الفيدرالية هي المشكلة
المستقبل - الجمعة 1 تشرين الأول 2004 - العدد 1712 - رأي و فكر - صفحة 19
محمد السمَّاك
كيف تراجع الطموح القومي العربي من رفع شعار "الوحدة من المحيط إلى الخليج" إلى الفيدرالية أو حتى الكونفدرالية العربية؟ وكيف جرى التراجع حتى عن الفيدرالية إلى القبول بصيغة جامعة الدول العربية على أنها السقف الأعلى للتضامن العربي الممكن؟
ثم كيف تحوّلت الفيدرالية من صيغة تضامنية بين الاثنتين والعشرين دولة عربية إلى صيغة تحفظ الحد الأدنى من الوحدة الوطنية داخل كل دولة على حدة؟
لقد نص الدستور المؤقت للعراق على اعتماد الفيدرالية، ليس بين العرب والأكراد فقط، بل ربما بين السنّة والشيعة، وبين التركمان والأكراد، بحيث تكون هناك فيدرالية محلية حتى داخل كل جزء من أجزاء الفيدرالية العامة.
ولم يعد ثمة شك في أن الصيغة الوحيدة التي يجري تسويقها الآن لحل المشكلة السودانية في الجنوب وفي دارفور هي صيغة الفيدرالية التي قد تشمل مناطق أخرى من البلاد.
وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن ذلك سوف يقتصر على العراق والسودان دون الدول العربية الأخرى. وسيكون من السذاجة أيضاً الاعتقاد بأن الدول العربية الصغيرة في مساحتها يمكن أن تتجنّب هذه الكأس لمجرّد أنها صغيرة في المساحة أو في عدد السكان. إذ يكفي أن يكون هناك تنوّع إثني أو مذهبي أو ديني أو حتى قبلي حتى تصبح هذه الدولة العربية أو تلك هدفاً لفتنة لا تتوقف إلا باعتماد الفيدرالية. وأول الغيث في العراق والسودان!!
إن كل المؤشرات تدل على أن الخريطة الجديدة للشرق الأوسط الكبير تستجيب للمشروع الاسرائيلي الذي يقول بوجوب أن يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو اثنية كيان سياسي خاص بها. وهذا يعني أن يكون الشرق الأوسط الجديد قطعة فسيفساء من الدويلات الصغيرة المتعددة الألوان والانتماءات والتي تحقق في صراعاتها الحتمية حول الحدود السياسية والمنافذ الستراتيجية، وحول الثروات الطبيعية من مياه ونفط... الأمن الستراتيجي لاسرائيل على المدى البعيد... وهو ما يعجز عن تحقيقه حتى المخزون النووي الاسرائيلي.
من هنا فإن على كل دولة عربية أن تعيد النظر في حساباتها وحتى في أنظمتها السياسية، بحيث تبعد عن نفسها الفتنة التي تبرمج حتى لا تنتهي إلا... بالفيدرالية. أي بإعادة لملمة الكيانات بعد تقطيعها، وبإعادة تجميع الشعب الواحد بعد تمزيقه وتحويله إلى شعوب متعادية. وبإمكان الأصابع المثيرة للفتنة أن تمتد إلى كل مجتمع عربي يتمتع بتنوّع من أي نوع ومن أي حجم.
لقد تمكن لبنان من الخروج من مثل هذه الفتنة بعد أن دفع ثمن ذلك غالياً جداً على مدى 17 عاماً من الحرب الداخلية ومن سلسلة حروب إقليمية استخدمته مسرحاً لها، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المحرّضين على الفتنة والنافخين في رمادها قد استسلموا للأمر الواقع الجديد، وتخلوا عن نواياهم. فمشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد يشكل عود الثقاب لإضرام نار الفتنة من جديد. فالتوطين إذا ما فرض بصيغة أو بأخرى ـ لا سمح الله ـ فإنه قد يطيح بالدستور وبصيغة الوفاق الوطني... وبالتالي فإنه قد يعيد فتح أبواب جهنم... حتى إذا التهمت نيرانها الأخضر واليابس ـ أو ما تبقى منه ـ تطرح الفيدرالية مخرجاً على غرار الحالات المماثلة الأخرى التي تواجهها بقية دول المنطقة.
وفي ضوء ذلك فإن من الخطأ الاعتقاد بأن كل دولة عربية تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن وحدتها بمعزل عن الدول العربية الأخرى. فالدفاع هنا حتى يكون فعالاً يكون شاملاً ومشتركاً أو لا يكون.
فالوحدة الوطنية في مصر تعني وحدة وطنية في السودان. والوحدة الوطنية في سوريا تعني وحدة وطنية في لبنان. الوحدة الوطنية في السعودية تعني وحدة وطنية في اليمن وفي سلطنة عمان... إلخ.
أما إذا سقط حجر واحد من حجارة الدومينو، فإن كل الحجارة الأخرى سوف تتداعى وتتساقط الواحدة بعد الأخرى من المحيط إلى الخليج... ويومئذ يندم الجميع ولات ساعة ندم!!
المستقبل - الجمعة 1 تشرين الأول 2004 - العدد 1712 - رأي و فكر - صفحة 19
محمد السمَّاك
كيف تراجع الطموح القومي العربي من رفع شعار "الوحدة من المحيط إلى الخليج" إلى الفيدرالية أو حتى الكونفدرالية العربية؟ وكيف جرى التراجع حتى عن الفيدرالية إلى القبول بصيغة جامعة الدول العربية على أنها السقف الأعلى للتضامن العربي الممكن؟
ثم كيف تحوّلت الفيدرالية من صيغة تضامنية بين الاثنتين والعشرين دولة عربية إلى صيغة تحفظ الحد الأدنى من الوحدة الوطنية داخل كل دولة على حدة؟
لقد نص الدستور المؤقت للعراق على اعتماد الفيدرالية، ليس بين العرب والأكراد فقط، بل ربما بين السنّة والشيعة، وبين التركمان والأكراد، بحيث تكون هناك فيدرالية محلية حتى داخل كل جزء من أجزاء الفيدرالية العامة.
ولم يعد ثمة شك في أن الصيغة الوحيدة التي يجري تسويقها الآن لحل المشكلة السودانية في الجنوب وفي دارفور هي صيغة الفيدرالية التي قد تشمل مناطق أخرى من البلاد.
وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن ذلك سوف يقتصر على العراق والسودان دون الدول العربية الأخرى. وسيكون من السذاجة أيضاً الاعتقاد بأن الدول العربية الصغيرة في مساحتها يمكن أن تتجنّب هذه الكأس لمجرّد أنها صغيرة في المساحة أو في عدد السكان. إذ يكفي أن يكون هناك تنوّع إثني أو مذهبي أو ديني أو حتى قبلي حتى تصبح هذه الدولة العربية أو تلك هدفاً لفتنة لا تتوقف إلا باعتماد الفيدرالية. وأول الغيث في العراق والسودان!!
إن كل المؤشرات تدل على أن الخريطة الجديدة للشرق الأوسط الكبير تستجيب للمشروع الاسرائيلي الذي يقول بوجوب أن يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو اثنية كيان سياسي خاص بها. وهذا يعني أن يكون الشرق الأوسط الجديد قطعة فسيفساء من الدويلات الصغيرة المتعددة الألوان والانتماءات والتي تحقق في صراعاتها الحتمية حول الحدود السياسية والمنافذ الستراتيجية، وحول الثروات الطبيعية من مياه ونفط... الأمن الستراتيجي لاسرائيل على المدى البعيد... وهو ما يعجز عن تحقيقه حتى المخزون النووي الاسرائيلي.
من هنا فإن على كل دولة عربية أن تعيد النظر في حساباتها وحتى في أنظمتها السياسية، بحيث تبعد عن نفسها الفتنة التي تبرمج حتى لا تنتهي إلا... بالفيدرالية. أي بإعادة لملمة الكيانات بعد تقطيعها، وبإعادة تجميع الشعب الواحد بعد تمزيقه وتحويله إلى شعوب متعادية. وبإمكان الأصابع المثيرة للفتنة أن تمتد إلى كل مجتمع عربي يتمتع بتنوّع من أي نوع ومن أي حجم.
لقد تمكن لبنان من الخروج من مثل هذه الفتنة بعد أن دفع ثمن ذلك غالياً جداً على مدى 17 عاماً من الحرب الداخلية ومن سلسلة حروب إقليمية استخدمته مسرحاً لها، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المحرّضين على الفتنة والنافخين في رمادها قد استسلموا للأمر الواقع الجديد، وتخلوا عن نواياهم. فمشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد يشكل عود الثقاب لإضرام نار الفتنة من جديد. فالتوطين إذا ما فرض بصيغة أو بأخرى ـ لا سمح الله ـ فإنه قد يطيح بالدستور وبصيغة الوفاق الوطني... وبالتالي فإنه قد يعيد فتح أبواب جهنم... حتى إذا التهمت نيرانها الأخضر واليابس ـ أو ما تبقى منه ـ تطرح الفيدرالية مخرجاً على غرار الحالات المماثلة الأخرى التي تواجهها بقية دول المنطقة.
وفي ضوء ذلك فإن من الخطأ الاعتقاد بأن كل دولة عربية تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن وحدتها بمعزل عن الدول العربية الأخرى. فالدفاع هنا حتى يكون فعالاً يكون شاملاً ومشتركاً أو لا يكون.
فالوحدة الوطنية في مصر تعني وحدة وطنية في السودان. والوحدة الوطنية في سوريا تعني وحدة وطنية في لبنان. الوحدة الوطنية في السعودية تعني وحدة وطنية في اليمن وفي سلطنة عمان... إلخ.
أما إذا سقط حجر واحد من حجارة الدومينو، فإن كل الحجارة الأخرى سوف تتداعى وتتساقط الواحدة بعد الأخرى من المحيط إلى الخليج... ويومئذ يندم الجميع ولات ساعة ندم!!