتَن الخطيرة ، والمآسي المحزونة .
هذا إلى مساوئها وآثامها الروحيّة التي أوضحتها الآثار ، حيث صرّحت أنّ الغيبة تنقل حسنَات المستغيب يوم القيامة إلى المُستغاب ، فإنْ لم يكن له حسَنات طُرِح عليه مِن سيئات المُستغاب ، كما جاء عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) أنّه قال : ( يُؤتى بأحدِكم يوم القيامة ، فيُوقف بين يدَيّ اللّه تعالى ، ويُدفّع إليه كتابه ، فلا يَرى حسَنَاته ، فيقول : إلهي ليس هذا كتابي فإنّي لا أرى فيه طاعتي . فيقول له : إنّ ربَّك لا يضلّ ولا ينسى ، ذهَب عملُك باغتياب الناس .
ثمّ يُؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه ، فيرى فيه طاعات كثيرة ، فيقول : إلهي ما هذا كتابي ، فإنّي ما عمِلت هذه الطاعات ، فيقول له : إنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسَناته إليك )(1) .
مسوّغات الغيبة :
الغيبة المحرّمة هي ما قُصِد بها استنقاص المؤمن وإذلاله ، فإنّ لم
_____________________
(1) جامع السعادات ج 2 ص 301 .
الصفحة 226
يُقصد بها ذلك ، وتوقّف عليها غرضٌ وجيه ، فلا حُرمة فيها . وإليك ما ذكره العلماء من الموارد المسوّغة للغيبة :
1 - شكاية المتظلّم لإحقاق حقّه عند الحاكم ، فيصُحّ نسبة الجناية والظلم إلى الغير في هذه الحالة .
2 - نُصح المستشير في أمرٍ ما كالتزويج والأمانة ، فيحقّ للمستشار أنْ يذكر مثالب المسؤول عنه .
ويصحّ كذلك تحذير المؤمن من صُحبةِ فاسقٍ أو مُضلّ ، بذكر مساوئهما مِن الفِسق والضلال ، صيانةً له مِن شرّهما وإضلالهما ، ويصحّ جرح الشاهد إذا ما سُئل عنه .
3 - ردّ مَن أدّعى نسَباً مزوّراً .
4 - القدح في مقالةٍ فاسدة ، أو إدعاءٍ باطل شرعاً .
5 - الشهادة على مقترفي الجرائم والمحارم .
6 - ضرورة التعريف : وذلك بذكر الألقاب المقيتة ، التي يتوقّف عليها تعريف أصحابها ، كالأعمش والأعرج ونحوهما .
7 - النهي عن المنكر : وذلك بذكر مساوئ شخصٍ عند من يستطيع إصلاحه ونهيه عنها .
8 - غيبة المتجاهر بالفسق كشرب الخمر ، ولعب القمار ، بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به ، إذ ليس لفاسقٍ غيبة .
ولا بُدّ للمرء أنْ يستهدف في جميع تلك الموارد السالفة ، الغاية النبيلة ، والقصد السليم ، مِن بواعث الغيبة ، ويتجنّب البواعث غير النبيلة ، كالعِداء والحسَد ونحوهما .
الصفحة 227
علاج الغيبة :
وذلك باتّباع النصائح التالية :
1 - تذكّر ما عرضناه من مساوئ الغيبة ، وأخطارها الجسيمة ، في دنيا الإنسان وأُخراه .
2 - الاهتمام بتزكية النفس ، وتجميلها بالخُلُق الكريم ، وصونها عن معائب الناس ومساوئهم ، بدلاً مِن اغتيابهم واستنقاصهم .
قيل لمحمّد بن الحنفيّة : مَن أدّبك ؟ قال : ( أدّبني ربّي في نفسي ، فما استحسنته مِن أُولي الألباب والبصيرة تبِعتهم به فاستعملته ، وما استقبحت من الجُهّال اجتنبته وتركته متنفراً ، فأوصلني ذلك إلى كنوز العلم )(1) .
3 - استبدال الغيبة بالأحاديث الممتعة ، والنوادر الشيقة ، والقصص الهادفة الطريفة .
4 - ترويض النفس على صون اللسان، وكفّه عن بوادر الغيبة وقوارصها ، وبذلك تخف نوازع الغيبة وبواعثها العارمة .
كفّارة الغيبة :
وسبيلها بعد الندم على اقترافها ، والتوبة من آثامها ، التودّد إلى
_____________________
(1) سفينة البحار م 1 ص 324 .
الصفحة 228
المُستغاب ، واستبراء الذمّة منه ، فإنْ صفح وعفى ، وإلاّ كان التودّد إليه ، والاعتذار منه ، مكافئاً لسيّئة الغيبة .
هذا إذا كان المُستغاب حيّاً ، ولم يثر الاستيهاب منه غضبه وحقده ، فإنْ خيف ذلك ، أو كان ميّتاً أو غائباً ، فاللازم - والحالة هذه - الاستغفار له ، تكفيراً عن اغتيابه ، فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( سُئل النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) ما كفّارة الاغتياب ؟ قال : تستغفر اللّه لِمَن اغتبته كلّما ذكرته )(1) .
قوله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( كلّما ذكرته ) أي كلّما ذكرت المُستغاب بالغيبة .
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 184 عن الكافي .
وهي : ذِكر المؤمن المُعيّن بما يكره ، سَواءً أكان ذلك في خَلقِه ، أم خُلُقه ، أو مختصّاته .
وليست الغيبة محصورةٌ باللسان ، بل تشمل كلّ ما يُشعر باستنقاص الغير ، قولاً أو عمَلاً ، كنايةً أو تصريحاً .
وقد عرّفها الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله ) قائلاً : ( هل تدرون ما الغيبة ؟) قالوا : اللّه ورسوله أعلم .
قال : ( ذِكرُك أخاكَ بما يَكره ) .
قيل له : أرأيت إنْ كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإنْ لم يكن فيه فقد بهتّه ) .
وهي مِن أخسّ السجاياً ، وألأم الصفات ، وأخطَر الجرائم والآثام ، وكفاها ذمّاً أنّ اللّه تعالى شبّه المُغتاب بآكل لحم الميتة ، فقال : ( يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ )( الحجرات : 12) .
وقال سُبحانه ناهياً عنها : ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً )( النساء : 148 ) .
وهكذا جاءت النصوص المتواترة في ذمّها، والتحذير منها :
الصفحة 222
قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( الغيبةُ أسرَع في دين الرجل المسلم مِن الآكلة في جوفه )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) ( مَن روى على مؤمنٍ روايةً يُريد بها شَينه ، وهدْم مروّته ، ليسقط مِن أعين الناس ، أخرجه اللّه عزّ وجل مِن ولايته إلى ولاية الشيطان )(2) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( لا تَغتَب فتُغتَب ، ولا تَحفُر لأخيك حُفرة ، فتقَع فيها ، فإنّك كما تَدين تُدان )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ، ومِن عيّر مؤمناً بشيءٍ لا يموت حتّى يركبه )(4) .
التصامُم عن الغيبة :
وجديرٌ بالعاقل أنْ يترفّع عن مجاراة المغتابين ، والاستماع إليهم ،
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 177 عن الكافي .
(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 187 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي وأمالي الصدوق .
(3) البحار م 15 كتاب العشرة ص 185 عن أمالي الصدوق .
(4) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي .
الصفحة 223
فإنّ المستمع للغيبة صنو المستغيب ، وشريكُه في الإثم .
ولا يعفيه مِن ذلك إلاّ أنْ يستنكر الغيبة بلسانه ، أو يطوّر الحديث بحديثٍ بريء ، أو النفار من مجلس الاغتياب ، فإنْ لم يستطع ذلك كلّه ، فعليه الإنكار بقلبه ، ليأمن جريرة المشاركة في الاغتياب .
قال بعض الحكماء : ( إذا رأيت مَن يغتاب الناس ، فاجهد جُهدَك أنْ لا يعرفك ، فإنّ أشقى الناس به معارفه ).
وكما يجب التوقّي مِن استماع الغيبة ، كذلك يجدر حفظ غَيبة المؤمن ، والذب عن كرامته ، إذا ما ذُكر بالمزريات ، فعن الصادق ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن رَدَّ عن عرض أخيه المسلم وجبَت له الجنّة ألبتّة )(1) .
وجدير بالذكر أنّ حُرمة الاغتياب مختصّةٌ بمَن يعتقد الحق ، فلا تسري إلى غيره من أهل الضلال .
بواعث الغيبة :
للغيبة بواعثٌ ودوافع أهمّها ما يلي :
1 - العِداء أو الحسَد ، فإنّهما أقوى دواعي الاغتياب والتشهير بالمعادي أو المحسود . نكايةً به ، وتشّفياً منه .
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال .
الصفحة 224
2 - الهزل : وهو باعث على ثلب المستغات ، ومحاكاته إثارة للضحِك والمجون .
3 - المباهاة : وذلك بذكرِ مساوئ الغير تشدّقاً ومباهاةً بالترفّع عنها والبراءةِ منها.
4 - المجاراة : فكثيراً ما يندفع المرء على الاغتياب مجاراةً للأصدقاء والخُلَطاء اللاهين بالغيبة ، وخشيةً مِن نفرتهم إذا لم يُحاورهم في ذلك .
مساوئ الغيبة :
مِن أهمّ الأهداف والغايات التي حقّقها الإسلام ، وعنى بها عنايةً كبرى ، اتّحاد المسلمين وتآزرهم وتآخيهم ، ليكونوا المثَل الأعلى في القوّة والمنعة ، وسموّ الكرامة ، والمجد . وعزّز تلك الغاية السامية بما شرّعه من نُظُم وآداب ، لتكون دستوراً خالداً للمسلمين ، فحثّهم على ما ينمّي الأُلفة والمودّة ، ويوثّق العلائق الاجتماعيّة ، ويحقّق التآخي والتآزر ، كحُسن الخُلق ، وصِدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والاهتمام بشؤون المسلمين ، ورعاية مصالحهم العامّة . ونهاهم عن كلّ ما يعكّر صفو القلوب ، ويثير الأحقاد والضغائن الموجِبة لتناكر المسلمين ، وتقاطعهم كالكذِب ، والغش ، والخيانة ، والسُّخرية .
وحيث كانت الغيبة عاملاً خطيراً، ومِعولاً هدّاماً، في تقويض صرح المجتمع، وإفساد علاقاته الوثيقة، فقد حرّمها الشرع الإسلامي ،
الصفحة 225
وعدّها مِن كبائر الآثام .
فمن مساوئها : أنّها تبذر سموم البغضة والفُرقة في صفوف المسلمين ، فتعكّر صفو المحبّة ، وتفصم عُرى الصداقة ، وتقطع وشائج القرابة .
وذلك بأنّ الغيبة قد تبلغ المغتاب ، وتستثير حَنَقَه على المستغيب ، فيثأر منه ، ويُبادله الذمّ والقدح ، وطالما أثارت الفتَن الخطيرة ، والمآسي المحزونة .
هذا إلى مساوئها وآثامها الروحيّة التي أوضحتها الآثار ، حيث صرّحت أنّ الغيبة تنقل حسنَات المستغيب يوم القيامة إلى المُستغاب ، فإنْ لم يكن له حسَنات طُرِح عليه مِن سيئات المُستغاب ، كما جاء عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) أنّه قال : ( يُؤتى بأحدِكم يوم القيامة ، فيُوقف بين يدَيّ اللّه تعالى ، ويُدفّع إليه كتابه ، فلا يَرى حسَنَاته ، فيقول : إلهي ليس هذا كتابي فإنّي لا أرى فيه طاعتي . فيقول له : إنّ ربَّك لا يضلّ ولا ينسى ، ذهَب عملُك باغتياب الناس .
ثمّ يُؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابه ، فيرى فيه طاعات كثيرة ، فيقول : إلهي ما هذا كتابي ، فإنّي ما عمِلت هذه الطاعات ، فيقول له : إنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسَناته إليك )(1) .
مسوّغات الغيبة :
الغيبة المحرّمة هي ما قُصِد بها استنقاص المؤمن وإذلاله ، فإنّ لم
_____________________
(1) جامع السعادات ج 2 ص 301 .
الصفحة 226
يُقصد بها ذلك ، وتوقّف عليها غرضٌ وجيه ، فلا حُرمة فيها . وإليك ما ذكره العلماء من الموارد المسوّغة للغيبة :
1 - شكاية المتظلّم لإحقاق حقّه عند الحاكم ، فيصُحّ نسبة الجناية والظلم إلى الغير في هذه الحالة .
2 - نُصح المستشير في أمرٍ ما كالتزويج والأمانة ، فيحقّ للمستشار أنْ يذكر مثالب المسؤول عنه .
ويصحّ كذلك تحذير المؤمن من صُحبةِ فاسقٍ أو مُضلّ ، بذكر مساوئهما مِن الفِسق والضلال ، صيانةً له مِن شرّهما وإضلالهما ، ويصحّ جرح الشاهد إذا ما سُئل عنه .
3 - ردّ مَن أدّعى نسَباً مزوّراً .
4 - القدح في مقالةٍ فاسدة ، أو إدعاءٍ باطل شرعاً .
5 - الشهادة على مقترفي الجرائم والمحارم .
6 - ضرورة التعريف : وذلك بذكر الألقاب المقيتة ، التي يتوقّف عليها تعريف أصحابها ، كالأعمش والأعرج ونحوهما .
7 - النهي عن المنكر : وذلك بذكر مساوئ شخصٍ عند من يستطيع إصلاحه ونهيه عنها .
8 - غيبة المتجاهر بالفسق كشرب الخمر ، ولعب القمار ، بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به ، إذ ليس لفاسقٍ غيبة .
ولا بُدّ للمرء أنْ يستهدف في جميع تلك الموارد السالفة ، الغاية النبيلة ، والقصد السليم ، مِن بواعث الغيبة ، ويتجنّب البواعث غير النبيلة ، كالعِداء والحسَد ونحوهما .
الصفحة 227
علاج الغيبة :
وذلك باتّباع النصائح التالية :
1 - تذكّر ما عرضناه من مساوئ الغيبة ، وأخطارها الجسيمة ، في دنيا الإنسان وأُخراه .
2 - الاهتمام بتزكية النفس ، وتجميلها بالخُلُق الكريم ، وصونها عن معائب الناس ومساوئهم ، بدلاً مِن اغتيابهم واستنقاصهم .
قيل لمحمّد بن الحنفيّة : مَن أدّبك ؟ قال : ( أدّبني ربّي في نفسي ، فما استحسنته مِن أُولي الألباب والبصيرة تبِعتهم به فاستعملته ، وما استقبحت من الجُهّال اجتنبته وتركته متنفراً ، فأوصلني ذلك إلى كنوز العلم )(1) .
3 - استبدال الغيبة بالأحاديث الممتعة ، والنوادر الشيقة ، والقصص الهادفة الطريفة .
4 - ترويض النفس على صون اللسان، وكفّه عن بوادر الغيبة وقوارصها ، وبذلك تخف نوازع الغيبة وبواعثها العارمة .
كفّارة الغيبة :
وسبيلها بعد الندم على اقترافها ، والتوبة من آثامها ، التودّد إلى
_____________________
(1) سفينة البحار م 1 ص 324 .
الصفحة 228
المُستغاب ، واستبراء الذمّة منه ، فإنْ صفح وعفى ، وإلاّ كان التودّد إليه ، والاعتذار منه ، مكافئاً لسيّئة الغيبة .
هذا إذا كان المُستغاب حيّاً ، ولم يثر الاستيهاب منه غضبه وحقده ، فإنْ خيف ذلك ، أو كان ميّتاً أو غائباً ، فاللازم - والحالة هذه - الاستغفار له ، تكفيراً عن اغتيابه ، فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( سُئل النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) ما كفّارة الاغتياب ؟ قال : تستغفر اللّه لِمَن اغتبته كلّما ذكرته )(1) .
قوله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( كلّما ذكرته ) أي كلّما ذكرت المُستغاب بالغيبة .
_____________________
(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 184 عن الكافي .