العضو السائل : جهاد العاملي
رقم السؤال : 127
السؤال :
مولانا الكريم سماحة الشيخ الكوراني
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته هناك سؤالا يروادني دائما حول أرض جبل عامل لما انتجت هذه الأرض من ثروة علمائية شيعية على مستوى الامة فهل هناك أحاديث مروية عن الائمة عليهم السلام تشير الى هذه الأرض المباركة و هل سيكون لها دور مع القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف؟و أسأل الله تعالى ان يديم ظلكم لنستنير دائما عطائكم الفياض و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الجواب :
الأخ المحترم العاملي ،
وفقنا الله لمعرفة قدر هذه البقعة المباركة التي أنعم الله علينا بالولادة فيها والإنتماء اليها ، وأن نحافظ على أصالتها واعتزازها بنبيها وآله الأطهار صلوات الله عليهم . فإن تاريخها مشرق ولله الحمد ، ومستقبلها مأمول في التوفيق لنصرة للإمام المهدي أرواحنا فداه .
ومن المناسب هنا أن أنقل بعض ما قاله المرحوم الحر العاملي في مقدمة أمل الآمل في تراجم علماء جبل عامل :1/11 :
( قد عزمنا على تقديم ذكر علماء جبل عامل على باقي علمائنا المتأخرين لوجوه :
( أحدها ) قضاء حق الوطن ، لما روي ( حب الوطن من الايمان ) وروي ( من إيمان الرجل حبه لقومه ) .
( وثانيها ) أنها داخله في الارض المقدسة أو متصلة بها ، كما يظهر من الاخبار ومن أقوال أكثر المفسرين في قوله تعالى : ( ادخلوا الارض المقدسة ) .
روى العياشي في تفسيره عن داود الرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث : ان الله قال : ( ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ) يعني الشام .
وروى الحميرى في قرب الاسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال قلنا له : ان أهل مصر يزعمون ان بلادهم مقدسة . . . إلى ان قال : فقال : لا ، لعمري ما ذاك كذلك ، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر ، ولا رضى عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها ، ولقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج عظام يوسف منها .. الحديث .
وروى الصدوق في الفقيه قال : قال الصادق عليه السلام : إن الله أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام ان أخرج عظام يوسف من مصر ..إلى ان قال : فلما اخرجه طلع القمر فحمله إلى الشام ، فلذلك تحمل اهل الكتاب موتاهم إلى الشام .
ويظهر من هذين الحديثين أيضا أن الارض المقدسة الشام .
وروى الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن يزيد الكناسي عن ابي جعفر عليه السلام في حديث قال : اوحى الله إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الارض المقدسة بالشام .
وقال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الارض المقدسة : هي بيت المقدس عن ابن عباس والسدي وابن زيد ، وقيل هي دمشق وفلسطين وبعض الاردن عن الزجاج والفراء ، وقيل هي الشام عن قتادة . وقيل هي ارض الطور وما حوله عن مجاهد - انتهى .
وقد عرفت ان الموافق لتفسير الائمة عليهم السلام انها الشام . [ وقد ذكر بعض المحققين أن عاملة اسم احد اولاد سبأ وانه سكن بهذا الجبل فنسب إليه . والله اعلم .
( وثالثها ) أن تشيعهم اقدم من تشيع غيرهم . فقد روي انه لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن من شيعة علي عليه السلام إلا اربعة مخلصون . سلمان ، والمقداد ، وابوذر ، وعمار ، ثم يتبعهم جماعة قليلون إثني عشر ، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر .
ثم في زمن عثمان لما اخرج أبا ذر إلى الشام بقي اياما فتشيع جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم.
ثم لما قتل عثمان وخرج أمير المؤمنين عليه السلام من المدينة إلى البصرة ومنها إلى الكوفة تشيع أكثر أهلها ومن حولها .
ولما تفرقت عماله وشيعته كان كل من دخل منهم بلادا تشيع كثير من أهل تلك البلاد بسببه .
ثم لما خرج الرضا عليه السلام إلى خراسان تشيع كثير من أهلها . وذلك مذكور في التواريخ والاحاديث .
فظهر انه لم يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة . وقد كان أيضا في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون ، وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت أهل جبل عامل .
( ورابعها ) إنها بلاد مباركة ، كما يظهر من قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله )وتلك البلاد متصلة ببلاد بيت المقدس .
( وخامسها ) ما ورد في الروايات المعتبرة عنهم عليهم السلام : ان ابراهيم عليه السلام لما دعا ربه بقوله : ( ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) أمر الله جبرئيل فاقتطع قطعة من الاردن - هي كورة من الشام - فطاف بها حول البيت سبعا فسميت الطائف . ثم وضعها في مكانها المعروف الآن ، فكانت الغلات والثمرات تجلب منها إلى مكة وما حولها إلى الآن .
هذا ملخص ما روي في هذا المعنى ، فهذه مزية واضحة وشرف ظاهر.
( وسادسها ) كثرة من خرج من جبل عامل من العلماء والفضلاء والصلحاء وأرباب الكمال ، وستعرف جملة منهم مع أني لم أطلع على الجميع ولا على مؤلفاتهم كلها ، ولا يكاد يوجد من أهل بلاد أخرى من علماء الامامية أكثر منهم ولا أحسن تأليفا وتصنيفا ، ولقد أكثر مدحهم والثناء عليهم القاضي نور الله في مجالس المؤمنين ، وذكر انه ما من قرية هناك إلا وقد خرج منها جماعة من علماء الامامية وفقهائهم - انتهى .
وقد سمعت من بعض مشايخنا انه اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهدا في عصر الشهيد وما قاربه ، وستعرف إن شاء الله ان عدد علمائهم يقارب خمس عدد علماء المتأخرين ، وكذا مؤلفاتهم بالنسبة إلى مؤلفات الباقين ، مع أن بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقل من عشر العشر - أعني جزء من مائة جزء من البلدان - فظهر ما قلناه .
( وسابعها ) ما وجدته بخط بعض علمائنا ونقل انه وجده بخط الشهيد الاول نقلا من خط إبن بابويه عن الصادق عليه السلام انه سئل كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عليه السلام وفي حال غيبته ومن أولياؤه وشيعته من المصابين منهم المتمثلين أمر أئمتهم والمقتفين لآثارهم والآخذين بأقوالهم ؟ قال عليه السلام : بلدة بالشام . قيل : يابن رسول الله ان أعمال الشام متسعة ؟ قال : بلدة بأعمال الشقيف أوتون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال . قيل يابن رسول الله هؤلاء شيعتكم ؟ قال عليه السلام : هؤلاء شيعتنا حقا ، وهم أنصارنا وإخواننا والمواسون لغريبنا والحافظون لسرنا ، واللينة قلوبهم لنا والقاسية قلوبهم على أعدائنا ، وهم كسكان السفينة في حال غيبتنا ، تمحل البلاد دون بلادهم ، ولا يصابون بالصواعق ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويعرفون حقوق الله ويساوون بين إخوانهم ، أولئك المرحومون المغفور لحيهم وميتهم وذكرهم وانثاهم ، ولاسودهم وأبيضهم وحرهم وعبدهم وان فيهم رجالا ينتظرون ، والله يحب المنتظرين .
فهذا الحديث - وان لم أجده في كتاب معتمد - لكنه لم يتضمن حكما شرعيا ، وهو مؤيد للوجوه السابقة ، وهي مؤيدة له وقرائن على ثبوت مضمونه . ولا يخفى أن المغفور لهم كلهم هم أصحاب الصفات المذكورة منهم ، وهم بعضهم أو أكثرهم ، وان المدح والذم من الخطابات ) يحسن فيها المبالغة والبناء على الاغلب ، وله نظائر كثيرة .
( وثامنها ) كثرة من دفن فيها من الانبياء والاوصياء والعلماء والصلحاء فانهم لا يعدون ولا يحصون ). انتهى.
وهذه فقرة مما كتبته جامعة المدرسين في قم المشرفة في مقدمة كتاب الدروي للشهيد الأول قدس سره :1/ 8 :
(وقد كان لبيئة جبل عامل وجزين بنحو خاص أثر في تكوين شخصية الشهيد الأول : فقد كان ( جبل عامل ) منذ ولادة فقيهنا المترجم له إلى الوقت الحاضر مركزا من مراكز الاشعاع في مجال الفكر الاسلامي ولا سيما في الدراسات الفقهية والأدبية . ورغم أن المنطقة صغيرة في حد ذاتها ، فقد قدمت للعالم الاسلامي على مدى تاريخها المشرق رجالا من ذوي الكفاءة والثقافة الراقية في مجالات الفكر الاسلامي .
ويكفي أن يتصفح الانسان كتاب ( أمل الآمل ) وما ألحق به من مستدركات وتكملات ، ليلمس أهمية هذا القطر من الناحية الفكرية والفقهية بصورة خاصة . ومجتمع عاملة بشكل عام مجتمع فكري ، يطبع حياتها طابع الحياة الجامعية فهناك في عاملة تكثر الندوات العلمية ، والحلقات الدراسية ومجالس البحث والمناقشة . وحتى في المجالس العامة يطغى حديث العلم والأدب على أي لون آخر من ألوان الحديث ، وتكثر المساجد بينهم وتعاطي الشعر المرتجل الذي يخلو من أي تكلف وصنعة . وقد تكون الصورة التقريبية التي يعطيها الشيخ ( الحر العاملي ) في كتابه ( أمل الآمل ) لموقعية هذا القطر من الناحية الثقافية أقرب من غيرها في إعطاء فكرة مجملة عن هذا القطر .
يقول ( الشيخ الحر العاملي رحمه الله ) : " إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الاقطار مع أن بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة . في مثل هذه البيئة نشأ الشهيد الأول . وفتح عينيه على الحياة فخالط العلماء . وارتاد المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف هذا القطر : واشترك في حلقات الدراسة التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت ، وتعاطى فيها طرفا من العلم ، وساهم فيما كان يدور بين الاساتذة والطلاب ، أو بين الطلاب أنفسهم : من خلاف وشجار يحتد حينا ، ويلين آخر وكون لنفسه بمرور الزمن آراء خاصة في مسائل الفقه والآداب ، وأعانته على ذلك ثقافته الشخصية ، ومؤهلاته الفكرية ، وقريحته الوقادة .
ولا نعلم شيئا صحيحا عن بداية أمر هذا القطر ، وظهور الحركة الفكرية الشيعية فيها ، إلا أنا نعلم أن الصحابي الجليل ( أبا ذر ) رضي الله عنه لما نفي إلى ( الشام ) في عهد ( عثمان بن عفان ) نزل هذا القطر ، واتخذ لنفسه فيه مقامين في قريتي ( الصرفند ) على ساحل البحر الأبيض ( ومخاليس الجبل ) في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية تطل على الاردن ولا يزال هناك مسجدان في هاتين القريتين تعرفان باسمه . وفي غالب الظن أن التشيع انبثق من هذين المقامين ، ومن أيام نزول ( أبي ذر ) بجبل عامل بالذات .
فأصبح وهو لم يتجاوز بعد المراحل الأولى من دراسته يشار إليه بالفضل والعلم ، وينبأ له بمستقبل رفيع في مجالات الثقافة والفكر . وفي البيت كان يجد من والده الشيخ ( مكي جمال الدين ) دافعا قويا لممارسة الدراسة ، وباعثا على التفكير والدرس ، كما كان يجد من المجالس التي كانت تعقد في بيتهم بين حين وآخر ، ويحضرها نفر من العلماء المرموقين في المنطقة مجالا خصبا للتفكير والمناقشة وإبداء الرأي . كذلك نشأ شيخنا الفقيه المترجم له في بيئة ( عاملة ) يجلس إلى حلقاتها ، ويرتاد مجالسها ، ويشترك فيما يجري فيها من نقاش وجدال ويستمع إلى العلماء من مدرسيه . وبهذا الشكل استطاع وهو يقطع المرحلة الأولى من نشأته الفكرية أن برز بشكل ملحوظ في مجال العلم والأدب بين أقرانه وأترابه . رحلاته وشيوخه : لم يقتصر الشهيد الأول على الثقافة التي تلقاها في مسقط رأسه ( جزين ) وإنما تجاوزها إلى أقطار بعيدة وقريبة أخرى من ( مراكز الفكر الاسلامي ) في ذلك العهد . وأهم هذه الاقطار التي شد إليها الشهيد الأول الرحال لتلقي العلم أو الافادة هي ( الحلة وكربلاء وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة والشام والقدس ) . وكانت هذه الاقطار في القرن الثامن الهجري من أهم مراكز الثقافة الاسلامية ، ولا سيما الحلة ، فقد كانت يومذاك ، مركزا فكريا كبيرا من مراكز الثقافة الاسلامية الشيعية ، ومنطلقا للحركة العقلية في أوساط العالم الاسلامي . وقد تكرر سفر الشهيد الأول إلى ( الحلة ) وتلقي العلم فيها على يد شيوخ كبار ، وأساتذة مرموقين من أمثال ( فخر المحققين ) ابن ( العلامة الحلي ) ، وغيرهم . وإذا كانت ( الحلة وكربلاء المقدسة وبغداد ) تعتبر ذلك اليوم مراكز للفقه الشيعي ، والدراسات الشيعية فقد تكررت زيارات الشهيد للحرمين الشريفين ، حيث كان طابع الفكر فيها جميعا طابعا سنيا . وأتيح ( للشهيد الأول ) عن طريق هذه الاسفار أن يندمج في أطر ثقافية مختلفة ، ويعيش وجوها مختلفة من الفكر ، ويتفاعل مع الاتجاهات الفكرية المتضاربة . فكان على صلة وثيقة بالاتجاهات الفكرية السنية ...
مدرسة جزين :
كان الشيعة في ( جبل عامل ) و ( سوريا ) عامة - وهم قلة في البلد في عهد ( الامويين والعباسيين ) - يعيشون تحت ضغط الارهاب السياسي وكان هذا الضغط والارهاب السياسي يمنعهم من القيام بنشاط ثقافي أو سياسي ملموس . حتى إذا زالت ( دولة العباسيين ) وظهرت ( دولة البويهين ) في ( العراق وفارس ) . و ( دولة الحمدانيين ) في ( الموصل وحلب ) . و ( دولة العلويين ) في ( مصر والشام والحجاز وأفريقيا ) استطاع الشيعة أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسي ، وأن يدعوا علانية إلى التشيع . فظهر في هذه الفترة نشاط سياسي وثقافي ملموس للشيعة في ( سوريا ) عامة ، وفي ( جبل عامل ) خاصة ، مما نستعرضها قريبا عند الحديث عن الجانب السياسي من حياة الشهيد . فكان من أثر ذلك ظهور ( مدرسة حلب ) لبني زهرة ، وظهور نشاط ثقافي شيعي في ( جبل عامل ) ، فقد كثرت ( المدارس الفقهية الشيعية ) في جبل عامل . وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر . وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي ( مدرسة جزين ) للشهيد الأول .
ويبدو أنها كانت طليعة النشاط الثقافي والسياسي الشيعي في جبل عامل . فحين اكمل الشهيد دراسته في الحلة ، وفرض نفسه على الاوساط الثقافية ، واحتل لنفسه مكانة رفيعة فيها رجع إلى ( جزين ) مسقط رأسه وفيها ابتدأ بنشاط ثقافي وسياسي ملموس لنشر التشيع والفقه الشيعي في هذه الاقطار ، فأسس معهدا كبيرا لتدريس الفقه والأصول على مستويات مختلفة في جزين ، عرف ب : ( مدرسة جزين ) . وقدر لهذه المدرسة بفضل عناية مؤسسها الشهيد أن تربي عددا كبيرا من الفقهاء والأصوليين ، وأن تخرج جمعا كبيرا من المفكرين الاسلاميين .
ذلك جانب من ثقافة الشهيد وآثاره في الفقه والأصول ، وما ترك من أثر كبير في تطوير مناهج دراسة الفقه والأصول ، ونماذج من تلاميذه من الفقهاء ومنشآته الثقافية . ويخال إلي أن القارئ يستطيع بعد هذا العرض السريع للجانب الثقافي من حياة الشهيد أن يلمس طرفا من شخصية الشهيد الثقافية وأثره الكبير في (تاريخ الفقه الشيعي ) .
رقم السؤال : 127
السؤال :
مولانا الكريم سماحة الشيخ الكوراني
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته هناك سؤالا يروادني دائما حول أرض جبل عامل لما انتجت هذه الأرض من ثروة علمائية شيعية على مستوى الامة فهل هناك أحاديث مروية عن الائمة عليهم السلام تشير الى هذه الأرض المباركة و هل سيكون لها دور مع القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف؟و أسأل الله تعالى ان يديم ظلكم لنستنير دائما عطائكم الفياض و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الجواب :
الأخ المحترم العاملي ،
وفقنا الله لمعرفة قدر هذه البقعة المباركة التي أنعم الله علينا بالولادة فيها والإنتماء اليها ، وأن نحافظ على أصالتها واعتزازها بنبيها وآله الأطهار صلوات الله عليهم . فإن تاريخها مشرق ولله الحمد ، ومستقبلها مأمول في التوفيق لنصرة للإمام المهدي أرواحنا فداه .
ومن المناسب هنا أن أنقل بعض ما قاله المرحوم الحر العاملي في مقدمة أمل الآمل في تراجم علماء جبل عامل :1/11 :
( قد عزمنا على تقديم ذكر علماء جبل عامل على باقي علمائنا المتأخرين لوجوه :
( أحدها ) قضاء حق الوطن ، لما روي ( حب الوطن من الايمان ) وروي ( من إيمان الرجل حبه لقومه ) .
( وثانيها ) أنها داخله في الارض المقدسة أو متصلة بها ، كما يظهر من الاخبار ومن أقوال أكثر المفسرين في قوله تعالى : ( ادخلوا الارض المقدسة ) .
روى العياشي في تفسيره عن داود الرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث : ان الله قال : ( ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ) يعني الشام .
وروى الحميرى في قرب الاسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال قلنا له : ان أهل مصر يزعمون ان بلادهم مقدسة . . . إلى ان قال : فقال : لا ، لعمري ما ذاك كذلك ، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر ، ولا رضى عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها ، ولقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج عظام يوسف منها .. الحديث .
وروى الصدوق في الفقيه قال : قال الصادق عليه السلام : إن الله أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام ان أخرج عظام يوسف من مصر ..إلى ان قال : فلما اخرجه طلع القمر فحمله إلى الشام ، فلذلك تحمل اهل الكتاب موتاهم إلى الشام .
ويظهر من هذين الحديثين أيضا أن الارض المقدسة الشام .
وروى الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن يزيد الكناسي عن ابي جعفر عليه السلام في حديث قال : اوحى الله إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الارض المقدسة بالشام .
وقال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الارض المقدسة : هي بيت المقدس عن ابن عباس والسدي وابن زيد ، وقيل هي دمشق وفلسطين وبعض الاردن عن الزجاج والفراء ، وقيل هي الشام عن قتادة . وقيل هي ارض الطور وما حوله عن مجاهد - انتهى .
وقد عرفت ان الموافق لتفسير الائمة عليهم السلام انها الشام . [ وقد ذكر بعض المحققين أن عاملة اسم احد اولاد سبأ وانه سكن بهذا الجبل فنسب إليه . والله اعلم .
( وثالثها ) أن تشيعهم اقدم من تشيع غيرهم . فقد روي انه لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن من شيعة علي عليه السلام إلا اربعة مخلصون . سلمان ، والمقداد ، وابوذر ، وعمار ، ثم يتبعهم جماعة قليلون إثني عشر ، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر .
ثم في زمن عثمان لما اخرج أبا ذر إلى الشام بقي اياما فتشيع جماعة كثيرة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم.
ثم لما قتل عثمان وخرج أمير المؤمنين عليه السلام من المدينة إلى البصرة ومنها إلى الكوفة تشيع أكثر أهلها ومن حولها .
ولما تفرقت عماله وشيعته كان كل من دخل منهم بلادا تشيع كثير من أهل تلك البلاد بسببه .
ثم لما خرج الرضا عليه السلام إلى خراسان تشيع كثير من أهلها . وذلك مذكور في التواريخ والاحاديث .
فظهر انه لم يسبق أهل جبل عامل إلى التشيع إلا جماعة محصورون من أهل المدينة . وقد كان أيضا في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون ، وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت أهل جبل عامل .
( ورابعها ) إنها بلاد مباركة ، كما يظهر من قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله )وتلك البلاد متصلة ببلاد بيت المقدس .
( وخامسها ) ما ورد في الروايات المعتبرة عنهم عليهم السلام : ان ابراهيم عليه السلام لما دعا ربه بقوله : ( ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) أمر الله جبرئيل فاقتطع قطعة من الاردن - هي كورة من الشام - فطاف بها حول البيت سبعا فسميت الطائف . ثم وضعها في مكانها المعروف الآن ، فكانت الغلات والثمرات تجلب منها إلى مكة وما حولها إلى الآن .
هذا ملخص ما روي في هذا المعنى ، فهذه مزية واضحة وشرف ظاهر.
( وسادسها ) كثرة من خرج من جبل عامل من العلماء والفضلاء والصلحاء وأرباب الكمال ، وستعرف جملة منهم مع أني لم أطلع على الجميع ولا على مؤلفاتهم كلها ، ولا يكاد يوجد من أهل بلاد أخرى من علماء الامامية أكثر منهم ولا أحسن تأليفا وتصنيفا ، ولقد أكثر مدحهم والثناء عليهم القاضي نور الله في مجالس المؤمنين ، وذكر انه ما من قرية هناك إلا وقد خرج منها جماعة من علماء الامامية وفقهائهم - انتهى .
وقد سمعت من بعض مشايخنا انه اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهدا في عصر الشهيد وما قاربه ، وستعرف إن شاء الله ان عدد علمائهم يقارب خمس عدد علماء المتأخرين ، وكذا مؤلفاتهم بالنسبة إلى مؤلفات الباقين ، مع أن بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقل من عشر العشر - أعني جزء من مائة جزء من البلدان - فظهر ما قلناه .
( وسابعها ) ما وجدته بخط بعض علمائنا ونقل انه وجده بخط الشهيد الاول نقلا من خط إبن بابويه عن الصادق عليه السلام انه سئل كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عليه السلام وفي حال غيبته ومن أولياؤه وشيعته من المصابين منهم المتمثلين أمر أئمتهم والمقتفين لآثارهم والآخذين بأقوالهم ؟ قال عليه السلام : بلدة بالشام . قيل : يابن رسول الله ان أعمال الشام متسعة ؟ قال : بلدة بأعمال الشقيف أوتون وبيوت وربوع تعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال . قيل يابن رسول الله هؤلاء شيعتكم ؟ قال عليه السلام : هؤلاء شيعتنا حقا ، وهم أنصارنا وإخواننا والمواسون لغريبنا والحافظون لسرنا ، واللينة قلوبهم لنا والقاسية قلوبهم على أعدائنا ، وهم كسكان السفينة في حال غيبتنا ، تمحل البلاد دون بلادهم ، ولا يصابون بالصواعق ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويعرفون حقوق الله ويساوون بين إخوانهم ، أولئك المرحومون المغفور لحيهم وميتهم وذكرهم وانثاهم ، ولاسودهم وأبيضهم وحرهم وعبدهم وان فيهم رجالا ينتظرون ، والله يحب المنتظرين .
فهذا الحديث - وان لم أجده في كتاب معتمد - لكنه لم يتضمن حكما شرعيا ، وهو مؤيد للوجوه السابقة ، وهي مؤيدة له وقرائن على ثبوت مضمونه . ولا يخفى أن المغفور لهم كلهم هم أصحاب الصفات المذكورة منهم ، وهم بعضهم أو أكثرهم ، وان المدح والذم من الخطابات ) يحسن فيها المبالغة والبناء على الاغلب ، وله نظائر كثيرة .
( وثامنها ) كثرة من دفن فيها من الانبياء والاوصياء والعلماء والصلحاء فانهم لا يعدون ولا يحصون ). انتهى.
وهذه فقرة مما كتبته جامعة المدرسين في قم المشرفة في مقدمة كتاب الدروي للشهيد الأول قدس سره :1/ 8 :
(وقد كان لبيئة جبل عامل وجزين بنحو خاص أثر في تكوين شخصية الشهيد الأول : فقد كان ( جبل عامل ) منذ ولادة فقيهنا المترجم له إلى الوقت الحاضر مركزا من مراكز الاشعاع في مجال الفكر الاسلامي ولا سيما في الدراسات الفقهية والأدبية . ورغم أن المنطقة صغيرة في حد ذاتها ، فقد قدمت للعالم الاسلامي على مدى تاريخها المشرق رجالا من ذوي الكفاءة والثقافة الراقية في مجالات الفكر الاسلامي .
ويكفي أن يتصفح الانسان كتاب ( أمل الآمل ) وما ألحق به من مستدركات وتكملات ، ليلمس أهمية هذا القطر من الناحية الفكرية والفقهية بصورة خاصة . ومجتمع عاملة بشكل عام مجتمع فكري ، يطبع حياتها طابع الحياة الجامعية فهناك في عاملة تكثر الندوات العلمية ، والحلقات الدراسية ومجالس البحث والمناقشة . وحتى في المجالس العامة يطغى حديث العلم والأدب على أي لون آخر من ألوان الحديث ، وتكثر المساجد بينهم وتعاطي الشعر المرتجل الذي يخلو من أي تكلف وصنعة . وقد تكون الصورة التقريبية التي يعطيها الشيخ ( الحر العاملي ) في كتابه ( أمل الآمل ) لموقعية هذا القطر من الناحية الثقافية أقرب من غيرها في إعطاء فكرة مجملة عن هذا القطر .
يقول ( الشيخ الحر العاملي رحمه الله ) : " إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الاقطار مع أن بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة . في مثل هذه البيئة نشأ الشهيد الأول . وفتح عينيه على الحياة فخالط العلماء . وارتاد المجالس والندوات العلمية التي كانت تعقد في أطراف هذا القطر : واشترك في حلقات الدراسة التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت ، وتعاطى فيها طرفا من العلم ، وساهم فيما كان يدور بين الاساتذة والطلاب ، أو بين الطلاب أنفسهم : من خلاف وشجار يحتد حينا ، ويلين آخر وكون لنفسه بمرور الزمن آراء خاصة في مسائل الفقه والآداب ، وأعانته على ذلك ثقافته الشخصية ، ومؤهلاته الفكرية ، وقريحته الوقادة .
ولا نعلم شيئا صحيحا عن بداية أمر هذا القطر ، وظهور الحركة الفكرية الشيعية فيها ، إلا أنا نعلم أن الصحابي الجليل ( أبا ذر ) رضي الله عنه لما نفي إلى ( الشام ) في عهد ( عثمان بن عفان ) نزل هذا القطر ، واتخذ لنفسه فيه مقامين في قريتي ( الصرفند ) على ساحل البحر الأبيض ( ومخاليس الجبل ) في الجهة الجنوبية الشرقية من جبل عامل على رابية تطل على الاردن ولا يزال هناك مسجدان في هاتين القريتين تعرفان باسمه . وفي غالب الظن أن التشيع انبثق من هذين المقامين ، ومن أيام نزول ( أبي ذر ) بجبل عامل بالذات .
فأصبح وهو لم يتجاوز بعد المراحل الأولى من دراسته يشار إليه بالفضل والعلم ، وينبأ له بمستقبل رفيع في مجالات الثقافة والفكر . وفي البيت كان يجد من والده الشيخ ( مكي جمال الدين ) دافعا قويا لممارسة الدراسة ، وباعثا على التفكير والدرس ، كما كان يجد من المجالس التي كانت تعقد في بيتهم بين حين وآخر ، ويحضرها نفر من العلماء المرموقين في المنطقة مجالا خصبا للتفكير والمناقشة وإبداء الرأي . كذلك نشأ شيخنا الفقيه المترجم له في بيئة ( عاملة ) يجلس إلى حلقاتها ، ويرتاد مجالسها ، ويشترك فيما يجري فيها من نقاش وجدال ويستمع إلى العلماء من مدرسيه . وبهذا الشكل استطاع وهو يقطع المرحلة الأولى من نشأته الفكرية أن برز بشكل ملحوظ في مجال العلم والأدب بين أقرانه وأترابه . رحلاته وشيوخه : لم يقتصر الشهيد الأول على الثقافة التي تلقاها في مسقط رأسه ( جزين ) وإنما تجاوزها إلى أقطار بعيدة وقريبة أخرى من ( مراكز الفكر الاسلامي ) في ذلك العهد . وأهم هذه الاقطار التي شد إليها الشهيد الأول الرحال لتلقي العلم أو الافادة هي ( الحلة وكربلاء وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة والشام والقدس ) . وكانت هذه الاقطار في القرن الثامن الهجري من أهم مراكز الثقافة الاسلامية ، ولا سيما الحلة ، فقد كانت يومذاك ، مركزا فكريا كبيرا من مراكز الثقافة الاسلامية الشيعية ، ومنطلقا للحركة العقلية في أوساط العالم الاسلامي . وقد تكرر سفر الشهيد الأول إلى ( الحلة ) وتلقي العلم فيها على يد شيوخ كبار ، وأساتذة مرموقين من أمثال ( فخر المحققين ) ابن ( العلامة الحلي ) ، وغيرهم . وإذا كانت ( الحلة وكربلاء المقدسة وبغداد ) تعتبر ذلك اليوم مراكز للفقه الشيعي ، والدراسات الشيعية فقد تكررت زيارات الشهيد للحرمين الشريفين ، حيث كان طابع الفكر فيها جميعا طابعا سنيا . وأتيح ( للشهيد الأول ) عن طريق هذه الاسفار أن يندمج في أطر ثقافية مختلفة ، ويعيش وجوها مختلفة من الفكر ، ويتفاعل مع الاتجاهات الفكرية المتضاربة . فكان على صلة وثيقة بالاتجاهات الفكرية السنية ...
مدرسة جزين :
كان الشيعة في ( جبل عامل ) و ( سوريا ) عامة - وهم قلة في البلد في عهد ( الامويين والعباسيين ) - يعيشون تحت ضغط الارهاب السياسي وكان هذا الضغط والارهاب السياسي يمنعهم من القيام بنشاط ثقافي أو سياسي ملموس . حتى إذا زالت ( دولة العباسيين ) وظهرت ( دولة البويهين ) في ( العراق وفارس ) . و ( دولة الحمدانيين ) في ( الموصل وحلب ) . و ( دولة العلويين ) في ( مصر والشام والحجاز وأفريقيا ) استطاع الشيعة أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسي ، وأن يدعوا علانية إلى التشيع . فظهر في هذه الفترة نشاط سياسي وثقافي ملموس للشيعة في ( سوريا ) عامة ، وفي ( جبل عامل ) خاصة ، مما نستعرضها قريبا عند الحديث عن الجانب السياسي من حياة الشهيد . فكان من أثر ذلك ظهور ( مدرسة حلب ) لبني زهرة ، وظهور نشاط ثقافي شيعي في ( جبل عامل ) ، فقد كثرت ( المدارس الفقهية الشيعية ) في جبل عامل . وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر . وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي ( مدرسة جزين ) للشهيد الأول .
ويبدو أنها كانت طليعة النشاط الثقافي والسياسي الشيعي في جبل عامل . فحين اكمل الشهيد دراسته في الحلة ، وفرض نفسه على الاوساط الثقافية ، واحتل لنفسه مكانة رفيعة فيها رجع إلى ( جزين ) مسقط رأسه وفيها ابتدأ بنشاط ثقافي وسياسي ملموس لنشر التشيع والفقه الشيعي في هذه الاقطار ، فأسس معهدا كبيرا لتدريس الفقه والأصول على مستويات مختلفة في جزين ، عرف ب : ( مدرسة جزين ) . وقدر لهذه المدرسة بفضل عناية مؤسسها الشهيد أن تربي عددا كبيرا من الفقهاء والأصوليين ، وأن تخرج جمعا كبيرا من المفكرين الاسلاميين .
ذلك جانب من ثقافة الشهيد وآثاره في الفقه والأصول ، وما ترك من أثر كبير في تطوير مناهج دراسة الفقه والأصول ، ونماذج من تلاميذه من الفقهاء ومنشآته الثقافية . ويخال إلي أن القارئ يستطيع بعد هذا العرض السريع للجانب الثقافي من حياة الشهيد أن يلمس طرفا من شخصية الشهيد الثقافية وأثره الكبير في (تاريخ الفقه الشيعي ) .