نماذج <<بناء الدولة>>:
فلسطين، العراق، لبنان
جوزف سماحة
يضج المشرق العربي بمشاريع البناء. مشاريع بناء الدول (الأمم). إن أي مقاربة للأزمة اللبنانية، في طورها الراهن، يجب أن تنطلق من هذا المنظور. لقد شهدنا في التسعينيات <<مشروع بناء الدولة الفلسطينية>> و<<مشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية>>. ونشهد منذ سنة ونصف سنة <<مشروع بناء الدولة العراقية>>. للولايات المتحدة دور أساسي وحاسم في فلسطين والعراق، لسوريا دور رئيسي في لبنان هو الدور الذي يتعرض، هذه الأيام، إلى مساءلة أميركية (وفرنسية).
لنحاول تقويماً، ولو سريعاً، لهذه التجارب.
في فلسطين كانت الدولة هي الأفق الضمني ل<<اتفاق أوسلو>>. كنا أمام نشوء كيان يتمتع بحكم ذاتي يفترض فيه التدرج نحو الاستقلال والسيادة. كانت الولايات المتحدة هي قائدة الأوركسترا. توزع المهمات. للمؤسسات الدولية دور. للاتحاد الأوروبي دور. للدول المانحة، وبينها العربية، دور. للمخابرات المركزية دور. ما من شك في أن واشنطن كانت تقدم نفسها بصفتها <<القابلة الشرعية>> للدولة الفلسطينية العتيدة وذلك في واحد من انقلابات الأدوار يطول شرحه وإن كانت أسبابه مفهومة.
لا مجال لأي شك في أن هذه الدولة، بالمنطق الأميركي، كانت مصلحة إسرائيلية فضلاً عن كونها جزءاً من منظومة بسط السيطرة الغربية على المنطقة. ولا يقلل ما تقدم من أهمية الضغط الذي تعرّض إليه الفلسطينيون، في ظل التخلي العربي، من أجل القبول بما هو ممكن ولو بدا ذلك في تعارض مع تراث قومي طالما اعتبر أن الحقوق الوطنية الفلسطينية تنتزع من الولايات المتحدة ولا تكون منحة غير بريئة منها.
المهم أنه، في لحظة معينة، حصل افتراق بين ما اعتبره الفلسطينيون حقهم، (دولة قابلة للحياة فعلا) وما اعتبره الأميركيون تطلباً زائداً. في تلك اللحظة بالضبط تأسّس الخط ونشأ الجو اللذان دفعا واشنطن إلى رمي المشروع الوطني الفلسطيني في أشداق الوحش الإسرائيلي. وفي ظل اندفاع شارون إلى تنفيذ مشروع حياته، التبديد السياسي للفلسطينيين، أخرج جورج بوش رؤيته الشهيرة. ولكن منذ ذلك الوقت ونحن نلاحظ أن إسرائيل تشطب، بموافقة ودعم أميركيين، الأسس المادية لقيام دولة فلسطينية بحيث باتت حقوق هذا <<الشعب الفائض>> هي ما يفيض عن التسوية بين اليمين وأقصى اليمين الاستيطاني.
لقد أجهضت أميركا مع إسرائيل، ولصالح الأخيرة وصالحها، مشروع بناء الدولة الفلسطينية.
حصل ذلك في ظل الوعد الأميركي بإعادة بناء الدولة العراقية. قيل لنا إن الغزو، بعد إفلاس الذرائع التي قدمها، سيبني في العراق دولة ديموقراطية، فدرالية، تعددية تشكل منارة للشرق الأوسط الكبير. لا بل قيل أكثر من ذلك. قيل إن العراق (كما كان يفترض أن تكون عليه فلسطين) هو <<طفل أنابيب>> النيو ليبرالية
الأميركية وأنها ستمارس عليه وفيه الهندسة الجينية التي تجعل منه نموذجاً. وتعبّر الكاتبة نعومي كلاين ببراعة فائقة عن هذا <<الوعد>>. تقول: <<إن الحكومات حتى حكومات المحافظين الجدد نادراً ما تجد الفرصة للبرهنة على صحة نظريتها المقدسة. فعلى الرغم من إنجازاتهم الإيديولوجية الهائلة فإن جمهوريي بوش، في داخل أذهانهم، قد ضربهم تدخل الديموقراطيين والنقابات العنيدة وأنصار البيئة الفزعون. كان يفترض أن يغيّر العراق هذا كله. في مكان ما على الأرض، كانت هذه النظرية ستوضع في النهاية موضع الممارسة العملية في أكثر أشكالها اكتمالاً ورفضاً للحلول الوسط. كان بلد مؤلف من 25 مليوناً سيعاد بناؤه كما كان قبل الحرب، وكان يتعيّن أن يزال وأن يختفي. في مكانه كانت ستبرز صالة عرض براقة للاقتصاد الحر، يوتوبيا لم ير العالم مثيلاً لها أبداً...>> (راجع ترجمة للمقال في العدد الأخير من <<المستقبل العربي>>).
وتمضي الأيام. وتنكشف أكثر فأكثر صعوبات بناء الدولة الملتحقة طوعاً بالمركز الإمبراطوري. وتتراجع الأوهام حول نجاح هذا الاختراق المذهل لأحد مواقع العالمين العربي والإسلامي.
ماذا نرى الآن؟ الفوضى. الاقتتال. السرقات. عمليات الخطف وقطع الرؤوس. شبح الحرب الأهلية. المرتزقة. أبو غريب. وضع العملاء في السلطة. نقص الخدمات. القتل العشوائي. اجتذاب الإرهاب. تنامي الاعتراض الأميركي والدولي. ارفضاض عن المشاركة. مساع غير مكتملة لتقارب غربي.
لا مصادرة على المستقبل. غير أننا لا نرى في الأفق نجاحاً أميركياً لبناء دولة عراقية. لقد أجهضت الولايات المتحدة الدولة الفلسطينية لصالح إسرائيل، وها هو جورج بوش يقول في مناظرته الأخيرة مع جون كيري إن المصلحة الإسرائيلية تتحكّم برؤيته لمستقبل العراق.
لا أحد يتهم الولايات المتحدة بأنها كانت تريد خراب العراق أصلاً، ولا أحد يبرّئ نفسه من أي مسؤولية، لكن المشهد أمامنا غني بالدلالات: في عقد واحد من الزمن ساهمت أميركا في منع قيام دولة كانت مسؤولة عن قيامها، وفي تحطيم دولة بات مستقبلها مفتوحاً على المجهول.
هاتان تجربتان قريبتان منا نحن اللبنانيين. لصيقتان بنا. فلنحاول، تأسيساً على ذلك، النظر في أحوالنا. ولنفعل ذلك واضعين جانباً الشعارات القومية، والعواطف، ومشاعر الأخوة حيال الفلسطينيين والسوريين والعراقيين. لنفعل ذلك بوطنية لبنانية منغلقة لا بل انتهازية.
لقد لعبت سوريا دوراً رئيسياً في مشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية منذ التسعينيات وحتى اليوم. وليكن مسموحاً لنا أن نقول إننا، بالقياس إلى الحالتين الفلسطينية والعراقية، أمام <<قصة نجاح>>.
إن ما قامت به سوريا في لبنان له ما له وعليه ما عليه. وفي الإمكان تقديم مطالعة اتهامية في حق دمشق اللبنانية. أكثر من ذلك، في الإمكان القول إننا أمام فرصة قد تكون ضاعت لبناء علاقة محترمة بين بلدين عربيين. أكثر من هذا الكثير أننا يومياً أمام سبب إضافي للخجل ممّا نقوم به أو ممّا يحصل باسم العلاقات المميزة. ولكن مهلاً.
إن ما فعلته سوريا في لبنان مشروط بتلبية قواسم ومصالح مشتركة. نعم إن للبنان وظيفة إقليمية بالمنظور السوري. ونعم إن له وظيفة اقتصادية. ونعم ثمة <<اقتصاد سياسي>> أسود للعلاقات السياسية. ونعم إن دور الدولة الراعية كان مناطاً بالدولة الأقل تقدماً. ولقد كان من الطبيعي، في ظل سوريا الواقعية لا سوريا المتخيّلة، وفي ظل لبنان الواقعي لا لبنان المتخيّل، أن نصل إلى ما وصلنا إليه: إدارة هجينة للحياة العامة في لبنان.
ولكن هذا جزء من الصورة فقط. أما الجزء الآخر فلا يسعنا أن ندرك أهميته إلا بالنظر إلى ما يدور حولنا.
يقال لنا اليوم إن الوقت حان لتغيير جذري يقطع نهائياً مع المرحلة السابقة وينقلنا إلى وجهة أخرى. يضيف القائلون إن ثمة جهوزية داخلية وإقليمية ودولية لهذه القفزة.
هذا وهم. لا جهوزية داخلية، ولا جهوزية إقليمية، ولا جهوزية دولية. تستحق هذه القضية نقاشاً تفصيلياً. لكن من شروط النقاش منع <<الزجّالين>> من المشاركة فيه، ورفع سيف الابتزاز القائل بأن كل من يعترض على توافر هذه الجهوزية (الداخلية) يكون يهدد ب<<حرب أهلية>>.
ليس لبنان مستعداً، ولا الظروف مؤاتية، من أجل تغيير بهذه الجذرية، سواء تلك التي يدعو إليها قرار مجلس الأمن جهاراً، أم تلك التي يهمس بها بعض أصحاب الرؤوس الحامية. ومرة أخرى لا بد من الترحيب بنقاش يضع البهورة وإيهام النفس جانباً ويحلل العناصر الواقعية التي تشكل ميزان القوى وتوضح ما الذي يمكن الإقدام عليه اليوم.
ويتوجب القول، بصراحة، إن تيارات مغامرة تهدد بأن تطيح الإيجابيات اللبنانية المكتسبة من الدور السوري في إعادة بناء الدولة.
إن المهمة النضالية في لبنان هي الضغط من أجل الإصلاح التدريجي للعلاقات اللبنانية السورية. إنه إصلاح لا يعني القطع مع ما حصل في السنوات الماضية ولا تغريه دعوات القفز إلى الضفة المقابلة.
أما ما يتشدق به البعض، وما يلوح في أفق الخطة الأميركية، فلا يقود إلى أبعد من أن يجمع لبنان إجهاض الدولة، في حدها الأدنى، (كما في فلسطين)، مع الفوضى العارمة (كما في العراق).
لا يجدر بأحد أن يكون فخوراً بما هو قائم، لكن البديل المقترح يثير الهلع.
فلسطين، العراق، لبنان
جوزف سماحة
يضج المشرق العربي بمشاريع البناء. مشاريع بناء الدول (الأمم). إن أي مقاربة للأزمة اللبنانية، في طورها الراهن، يجب أن تنطلق من هذا المنظور. لقد شهدنا في التسعينيات <<مشروع بناء الدولة الفلسطينية>> و<<مشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية>>. ونشهد منذ سنة ونصف سنة <<مشروع بناء الدولة العراقية>>. للولايات المتحدة دور أساسي وحاسم في فلسطين والعراق، لسوريا دور رئيسي في لبنان هو الدور الذي يتعرض، هذه الأيام، إلى مساءلة أميركية (وفرنسية).
لنحاول تقويماً، ولو سريعاً، لهذه التجارب.
في فلسطين كانت الدولة هي الأفق الضمني ل<<اتفاق أوسلو>>. كنا أمام نشوء كيان يتمتع بحكم ذاتي يفترض فيه التدرج نحو الاستقلال والسيادة. كانت الولايات المتحدة هي قائدة الأوركسترا. توزع المهمات. للمؤسسات الدولية دور. للاتحاد الأوروبي دور. للدول المانحة، وبينها العربية، دور. للمخابرات المركزية دور. ما من شك في أن واشنطن كانت تقدم نفسها بصفتها <<القابلة الشرعية>> للدولة الفلسطينية العتيدة وذلك في واحد من انقلابات الأدوار يطول شرحه وإن كانت أسبابه مفهومة.
لا مجال لأي شك في أن هذه الدولة، بالمنطق الأميركي، كانت مصلحة إسرائيلية فضلاً عن كونها جزءاً من منظومة بسط السيطرة الغربية على المنطقة. ولا يقلل ما تقدم من أهمية الضغط الذي تعرّض إليه الفلسطينيون، في ظل التخلي العربي، من أجل القبول بما هو ممكن ولو بدا ذلك في تعارض مع تراث قومي طالما اعتبر أن الحقوق الوطنية الفلسطينية تنتزع من الولايات المتحدة ولا تكون منحة غير بريئة منها.
المهم أنه، في لحظة معينة، حصل افتراق بين ما اعتبره الفلسطينيون حقهم، (دولة قابلة للحياة فعلا) وما اعتبره الأميركيون تطلباً زائداً. في تلك اللحظة بالضبط تأسّس الخط ونشأ الجو اللذان دفعا واشنطن إلى رمي المشروع الوطني الفلسطيني في أشداق الوحش الإسرائيلي. وفي ظل اندفاع شارون إلى تنفيذ مشروع حياته، التبديد السياسي للفلسطينيين، أخرج جورج بوش رؤيته الشهيرة. ولكن منذ ذلك الوقت ونحن نلاحظ أن إسرائيل تشطب، بموافقة ودعم أميركيين، الأسس المادية لقيام دولة فلسطينية بحيث باتت حقوق هذا <<الشعب الفائض>> هي ما يفيض عن التسوية بين اليمين وأقصى اليمين الاستيطاني.
لقد أجهضت أميركا مع إسرائيل، ولصالح الأخيرة وصالحها، مشروع بناء الدولة الفلسطينية.
حصل ذلك في ظل الوعد الأميركي بإعادة بناء الدولة العراقية. قيل لنا إن الغزو، بعد إفلاس الذرائع التي قدمها، سيبني في العراق دولة ديموقراطية، فدرالية، تعددية تشكل منارة للشرق الأوسط الكبير. لا بل قيل أكثر من ذلك. قيل إن العراق (كما كان يفترض أن تكون عليه فلسطين) هو <<طفل أنابيب>> النيو ليبرالية
الأميركية وأنها ستمارس عليه وفيه الهندسة الجينية التي تجعل منه نموذجاً. وتعبّر الكاتبة نعومي كلاين ببراعة فائقة عن هذا <<الوعد>>. تقول: <<إن الحكومات حتى حكومات المحافظين الجدد نادراً ما تجد الفرصة للبرهنة على صحة نظريتها المقدسة. فعلى الرغم من إنجازاتهم الإيديولوجية الهائلة فإن جمهوريي بوش، في داخل أذهانهم، قد ضربهم تدخل الديموقراطيين والنقابات العنيدة وأنصار البيئة الفزعون. كان يفترض أن يغيّر العراق هذا كله. في مكان ما على الأرض، كانت هذه النظرية ستوضع في النهاية موضع الممارسة العملية في أكثر أشكالها اكتمالاً ورفضاً للحلول الوسط. كان بلد مؤلف من 25 مليوناً سيعاد بناؤه كما كان قبل الحرب، وكان يتعيّن أن يزال وأن يختفي. في مكانه كانت ستبرز صالة عرض براقة للاقتصاد الحر، يوتوبيا لم ير العالم مثيلاً لها أبداً...>> (راجع ترجمة للمقال في العدد الأخير من <<المستقبل العربي>>).
وتمضي الأيام. وتنكشف أكثر فأكثر صعوبات بناء الدولة الملتحقة طوعاً بالمركز الإمبراطوري. وتتراجع الأوهام حول نجاح هذا الاختراق المذهل لأحد مواقع العالمين العربي والإسلامي.
ماذا نرى الآن؟ الفوضى. الاقتتال. السرقات. عمليات الخطف وقطع الرؤوس. شبح الحرب الأهلية. المرتزقة. أبو غريب. وضع العملاء في السلطة. نقص الخدمات. القتل العشوائي. اجتذاب الإرهاب. تنامي الاعتراض الأميركي والدولي. ارفضاض عن المشاركة. مساع غير مكتملة لتقارب غربي.
لا مصادرة على المستقبل. غير أننا لا نرى في الأفق نجاحاً أميركياً لبناء دولة عراقية. لقد أجهضت الولايات المتحدة الدولة الفلسطينية لصالح إسرائيل، وها هو جورج بوش يقول في مناظرته الأخيرة مع جون كيري إن المصلحة الإسرائيلية تتحكّم برؤيته لمستقبل العراق.
لا أحد يتهم الولايات المتحدة بأنها كانت تريد خراب العراق أصلاً، ولا أحد يبرّئ نفسه من أي مسؤولية، لكن المشهد أمامنا غني بالدلالات: في عقد واحد من الزمن ساهمت أميركا في منع قيام دولة كانت مسؤولة عن قيامها، وفي تحطيم دولة بات مستقبلها مفتوحاً على المجهول.
هاتان تجربتان قريبتان منا نحن اللبنانيين. لصيقتان بنا. فلنحاول، تأسيساً على ذلك، النظر في أحوالنا. ولنفعل ذلك واضعين جانباً الشعارات القومية، والعواطف، ومشاعر الأخوة حيال الفلسطينيين والسوريين والعراقيين. لنفعل ذلك بوطنية لبنانية منغلقة لا بل انتهازية.
لقد لعبت سوريا دوراً رئيسياً في مشروع إعادة بناء الدولة اللبنانية منذ التسعينيات وحتى اليوم. وليكن مسموحاً لنا أن نقول إننا، بالقياس إلى الحالتين الفلسطينية والعراقية، أمام <<قصة نجاح>>.
إن ما قامت به سوريا في لبنان له ما له وعليه ما عليه. وفي الإمكان تقديم مطالعة اتهامية في حق دمشق اللبنانية. أكثر من ذلك، في الإمكان القول إننا أمام فرصة قد تكون ضاعت لبناء علاقة محترمة بين بلدين عربيين. أكثر من هذا الكثير أننا يومياً أمام سبب إضافي للخجل ممّا نقوم به أو ممّا يحصل باسم العلاقات المميزة. ولكن مهلاً.
إن ما فعلته سوريا في لبنان مشروط بتلبية قواسم ومصالح مشتركة. نعم إن للبنان وظيفة إقليمية بالمنظور السوري. ونعم إن له وظيفة اقتصادية. ونعم ثمة <<اقتصاد سياسي>> أسود للعلاقات السياسية. ونعم إن دور الدولة الراعية كان مناطاً بالدولة الأقل تقدماً. ولقد كان من الطبيعي، في ظل سوريا الواقعية لا سوريا المتخيّلة، وفي ظل لبنان الواقعي لا لبنان المتخيّل، أن نصل إلى ما وصلنا إليه: إدارة هجينة للحياة العامة في لبنان.
ولكن هذا جزء من الصورة فقط. أما الجزء الآخر فلا يسعنا أن ندرك أهميته إلا بالنظر إلى ما يدور حولنا.
يقال لنا اليوم إن الوقت حان لتغيير جذري يقطع نهائياً مع المرحلة السابقة وينقلنا إلى وجهة أخرى. يضيف القائلون إن ثمة جهوزية داخلية وإقليمية ودولية لهذه القفزة.
هذا وهم. لا جهوزية داخلية، ولا جهوزية إقليمية، ولا جهوزية دولية. تستحق هذه القضية نقاشاً تفصيلياً. لكن من شروط النقاش منع <<الزجّالين>> من المشاركة فيه، ورفع سيف الابتزاز القائل بأن كل من يعترض على توافر هذه الجهوزية (الداخلية) يكون يهدد ب<<حرب أهلية>>.
ليس لبنان مستعداً، ولا الظروف مؤاتية، من أجل تغيير بهذه الجذرية، سواء تلك التي يدعو إليها قرار مجلس الأمن جهاراً، أم تلك التي يهمس بها بعض أصحاب الرؤوس الحامية. ومرة أخرى لا بد من الترحيب بنقاش يضع البهورة وإيهام النفس جانباً ويحلل العناصر الواقعية التي تشكل ميزان القوى وتوضح ما الذي يمكن الإقدام عليه اليوم.
ويتوجب القول، بصراحة، إن تيارات مغامرة تهدد بأن تطيح الإيجابيات اللبنانية المكتسبة من الدور السوري في إعادة بناء الدولة.
إن المهمة النضالية في لبنان هي الضغط من أجل الإصلاح التدريجي للعلاقات اللبنانية السورية. إنه إصلاح لا يعني القطع مع ما حصل في السنوات الماضية ولا تغريه دعوات القفز إلى الضفة المقابلة.
أما ما يتشدق به البعض، وما يلوح في أفق الخطة الأميركية، فلا يقود إلى أبعد من أن يجمع لبنان إجهاض الدولة، في حدها الأدنى، (كما في فلسطين)، مع الفوضى العارمة (كما في العراق).
لا يجدر بأحد أن يكون فخوراً بما هو قائم، لكن البديل المقترح يثير الهلع.