
مسجد جمكران المقدس، مسجد شريف منّ اللّه تعالى بوجوده في بلدة قم المقدسة، على كلّ المؤمنين والموالين لأهل البيت عليهم السلام ومنتظري الإمام الحجّة عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف في زمن غيبته الكبرى.
هذه البقعة المباركة تمتاز بأمور عدّة من جملتها:
أولاً: كونها مسجداً من مساجد اللّه التي يعبد اللّه فيها ويذكر فيها اسمه، وبما أنّه اسّس على التقوى فالقيام فيه أولى من أيّ مكان آخر حيث يقرّب العبد الى اللّه جلّ وعلا، ويهييء الأرضية لوصول العبد الى مرضاة ربّه. ويمكن أن يكون في تكرار الآية الشريفة (ايّاك نعبد وإيّاك نستعين) مائة مرّة في كل ركعة من صلوة الإمام الحجّة الواردة في اعمال هذا المسجد، حكمةٌ تلمح الى ان المكان هذا بما فيه من بركات تحت رعاية الإمام المهدي عليهالسلام ليس الاّ مسجداً لعبادة اللّه وطلب العون منه كما انّ الإمام عليهالسلام نفسه ليس إلاّ وسيلةً للتقرّب منه وباباً للإهتداء إليه.
ثانياً: المكان الذي بني عليه المسجد، من الأمكنة المشرّفة التي اختارها اللّه من قبل، كما جاء في خبر حسنبن مثلة عن قول الإمام الحجّة عليهالسلام:
وهذه الأرض شريفة ومقدّسة. وقد اختارها اللّه تعالى دون البقاع الاُخرى. وشرّفها على غيرها
ولايخفى أن شرف المكان وقداسته يؤثّر في توفير الجوّ المساعد للحصول على استعداد روحي لتلقّي البركات الالهيّة، والفيوضات الربّانية.
ثالثاً: قربها من مدينة قم المقدسة التي اعتبروها (عشّ آلمحمّد) صلىاللَّه عليه وآله بما فيها من مقامات ومزارات، وبما كان فيها من عناية الهيّة جمعت فيها اكبر عدد من جنود الإمام الحجّة في حوزاتها العلميّة. وكونها تجاور مرقد السيّدة فاطمة بنت موسىبن جعفر عليهم السلام التي تعتبر كريمة أهل البيت عليهم السلام، لايخلو يوم إلاّ وفيه من كراماتها التي تشمل الصغير والكبير بشفاءٍ من مرض أو قضاء حاجة أو نصرة في الدين والدنيا، وهناك حكاية حكاها آية اللّه المرحوم السيد شهابالدين المرعشي النجفي لبعض الموثّقين بأن أباه رحمه اللّه كان من العلماء المقيمين بالنجف الاشرف، وكثيراً ما كان يزور حرم أميرالمؤمنين عليهالسلام ويبكي ويشتكي إليه من اختفاء قبر جدّته السيّدة الزهراء عليها السلام ويطلب منه إظهار قبرها له، ودلالته على تربتها المباركة. وذات ليلة رأى في المنام أميرالمؤمنين علياً عليهالسلام يلاطفه ويقول له آسفاً:
ان اختفاء قبر الزهراء عليها السلام من أسرار اللّه، ولايمكن كشفه قبل قيام الحجّة عليهالسلام ولكن إذا أردت زيارتها عن قرب وأن تكون بجوار قبرها فقم وارحل الى قم واسكن بجوار السيدة المعصومة عليها السلام.
رابعاً: بني المسجد بأمر خاص من الحجة المنتظر عليهالسلام وبتفاصيل ستأتي فيما بعد، حيث أمر عليهالسلام حسنبن مثلة ببنائه مشافهة، أمراً لم يتكرر في مكان آخر، وأوصى للناس أن لايتأخروا ولايتوانوا في زيارة هذا الموضع الشريف وأن يجلّوه ويعظّموه.
وهذه الميزة تكفي في شرافة وقداسة هذا المسجد المعظّم، حيث تجعله في عداد القليل من المساجد المتميّزة في العالم أجمع كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلىاللَّه عليه وآله كما جاء في قوله عليهالسلام:
من صلاّهما فكأنما صلّى في البيت العتيق.
خامساً: تردّد آلاف من المخلصين الموالين لأهل البيت عليهم السلام اليه، من بينهم كبار العلماء والعرفاء الذين كانوا ولايزالون يقطعون مسافات طويلة وربما مشياً على الاقدام كل أسبوع لتجديد عهد الولاء والنصرة مع صاحبهم الإمام المهدي عليهالسلام. وبوجودهم في هذا المكان المقدّس يسبّبون نزول الرحمة والبركات الإلهية التي تشمل جميع الحضور. ويجلبون نوراً رحمانيّاً لينوّر كل القلوب.
فكم من عاصٍ لاذ الى هذا الملاذ ولان قلبه إلى ذكر اللّه.
وكم من بعيدٍ زار هذا المقام وأصبح من المقرّبين.
وهذا الاجتماع المتواصل يوميّاً وأسبوعياً تحت راية الامام الحجّة عليهالسلام وتحت قبّة بنيت باسمه الشريف اجتماع قل نظيره في مشارق الأرض ومغاربها، يبشّر بشارة نصر للولاية وربما بشارة قرب لظهور الحجّة ان شاء اللّه.
سادساً: كون هذا المسجد ميعاداً وميقاتاً لكلّ من يعشق المولى عليهالسلام وعلى عاتقه بيعة الولاء، أو يعاني من بلاء وفي قلبه الرجاء، يأتي الى هذا المقام حتى يرى من يروي الغليل أو يشفي العليل.
فالمحب يزور المسجد ويشمّ رائحة الحبيب عليهالسلام من كل لبنة من جدرانه. ومن كل حصاة تقبّل قدم زائريه.
والمريض يزور المسجد ويعافى بيد الطبيب عليهالسلام.
ولذي الحاجة في المسجد باب يدخل منه. ولدى الباب كريم رؤوف لايردّ من يريد الدخول. هنالك الكثير زاروا إمامهم الغائب عليهالسلام في مسجد جمكران وكثيرون حصلوا فيه على ما طلبوا منه عليهالسلام .
وكلّ هذا يدلّ على حضوره بين شيعته ومحبّيه في مسجده من حين لآخر.
والفضل كل الفضل أن يستنشق الانسان هواء يستنشقه الإمام الهادي المهدي المنتظر بقيّة اللّه في أرضه وخليفته في خلقه وحجّته على عباده، أنيس الموحّدين وإمام المؤمنين و غياث المستغيثين ومنجي المستضعفين محمّدبن الحسن العسكري ارواحنا لتراب مقدمه الفداء

قصّة بناء مسجد جمكران
نقل الشيخ الفاضل الحسنبن محمدبن الحسن القمّي المعاصر للشيخ الصدوق في كتابه تاريخ قم:
انّ سبب بناء المسجد المقدس في جمكران كان بأمر الإمام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف على ما أخبر به الشيخ العفيف الصالح الحسنبن مثلة الجمكراني حيث قال:
كنت ليلة الثلاثاء، السابع عشر من شهر رمضان المبارك، سنة ثلاث و تسعين و ثلاثمائة للهجرة، نائماً في بيتي. فلمّا مضى نصف من الليل إذا بصوت على الباب أيقظني، فسمعت النداء: قم وأجب الإمام المهدي عليهالسلام فإنّه يدعوك.
فقمتُ متأهّباً، وقلتُ: دعوني البس قميصي فإذا بالنداء من خلف الباب يخاطبني: ما بيدك ليس قميصك. فتركته وأخذتُ سروالاً، فجاء النداء: وليس ذلك منك أيضاً، فخذ سراويلك فألقيته، وأخذتُ سروالي ولبسته. فقمتُ اطلبُ مفتاح الباب فنودي: الباب مفتوح.
فلما جئتُ الى الباب، رأيتُ قوماً سيماهم في وجوههم من اثر السجود تبدو عليهم علائم الهيبة والوقار، فسلّمت عليهم، فردّوا ورحّبوا بي، وأخذوني الى موضع المسجد، وكانت أرضاً مزروعة في الجانب الشرقي للقرية، وكنّا نعتبرها من أراضي الحسنبن مسلم الذي كان يتردّد كثيراً بين جمكران ومدينة قم.
وحينما وصلت رأيت صاحب العصر (روحي فداه) في هيئة ابن الثلاثين ونور وجهه قد عمّ المقام وكأنه القمر ليلة تمامه، جالساً على أريكة ومتكئاً على وسادة، وبين يديه شيخ جليل وبيده كتاب يقرؤه عليه. وحوله اكثر من ستين رجلاً يصلّون في تلك البقعة، على بعضهم ثياب بيض وعلى بعضهم الآخر ثياب خضر، وكأني في روضة من رياض الجنّة الفردوس، يملأ هذا المنظر قلبي نوراً رحمانياً وينشر في اعماق وجودي عطراً كأنّه من عالم الملكوت. فتقربت مندهشاً وسلّمت عليهم.
وكان ذلك الشيخ هو الخضر عليهالسلام فردّ السلام متبسّماً وأجلسني فخاطبني الإمام عليهالسلام باسمي وقال:
إعلم أيّها الحسنبن مثلة، أنّ هذه الأرض التي نحن فيها، بقعة شريفة، قد اختارها اللّه تعالى دون غيرها من الأراضي وشرّفها، وأردنا أن يُبنى فيها مسجد، فاذهب الى السيد أبي الحسن وقل له أن يأتي ويُحضر الحسنبن مسلم الذي بيده الأرض.
فلمّا حضر، قل له: منذ سنين وأنت تعمر هذه الأرض الموقوفة، غاصباً لها. زرعت فيما مضى خمس سنين، ولازلت حتى هذا العام على حالك في الزراعة والعمارة. وقد عصيت ربّك وظلمت حقّ ولي أمرك باضافتك هذه الأرض الشريفة إلى أراضيك، فجازاك اللّه بأخذ شابين من ولدك فلم تنتبه من غفلتك. فلا إمهال بعد الآن وعليك دفعها الى الناس، ليبنوا فيها المسجد، كما عليك ردّ ما انتفعت به من غلاّت هذه الأرض، لصرفها في بنائه، وإن لم تفعل ذلك، اصابك من نقمة اللّه ما لا تحتسب.
قلت: سمعاً وطاعة سيدي ومولاي.
قال عليهالسلام: جعلنا السيد أبا الحسن مشرفاً على بناء المسجد. فقل له أن يطالب الرجل بما أخذ من منافع تلك السنين ويدفعها الى الذين يشاركون في بناء المسجد، ويتمّ ما نقص منه من (رهق) ملكنا بمنطقة (أردهال) حتى يكمل بناء المسجد. فقد وقفنا نصف الرهق لهذا المسجد. فلتجلب غلّته كلّ عام وتُصرف في عمارته. وقل للناس أن لايتأخروا ولايتوانوا في زيارة هذا الموضع الشريف فليرغبوا إليه ويعزروه.
قلت: يا سيدي، لابد لي في ذلك من علامة، فإنّ القوم لايستمعون لما لا علامة ولا حجّة عليه، ولايصدّقون قولي.
قال عليهالسلام: إنّا سنضع للمسجد علامة ولك علامة، فاذهب وبلغ رسالتنا.
فقمت مودّعاً، فما مشيت قليلاً إلاّ ودعاني إليه. وقال:
إنّ في قطيع جعفر الكاشاني الراعي معزاً، عليك أن تشتريه. وأت به الى هذا الموضع واذبحه الليلة الآتية ووزّع لحمه يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رمضان المبارك على المرضى ومن به علّة شديدة. فإن اللّه يشفيهم جميعاً. والمعز هذا أبلق، كثيف الشعر، وله سبع علامات: ثلاث على جانب وأربع على الآخر سودٌ وبيض كالدراهم.
فمكث لحظات وهو ينظر الى من حوله بحنانٍ وهم بين قائم وراكع وساجد. فأطرق رأسه مليّاً ثم نظر إليّ وقال:
اقم بهذا المكان سبعة أيام ( في نسخة ((إحضر هذا المكان سبعين يوما)) فان أمر بالسبعة، ينطبق على ليلة القدر وهي الثالث والعشرون من شهر رمضان المبارك. وان أمر بالسبعين، ينطبق على الخامس والعشرين من ذي القعدة، وهو يوم مبارك) وصلّ فيه أربع ركعات. اثنتان تحيّةً للمسجد. تقرأ في كل ركعة سورة الفاتحة مرّة وسورة الاخلاص سبع مرات. وتسبّح في الركوع والسجود سبع مرات. وركعتان صلوة الإمام صاحب الزمان عليهالسلام تقرأ في الركعة الأولى سورة الفاتحة فإذا وصلت الى (إياك نعبد وإياك نستعين) تكرر الآية مائة مرّة. ثم تكملها وتقرأ سورة الإخلاص مرةً وتسبّح في الركوع والسجود سبع مرات. وهكذا تصنع في الركعة الثانية.
فإذا أتممت الصلاة، تهلّل مرّة واحدة وتأتي بتسبيحة الزهراء(عليها السلام) فإذا فرغت منها، تسجد وتصلّي على النبي(صلىاللَّه عليه وآله) مائة مرّة.
ثم قال:
عليك بهذه الصلوة وعلى كلّ من يحضر المسجد.
فمن صلّهما فكأنما صلّى في البيت العتيق.
فبعدما توضأت وصلّيت الصلوة، عدت الى داري وقضيت الليل مفكّراً بذلك حتى أسفر الصبح، فصليت الفريضة، وخرجت الى عليبن المنذر _وهو من أقربائي_ وقصصت عليه الأمر.
فجاء معي الى المكان الذي ذهبوا بي اليه البارحة، فلمّا رأيت سلاسل وأوتاداً منصوبة في كل جوانب الأرض، محدّدة لها، قلت: واللّه إنّ أحد العلامات التي قالها لي الإمام _روحي فداه_ هو وجود هذه السلاسل والأوتاد هنا.
فذهبنا الى السيد الشريف أبي الحسن الرضا _وهو من الفقهاء الأتقياء المقيمين ببلدة قم _ فلمّا وصلنا باب داره، استقبلنا خدّامه وسألوني. هل أنت من جمكران؟
قلت: نعم. قالوا: مرحباً بك إن السيد أبا الحسن ينتظرك منذ السحر!
فدخلت عليه وسلّمت، فأحسن في الجواب وأكرمني، ومكّن لي في مجلسه. وبادرني قبل أن أحدّثه، قائلاً: أيها الحسنبن مثلة، إنّي كنت نائماً، فرأيت شخصاً يقول لي: يأتيك بالغداة رجل من جمكران، يقال له الحسنبن مثلة، فلتصدّقن ما يقول ولتثق بكلامه، فإنّ قوله قولنا، فلا تردنّ عليه قولا فأفقت وبقيت انتظرك حتّى الساعة.
فقصصت عليه ما جرى مفصّلاً. فأمر بالخيول لتسرج. فخرجنا وركبنا مع بعض اصحابه ومرافقيه فلمّا اقتربنا من القرية، رأينا جعفر الراعي وهو يرعى القطيع الى جانب الطريق. فدخلت في القطيع، وكان ذلك المعز بنفس الصفات التي ذكرها الامام عليهالسلام في مؤخرة القطيع. فأقبل عادياً نحوي فأمسكته وأردت أن أعطي الراعي ثمنه، فأنكر وأقسم قائلاً: أنّ هذا المعز لم يكن في قطيعي من قبل، ولم أشاهده إلاّ اليوم، وكلّما حاولت إمساكه تعذّر عليّ. وها هو قد جاء إليكم فهو لكم.
فأتينا به الى موضع المسجد. وذبحناه ليلاً ووزّعنا لحمه يوم الأربعاء كما أمر الامام عليهالسلام على المرضى، فشفي الجميع والحمدللّه.
وجاء السيد أبوالحسن الرضا القمي برفقة أهالي جمكران وأحضروا الحسنبن مسلم، واستردّوا منه منافع الأرض، وجاؤوا بغلاّت الرهق، وبدؤا ببناء المسجد، فما مضت أيّام إلاّ وسقّفوا المسجد بالجذوع، وبدأ يترددون اليه ويصلّون فيه ويتبرّكون به.
وأخذ السيد أبوالحسن السلاسل (هذه السلاسل والاوتاد بقيت فترة من الزمن في بيت السيد وبعد موته رحمةاللَّه غابت عن الانظار فكلّما فتشوا لم يجدوها) والأوتاد الى قم و أودعها في بيته. وكان المرضى يزورون البيت طلباً للشفاء من اللّه تعالى بالتبرّك بها.
فاشتهر الأمر، وتواترت أخبار الذين نالوا حوائجهم واستشفوا فشفاهم اللّه ببركة الإمام الحجّة عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف

تعليق