أنف باول أطول
جوزف سماحة
كانت لحظات تاريخية واستثنائية تلك التي عاشها مجلس الأمن ذات مرة. لم يعشها الأعضاء الحاضرون فقط. بل مئات الملايين الذين تسمّروا أمام شاشات التلفزيون. كانت مصائر كثيرة معلقة بما سوف يُقال: مصائر شعوب وبلدان، لا بل مصير النظام الدولي كله في لحظة حرجة. كنا، حرفياً، أمام صناعة للتاريخ عبر البث المباشر.
كان وزير الخارجية الأميركية كولن باول وعد أنه، في تلك الجلسة، سوف يقدم أدلّة لا تقبل الدحض حول الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة إلى شنّ حرب على العراق. وكان يريد إقناع الجميع بتقديم إجازة لهذه الحرب والمشاركة فيها.
جلس بكامل هيبته، وبكامل الاحترام الذي يحظى به، وشرع يقرأ ويقدم المعلومات ويعرض الصور ويدير مسجل الصوت. وضع مصداقية بلاده على المحك وختم بأنه لم يذكر حرفاً يمكن أن يقاربه الشك من قريب أو بعيد.
نحن نعرف، اليوم، أن باول لم يكن يقول الحقيقة، في أحسن الأحوال، وأنه كان يكذب في أسوئها. لقد فنّد كثيرون، بنداً بنداً، الأدلة التي قدمها فتبيّن أنها خاطئة كلها. وبما أنها أكثر من عشرين بنداً فهذا يعني أن باول لم يخطئ مرة واحدة في أن يكون كاذباً.
ومع ذلك، ولأسباب لا مبرّر لها، استمر باول مستفيداً من عامل الشك خاصة لدى مقارنته بغيره من أقطاب الإدارة الأميركية. ولكن، منذ ذلك اليوم، انهالت كمية من التقارير الرسمية التي تقطع كل شك: لا أسلحة دمار شامل في العراق، لا صلة للنظام السابق بتنظيم <<القاعدة>>، ويتأكد، يوماً بعد يوم، أن الإدارة <<أخطأت>> في كل شيء من خطط ما بعد الحرب، إلى عدد القوات على الأرض، إلى الصلة المزعومة مع أبو مصعب الزرقاوي.
انهارت عمارة كاملة من الأكاذيب والادعاءات. وهي كذلك لأن هناك من أثبت أن مسؤولين أميركيين كباراً كانوا يدلون ب<<حقائق دامغة>> مدركين تماماً أن الحقائق الدامغة تخالفها. والأنكى من ذلك أن هناك، في واشنطن، من لا يزال يستسهل إطلاق المزاعم وأن باول، بأرادوية مذهلة، يغرف من داخله القدرة التي تجعله يشارك في هذه الجوقة.
لسنا هنا حيال تباين في الآراء والتقديرات. نحن حيال وقائع تكون صحيحة أو لا تكون. وهي غير صحيحة. نقطة على السطر.
وفي اللحظة التي تغرق الإدارة تحت فيض الادعاءات المفضوحة يخرج علينا باول، نفسه، بكذبة من نوع جديد. الكذبة، هذه المرة، معيارية. أي أنها من النوع الذي لا يسهل دحضه حسابياً وبشكل يقيني وإن كان ذلك لا يغيّر شيئاً من طبيعته.
صرّح باول أنه لا يشك بصدق التزام أرييل شارون ب<<خريطة الطريق>>. وصرّح بذلك بعد القنبلة التي فجّرها دوف فايسغلاس مستشار شارون الأقرب ومندوبه إلى واشنطن. فالرجل كشف المخبوء وأكد أن كل الهدف من <<خطة الفصل>> هو دفن <<خريطة الطريق>> وتجميد التسوية وتأجيل البت بقضايا الحل النهائي. وألمح إلى أن الولايات المتحدة ليست بعيدة عن هذه الأجواء.
تصريح باول كذبة. وهو يعرف أنه كذلك. لقد سبق لشارون أن أبلغ الإدارة الأميركية رسمياً وخطياً أربعة عشر تحفظاً على <<خريطة الطريق>> تنسفها من أساسها. ويفترض بباول أن يكون يعرف ذلك. ولما شرح شارون فذلكة <<خطة الفصل>> في مؤتمر هرتسليا أوضح بما لا يدع مجالاً لأي شك أن الخطة هي عقوبة سيمارسها على الفلسطينيين لأنهم رفضوا تطبيق قراءته ل<<خريطة الطريق>>، وأن دخول الخطة طور التنفيذ إيذان بتعليق العمل ب<<الخريطة>>. وثمة قانون أمام الكنيست ينظم دفع
التعويضات لمستوطني غزة وينص في بنود أخرى على ضم مناطق شاسعة في الضفة الغربية تتجاوز الكتل الاستيطانية، والطرق الالتفافية، إلى كل بقعة <<لإسرائيل مصلحة فيها>>. ألم يصل إلى علم باول مضمون خطاب هرتسليا أو مشروع القانون الأخير؟ أضف إلى ذلك أن الاستيطان زاحف، وأن الجدار يُبنى. ويمكن أن نزيد أن أي مبتدئ يدرك أن حكومة شارون الحالية ليست في وارد أي انسحاب واسع من الضفة وأن <<وعود بوش>> زادتها اقتناعاً بذلك وأضعفت أي صوت إسرائيلي مخالف.
ويمكن، أيضاً، أن نطالب باول بأن يشرح لنا، في أسطر قليلة، فهمه للمعنى الذي يعطيه شارون لحياته السياسية ونضاله ووجوده في موقع المسؤولية.
لم يفعل فايسغلاس شيئاً سوى أنه قال بصوت عال ما يعتقده شارون ويمارسه وما يمكن الجزم بأن وزير الخارجية الأميركية يعرفه. ولذا فإن كذبة باول، مهما كانت معيارية، مكشوفة ويُراد لنا أن ننتبه إلى أنها كذبة بعد إنجاز المشروع الشاروني. إنها، بهذا المعنى، أداة من أدوات هذا المشروع.
قال باول، ذات مرة، إنه لو كان يعرف عن العراق ما عرفه لاحقاً لما كان نصح بشن الحرب. ما أسهل الكلام بعد وقوع الواقعة. ربما عليه أن يستعد، منذ الآن، لأن يقول إنه لو كان يعرف عن نوايا شارون ما عرفه لاحقاً لما نسب إليه الالتزام ب<<خريطة الطريق>>. سيكون الوقت حينذاك متأخراً جداً.
لا بل إن الوقت بات متأخراً جداً لكي ينهي باول خدمته في الولاية الأولى لبوش وهو يتمتع بحد مقبول من الاحترام.
جوزف سماحة
كانت لحظات تاريخية واستثنائية تلك التي عاشها مجلس الأمن ذات مرة. لم يعشها الأعضاء الحاضرون فقط. بل مئات الملايين الذين تسمّروا أمام شاشات التلفزيون. كانت مصائر كثيرة معلقة بما سوف يُقال: مصائر شعوب وبلدان، لا بل مصير النظام الدولي كله في لحظة حرجة. كنا، حرفياً، أمام صناعة للتاريخ عبر البث المباشر.
كان وزير الخارجية الأميركية كولن باول وعد أنه، في تلك الجلسة، سوف يقدم أدلّة لا تقبل الدحض حول الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة إلى شنّ حرب على العراق. وكان يريد إقناع الجميع بتقديم إجازة لهذه الحرب والمشاركة فيها.
جلس بكامل هيبته، وبكامل الاحترام الذي يحظى به، وشرع يقرأ ويقدم المعلومات ويعرض الصور ويدير مسجل الصوت. وضع مصداقية بلاده على المحك وختم بأنه لم يذكر حرفاً يمكن أن يقاربه الشك من قريب أو بعيد.
نحن نعرف، اليوم، أن باول لم يكن يقول الحقيقة، في أحسن الأحوال، وأنه كان يكذب في أسوئها. لقد فنّد كثيرون، بنداً بنداً، الأدلة التي قدمها فتبيّن أنها خاطئة كلها. وبما أنها أكثر من عشرين بنداً فهذا يعني أن باول لم يخطئ مرة واحدة في أن يكون كاذباً.
ومع ذلك، ولأسباب لا مبرّر لها، استمر باول مستفيداً من عامل الشك خاصة لدى مقارنته بغيره من أقطاب الإدارة الأميركية. ولكن، منذ ذلك اليوم، انهالت كمية من التقارير الرسمية التي تقطع كل شك: لا أسلحة دمار شامل في العراق، لا صلة للنظام السابق بتنظيم <<القاعدة>>، ويتأكد، يوماً بعد يوم، أن الإدارة <<أخطأت>> في كل شيء من خطط ما بعد الحرب، إلى عدد القوات على الأرض، إلى الصلة المزعومة مع أبو مصعب الزرقاوي.
انهارت عمارة كاملة من الأكاذيب والادعاءات. وهي كذلك لأن هناك من أثبت أن مسؤولين أميركيين كباراً كانوا يدلون ب<<حقائق دامغة>> مدركين تماماً أن الحقائق الدامغة تخالفها. والأنكى من ذلك أن هناك، في واشنطن، من لا يزال يستسهل إطلاق المزاعم وأن باول، بأرادوية مذهلة، يغرف من داخله القدرة التي تجعله يشارك في هذه الجوقة.
لسنا هنا حيال تباين في الآراء والتقديرات. نحن حيال وقائع تكون صحيحة أو لا تكون. وهي غير صحيحة. نقطة على السطر.
وفي اللحظة التي تغرق الإدارة تحت فيض الادعاءات المفضوحة يخرج علينا باول، نفسه، بكذبة من نوع جديد. الكذبة، هذه المرة، معيارية. أي أنها من النوع الذي لا يسهل دحضه حسابياً وبشكل يقيني وإن كان ذلك لا يغيّر شيئاً من طبيعته.
صرّح باول أنه لا يشك بصدق التزام أرييل شارون ب<<خريطة الطريق>>. وصرّح بذلك بعد القنبلة التي فجّرها دوف فايسغلاس مستشار شارون الأقرب ومندوبه إلى واشنطن. فالرجل كشف المخبوء وأكد أن كل الهدف من <<خطة الفصل>> هو دفن <<خريطة الطريق>> وتجميد التسوية وتأجيل البت بقضايا الحل النهائي. وألمح إلى أن الولايات المتحدة ليست بعيدة عن هذه الأجواء.
تصريح باول كذبة. وهو يعرف أنه كذلك. لقد سبق لشارون أن أبلغ الإدارة الأميركية رسمياً وخطياً أربعة عشر تحفظاً على <<خريطة الطريق>> تنسفها من أساسها. ويفترض بباول أن يكون يعرف ذلك. ولما شرح شارون فذلكة <<خطة الفصل>> في مؤتمر هرتسليا أوضح بما لا يدع مجالاً لأي شك أن الخطة هي عقوبة سيمارسها على الفلسطينيين لأنهم رفضوا تطبيق قراءته ل<<خريطة الطريق>>، وأن دخول الخطة طور التنفيذ إيذان بتعليق العمل ب<<الخريطة>>. وثمة قانون أمام الكنيست ينظم دفع
التعويضات لمستوطني غزة وينص في بنود أخرى على ضم مناطق شاسعة في الضفة الغربية تتجاوز الكتل الاستيطانية، والطرق الالتفافية، إلى كل بقعة <<لإسرائيل مصلحة فيها>>. ألم يصل إلى علم باول مضمون خطاب هرتسليا أو مشروع القانون الأخير؟ أضف إلى ذلك أن الاستيطان زاحف، وأن الجدار يُبنى. ويمكن أن نزيد أن أي مبتدئ يدرك أن حكومة شارون الحالية ليست في وارد أي انسحاب واسع من الضفة وأن <<وعود بوش>> زادتها اقتناعاً بذلك وأضعفت أي صوت إسرائيلي مخالف.
ويمكن، أيضاً، أن نطالب باول بأن يشرح لنا، في أسطر قليلة، فهمه للمعنى الذي يعطيه شارون لحياته السياسية ونضاله ووجوده في موقع المسؤولية.
لم يفعل فايسغلاس شيئاً سوى أنه قال بصوت عال ما يعتقده شارون ويمارسه وما يمكن الجزم بأن وزير الخارجية الأميركية يعرفه. ولذا فإن كذبة باول، مهما كانت معيارية، مكشوفة ويُراد لنا أن ننتبه إلى أنها كذبة بعد إنجاز المشروع الشاروني. إنها، بهذا المعنى، أداة من أدوات هذا المشروع.
قال باول، ذات مرة، إنه لو كان يعرف عن العراق ما عرفه لاحقاً لما كان نصح بشن الحرب. ما أسهل الكلام بعد وقوع الواقعة. ربما عليه أن يستعد، منذ الآن، لأن يقول إنه لو كان يعرف عن نوايا شارون ما عرفه لاحقاً لما نسب إليه الالتزام ب<<خريطة الطريق>>. سيكون الوقت حينذاك متأخراً جداً.
لا بل إن الوقت بات متأخراً جداً لكي ينهي باول خدمته في الولاية الأولى لبوش وهو يتمتع بحد مقبول من الاحترام.