بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين وأشرف المرسلين وسيد الأولين والآخرين وخير خلق الله أجمعين حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين وزوجاته الصالحات الطاهرات أمهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لا شك أن مسألة الإمامة قد احتلت موقعا كبيرا من المجهودات الفكرية لعلماء الإسلام ومنظريه على اختلاف انتمائاتهم المذهبية والطائفية، وكان الخلاف في هذه المسألة بمثابة مفترق الطرق لهذه المجهودات، بل وأدى في كثير من الأحيان إلى التنازع والتناحر بل وإراقة الدماء عبر أدوار التاريخ الإسلامي المختلفة بدءا من عصر صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
ولو كانت مسألة إمامة المسلمين وولاية أمورهم من المسائل الفرعية الهامشية التي يجب غض الطرف عنها ـ كما تنادي بذلك بعض الأقلام حاليا ـ لما تبوأت هذه المكانة من فكر المسلمين الأوائل أو انبثقت عنها كل الأحداث التي تبلور من خلالها التاريخ الإسلامي كما هو واضح لكل من يتابع أحداثه من خلال المصادر التراثية المعروفة.
لذلك فإن حسم النزاع الفكري في هذه المسألة الشائكة التي انقسم المسلمون على أثرها إلى طوائف ومذاهب وأحزاب لجدير بأن تنصب عليه كل مجهودات علماء الإسلام ومفكريه حتى يتماسك بنيان هذه الأمة الغراء الذي وضع أسه ورسخه سيد الخلائق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد انقسمت الأمة حول تلك المسألة إلى معتقدين أساسيين:
المعتقد الأول يرى أن الإمام إنما يكون بنص وتعيين من الله سبحانه وتعالى فيما عرف بعد ذلك في اصطلاح بعض المتكلمين بالإمامة الإلهية.
المعتقد الثاني ويرتكز هذا المعتقد على أن الإمام إنما يكون بالإختيار والشورى من قبل أهل الحل والعقد الذين هم محل ثقة المسلمين.
ونظرا لأن المصدر الوحيد الذي اتفق عليه كل المسلمين بكل مذاهبهم وطوائغهم واعتمدوه مرجعا مطلقا هو كتاب الله ، فقد رأى الكاتب الفقير إلى ربه أن الفصل في مسألة الإمامة من خلال آيات القرآن الكريم لهو أقرب الطرق لحسم الخلاف حول هذه المسألة.
ونحاول بإذن الله وتوفيقه من خلال هذه السطور تسليط الضوء على مسألة الإمامة من منظور قرآني بحت حتى نتبين حكم الله جل وعلا في هذه المسألة من خلال كتابه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه.
الإمامة في الأمم السابقة
لقد بين القرآن الكريم أن مسألة الإمامة ليست من محدثات الشريعة المحمدية، وإنما هي قانون إلهي ارتبط بكل الشرائع والرسالات، وقد بين القرآن الكريم عدة نماذج وضح من خلالها مسألة الإمامة في الشرائع السابقة وكيفية تعيين الإمام، ونحاول الآن أن نعيش مع هذه الآيات لنعلم سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
إمامة إبراهيم عليه السلام
قال الله جل وعلا في كتابه المجيد ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة : 124 )
لقد وضعت الآية الكريمة عددا من البنود المرتبطة بالإمامة يمكن إجمالها فيما يلي
أولا: أن منصب الإمامة هو أعلى المناصب عند الله جل وعلا، فهو أعلى من النبوة والرسالة بنص الآية، حيث أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان نبيا ورسولا عندما بشره الله جل وعلا بالإمامة في الآية الكريمة، فلو كانت الإمامة أقل درجة من النبوة لكانت بشارة إبراهيم عليه السلام بالإمامة محض عبث تعالى الله عن ذلك، وذلك يستتبع عدة أمور أهمها أن النبوة إذا كانت بنص وتعيين من الله تعالى فالإمامة أولى بذلك.
ثانيا: أن إبراهيم عليه السلام إنما نال منصب الإمامة بنص وتعيين من الله تعالى مما يبين أن النص والتعيين الإلهي هو سنة الله في خلقه.
ثالثا: أن الإمامة لا تكون إلا بنص وتعيين من الله جل وعلا لقوله سبحانه(لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مما يدل على أن الإمامة عهد الله، فلا يجوز لغير الله أن يحدد من ينال هذا العهد الإلهي.
تعيين طالوت في بني إسرائيل
قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم)ٌ (البقرة :246 ، 247 )
من الآيات الكريمة يتضح أن الله عز وجل قد عين بنفسه لبني إسرائيل قائدا يسمى طالوت وذلك في مناسبة خاصة بينتها الآيات الكريمة، فقال جل وعلا (ِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ) وقال تعالى (قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) تأكيدا لمبدأ النص والتعيين الإلهي والذي كان بنو إسرائيل على علم به إذ قالوا (ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ )مما يدل على أن مبدأ النص والتعيين الإلهي كان متوارثا لديهم وفيهم الأنبياء والربانيون.
تعيين داود عليه السلام
قال تعالى في محكم آياته (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )(البقرة : 251 )
وقال سبحانه(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )(ص : 26 )
ومن الآيات الكريمة يتضح أن تعيين داود عليه السلام كان كتعيين سابقيه، أي بالنص والتعيين الإلهي لقوله سبحانه (وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ) وقوله جل وعلا (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)
وبذلك يتضح من آيات الكتاب المجيد أن سنة الله في أئمة السابقين وملوكهم وقادتهم هي النص والتعيين الإلهي لا غير ذلك، والسنن الإلهية ثابتة في كل الأمم لقوله جل وعلا (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب : 62 ).
وهكذا نجد أن القرآن الكريم قد حسم الخلاف حول تلك المسألة بآيات واضحة جلية محكمة ظهر من خلالها أن مبدأ النص والتعيين الإلهي هو المعتقد الصحيح والذي قالت به الشيعة الإمامية الإثنى عشرية واتخذته شعارا ومنهجا.
تعليق