[[color=#6600FF]size=3]تكرر في هذه المناظرة بيني وبين أخي سماحة الشيخ عثمان الخميس طرح قضية العصمة للأئمة الاثني عشر, ومن هنا لا بدّ لنا أن ندرك العصمة ولا بدّ أن نعلم أن أكبر مشكلة يعاني من فهمها اليوم الملايين من الوهابيين, هي مشكلة عصمة الأئمة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم ـ , ومشكلة غيبة الإمام الثاني عشر ـ رضوان الله عليه ـ ، وهما أكبر مشكلتين, فلم أنتقل مِن الوهابية إلى الاثني عشرية إلا بعد معالجة هاتين المشكلتين.
ومن هنا لا بدّ من توضيح (العصمة), ولا بدّ من توضيح (الغيبة) حتى يدركهما الشيخ عثمان الخميس, ويدركهما كل الوهابيين الحاضرين في هذه المناظرة.
ومن أجل تقريب معنى العصمة عند الاثني عشرية للشيخ عثمان الخميس، أقول إنه لا يوجد إنسان في هذه الأرض إلا وهو معصوم، فهي عصمة لجنس الإنسان كله، وصفة العصمة قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنساناً، فصفة العصمة ملازمة لكل إنسان, بدون حاجة أن يكون نبياً أو يكون إماماً, ولكن هذه العصمة تدرج في هذا الإنسان، فهي تكون قليلة في الرجل الفاسق، وتكون أكثر وجوداً في الطفل الصغير النظيف، فصفة العصمة هي من أهم الصفات التي يمتلكها الطفل الصغير بحكم فطرته, فقد ثبت أن الطفل بفطرته يكون بريئاً ومعصوماً ويكون قلبه بعيداً عن صفة الحقد، والتجارب الإنسانية تكشف أن الإنسان بفطرته الأصيلة فيه، يمتنع عن ارتكاب الكثير من الجرائم، ومن هنا إذا شذ إنسان وارتكب الجرائم الشنيعة يقال إنه شذ عن فطرته الإنسانية المعصومة، وهذا الامتناع عن ارتكاب الكثير من الجرائم إنما يعبِّر على أن صفة العصمة هي صفة أصيلة لهذا الإنسان, وهي اللبنة الأولى في الحفاظ على هذا الإنسان، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليمة.
ولكن العصمة تتفاوت بين الناس، ويصور القرآن الكريم ترتيب النماذج البشرية للمعصومين.
فأما النموذج الأول فهم الأنبياء الذين يمثلون الرتبة الأولى من المعصومين, ثم يأتي من بعدهم أوصياؤهم, كما تأتي مريم المعصومة في هذه المرتبة إلى أن تخفت صفة العصمة عند النماذج الإنسانية المنحرفة، لأن النماذج المنحرفة لا زالت تمتلك قليلاً من العصمة, بدلالة إنها ترتكب بعض الجرائم وتمتنع عن إتيان البعض الآخر, وإذا كان التاريخ السني يذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ـ رضوان الله عليه ـ كان يصلي الفجر بوضوء المغرب, فلا يمكن أن يقدر على هذا العمل إلا من يمتلك مقداراً معيناً من صفة العصمة.
والنموذج الآخر من المعصومين, هو نموذج أوصياء النبي الاثني عشر, فهو نموذج آخر من المعصومين أقل مِنْ النبي الأكرم, وأعلى من نموذج الإمام أحمد بن حنبل، وأعتقد إنني قد استطعت أن أقرّب معنى العصمة لأخي الشيخ عثمان الخميس؛ لأنه طوال هذه المناظرة وهو يشن حملة شعواء على العصمة.
والآن سوف اتناول قضية أخرى أثارها الشيخ عثمان الخميس في هذه المناظرة وهي قضية حكم منكر الإمامة عند الاثني عشرية, ولكنني سوف أتناول هذه القضية بعنوان آخر وهو: «دور أهل البيت في التقريب بين الاثني عشرية وأهل السنة» أو بعبارةٍ أخرى «موقف الاثني عشرية من أهل السنة», ثم أتناول قضية «التقية عند الاثني عشرية», ثم أتناول في الأخير قضية «غيبة الإمام الثاني عشر عند الاثني عشرية<.
إن مشكلة الشيخ عثمان الخميس إنه لم يقرأ كل جزئيات وروايات أهل البيت الاثني عشر في قضية كيفية التعامل بين المسلمين, ومن أبرز القضايا التي أولاها الأئمة الاثنا عشر عناية كبرى قضية تعليم شيعتهم كيف يتعاملوا مع بقية المسلمين من غير الاثني عشرية, ومشكلة الشيخ عثمان أنه يأخذ رواية واحدة عَن أهل البيت من دون النظر إلى بقية الروايات, مع أنه لا يمكن فهم دور أهل البيت في التأليف بين الاثني عشرية وأهل السنة, إلا بمراجعة كلما روي عنهم في هذا الموضوع؛ لأنني وجدت أن هنالك ترابطاً عضوياً متيناً بين أجزاء هذه الروايات. وأهل البيت ضمن مهمة الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, اتخذوا جهوداً كثيرة, أذكر من هذه الجهود التي بذلوها من أجل الحفاظ على وحدة الأمة.
أولاً: الممارسة العملية, والتطبيق العملي لهذه الوحدة, حيث عاش أهل البيت بين الاثني وبين أهل السنة واختلطوا وامتزجوا واقعياً مع السنة ومع الاثني عشرية, فكان يحضر في دروسهم علماء أهل السنة ومثل أبي حنيفة ويحضر في دروسهم كبار علماء الاثني عشرية مثل زرارة بن أعين.
ثانياً: الروايات الكثيرة والمتواترة, التي بينت بشكل واضح إن كلمة «الإسلام» تطلق على الاثني عشري كما تطلق على السني, فالاثنا عشريون مسلمون وأهل السنة مسلمون, كما ثبت وتواتر عن أئمة أهل البيت.
ثالثاً: الجهود العظيمة التي بذلها أهل البيت, والروايات الصادرة والمتواترة عنهم في الوقوف أمام كل الذين يسعون إلى تمزيق وتفريق الألفة بين الاثني عشرية وأهل السنة.
رابعاً: الجهود المضنية التي بذلوها في توعية الاثني عشرية, من أجل تعليمهم كيف يتعاملون مع المسلمين من غير الاثني عشرية, وهذه الجهود هي التي جعلت الاثني عشريين يحسنون التعامل مع أهل السنة.
والآن بعد هذه الإشارة الكلية سوف نفصل ما أجملناه من هذه المشاريع الأربعة, التي قدمها أهل البيت مِن أجلِ الحفاظ على الأمة؛ ولن أتناول في هذه المناظرة شرح هذه الأقسام الأربعة, بل سأكتفي بالأول والرابع, ثم أشير إشارة مختصرة إلى الثاني, أمّا الثالث فقد تناولته في كتابي >رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية<.
أما فيما يتعلق بالمشروع الأول: وهو الممارسة العملية والتطبيق العملي لهذه الوحدة الإسلامية المقدسة, وكما قلت إن أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ عاشوا بين الاثني عشرية وبين أهل السنة ودرَّسوا كبار الاثني عشرية كما درسوا كبار أهل السنة, فقد كان من ثمرات ذلك أن نجد أن كل المسلمين يحملون مشاعر الاحترام والحب لأهل البيت, لقد حاول الأمويون وبذلوا جهوداً كبيرة مِنْ أجل نزع مشاعر الاحترام لأهل البيت من قلوب أهل السنة, لكن أهل البيت أفشلوا هذا المشروع الأموي, مِن خلال جهودهم, التي بذلوها في كسب كبار علماء أهل السنة, ومن هنا عجزت الدولة الأموية من نزع قداسة أهل البيت من قلوب أهل السنة, واستطاع أهل البيت أن يغرسوا موقعاً خاصاً مقدساً يؤمن به جميع المسلمين, وهذا كله من ثمرة الجهود التي قام بها أهل البيت, من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين, ولنا أن نتصور, ماذا لو كان نجح المشروع الأموي في نزع القداسة عن أهل البيت؟! ـ كما نجح في فصل أهل السنة عن أخذ مذهب أهل البيت ـ حينئذ لن يكون هنالك أي صلة وأي تقريب بين الاثني عشرية وبين أهل السنة, كما إننا يجب أن نلتفت إلى حقيقة هامة في منتهى الأهمية, وهي أن أهم سبب في عجز بني أمية عن انتزاع القداسة لأهل البيت من قلوب أهل السنة, إنما يرجع لأن قدسية أهل البيت هي أصلٌ ثابت في الإسلام, وهذا الأصل مغروس في القرآن الكريم, وفي السنة النبوية, ولا يستطيع أي مسلم أن يتجاهل هذا الأصل العظيم في الإسلام, ومن هنا نجد أن أهل السنة كتبوا المئات بل الآلاف من الكتب التي تبين أهمية هذا الأصل الأساسي عند أهل السنة, وأعتقد إنني بينت جزء من هذا الأصل الأصيل من خلال هذه المناظرة مع أخي الشيخ عثمان الخميس, وكما إنني بينت في هذه المناظرة دور بني أمية في عزل أهل السنة عن أهل البيت, لا بدّ لي أن أبيّن عجز بني أمية عن نزع قداسة أهل البيت من قلوب أهل السنة, ولا بدّ لي أن أبين هنا كيف وقف أهل البيت ضد ذلك المشروع الأموي.
إخواني من كل الحاضرين في هذه الغرفة من أهل السنة ومن الوهابية ومن الاثني عشرية ومن السلفية, أريد أن أقول إنه كان الحكام من أمويين وعباسيين يسعون إلى تقسيم الأمة إلى طوائف متعادية, ولما لم يجد بنو أمية أساساً معقولاً لهذا العداء لجأ بنو أمية إلى أساليب الكذب, فكانت الاستخبارات الأموية تنشر الإشاعات بين السنة؛ من أجل أن يسوء ظنهم بإخوانهم الشيعة, وكانت هذه الاستخبارات الأموية تروج أن الشيعة يقولون بتأليه الإمام علي والعياذ بالله, وهذا كذب محض وتزوير قبيح, ولكن تصديق هذا اللغو كان الباعث على تمزيق الأمة الواحدة, وكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يعلمون إنها ضجة مفتعلة بين السنة والشيعة لحساب الاستخبارات الأموية, وكانوا ـ رضوان الله عليهم ـ يعالجون الخلافات بين الشيعة والسنة بطريقة علمية.
ومن هنا نجد أن منهج أئمة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ قد حال دون تحوّل هذا الخلاف إلى خصام يستثمره الإعلام الأموي لصالحه, وأنا أتمنى أن يرجع أهل السنة إلى روايات أهل البيت, وسوف تدركون أن أهل البيت يضمرون المحبة للسنة والشيعة ويعدون تكفير أهل السنة انحرافاً وزيغاً, ولكني هنا أريد أن أقول لأخي الشيخ عثمان الخميس, هب يا أخي أن عالماً اثني عشرياً أخطأ, وقال إن أهل السنة غير مسلمين ـ هب ذلك وقع ـ فما صلة هذا الخطأ بالمذهب الاثني عشري؟!, إذا كانت الروايات المدونة في كتب الاثني عشرية تصرّح وهي منقولة عن أئمة هذا المذهب, وتصرح بأن أهل السنة مِن المسلمين, فكيف تجيز لنفسك يا شيخ عثمان أن تقول إن الاثني عشرية ترى أن أهل السنة غير مسلمين.
وأنا في نظري أن الشيخ عثمان الخميس أخطأ في فهم بعض الروايات, وفي فهم أقوال علماء الاثني عشرية فضن إنها تنفي الإسلام عَنْ أهل السنة, نعم إن الشيخ أخطأ ولكن المشكلة إن الشيخ لا يقبل الاعتراف بهذا الخطأ, ولماذا لا يراجع الشيخ عثمان الخميس كتب الاثني عشرية, التي بينت معاني هذه الروايات وهذه الأقوال التي نقلها الشيخ عثمان من علماء الاثني عشرية وحسب إنها تعتبر أهل السنة غير مسلمين؟!! ولست أنفي إنني عندما كنت وهابياً كنت أفهم هذه الأقوال كما فهمها الشيخ عثمان, بيد إنني استيقنت أنني أخطأت خطأً حقيقياً, ولكنني لست مثل الشيخ عثمان, وأقولها صريحة إنني أعترف بذلك الخطأ, وإنني أرى لو جلست مع الشيخ عثمان في جلسة ثنائية, لبينت له خطأه؛ لأنني مؤمن بأن طرح الخلافات في أجواء يحضرها هذا العدد الهائل من السنة والشيعة, يحول بين المرء وبين الحقيقة.
والآن سوف أعود إلى موضوعي الأصلي, إخواني لقد كان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يغرسون الألفة من خلال سلوكهم, ومن هنا كانوا يدركون أن بني أمية لا يهمهم الإسلام ولا المسلمين, ففي سبيل الحكم والملك سوف يدمرون الإسلام والمسلمين, ومن هنا نجد أن أهل البيت كانوا يلجؤون اضطراراً للمسالمة والمصالحة مع الحكم الأموي الفاسد, من أجل الحفاظ على أصل الإسلام, والحفاظ على الوحدة المقدسة, وأرجو من كل المستمعين أن يتأملوا في ما قاله الإمام الحسن ـ رضوان الله عليه ـ حينما ذكر الأسباب التي اضطرته إلى الصلح مع حكومة معاوية الفاسدة, حيث قال: كما نقل عنه صاحب كتاب كشف الغمة في الصفحة (170): «وقد رأيت إن حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا إصلاحكم وبقاءكم».
وذكر المجلسي في بحار الأنوار الجزء العاشر, الصفحة (101) إن الإمام الحسن قال: «إني خشيت أن يُجتَث المسلمون عَن وجه الأرض، فأردت أن يكونَ للدين ناعي», وأرجو من الجميع أن يتأملوا في هذه العبارة للإمام الحسن حيث نقل صاحب كتاب الكامل في التاريخ, الجزء (3)، الصفحة (409) عبارة هامة, قالها ـ رضوان الله عليه ـ لمعاوية, عندما طلب منه قتال الخوارج فقال مجيباً لمعاوية: «لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها».
تأملوا يا إخواني من الوهابيين وأهل السنة ومن الاثني عشرية والسلفية, إن الإمام الحسن أطلق عليهم كلمة «أهل القبلة», وترك قتالهم «لصلاح الأمة».
ويكفينا أن نقرأ سلوك الإمام علي بن الحسين ـ رضوان الله عليه ـ فعلى الرغم أن الدولة الأموية قتلت أباه الإمام الحسين وارتكبت مجزرة كبرى رآها بعينه فقد كان حاضراً في معركة كربلاء ورأى الإمام زين العابدين مشاهد المجزرة الجماعية لأهل البيت النبوي, ثم أخذ أسيراً مع عمته زينب بنت الإمام علي ومع أخواته, وعاصر الإمام زين العابدين أكبر محنة مر بها أهل البيت, ولكن مع كل الذي حدث كان الإمام يعلّم شيعته وأتباعه أن الحفاظ على الإسلام ومصلحة الإسلام فوق كل شيء وعندما كانت الجيوش تتحرك بقيادات أموية كان الإمام يدعو لهذه الجيوش بالنصر والغلبة على الكفار وهذا الدعاء مدون ومعروف عن الإمام في صحيفته المعروفة بصحيفة الإمام السجاد, وهو دعاء الثغور, وهذه بعض أدعية الإمام لنصرة الجيش الأموي الذي يواجه الخطر الصليبي: «اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ، وحصِّن ثغور المسلمين بعزَّتِك، وأيِّد حُماتها بقوّتِك، واَسْبغْ عطاياهُم من جدَتِك، اللهُمّ صلِّ على محمدٍ وآله، وكثر عِدَّتَهُم، واشْحَذ أسلحَتَهُم، واحرُس حورَتَهُم، وامنع حومتَهُم، وألِّف جمعهُم، ودَبِّر أمرَهُم، وواتِرْ بين مِيَرِهُم، وتوحَّد بكفاية مُؤَنِهُم واعضُدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطُف لهم في المكرِ، اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلهِ، وعرّفهُم ما يجهلون، وعلّمهُم ما لا يعلمون، وَبَصِّرهم ما لا يُبصرون، اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآله، وأنسِهُم عند لقائِهم العدوَّ ذِكرَ دنياهم الخدّاعة الغروّر، وامحُ عن قلوبِهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنَّةَ نصبَ أعينِهم...».
هذا سلوك الأئمة حتى مع الذين ظلموهم وسوف نرى كيف ترك هذا السلوك أثراً قوياً على الاثني عشريين. ومع اقتناع الإمام زين العابدين بأن حكام بني أمية من الظالمين وحرصه على تبيين الجرائم التي ارتكبوها في حق أهل البيت, وفي حق الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلا أن حرص الإمام علي بن الحسين على الأمة الإسلامية من أن تتعرض إلى صدمة خطيرة من الصليبيين, هذا الحرص جعل الإمام يدعو لهم بالنصر والغلبة.
أما بالنسبة للمشروع الثاني: كما قلت إن هنالك روايات متواترة عن الأئمة الاثني عشر تبين أن كلمة «مسلم» تطلق على «السني» كما تطلق على «الاثني عشري» وتطلق على كلِّ الفرق الإسلامية, ومن خلال ذلك استطاع أهل البيت أن يواجهوا تيارات التكفير التي كانت مدعومة من الدولة الأموية من أجل تفتيت الأمة إلى فرق متناحرة ومتقاتلة يكفِّرُ بعضُها بعضاً, ويكفي أن تتأملوا إلى معنى كلمة الإسلام في روايات أهل البيت.
ينقل الإمام شرف الدين ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيم «الفصول المهمّة في تأليف الأمة» صفحة (21) رواية عظيمة عن الإمام محمد الباقر ـ وهو الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر ـ, يقول الإمام الباقر ـ رضوان الله عليه ـ شارحاً ومبيناً وموضحاً معنى الإسلام: «والإسلامُ ما ظهر مِنْ قولٍ أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرقِ كلها».
لاحظوا يا إخواني كلمة الإمام الباقر: «من الفرق كلها», فكل الفرق المخالفة للاثني عشرية مِن أهل القبلة يشملهم الإسلام, كما يقول الإمام الباقر, ثم يقول ـ رضوان الله عليه ـ: «وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلِّها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحج فخرجوا بذلك عَنْ الكفرِ، وأضيفوا إلى الإيمان».
وهكذا ينقل الإمام البروجردي في كتابه «جامع أحاديث الشيعة» جزء (5), صفحة (216) ينقل هذه الرواية القيمة, يقول الإمام جعفر الصادق ـ رضوان الله عليه ـ, وهو الإمام السادس من الأئمة الاثني عشر الذين أشار إليهم النبي في حديث جابر بن سمرة الوارد في البخاري ومسلم, يقول ـ رضوان الله عليه ـ في شرحه لمعنى الإسلام: «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبه حقنتْ الدماء، وعليه جرتْ المناكح والمواريث وعليه جماعة الناس».
إذن فمصطلح الإسلام عند الخلفاء الاثني عشر يطلق على كل الفرق الإسلامية مهما تعددت ومهما اختلفت.
وقد عمل فقهاء الاثني عشرية بمضمون هذه الروايات, ولكن الوقت لا يتسع لتبيين ذلك وبإمكان أخي الشيخ عثمان أن يراجع كتابي «رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية» وسيجد إنني بينت هذا الموضوع بصورة مفصلة.
أمّا بالنسبة للمشروع الثالث لأهل البيت: فلا مجال لذكره هنا وسوف أتناول في المشروع الرابع قضية التقية بصورة مختصرة؛ لأنني تناولتها في كتابي >المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين< ثم سوف أذكر بعض آثار مشروع أهل البيت على علماء الاثني عشرية.
أما فيما يتعلق بالمشروع الرابع لأهل البيت: مِنْ أجلِ الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, فهذا المشروع يتعلق ويرتبط بالتقية.
لقد سعى أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ أن يكون هنالك انسجاماً وتعاوناً بين الاثني عشرية وبين بقية المذاهب الإسلامية من أهل السنة, ومن غيرهم ومن أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة أمر أهل البيت شيعتهم أن يمارسوا التقية مع المذاهب الإسلامية, وكان للتقية دور كبير في عدم تمزيق الصف الإسلامي, حيث استطاع أهل البيت من خلال التقية أن يفرضوا على شيعتهم التعايش مع بقية المذاهب الإسلامية, ويكفي أيها الإخوة أن تتأملوا في هذه الرواية العظيمة التي رواها الإمام الكليني ـ رضوان الله عليه ـ في الأصول ونقلها عنه الحر العاملي في وسائل الشيعة الجزء الثامن صفحة (399) الباب الأول من أبواب العشرة الحديث الخامس, والرواية رويت بسندٍ صحيح عن مرازم عن أبي عبد الله الصادق ـ رضوان الله عليه ـ أن قال: «عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز, إنه لا بدّ لكم مِنْ الناس, إن أحداً لا يستغني عَنْ النّاس في حياته، الناس لا بدّ لبعضهم مِنْ بعض».
لقد وضع أهل البيت مشروع التقية من أجل مواجهة المخطط الأموي الذي كان يسعى إلى تمزيق الوحدة بين السنة والشيعة, لقد كان بنو أمية يستغلون الخلاف الموجود بين السنة والشيعة, من أجل تفريق الصف الإسلامي وكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يدركون خطر المشروع الأموي على وحدة الأمة وكانوا يعلمون أن غرض الدولة الأموية من إثارة الخلاف بين السنة والشيعة هو الحفاظ على وجودِهم وحكمهم, وفقاً لقاعدة فرِّق تسد, فكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ في كثير من الأوقات يتغاضون عن المسائل الخلافية بين السنة والشيعة, ويأمرون شيعتهم بالعمل وفق المذاهب الإسلامية السنية من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية, بل كان أهل البيت من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية يجيبون بعض السائلين مِنْ شيعتهم إجابات فيها مجاراة للفقه السني, فإذا خلوا إليهم ذكروا لهم الرأي الذي يرونه, وبينوا لهم الإجابة الصحيحة, ويأمرونهم بكتمان السر وهذا هو ما يعني بـ «التقية» في الفقه الاثني عشري ـ خلافاً لرأي أخينا الشيخ عثمان ـ ولما كان أهل البيت هم حماة الوحدة الإسلامية, وما كانت الدولة الأموية ترغب أن يصلّي السنة والشيعة في مسجد واحد حتى يتاح للاستخبارات الأموية الصيد في الماء العكر والبقاء في الحكم, فكان أهل البيت يأمرون شيعتهم ويحثونهم على حسن المعاشرة مع أهل السنة, وعلى الصلاة معهم ومشاركتهم في الجماعة والحضور في جنائزهم وعيادة مرضاهم, مع أمرهم لهم بأن يصلوا كما يصلون, ويعملون ما يعملون حفاظاً على الوحدة والانسجام بين السنة والاثني عشرية.
وقد عمل أتباع أهل البيت بهذه التوصيات, وتركت أثراً كبيراً في نظرتهم إلى أهل السنة وغرس أهل البيت في نفوس أتباعهم التسامح مع أهل السنة, ومن هنا ينقل التاريخ لنا أن الشيعة عندما كانوا يتمكنون من الحكم لم يكونوا يمارسوا الظلم أو القتل أو التشريد ضد أهل السنة, وقد اعترف أحمد أمين بأن التسامح الموجود عند الشيعة لا يوجد عند أهل السنة, لقد رسم أهل البيت خطوطاً واضحة جلية ناصعة في كيفية التعامل مع المسلمين من أهل القبلة, ويتمثل ذلك بالروايات التي تواترت عن الإمام جعفر الصادق حينما كان يأمر الشيعة بالمشاركة في الجماعة والجمعة التي تنعقد من قبل الحكام والولاة؛ من أجل المحافظة على الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة, وكان رضوان الله عليه يقول كما نقل عنه صاحب كتاب الهداية في الصفحة العاشرة, كان يقول لشيعته: «من صلى معهم في الصفِّ الأوّل, كان كمن صلى خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في الصفِّ الأول.
وروى الشيخ الإمام الكليني في كتابه الكافي (ج 2 ص 219) أن الإمام الصادق كان يقول: «كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا عشائرهم وعودوا مرضاهم, واشهدوا جنائزَهم, ولا يسبقونَكُم إلى شي مِنْ الخيرِ فأنتم أولى به منهم».
ونقل الإمام الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء (ج 1 ص 343) عن الإمام الصادق أنه قال ـ رضوان الله عليه ـ: «ما من عبدٍ يصلي في الوقت ويفرغ، ثم يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلا كتب الله له خمساً وعشرين درجة».
وهكذا يا إخواني من الوهابيين ومن أهل السنة نجد ـ أيضاً ـ المجلسي في بحار الأنوار (ج 16 ص 47) ينقل عن الإمام الصادق, إنه قال لأصحابه وشيعته: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل, ولورع في دينكم والاجتهاد لله, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزَهم وعودوا امرضاهم، وأدوا حقوقَهم، فإن الرجلَ منكم إذا وَرِعَ في دينهِ وصدق الحديث وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور, وقيل هذا أدب جعفر».
ويبقى الآن أن أبيّن آثار مشروع أهل البيت على علماء الاثني عشرية, ولا شك أن من يتتبع فقهاء الاثني عشرية سوف يجد أنهم طبقوا وصايا أهل البيت في الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, وبإمكانكم إخواني مِنْ الحاضرين في هذه الغرفة أن تلمسوا ذلك من خلال هذه الحقائق الأربع التي سوف أذكرها:
الحقيقة الأولى: لا شك أن روايات الأئمة الاثني عشر في التقريب بين المسلمين قد تركت نتائجاً مهمة في وسط الاثني عشريين, وبإمكان إخواننا مِن الوهابية ومن أهل السنة أن يلحظوا ذلك من خلال سبق الاثني عشريين في ذكر آراء أهل السنة في الكتب الفقهية, حيث إن علماء الاثني عشرية قد سبقوا أهل السنة في الدراسات الفقهية المقارنة بين الفقه السني والقفه والاثني عشري, وأذكر من قدماء الاثني عشرية علم الهدى الشريف المرتضى في كتابه «الانتصار» وهكذا الشيخ الطوسي في كتابه «الخلاف» والعلامة الحلي في كتابه «التذكرة».
الحقيقة الثانية: نلمس أثر روايات أهل البيت, من خلال تتبع أقوال علماء الاثني عشرية في أن أهل السنة من المسلمين.
الحقيقة الثالثة: لا شك أن المنهج السلوكي لأهل البيت وكيفية تعاملهم مع أهل السنة, قد ترك أثراً قوياً على سلوك ومواقف الاثني عشريين, ومن هنا نجد أن الدولة العثمانية في أخريات حياتها عندما تعرضت للخطر الصليبي تصدى الاثنا عشريون للدفاع عن الدولة العثمانية السنية, حرصاً على كيان الإسلام السياسي, وحرصاً على المصلحة العليا للإسلام, ومن هنا نجد أن علماء الاثني عشرية أفتوا في الربع الأول من القرن العشرين بوجوب الجهاد لحماية الحكم السني العثماني.
الحقيقة الرابعة: كما إننا وجدنا أثر مشروع أهل البيت على الاثني عشرية من خلال مبدأ التسامح عند الاثني عشرية مع أهل السنة, حتى أن أحمد أمين المصري مع عدائه للشيعة, اعترف بأنه لا يوجد عند أهل السنة تسامح مع الشيعة في حين أن الشيعة متسامحون مع أهل السنة.
والآن سوف أتناول القضية الأخيرة في هذا الحوار وهي قضية غيبة الإمام الثاني عشر, وأجد من الضرورة أن أتوسع في استعراض خاصية الغيبة؛ لأنني رأيت أخي الشيخ عثمان الخميس, وأخي الشيخ عبد الرحمن الدمشقية, وأخي الشيخ محمد علي, وأخي الشيخ أبا أحمد البكري وغيرهم من إخواننا الوهابيين الذين حضروا في هذا الحوار بيني وبين الشيخ عثمان, ولأنني ـ أيضاً ـ قرأت ما كتبته الوهابية عن الغيبة, فوجدتها تخلط أثناء الكتابة عن الغيبة؛ لأنها تريد أن تفهم خاصية الغيب قبل أن تدرك حديث الثقلين, وقبل أن تدرك حديث الاثني عشر, وقبل أن تدرك آية التطهير, وقبل أن تدرك آية المباهلة, وقبل أن تدرك بعض المباحث التي تحاورت فيها مع أخي وحبيبي الشيخ عثمان, وهذه الحقائق لا بدّ للوهابية أن تدركها إذا أرادت أن تدرك الغيبة.
تعريف الغيبة: المرّة من غاب( )، وتعني البعد والتّواري، يقال: أو حشتني غيبة فلان، وقد أطلت غيبتك.
والقول بغيبة الإمام الثاني عشر، من أولويات خصائص المذهب الاثني عشري، وهو تصورٌ اعتقادي عند الاثني عشرية مصدره ومنبعه الرسول الأكرم، وأوصياءه الاثنا عشر لا من غيرهم, ويستطيع الإنسان ـ وهو واثق ـ أن يقول: إن عقيدة الاثني عشرية بغيبة الإمام الثاني عشر حقيقة أساسية أخبر عنها الرسول الأكرم، قبل تحققها في الواقع التاريخي بأكثر من مائتين عاماً، وكان الأئمة الاثنا عشر ـ من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي ـ يبينوا للناس هذه الحقيقة ويعرّفوهم بأنّ الإمام الثاني عشر سوف يغيب، ووضحوا لهم ذلك بالنصوص الصريحة المتواترة، حتى أصبحت حقيقة مسلّمة لدى جماعة كبيرة من المسلمين.
وقبل أن نبحث عن هذه الحقيقة، نشير هنا إلى حقيقة أخرى، تقول: إنّه لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر إلا بعد أن يدرك حقيقة الإمامة الربانية لمذهب الاثني عشرية, فلا شك أن حقيقة الغيبة تنبثق من الإيمان بنص الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، وما لم نؤمن بذلك فلا يمكن لنا أن ندرك هذه الحقيقة، والذين يبحثون عنها، قبل الاعتقاد بالنص على الأئمة الاثني عشر، سوف تبقى نظرتهم حولها في حدود المعرفة الفكرية الباردة، ولا يمكن لهم أن يؤمنوا بها، ومن ثمّ أخرّنا البحث عن الغيبة بعد البحث عن الإمامة ـ وجعلناها في خاتمة المناظرة مع أخي سماحة الشيخ عثمان ـ مع وجود التلازم بين حقيقة الإمامة وحقيقة الغيبة، بل ما هو أكثر من التلازم، هناك الانبثاق الذاتي، فغيبة الإمام الثاني عشر فرع من حقيقة إمامة الأئمة الاثني عشر، ومن ثمّ فسماع المناظرات الخمسة عشر مقدّمة على هذا البحث، وهذه الخاصية هي آخر ما آمنتُ به بعد انتقالي من الوهابية إلى الاثني عشرية، ومن ثمّ جعلناها في آخر «هرم الاثني عشرية» لأن الإيمان بها يحتاج إلى مقدمات.
إن المسألة ـ في حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ ليست هي أن نبحث عن حكمة الغيبة فحسب، وليست هي البحث عن إمكانية أن يعيش الإمام الثاني عشر أكثر من ألف سنة، إنما المسألة ترتبط أولاً ـ قبل كل شيء ـ بالبحث عن الأحاديث والروايات المتواترة القاطعة الصريحة، التي دوّنت في كتب الحديث، وانتشرت بين الناس، وكُتب حولها الكتب، وارتبطت بعقيدة الناس بعد أن سمعوا من الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ رضوان الله عليه ـ ، ثم سمعوها من الإمام علي, ثم سمعوها من الإمام الحسن، ثم من الإمام الحسين، ثم من الإمام الباقر، ثم من الإمام الصادق، ثم من الإمام الكاظم، ثم من الإمام الرضا، ثم من الإمام الجواد، ثم من الإمام الهادي، ثم من الإمام الحسن العسكري، ثم من الإمام المهدي ـ رضوان الله عليهم جميعاً ـ ، وبتلك الأحاديث والروايات المتواترة، المستمدة مباشرة من الرسول الأكرم، ومن أوصيائه الاثني عشر، تكيّفت جماعةٌ من المسلمين وآمنت بحقيقة الغيبة قبل تحققها، ودوّنتها وجمعتها في كتب الحديث، بل أفردت لها كتباً مستقلة قبل تحقيق الغيبة بأكثر من مائتين عاماً ـ كما سيتضح لنا قريباً ـ إلى أن تحققت مضامين تلك النصوص في الواقع التاريخي بنفس الصورة التي أخبرت عنها تلك الأحاديث والروايات التي كانت هي المرجع الأوّل للاعتقاد بالغيبة، فمنها انبثقت تلك الحقيقة، وكانت مفاجئة كبيرة للذين تحققت الغيبة في زمانهم، لأنها تحققت بعد أن أخبر بها النبي الأكرم بأكثر من قرنين من الزمان، فعلموا أن تحققها في الواقع التاريخي إنّما كان تطبيقاً حتمياً لخبر النبي الأكرم، وآمنوا أن أخباره ـ صلى الله عليه وآله ـ عن حدثٍ سوف يقع في المستقبل لا بدّ له أن يظهر في الواقع التاريخي.
ونحن نحاول في خاتمة هذه المناظرة, بيني وبين أخي الشيخ عثمان عرض حقيقة «غيبة الإمام الثاني عشر» مصحوبة بالشرح والتوضيح والتجميع والتبويب، حتى يصل كل الحاضرين في هذه المناظرة من إخواني أهل السنة ومن إخواني الوهابيين إلى الإيمان والتصديق بتلك الحقيقة الأساسية العظيمة.
ولعله يحسن ـ لتكون هذه الحقيقة واضحة وضوحاً يناسب أهميتها ـ أن نذكر ـ قبل ذلك ـ أن الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي كان يعتقد أن الإمام المهدي هو أحد الاثني عشر, قال في شرحه لحديث الاثني عشر: «... أحدهما المهدي ـ المنتظر ـ ، لأنه من آل بيت محمّد صلى الله عليه وسلم<( )، وكان الإمام ابن كثير الدمشقي ـ أيضاً ـ من أئمة أهل السنة الذين يعتقدون أن الإمام المهدي أحد الأئمة الاثني عشر وقد صرّح بذلك في تفسيره( ) وفي تاريخه( )، ونقل عنه مفتي الديار السعودية « ابن باز» ذلك( ).
ويحسن أن يكون مفهوماً إنني آمنت بهذا الأمر؛ لأن النصوص النبوية واستقراء الحوادث المحيطة بها تؤكّد صحة هذه النصوص، ولا يمكن أن يهجس في خاطري أن أنسب إلى الإسلام ما هو بريء منه!. إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفـسي أبداً إنما أنا أسير مع النصوص الثابتة, فجنحت إلى هذا الأمر بإيحاء النص واتجاهه.
ويحسن لي هنا أن أنقل للمستمع البيان الصادر من علماء المملكة العربية السعودية, الذي بين أن الإمام المهدي هو الإمام الثاني عشر في حديث الاثني عشر، وقد صدر البيان من قبل « رابطة العالم الإسلامي» المعروفة باتجاهها الوهابي, وكان بإشراف جماعة من كبار علماء السعودية، مع إمضاء مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي محمد المنتصر الكناني, وقام بكتابة هذا البيان فضيلة الشيخ محمد المنتصر الكناني وأقرّت به اللجنة المكونة من أصحاب الفضيلة والعلم الشيخ الجليل صالح بن عثيمين وفضيلة الشيخ أحمد محمد جمال وفضيلة أحمد علي وفضيلة الشيخ الجليل عبد الله خياط, وبإشراف الشيخ محمد صالح القزاز مدير الرابطة, والذي يهمني في هذا البيان الطويل هـي هذه العبارة المقتطفة: «هو ـ الإمام المهدي ـ آخر الخلفاء الراشدين، الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح، وأحاديث المهدي، واردة عن كثير من الصحابة...<.
وقد كان إمام أهل السنة ـ أبو داود السجستاني ـ من الذين يؤمنون بأنّ الإمام المهدي هو أحد الأئمة الاثني عشر، ومن ثم فقد أورد في سننه أحاديث الأئمة الاثني عشر, في كتاب الإمام المهدي ـ رضي الله عنه ـ , وفي هذا يقول الإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي في كتابه «النهاية»: «فصلٌ في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان، وهو أحد الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين ..<.
وقد عقد أبو داود السجستاني ـ رحمه اللّه ـ كتاب المهدي مفرداً في سننه، فأورد في صدره حديث جابر بن سمرة، عن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليهم الأمة», وفي رواية «لا يزال الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، قال فكبّر الناس وضجوا، ثم قال كلمه خفيت، قلت لأبي: ما قال، قال كلهم من قريش»( ), والمهم الآن أن نقول: إننا لا نشك أن الإمام المهدي هو أحد الأئمة الاثني عشر، وبالتحديد هو الإمام الثاني عشر، وسبق أن ذكرنا بعض أدلتنا على ذلك، عند البحث عن إمامة الأئمة الاثني عشر, عندما طرحنا هذا الموضوع في هذه المناظرة المباركة, وبقي هنا أن نذكر دليلا ً قوياً وهذا الدليل هو الشرارة الأولى, التي قادتني إلى الإيمان بعقيدة الإمام المهدي حسب العقيدة الاثني عشرية, وقد كنت أبحث عن السبب الذي جعل الإمام أبا داود السجستاني يقرن بين الإمام المهدي وحديث الاثني عشر إلى أن اكتشفت هذا الدليل, فعرفت سبب ذلك, لكنه يفرض على كل مستمع أن يتأمل في الأحاديث والروايات التي وردت في الإمام المهدي، والواردة في إمامة الأئمة الاثني عشر، وسوف يجد أن الروايات الأولى ذكرت أن «الهرج» سوف يكون بعد مضى الإمام المهدي ـ رضي الله عنه ـ ، وإن الروايات الثانية ذكرت أن الهرج سوف يكون بعد مضـي الأئمة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم ـ , ولعله يحسن ـ ليكون هذا الدليل واضحاً وضوحاً يناسب أهميّته ـ أن نزيد في إيضاحه وبيانه فنقول: إننا عندما نطرح روايات الإمام المهدي، أمام الروايات التي ذكرت أن الأئمة اثنا عشر سوف نلاحظ إنها تذكر أن الأئمة الاثنا عشر، لن تنتهي حياة آخرهم إلاّ قبيل القيامة، ثم يكون ماذا؟ أي ما الذي سوف يحدث بعد مضي الإمام الثاني عشر؟ فيجيب الرسول الأكرم ـ صلى الله عيه وآله وسلم ـ: «ثم يكون الهرج», فالرسول ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ أخبرنا أن «الهرج» سوف يكون بعد مضي الإمام المهدي، ثم أخبرنا إنه سيكون «الهرج» بعد مضي الإمام الثاني عشر، فعلمنا من خلال الجمع بين الخبرين أن الإمام المهدي هو الإمام الثانـي عشر, وبعد أن انتقلت من عقيدة أهل السنة في الإمام المهدي إلى عقيدة الاثني عشرية رأيت أن هذا الدليل من الأدلة المذكورة في كتب الاثنـي عشرية, وقد أشار إلى هذا المحدث الجليل الإمام النعماني (من كبار المحدثين فـي القرن الرابع الهجري) في كتابة القيم «الغيبة», بعد أن ذكر روايات عن الأئمة الاثني عشر في كتب أهل السنة: «...وفـي قوله صلى الله عليه وآله في آخر الحديث الأوّل( ): «ثم يكون الهرج» أدلّ دليل على ما جاءت به الروايات متّصلة, من وقوع الهرج بعد مضي القائم «الإمام المهدي» عليه السلام بخمسين سنة، وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرد بذكره الاثني عشر خليفة ألا الأئمة الذين هم خلفاؤه...»( ).
ونحب أن نذكر حقيقة مسلّمة تحدّثنا عن الكثرة الهائلة من الروايات المتواترة الصادرة من الأئمة الاثني عشر، التي ينص فيها كل إمام من الأئمة الاثني عشر، على إمامه الإمام الذي بعده, إلى أن ينص الإمام الحادي عشر على إمامة الإمام المهدي آخر الأئمة ـ رضوان الله عليهم ـ حتى أصبح نص كل إمام على الإمام الذي بعده قاعدة ضرورية التزم بها كل الأئمة، وننصح أخانا الشيخ عثمان ـ هداه الله ـ أن يقرأ تلك الروايات قبل دراسة حقيقة الغيبة وقبل أن ينتقدها ويسخر منها, كما ننصحه أن يقرأ الدلائل القوية المتعددة والمتنوعة التي تثبت أن الإمام الثاني عشر هو الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري, الذي ولد في سنة (255 هـ)، وبعد الإيمان بتلك الحقائق الأساسية السابقة الموثوق بصحتها، والمستمدة من الكتاب والسنة، سيكون الإيمان بالغيبة أمراً ضرورياً، والذي يريد أن يؤمن بحقيقة الغيبة قبل التصديق بتلك الحقائق، إنما مثله مثل الذي يسعي بأن يسلِّم بأن رسالة محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ رسالة ربّانية قبل التصديق بنبوته, ومن ثمّ لا بدّ لمن يريد أن يدرك حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر أن يلتزم بمسألة التدرج في البحث وبمنهج البحث الذي اتفقنا عليه مع الشيخ عثمان في المناظرة الأولى حينما قلت لأخي الشيخ عثمان إنني كتبت كتاباً بعنوان «المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين<، فلا يمكن الإيمان بحقيقة الغيبة قبل التصديق بمقدماتها, عندئذٍ من السهولة أن نصل إلى الجزم والقطع بغيبة الثاني عشر.
والذين يعانون من الإنكار لهذه الحقيقة من أمثال أخي الشيخ عثمان، هم الذين يفصلون بين الأحاديث والروايات المتواترة في حقيقة الغيبة, وتلك الحقائق الأساسية المسلّمة المستمدة من السنة القطعية, حقيقة نص الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، وحقيقة نص كل إمام على الإمام الذي بعده، وحقيقة أن الإمام الثاني عشر، هو محمّد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر الذي ولد في سنة (255 هـ).
ولما كان قصدنا في هذه المناظرة مع أخي الشيخ عثمان, هو بيان أسباب التحوّل من المذهب الوهابي إلى المذهب الاثني عشري، أرى من الضرورة، تبيين أن حقيقة الغيبة، هي آخر خاصية من خصائص الاثني عشرية وجدت مكاناً في العقل والقلب، ومن ثمّ جعلتها في آخر نقطة في الهرم العظيم للاثني عشرية.
إنني قبل التصديق والتسليم بحقيقة غيبة الإمام الثاني عشر المهدي ـ رضوان الله عليه ـ قد اضطريت أن أبحث عن كتب الحديث والروايات القديمة، التي ذكرت أحاديث وروايات الغيبة قبل أن تتحقق في الواقع التاريخي, وأن أراجع تراجم رواتها، وتراجم كل المؤلفين حول حقيقة الغيبة, كما إنني لم أعتمد إلاّ على الراوي الذي أحرزت وتأكّدت من عدالته ووثاقته, من خلال دراستي الخاصة، لاسيما بعد أن تبين لي الأثر المحسوس للخصومة المذهبية على بعض علماء الجرح والتعديل ومن ثمّ لم أسلّم بكل ما ذكروه في جرح بعض الرواة، خاصة إذا ثبت لي أن منشأ جرح الراوي هو الخصومة المذهبية، واعتمدت في الدرجة الأولى على كتب الحديث والرواية التي كتبت قبل تحقق الغيبة في واقع الحياة، ثم اعتمدت في الدرجة الثانية على كتب الحديث والرواية التي كتبت في عصر تحقق الغيبة، ثم الكتب التي كتبت في الزمان القريب من عصر تحقق الغيبة، كما استفدت في معرفة تاريخ تأليف بعض كتب الحديث المتخصصة في جمع أحاديث الغيبة على الفهارس القديمة، لاسيما على الفهرست القيم للرجالي الكبير الشيخ النجاشي، وعلى فهرست الإمام المحدّث الشيخ الطوسي, ورجعت ـ أيضاً ـ إلى فهرست ابن النديم، وعقدت مقارنة بين الفهارس القديمة لعلماء الاثني عشرية والفهارس القديمة لعلماء أهل السنة، وبعد المقارنة استيقنت بصدق ما ذكرته فهارس الاثني عشرية, وكانت المقارنة ضرورية بالنسبة لي؛ لأنني لم أكن ـ في البداية ـ أطمئن لعلماء الاثني عشرية, ولا شك أن الأمانة العلمية التي وجدتها ـ بعد بحث طويل ـ عند المفيد والنجاشي والطوسي، كانت من الأسباب الرئيسية التي خلقت في نفسي الاطمئنان لأقوال المحققين من علماء الاثني عشرية, إنني أؤمن من أنه ليس من المنطق السليم التشكيك في كل أحاديث وروايات الاثني عشرية، قبل دراسة كتبهم الحديثية والروائية بروح علمية بعيدة عن الخصومة المذهبية، ومن ثمّ فأنا أرفض منهج الوهابية في التعامل مع روايات الاثني عشرية حول الغيبة، ولو فتح باب الشك من دون دليل أو برهان، لما أمكن لنا أنّ نصدّق بأية رواية.
إنّما يكون الشك مفيداً عندما يبعثنا على البحث عن الرواية من حيث المتن والسند, أمّا إذا جعلنا نرفض أي رواية دون بحثٍ وتحقيق, فسوف يكون مرضاً فكرياً خطيراً، ومن البديهيات أن الشك ليس غاية بل هو وسيلة، وليس محلاً للبقاء بل هو مقدّمة للحركة الفكرية.
ومنهجنا عند البحث عن روايات الاثني عشرية أن لا نسلّم أو نشكك بأي رواية، إلا بعد التحقيق والبحث في متنها وسندها، وحتى الرواية الضعيفة من حيث السند التي نشك فيها، فنحن لا نقبل متنها إلا إذا صحت لدينا بسندٍ آخر، فمن ثمّ فالأحاديث والروايات التي سنذكرها في خاصية الغيبة قد أحرزنا ثبوتها بصورة مجملة، وإذا ذكرنا رواية ضعيفة من حيث السند, إنما نذكرها لأننا تأكدنا من صحتها بأسانيد أخرى صحيحة, ومن هنا فأنا أرفض تشكيك أخي الشيخ عثمان الخميس, حيث رأيته في هذه المناظرة يكذِّب كلما رواه الاثنا عشريون, فقد وجدت أن الأحاديث والروايات الواردة في الغيبة قد تواترت من حيث المعنى واللفظ, وتناقلها المحدّثون في كتب الحديث والروايات قبل الغيبة, ثم تحققت مضامينها ومعانيها بنفس الصورة التي رسمتها, ومن ثم فلم نحتاج إلى حذف الرواية الضعيفة من حيث السند.
فلنترك الشك الذي يراه الشيخ عثمان؛ لأنه لا يستند على دليل، ولنقدّر تبعتنا الخطيرة تجاه تلك الأحاديث والروايات المتواترة في هذه الحقيقة العظيمة, وقد تبين لي أن منبع الشك في روايات الاثني عشرية كانت عندي قديماً وهي عند الشيخ حالياً, إنما يرجع هذا الشك إلى إنني وجدت أنه في القرن الرابع الهجري ـ بعد الغيبة الكبرى ـ انتشرت روايات الأئمة الاثني عشرية ـ التي تذكر حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ في وسط علماء أهل السنة حتى شك بعضهم فيها، بحجة واهية، وهي أن روايات الأئمة الاثني عشر في غيبة الإمام الثاني عشر, لماذا اختفت في القرون الثلاثة الأولى؟!! وفي هذا التساؤل تجاهلاً لما حدث لروايات أهل البيت في القرون الثلاثة الأولى, وأنتم رأيتم أن الشيخ عثمان قرأ عبارة ابن تيمية ـ رضوان الله عليه ـ التي بين فيها أن أهل السنة لم يأخذوا عن أهل البيت وعرفتم دور دائرة الرجس من بني أمية في عزلنا عن روايات أهل البيت, لقد أتى على روايات أهل البيت المطهرين وغير المطهرين وقتٌ حكم عليها فيه بالحرق والإعدام، وكان اقتناء شيء منها يعد جريمة لا يعلم عقوبتها إلا الله، بل أن مجرّد ذكر اسم أحد الأئمة الاثني عشر، أو الإشارة إلى رواياتهم، أو الاستفادة منها في كتاب من كتب الحديث لدى المذهب السني، أو حتى مجرد ذكر اسم أحد الرواة من اتباع الأئمة الاثني عشر، كان يعتبر جناية يعاقب عليها صاحبها، وكان إذا أجبرت الضرورة أحد المحدّثين ـ من أهل السنة ـ على أن يذكر في كتابه رواية واحدة من روايات أهل البيت المطهرين, أو حتى روايات أهل البيت غير المطهرين، كان يبتعد كل البعد عن التصريح بأسمائهم( )، ويكتفي بأن يطلق عليهم اسماً لا يعرفه الحكّام، بل الأكثر من ذلك، أن بعض المحدثين ـ من أهل السنة ـ الذين عاشوا في عصر محنة الأئمة الاثني عشر اضطروا أن يحذفوا روايات الأئمة الاثني عشر، من الكتب التي جمعوا فيها الأحاديث الصحيحة، لاسيما وإن كتب الحديث ـ في المذهب السني ـ جمعت في عصر محنة الأئمة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم ـ ، ومن ثم فقد اكتفوا بمجرد الإشارة إلى الأئمة الاثني عشر في كتب الحديث وحذف الجزء الخاص بذكر أسماءهم!! واختفت روايات الأئمة الاثني عشر من كتب محدّثي أهل السنة بسبب هذه الظروف تماماً, كما بينت للشيخ عثمان كيف أن الإمام الصنعاني بين أن أهل السنة حذفوا الصلاة على الآل خوفاً من بني أمية، وتضاعفت المسؤولية على أصحاب الأئمة الاثني عشر، وعلى شيعتهم المتمسكين بحديث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في الأئمة الاثني عشر، وبذلوا كل جهدهم في سبيل حفظ وتدوين روايات الأئمة الاثني عشر, ولكن شدة المحنة التي مرت فيها روايات الأئمة الاثني عشر فرضت على شيعتهم الصعوبات، والتعرض لهجوم السلطان وصل أحياناً إلى إعدام بعض الذين جمعوا روايات أهل البيت, أو تعرضوا لتشويه السمعة حتى عدّوهم من المجروحين بعد أن عرف السلطان اتصالهم بأهل البيت، ولعلي لا أخرج من الموضوع المتفق عليه بيننا في هذه المناظرة إذا ذكرت واحدة من محاولات السلطان في إحراق وإعدام روايات الأئمة الاثني عشر, عندما حاول السلطان أن يبطش بأحد كبار محدّثي الاثني عشرية المهتمين بجمع روايات أهل البيت وهو المحدّث الخبير «محمّد بن عمير الأزدي»( ) حتى اضطرت أخته أن تدفن كتبه( )، التي تضمنت بعض روايات الأئمة الاثني عشر, ولا شك أن محنة أهل البيت تعد من الضروريات والبديهيات التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون السنة والشيعة ووافقهم أخي الشيخ عثمان، وفي محنة الأئمة الاثني عشر يقول العالم والمفكّر السني المشهور، الشيخ محمّد الغزالي
ـ رضوان الله عليه ـ : «كان تنقل أهل البيت في أقطار الأرض، إثر ما وقع عليهم قديماً من حيف, وفي العصر الأول ذهب الإمام جعفر الصادق( ) إلى مدينة رسول الله صلى لله عليه وسلم يعتزل بها من الفتن ويبتعد بدينه عن مؤامرات السلطة وإرهاب العباسيين, وجعفر الصادق رجلٌ مطارد من حكومة ذلك العصر، يرقب في أية لحظة أن يقاد إلى مصرعه، كما اقتيد غيره من آل البيت النبوي<( ).
وفي القرن الرابع الهجري كانت الدولة العباسية ـ بسبب ضعف الخليفة العباسي الذي عجز عن السيطرة على مدينة بغداد( ) وأعمالها فضلاً عن غيرها من بلدان العالم الإسلامي ـ قد رفعت الحصار على روايات الأئمة الاثني عشر, فكان من الطبيعي أن تظهر روايات الأئمة الاثني عشر بعد أن انتهى عصر محنتهم!! وبعد أن أمن شيعتهم من بطش السلطان, ومن ثم أخرجوا كتب الحديث والروايات التي اختفت في عصر المحنة، وبذلك نكون قد أجبنا على السؤال الذي ذكرناه في كتابنا «الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة» والذي ردده الشيخ عثمان في هذه المناظرة وفي كتبه وأشرطته, وهو لماذا اختفت روايات الأئمة الاثني عشر في حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر إلى أن ظهرت في القرن الرابع؟( ).
ٍوسنرى بوضوح كيف تم تدوين أحاديث وروايات الغيبة في عصر المحنة، ولكن منهج السير في هذا الحوار يقتضي أن نذكر ـ قبل ذلك ـ أقوال المحدثين القدماء في الأحاديث والروايات الواردة في حقيقة الغيبة ـ فسوف تسهّل لنا معرفة سير تدوين أحاديث وروايات الغيبة ـ ولقد كان الإمام الشيخ الصدوق (شيخ المحدّثين في القرن الرابع)( ) يبذل جهداً عظيماً في جمع أحاديث وروايات الغيبة، كان ثمرته كتابه «إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة»، ويقول في هذه الأحاديث والروايات: «إن الأئمة ـ عليهم السلام ـ قد أخبروا بغيبته ـ عليه السلام ـ ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستحفظ في الصحف ودوّن في الكتب من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمة ـ عليهم السلام ـ إلاّ وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوّنه في مصنّفاته، وهي الكتب التي تعرف بالأصول, مدوّنة مستحفظة عند شيعة آل محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب [يعني: كتاب إكمال الدين] في مواضعها، فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلّفين للكتب أن يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة، فألّفوا ذلك في كتبهم ودوّنوه في مصنفاتهم من قبل كونها، وهذا محالٌ عند أهل اللبّ والتحصيل، أو أن يكونوا قد أسسوا في كتبهم الكذب فاتّفق الأمر لهم كما ذكروا وتحقق كما ذكروا وتحقق كما وضعوا من كذبهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالهم، وهذا ـ أيضاً ـ محال كسبيل الوجه الأوّل، فلم يبق في ذلك إلاّ أنّهم حفظوا عن أئمتهم المستحفظين للوصية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلى آخر المقامات ما دوّنوه في كتبهم وألّفوه في أصولهم، وبذلك وشبهه فلح الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً»( ).
ويقول ـ أيضاً ـ : « قد صح بالأخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبي والأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ من أمر القائم الثاني عشر من الأئمة وغيبته حتى يطول الأمد، وتقسو القلوب، ويقع اليأس من ظهوره، ثم يطلعه الله، وتشرق الأرض بنوره، ويرتفع الظلم والجور بعدله»( ).
وفي تلك الحقيقة الكبيرة والأساسية، وفي تلك الروايات الصريحة الصحيحة التي أخبرتنا عن غيبة الإمام الثاني عشر، يقول الإمام أمين الإسلام المحدّث الخبير الطبرسي: «وخلّدها المحدّثون من الشيعة في أصولهم المؤلّفة في أيّام السيّدين الباقر والصادق عليهما السلام، وآثروها عن النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام واحداً بعد واحد»( ).
ومن جملة كبار المحققين القدماء الذين ذكروا أحاديث وروايات الغيبة, وتركوا لأجلها مذهب أهل السنة ودخلوا في مذهب الاثني عشرية الشيخ الإمام أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي( ), كان من أهل السنة قبل معرفته لأحاديث وروايات الغيبة، قال في تلك الأحاديث والروايات: «نقل إليهم أسلافهم حالة (الإمام الثاني عشر) وغيبته وصورة أمره واختلاف الناس فيه عند حدوث ما يحدث وهذه كتبهم فمن شاء أن ينظر فيها فلينظر»( ).
وأمثال هذه الأقوال الصادرة من المحدثين والمحققين كثيرة والمهم الآن أن نقول: إن هناك اتفاقاً بين سير تدوين أحاديث وروايات الغيبة وبين هذه الأقوال التي نقلناها عن المحدثين ـ رضوان الله عليهم ـ ، فنحن وجدنا بعد الرجوع إلى عشرات الكتب الحديثية والروائية ودراستها في أكثر من عشر سنوات, مصداقية وحقانية تلك الأقوال، وسوف نثبت ذلك بالأدلة القوية عندما يتقدم بنا البحث في هذه الحقيقة الهائلة.
وفي هذا القول نجد مواجهة الإمام الأقدم إسماعيل بن علي بن أبي سهل ـ رضوان الله عليه ـ ، لشبهات بعض المنكرين لحقيقة الغيبة، أو الغافلين عن الأحاديث والروايات المتواترة في هذه الحقيقة، والذين أغلقوا على أنفسهم باب البحث في متونها ورواتها، ويبيّن الفرق بين الروايات التي يرفضها ويحاربها السلطان, والروايات التي يسعى ويرغب أن تنشر بين الناس، ثم يذكر تلك الحقيقة المسلّمة, حقيقة نص كل إمام من الأئمة الاثني عشر على الإمام الذي بعده, قال ـ رضي الله عنه ـ في كتابه «التنبيه والإمامة»( ): «فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن عليه السلام على ما شرحت وإنّه قد غاب, كما جاءت الأخبار في الغيبة فإنها جاءت مشهورة متواترة وكانت الشيعة تتوقّعها وتترجاها»( ).
«أخبار الشيع [يعني: الشيعة الاثني عشرية] أوكد من أخبار غيرهم من المسلمين؛ لأنه ليس معهم دولة ولا سيف ولا رهبة ولا رغبة، وإنما تنقل الأخبار الكاذبة لرغبة أو رهبة أو حمل عليها بالدول، وليس في أخبار الشيعة شيء من ذلك، وإذا صحّ بنقل الشيعة النصّ من النبي صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام، صحّ بمثل ذلك النصَّ من علي على الحسن، ومن الحسن على الحسين، ثمّ على إمام إمام إلى الحسن بن علي، ثمّ على الغائب الإمام بعده عليه السلام؛ لأن رجال أبيه الحسن عليه السلام الثقات كلّهم قد شهدوا له بالإمامة وغاب عليهم السلام؛ لأن السلطان طلبه طلباً ظاهراً، ووكّل بمنازله وحرمه سنتين<( ).
وليست هذه الحقيقة تعبر عن رأي أصحاب تلك الأقوال، كما إنها ليست رأياً لغيرهم من العلماء، إنما هي النصوص القاطعة التي لا مجال لتأويلها.
ونؤثر أن ننقل للمستمعين لهذه المناظرة ما كتبه عنها المحدّث الخبير (شيخ المحدّثين في القرن الخامس) الإمام محمّد بن الحسن الطوسي، في كتابه القيم «الغيبة» فهو أدّق ما يكون, قال بعد أن بيّن بياناً قاطعاً من نصوص السنة في كتب أهل السنة، وكتب الاثني عشرية، أن أوصياء الرسول الأكرم هم الأئمة الاثنا عشر: «ويدلّ أيضاً على إمامة ابن الحسن [الإمام الثاني عشر المهدي عليه السلام] وصحّة غيبته ما ظهر وانتشر من الأخبار الشائعة الذائعة عن آبائه عليهم السلام قبل هذه الأوقات بزمان طويل، من أنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، وصفة غيبته وما يجري فيها من الاختلاف، ويحدث فيها من الحوادث، وإنّه يكون له غيبتان إحداهما أطول من الأخرى، وإن الأولى يعرف فيها خبره، والثانية لا يعرف فيها أخباره، فوافق ذلك على ما تضمنته الأخبار، ولولا صحّتها وصحّة إمامته لما وافق ذلك، لأنه لا يكون إلاّ بإعلام الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله, ونحن نذكر من الأخبار التي تضمّنت ذلك طرفاً؛ ليعلم صحّة ما قلناه، لأنّ استيفاء جميع ما روي في هذا المعنى يطول، وهو موجود في كتب الأخبار»( ).
وقال بعد أن بيّن بياناً كاملاً من الأحاديث المتواترة عن الرسول الأكرم
ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن الروايات المتواترة عن الأئمة الاثني عشر، أن حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر من الحقائق القطعية والحتمية: «والأخبار في هذا المعنى [أي في غيبة الإمام المهدي رضوان الله عليه] أكثر من أن تحصى ذكرنا طرفاً منها لئلا يطول به الكتاب, على أن هذه الأخبار متواتر بها لفظاً ومعنى, وأمّا اللفظ فإنّ الشيعة تواترت بكلّ خبر منه، وأمّا المعنى فإنّ كثرة الأخبار، واختلاف جهاتها وتباين طرقها وتباعد رواتها يدلّ على صحتها»( ).
واعتبر الإمام العظيم الشيخ المفيد حقيقة الغيبة من الحقائق الكبرى في الإسلام، فلننظر كيف وصف ـ رضي الله عنه ـ تلك الحقيقة ورسمها بما يناسب شأنها الكبير في السنة النبوية القطعية, قال: «وقد سبق النص عليه [الإمام الثاني عشر] من نبي الهدى صلى الله عليه وآله ثم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ونصّ عليه الأئمة عليهم السلام واحداً بعد واحدٍ إلى أبيه الحسن عليه السلام, ونصّ أبوه عليه عند ثقاته وخاصة شيعته»( ).
«وكان الخبر بغيبته [الإمام المهدي] ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته, وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأخرى كما جاءت بذلك الأخبار»( ).
وآخر ما ننقله من أقوال كبار المحدّثين القدماء في شأن الأحاديث والروايات التي ذكرت حقيقة الغيبة، ما قاله المحدّث الكبير الإمام النعماني في كتابه القيّم والعظيم: «الغيبة», قال بعد أن ذكر النصوص والروايات المتواترة في إمامة الأئمة الاثني عشر, وفي حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر، وبعد أن شرحها بدقةٍ وعمق: «هذا الأحاديث التي يذكر فيها، أنّ للقائم عليه السلام غيبتين أحاديث قد صحّت عندنا بحمد الله، وأوضح الله قول الأئمة الاثني عشر عليهم وأظهر برهان صدقهم فيها، فأمّا الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام عليه السلام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة عن كلّ ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة( ) التي انقضت أيّامها وتصرّمت مدّتها, والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يريده الله تعالى، والتدبير الذي يمضيه في الخلق، ولوقوع التمحيص والامتحان والبلبلة والغربلة والتصفية على من يدّعي هذا الأمر كما قال عزّ وجلّ: (مَا كانَ اللهُ لِيَذَرِ المؤمنينَ على ما أنتُم عليهِ حتّى يَميزَ الخبيثَ مِن الطيِّبِ، وما كان اللهُ ليُطلِعَكُم على الغَيبِ ...)( ) وهذا زمان ذلك قد حضر، جعلنا الله فيه من الثابتين على الحقّ، وممّن لا يخرج في غربال الفتنة، فهذا معنى قولنا له غيبتان»( ).
«للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله صلى الله عليه وآله ذكرها وتقدّم من أمير المؤمنين عليه السلام خبرها، ونطق في المأثور من خطبه والمروي عنه من كلامه وحديثه بالتحذير من فتنتها، وحمل أهل العلم والرواية عن الأئمة من ولده عليهم السلام واحد بعد واحد أخبارها حتّى ما منهم أحدٌ إلاّ وقد قدّم القول فيها، ووصف امتحان الله تبارك وتعالى اسمه خلقه بها»( ).
ومن هنا لا بدّ من توضيح (العصمة), ولا بدّ من توضيح (الغيبة) حتى يدركهما الشيخ عثمان الخميس, ويدركهما كل الوهابيين الحاضرين في هذه المناظرة.
ومن أجل تقريب معنى العصمة عند الاثني عشرية للشيخ عثمان الخميس، أقول إنه لا يوجد إنسان في هذه الأرض إلا وهو معصوم، فهي عصمة لجنس الإنسان كله، وصفة العصمة قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنساناً، فصفة العصمة ملازمة لكل إنسان, بدون حاجة أن يكون نبياً أو يكون إماماً, ولكن هذه العصمة تدرج في هذا الإنسان، فهي تكون قليلة في الرجل الفاسق، وتكون أكثر وجوداً في الطفل الصغير النظيف، فصفة العصمة هي من أهم الصفات التي يمتلكها الطفل الصغير بحكم فطرته, فقد ثبت أن الطفل بفطرته يكون بريئاً ومعصوماً ويكون قلبه بعيداً عن صفة الحقد، والتجارب الإنسانية تكشف أن الإنسان بفطرته الأصيلة فيه، يمتنع عن ارتكاب الكثير من الجرائم، ومن هنا إذا شذ إنسان وارتكب الجرائم الشنيعة يقال إنه شذ عن فطرته الإنسانية المعصومة، وهذا الامتناع عن ارتكاب الكثير من الجرائم إنما يعبِّر على أن صفة العصمة هي صفة أصيلة لهذا الإنسان, وهي اللبنة الأولى في الحفاظ على هذا الإنسان، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليمة.
ولكن العصمة تتفاوت بين الناس، ويصور القرآن الكريم ترتيب النماذج البشرية للمعصومين.
فأما النموذج الأول فهم الأنبياء الذين يمثلون الرتبة الأولى من المعصومين, ثم يأتي من بعدهم أوصياؤهم, كما تأتي مريم المعصومة في هذه المرتبة إلى أن تخفت صفة العصمة عند النماذج الإنسانية المنحرفة، لأن النماذج المنحرفة لا زالت تمتلك قليلاً من العصمة, بدلالة إنها ترتكب بعض الجرائم وتمتنع عن إتيان البعض الآخر, وإذا كان التاريخ السني يذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ـ رضوان الله عليه ـ كان يصلي الفجر بوضوء المغرب, فلا يمكن أن يقدر على هذا العمل إلا من يمتلك مقداراً معيناً من صفة العصمة.
والنموذج الآخر من المعصومين, هو نموذج أوصياء النبي الاثني عشر, فهو نموذج آخر من المعصومين أقل مِنْ النبي الأكرم, وأعلى من نموذج الإمام أحمد بن حنبل، وأعتقد إنني قد استطعت أن أقرّب معنى العصمة لأخي الشيخ عثمان الخميس؛ لأنه طوال هذه المناظرة وهو يشن حملة شعواء على العصمة.
والآن سوف اتناول قضية أخرى أثارها الشيخ عثمان الخميس في هذه المناظرة وهي قضية حكم منكر الإمامة عند الاثني عشرية, ولكنني سوف أتناول هذه القضية بعنوان آخر وهو: «دور أهل البيت في التقريب بين الاثني عشرية وأهل السنة» أو بعبارةٍ أخرى «موقف الاثني عشرية من أهل السنة», ثم أتناول قضية «التقية عند الاثني عشرية», ثم أتناول في الأخير قضية «غيبة الإمام الثاني عشر عند الاثني عشرية<.
إن مشكلة الشيخ عثمان الخميس إنه لم يقرأ كل جزئيات وروايات أهل البيت الاثني عشر في قضية كيفية التعامل بين المسلمين, ومن أبرز القضايا التي أولاها الأئمة الاثنا عشر عناية كبرى قضية تعليم شيعتهم كيف يتعاملوا مع بقية المسلمين من غير الاثني عشرية, ومشكلة الشيخ عثمان أنه يأخذ رواية واحدة عَن أهل البيت من دون النظر إلى بقية الروايات, مع أنه لا يمكن فهم دور أهل البيت في التأليف بين الاثني عشرية وأهل السنة, إلا بمراجعة كلما روي عنهم في هذا الموضوع؛ لأنني وجدت أن هنالك ترابطاً عضوياً متيناً بين أجزاء هذه الروايات. وأهل البيت ضمن مهمة الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, اتخذوا جهوداً كثيرة, أذكر من هذه الجهود التي بذلوها من أجل الحفاظ على وحدة الأمة.
أولاً: الممارسة العملية, والتطبيق العملي لهذه الوحدة, حيث عاش أهل البيت بين الاثني وبين أهل السنة واختلطوا وامتزجوا واقعياً مع السنة ومع الاثني عشرية, فكان يحضر في دروسهم علماء أهل السنة ومثل أبي حنيفة ويحضر في دروسهم كبار علماء الاثني عشرية مثل زرارة بن أعين.
ثانياً: الروايات الكثيرة والمتواترة, التي بينت بشكل واضح إن كلمة «الإسلام» تطلق على الاثني عشري كما تطلق على السني, فالاثنا عشريون مسلمون وأهل السنة مسلمون, كما ثبت وتواتر عن أئمة أهل البيت.
ثالثاً: الجهود العظيمة التي بذلها أهل البيت, والروايات الصادرة والمتواترة عنهم في الوقوف أمام كل الذين يسعون إلى تمزيق وتفريق الألفة بين الاثني عشرية وأهل السنة.
رابعاً: الجهود المضنية التي بذلوها في توعية الاثني عشرية, من أجل تعليمهم كيف يتعاملون مع المسلمين من غير الاثني عشرية, وهذه الجهود هي التي جعلت الاثني عشريين يحسنون التعامل مع أهل السنة.
والآن بعد هذه الإشارة الكلية سوف نفصل ما أجملناه من هذه المشاريع الأربعة, التي قدمها أهل البيت مِن أجلِ الحفاظ على الأمة؛ ولن أتناول في هذه المناظرة شرح هذه الأقسام الأربعة, بل سأكتفي بالأول والرابع, ثم أشير إشارة مختصرة إلى الثاني, أمّا الثالث فقد تناولته في كتابي >رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية<.
أما فيما يتعلق بالمشروع الأول: وهو الممارسة العملية والتطبيق العملي لهذه الوحدة الإسلامية المقدسة, وكما قلت إن أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ عاشوا بين الاثني عشرية وبين أهل السنة ودرَّسوا كبار الاثني عشرية كما درسوا كبار أهل السنة, فقد كان من ثمرات ذلك أن نجد أن كل المسلمين يحملون مشاعر الاحترام والحب لأهل البيت, لقد حاول الأمويون وبذلوا جهوداً كبيرة مِنْ أجل نزع مشاعر الاحترام لأهل البيت من قلوب أهل السنة, لكن أهل البيت أفشلوا هذا المشروع الأموي, مِن خلال جهودهم, التي بذلوها في كسب كبار علماء أهل السنة, ومن هنا عجزت الدولة الأموية من نزع قداسة أهل البيت من قلوب أهل السنة, واستطاع أهل البيت أن يغرسوا موقعاً خاصاً مقدساً يؤمن به جميع المسلمين, وهذا كله من ثمرة الجهود التي قام بها أهل البيت, من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين, ولنا أن نتصور, ماذا لو كان نجح المشروع الأموي في نزع القداسة عن أهل البيت؟! ـ كما نجح في فصل أهل السنة عن أخذ مذهب أهل البيت ـ حينئذ لن يكون هنالك أي صلة وأي تقريب بين الاثني عشرية وبين أهل السنة, كما إننا يجب أن نلتفت إلى حقيقة هامة في منتهى الأهمية, وهي أن أهم سبب في عجز بني أمية عن انتزاع القداسة لأهل البيت من قلوب أهل السنة, إنما يرجع لأن قدسية أهل البيت هي أصلٌ ثابت في الإسلام, وهذا الأصل مغروس في القرآن الكريم, وفي السنة النبوية, ولا يستطيع أي مسلم أن يتجاهل هذا الأصل العظيم في الإسلام, ومن هنا نجد أن أهل السنة كتبوا المئات بل الآلاف من الكتب التي تبين أهمية هذا الأصل الأساسي عند أهل السنة, وأعتقد إنني بينت جزء من هذا الأصل الأصيل من خلال هذه المناظرة مع أخي الشيخ عثمان الخميس, وكما إنني بينت في هذه المناظرة دور بني أمية في عزل أهل السنة عن أهل البيت, لا بدّ لي أن أبيّن عجز بني أمية عن نزع قداسة أهل البيت من قلوب أهل السنة, ولا بدّ لي أن أبين هنا كيف وقف أهل البيت ضد ذلك المشروع الأموي.
إخواني من كل الحاضرين في هذه الغرفة من أهل السنة ومن الوهابية ومن الاثني عشرية ومن السلفية, أريد أن أقول إنه كان الحكام من أمويين وعباسيين يسعون إلى تقسيم الأمة إلى طوائف متعادية, ولما لم يجد بنو أمية أساساً معقولاً لهذا العداء لجأ بنو أمية إلى أساليب الكذب, فكانت الاستخبارات الأموية تنشر الإشاعات بين السنة؛ من أجل أن يسوء ظنهم بإخوانهم الشيعة, وكانت هذه الاستخبارات الأموية تروج أن الشيعة يقولون بتأليه الإمام علي والعياذ بالله, وهذا كذب محض وتزوير قبيح, ولكن تصديق هذا اللغو كان الباعث على تمزيق الأمة الواحدة, وكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يعلمون إنها ضجة مفتعلة بين السنة والشيعة لحساب الاستخبارات الأموية, وكانوا ـ رضوان الله عليهم ـ يعالجون الخلافات بين الشيعة والسنة بطريقة علمية.
ومن هنا نجد أن منهج أئمة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ قد حال دون تحوّل هذا الخلاف إلى خصام يستثمره الإعلام الأموي لصالحه, وأنا أتمنى أن يرجع أهل السنة إلى روايات أهل البيت, وسوف تدركون أن أهل البيت يضمرون المحبة للسنة والشيعة ويعدون تكفير أهل السنة انحرافاً وزيغاً, ولكني هنا أريد أن أقول لأخي الشيخ عثمان الخميس, هب يا أخي أن عالماً اثني عشرياً أخطأ, وقال إن أهل السنة غير مسلمين ـ هب ذلك وقع ـ فما صلة هذا الخطأ بالمذهب الاثني عشري؟!, إذا كانت الروايات المدونة في كتب الاثني عشرية تصرّح وهي منقولة عن أئمة هذا المذهب, وتصرح بأن أهل السنة مِن المسلمين, فكيف تجيز لنفسك يا شيخ عثمان أن تقول إن الاثني عشرية ترى أن أهل السنة غير مسلمين.
وأنا في نظري أن الشيخ عثمان الخميس أخطأ في فهم بعض الروايات, وفي فهم أقوال علماء الاثني عشرية فضن إنها تنفي الإسلام عَنْ أهل السنة, نعم إن الشيخ أخطأ ولكن المشكلة إن الشيخ لا يقبل الاعتراف بهذا الخطأ, ولماذا لا يراجع الشيخ عثمان الخميس كتب الاثني عشرية, التي بينت معاني هذه الروايات وهذه الأقوال التي نقلها الشيخ عثمان من علماء الاثني عشرية وحسب إنها تعتبر أهل السنة غير مسلمين؟!! ولست أنفي إنني عندما كنت وهابياً كنت أفهم هذه الأقوال كما فهمها الشيخ عثمان, بيد إنني استيقنت أنني أخطأت خطأً حقيقياً, ولكنني لست مثل الشيخ عثمان, وأقولها صريحة إنني أعترف بذلك الخطأ, وإنني أرى لو جلست مع الشيخ عثمان في جلسة ثنائية, لبينت له خطأه؛ لأنني مؤمن بأن طرح الخلافات في أجواء يحضرها هذا العدد الهائل من السنة والشيعة, يحول بين المرء وبين الحقيقة.
والآن سوف أعود إلى موضوعي الأصلي, إخواني لقد كان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يغرسون الألفة من خلال سلوكهم, ومن هنا كانوا يدركون أن بني أمية لا يهمهم الإسلام ولا المسلمين, ففي سبيل الحكم والملك سوف يدمرون الإسلام والمسلمين, ومن هنا نجد أن أهل البيت كانوا يلجؤون اضطراراً للمسالمة والمصالحة مع الحكم الأموي الفاسد, من أجل الحفاظ على أصل الإسلام, والحفاظ على الوحدة المقدسة, وأرجو من كل المستمعين أن يتأملوا في ما قاله الإمام الحسن ـ رضوان الله عليه ـ حينما ذكر الأسباب التي اضطرته إلى الصلح مع حكومة معاوية الفاسدة, حيث قال: كما نقل عنه صاحب كتاب كشف الغمة في الصفحة (170): «وقد رأيت إن حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا إصلاحكم وبقاءكم».
وذكر المجلسي في بحار الأنوار الجزء العاشر, الصفحة (101) إن الإمام الحسن قال: «إني خشيت أن يُجتَث المسلمون عَن وجه الأرض، فأردت أن يكونَ للدين ناعي», وأرجو من الجميع أن يتأملوا في هذه العبارة للإمام الحسن حيث نقل صاحب كتاب الكامل في التاريخ, الجزء (3)، الصفحة (409) عبارة هامة, قالها ـ رضوان الله عليه ـ لمعاوية, عندما طلب منه قتال الخوارج فقال مجيباً لمعاوية: «لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها».
تأملوا يا إخواني من الوهابيين وأهل السنة ومن الاثني عشرية والسلفية, إن الإمام الحسن أطلق عليهم كلمة «أهل القبلة», وترك قتالهم «لصلاح الأمة».
ويكفينا أن نقرأ سلوك الإمام علي بن الحسين ـ رضوان الله عليه ـ فعلى الرغم أن الدولة الأموية قتلت أباه الإمام الحسين وارتكبت مجزرة كبرى رآها بعينه فقد كان حاضراً في معركة كربلاء ورأى الإمام زين العابدين مشاهد المجزرة الجماعية لأهل البيت النبوي, ثم أخذ أسيراً مع عمته زينب بنت الإمام علي ومع أخواته, وعاصر الإمام زين العابدين أكبر محنة مر بها أهل البيت, ولكن مع كل الذي حدث كان الإمام يعلّم شيعته وأتباعه أن الحفاظ على الإسلام ومصلحة الإسلام فوق كل شيء وعندما كانت الجيوش تتحرك بقيادات أموية كان الإمام يدعو لهذه الجيوش بالنصر والغلبة على الكفار وهذا الدعاء مدون ومعروف عن الإمام في صحيفته المعروفة بصحيفة الإمام السجاد, وهو دعاء الثغور, وهذه بعض أدعية الإمام لنصرة الجيش الأموي الذي يواجه الخطر الصليبي: «اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ، وحصِّن ثغور المسلمين بعزَّتِك، وأيِّد حُماتها بقوّتِك، واَسْبغْ عطاياهُم من جدَتِك، اللهُمّ صلِّ على محمدٍ وآله، وكثر عِدَّتَهُم، واشْحَذ أسلحَتَهُم، واحرُس حورَتَهُم، وامنع حومتَهُم، وألِّف جمعهُم، ودَبِّر أمرَهُم، وواتِرْ بين مِيَرِهُم، وتوحَّد بكفاية مُؤَنِهُم واعضُدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطُف لهم في المكرِ، اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلهِ، وعرّفهُم ما يجهلون، وعلّمهُم ما لا يعلمون، وَبَصِّرهم ما لا يُبصرون، اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآله، وأنسِهُم عند لقائِهم العدوَّ ذِكرَ دنياهم الخدّاعة الغروّر، وامحُ عن قلوبِهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنَّةَ نصبَ أعينِهم...».
هذا سلوك الأئمة حتى مع الذين ظلموهم وسوف نرى كيف ترك هذا السلوك أثراً قوياً على الاثني عشريين. ومع اقتناع الإمام زين العابدين بأن حكام بني أمية من الظالمين وحرصه على تبيين الجرائم التي ارتكبوها في حق أهل البيت, وفي حق الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلا أن حرص الإمام علي بن الحسين على الأمة الإسلامية من أن تتعرض إلى صدمة خطيرة من الصليبيين, هذا الحرص جعل الإمام يدعو لهم بالنصر والغلبة.
أما بالنسبة للمشروع الثاني: كما قلت إن هنالك روايات متواترة عن الأئمة الاثني عشر تبين أن كلمة «مسلم» تطلق على «السني» كما تطلق على «الاثني عشري» وتطلق على كلِّ الفرق الإسلامية, ومن خلال ذلك استطاع أهل البيت أن يواجهوا تيارات التكفير التي كانت مدعومة من الدولة الأموية من أجل تفتيت الأمة إلى فرق متناحرة ومتقاتلة يكفِّرُ بعضُها بعضاً, ويكفي أن تتأملوا إلى معنى كلمة الإسلام في روايات أهل البيت.
ينقل الإمام شرف الدين ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيم «الفصول المهمّة في تأليف الأمة» صفحة (21) رواية عظيمة عن الإمام محمد الباقر ـ وهو الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر ـ, يقول الإمام الباقر ـ رضوان الله عليه ـ شارحاً ومبيناً وموضحاً معنى الإسلام: «والإسلامُ ما ظهر مِنْ قولٍ أو فعل، وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرقِ كلها».
لاحظوا يا إخواني كلمة الإمام الباقر: «من الفرق كلها», فكل الفرق المخالفة للاثني عشرية مِن أهل القبلة يشملهم الإسلام, كما يقول الإمام الباقر, ثم يقول ـ رضوان الله عليه ـ: «وهو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق كلِّها، وبه حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحج فخرجوا بذلك عَنْ الكفرِ، وأضيفوا إلى الإيمان».
وهكذا ينقل الإمام البروجردي في كتابه «جامع أحاديث الشيعة» جزء (5), صفحة (216) ينقل هذه الرواية القيمة, يقول الإمام جعفر الصادق ـ رضوان الله عليه ـ, وهو الإمام السادس من الأئمة الاثني عشر الذين أشار إليهم النبي في حديث جابر بن سمرة الوارد في البخاري ومسلم, يقول ـ رضوان الله عليه ـ في شرحه لمعنى الإسلام: «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبه حقنتْ الدماء، وعليه جرتْ المناكح والمواريث وعليه جماعة الناس».
إذن فمصطلح الإسلام عند الخلفاء الاثني عشر يطلق على كل الفرق الإسلامية مهما تعددت ومهما اختلفت.
وقد عمل فقهاء الاثني عشرية بمضمون هذه الروايات, ولكن الوقت لا يتسع لتبيين ذلك وبإمكان أخي الشيخ عثمان أن يراجع كتابي «رحلتي من الوهابية إلى الاثني عشرية» وسيجد إنني بينت هذا الموضوع بصورة مفصلة.
أمّا بالنسبة للمشروع الثالث لأهل البيت: فلا مجال لذكره هنا وسوف أتناول في المشروع الرابع قضية التقية بصورة مختصرة؛ لأنني تناولتها في كتابي >المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين< ثم سوف أذكر بعض آثار مشروع أهل البيت على علماء الاثني عشرية.
أما فيما يتعلق بالمشروع الرابع لأهل البيت: مِنْ أجلِ الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, فهذا المشروع يتعلق ويرتبط بالتقية.
لقد سعى أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ أن يكون هنالك انسجاماً وتعاوناً بين الاثني عشرية وبين بقية المذاهب الإسلامية من أهل السنة, ومن غيرهم ومن أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة أمر أهل البيت شيعتهم أن يمارسوا التقية مع المذاهب الإسلامية, وكان للتقية دور كبير في عدم تمزيق الصف الإسلامي, حيث استطاع أهل البيت من خلال التقية أن يفرضوا على شيعتهم التعايش مع بقية المذاهب الإسلامية, ويكفي أيها الإخوة أن تتأملوا في هذه الرواية العظيمة التي رواها الإمام الكليني ـ رضوان الله عليه ـ في الأصول ونقلها عنه الحر العاملي في وسائل الشيعة الجزء الثامن صفحة (399) الباب الأول من أبواب العشرة الحديث الخامس, والرواية رويت بسندٍ صحيح عن مرازم عن أبي عبد الله الصادق ـ رضوان الله عليه ـ أن قال: «عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز, إنه لا بدّ لكم مِنْ الناس, إن أحداً لا يستغني عَنْ النّاس في حياته، الناس لا بدّ لبعضهم مِنْ بعض».
لقد وضع أهل البيت مشروع التقية من أجل مواجهة المخطط الأموي الذي كان يسعى إلى تمزيق الوحدة بين السنة والشيعة, لقد كان بنو أمية يستغلون الخلاف الموجود بين السنة والشيعة, من أجل تفريق الصف الإسلامي وكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ يدركون خطر المشروع الأموي على وحدة الأمة وكانوا يعلمون أن غرض الدولة الأموية من إثارة الخلاف بين السنة والشيعة هو الحفاظ على وجودِهم وحكمهم, وفقاً لقاعدة فرِّق تسد, فكان أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ في كثير من الأوقات يتغاضون عن المسائل الخلافية بين السنة والشيعة, ويأمرون شيعتهم بالعمل وفق المذاهب الإسلامية السنية من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية, بل كان أهل البيت من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية يجيبون بعض السائلين مِنْ شيعتهم إجابات فيها مجاراة للفقه السني, فإذا خلوا إليهم ذكروا لهم الرأي الذي يرونه, وبينوا لهم الإجابة الصحيحة, ويأمرونهم بكتمان السر وهذا هو ما يعني بـ «التقية» في الفقه الاثني عشري ـ خلافاً لرأي أخينا الشيخ عثمان ـ ولما كان أهل البيت هم حماة الوحدة الإسلامية, وما كانت الدولة الأموية ترغب أن يصلّي السنة والشيعة في مسجد واحد حتى يتاح للاستخبارات الأموية الصيد في الماء العكر والبقاء في الحكم, فكان أهل البيت يأمرون شيعتهم ويحثونهم على حسن المعاشرة مع أهل السنة, وعلى الصلاة معهم ومشاركتهم في الجماعة والحضور في جنائزهم وعيادة مرضاهم, مع أمرهم لهم بأن يصلوا كما يصلون, ويعملون ما يعملون حفاظاً على الوحدة والانسجام بين السنة والاثني عشرية.
وقد عمل أتباع أهل البيت بهذه التوصيات, وتركت أثراً كبيراً في نظرتهم إلى أهل السنة وغرس أهل البيت في نفوس أتباعهم التسامح مع أهل السنة, ومن هنا ينقل التاريخ لنا أن الشيعة عندما كانوا يتمكنون من الحكم لم يكونوا يمارسوا الظلم أو القتل أو التشريد ضد أهل السنة, وقد اعترف أحمد أمين بأن التسامح الموجود عند الشيعة لا يوجد عند أهل السنة, لقد رسم أهل البيت خطوطاً واضحة جلية ناصعة في كيفية التعامل مع المسلمين من أهل القبلة, ويتمثل ذلك بالروايات التي تواترت عن الإمام جعفر الصادق حينما كان يأمر الشيعة بالمشاركة في الجماعة والجمعة التي تنعقد من قبل الحكام والولاة؛ من أجل المحافظة على الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة, وكان رضوان الله عليه يقول كما نقل عنه صاحب كتاب الهداية في الصفحة العاشرة, كان يقول لشيعته: «من صلى معهم في الصفِّ الأوّل, كان كمن صلى خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في الصفِّ الأول.
وروى الشيخ الإمام الكليني في كتابه الكافي (ج 2 ص 219) أن الإمام الصادق كان يقول: «كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا عشائرهم وعودوا مرضاهم, واشهدوا جنائزَهم, ولا يسبقونَكُم إلى شي مِنْ الخيرِ فأنتم أولى به منهم».
ونقل الإمام الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء (ج 1 ص 343) عن الإمام الصادق أنه قال ـ رضوان الله عليه ـ: «ما من عبدٍ يصلي في الوقت ويفرغ، ثم يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلا كتب الله له خمساً وعشرين درجة».
وهكذا يا إخواني من الوهابيين ومن أهل السنة نجد ـ أيضاً ـ المجلسي في بحار الأنوار (ج 16 ص 47) ينقل عن الإمام الصادق, إنه قال لأصحابه وشيعته: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل, ولورع في دينكم والاجتهاد لله, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزَهم وعودوا امرضاهم، وأدوا حقوقَهم، فإن الرجلَ منكم إذا وَرِعَ في دينهِ وصدق الحديث وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور, وقيل هذا أدب جعفر».
ويبقى الآن أن أبيّن آثار مشروع أهل البيت على علماء الاثني عشرية, ولا شك أن من يتتبع فقهاء الاثني عشرية سوف يجد أنهم طبقوا وصايا أهل البيت في الحفاظ على الوحدة الإسلامية المقدسة, وبإمكانكم إخواني مِنْ الحاضرين في هذه الغرفة أن تلمسوا ذلك من خلال هذه الحقائق الأربع التي سوف أذكرها:
الحقيقة الأولى: لا شك أن روايات الأئمة الاثني عشر في التقريب بين المسلمين قد تركت نتائجاً مهمة في وسط الاثني عشريين, وبإمكان إخواننا مِن الوهابية ومن أهل السنة أن يلحظوا ذلك من خلال سبق الاثني عشريين في ذكر آراء أهل السنة في الكتب الفقهية, حيث إن علماء الاثني عشرية قد سبقوا أهل السنة في الدراسات الفقهية المقارنة بين الفقه السني والقفه والاثني عشري, وأذكر من قدماء الاثني عشرية علم الهدى الشريف المرتضى في كتابه «الانتصار» وهكذا الشيخ الطوسي في كتابه «الخلاف» والعلامة الحلي في كتابه «التذكرة».
الحقيقة الثانية: نلمس أثر روايات أهل البيت, من خلال تتبع أقوال علماء الاثني عشرية في أن أهل السنة من المسلمين.
الحقيقة الثالثة: لا شك أن المنهج السلوكي لأهل البيت وكيفية تعاملهم مع أهل السنة, قد ترك أثراً قوياً على سلوك ومواقف الاثني عشريين, ومن هنا نجد أن الدولة العثمانية في أخريات حياتها عندما تعرضت للخطر الصليبي تصدى الاثنا عشريون للدفاع عن الدولة العثمانية السنية, حرصاً على كيان الإسلام السياسي, وحرصاً على المصلحة العليا للإسلام, ومن هنا نجد أن علماء الاثني عشرية أفتوا في الربع الأول من القرن العشرين بوجوب الجهاد لحماية الحكم السني العثماني.
الحقيقة الرابعة: كما إننا وجدنا أثر مشروع أهل البيت على الاثني عشرية من خلال مبدأ التسامح عند الاثني عشرية مع أهل السنة, حتى أن أحمد أمين المصري مع عدائه للشيعة, اعترف بأنه لا يوجد عند أهل السنة تسامح مع الشيعة في حين أن الشيعة متسامحون مع أهل السنة.
والآن سوف أتناول القضية الأخيرة في هذا الحوار وهي قضية غيبة الإمام الثاني عشر, وأجد من الضرورة أن أتوسع في استعراض خاصية الغيبة؛ لأنني رأيت أخي الشيخ عثمان الخميس, وأخي الشيخ عبد الرحمن الدمشقية, وأخي الشيخ محمد علي, وأخي الشيخ أبا أحمد البكري وغيرهم من إخواننا الوهابيين الذين حضروا في هذا الحوار بيني وبين الشيخ عثمان, ولأنني ـ أيضاً ـ قرأت ما كتبته الوهابية عن الغيبة, فوجدتها تخلط أثناء الكتابة عن الغيبة؛ لأنها تريد أن تفهم خاصية الغيب قبل أن تدرك حديث الثقلين, وقبل أن تدرك حديث الاثني عشر, وقبل أن تدرك آية التطهير, وقبل أن تدرك آية المباهلة, وقبل أن تدرك بعض المباحث التي تحاورت فيها مع أخي وحبيبي الشيخ عثمان, وهذه الحقائق لا بدّ للوهابية أن تدركها إذا أرادت أن تدرك الغيبة.
تعريف الغيبة: المرّة من غاب( )، وتعني البعد والتّواري، يقال: أو حشتني غيبة فلان، وقد أطلت غيبتك.
والقول بغيبة الإمام الثاني عشر، من أولويات خصائص المذهب الاثني عشري، وهو تصورٌ اعتقادي عند الاثني عشرية مصدره ومنبعه الرسول الأكرم، وأوصياءه الاثنا عشر لا من غيرهم, ويستطيع الإنسان ـ وهو واثق ـ أن يقول: إن عقيدة الاثني عشرية بغيبة الإمام الثاني عشر حقيقة أساسية أخبر عنها الرسول الأكرم، قبل تحققها في الواقع التاريخي بأكثر من مائتين عاماً، وكان الأئمة الاثنا عشر ـ من لدن الإمام علي إلى الإمام المهدي ـ يبينوا للناس هذه الحقيقة ويعرّفوهم بأنّ الإمام الثاني عشر سوف يغيب، ووضحوا لهم ذلك بالنصوص الصريحة المتواترة، حتى أصبحت حقيقة مسلّمة لدى جماعة كبيرة من المسلمين.
وقبل أن نبحث عن هذه الحقيقة، نشير هنا إلى حقيقة أخرى، تقول: إنّه لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر إلا بعد أن يدرك حقيقة الإمامة الربانية لمذهب الاثني عشرية, فلا شك أن حقيقة الغيبة تنبثق من الإيمان بنص الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، وما لم نؤمن بذلك فلا يمكن لنا أن ندرك هذه الحقيقة، والذين يبحثون عنها، قبل الاعتقاد بالنص على الأئمة الاثني عشر، سوف تبقى نظرتهم حولها في حدود المعرفة الفكرية الباردة، ولا يمكن لهم أن يؤمنوا بها، ومن ثمّ أخرّنا البحث عن الغيبة بعد البحث عن الإمامة ـ وجعلناها في خاتمة المناظرة مع أخي سماحة الشيخ عثمان ـ مع وجود التلازم بين حقيقة الإمامة وحقيقة الغيبة، بل ما هو أكثر من التلازم، هناك الانبثاق الذاتي، فغيبة الإمام الثاني عشر فرع من حقيقة إمامة الأئمة الاثني عشر، ومن ثمّ فسماع المناظرات الخمسة عشر مقدّمة على هذا البحث، وهذه الخاصية هي آخر ما آمنتُ به بعد انتقالي من الوهابية إلى الاثني عشرية، ومن ثمّ جعلناها في آخر «هرم الاثني عشرية» لأن الإيمان بها يحتاج إلى مقدمات.
إن المسألة ـ في حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ ليست هي أن نبحث عن حكمة الغيبة فحسب، وليست هي البحث عن إمكانية أن يعيش الإمام الثاني عشر أكثر من ألف سنة، إنما المسألة ترتبط أولاً ـ قبل كل شيء ـ بالبحث عن الأحاديث والروايات المتواترة القاطعة الصريحة، التي دوّنت في كتب الحديث، وانتشرت بين الناس، وكُتب حولها الكتب، وارتبطت بعقيدة الناس بعد أن سمعوا من الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ رضوان الله عليه ـ ، ثم سمعوها من الإمام علي, ثم سمعوها من الإمام الحسن، ثم من الإمام الحسين، ثم من الإمام الباقر، ثم من الإمام الصادق، ثم من الإمام الكاظم، ثم من الإمام الرضا، ثم من الإمام الجواد، ثم من الإمام الهادي، ثم من الإمام الحسن العسكري، ثم من الإمام المهدي ـ رضوان الله عليهم جميعاً ـ ، وبتلك الأحاديث والروايات المتواترة، المستمدة مباشرة من الرسول الأكرم، ومن أوصيائه الاثني عشر، تكيّفت جماعةٌ من المسلمين وآمنت بحقيقة الغيبة قبل تحققها، ودوّنتها وجمعتها في كتب الحديث، بل أفردت لها كتباً مستقلة قبل تحقيق الغيبة بأكثر من مائتين عاماً ـ كما سيتضح لنا قريباً ـ إلى أن تحققت مضامين تلك النصوص في الواقع التاريخي بنفس الصورة التي أخبرت عنها تلك الأحاديث والروايات التي كانت هي المرجع الأوّل للاعتقاد بالغيبة، فمنها انبثقت تلك الحقيقة، وكانت مفاجئة كبيرة للذين تحققت الغيبة في زمانهم، لأنها تحققت بعد أن أخبر بها النبي الأكرم بأكثر من قرنين من الزمان، فعلموا أن تحققها في الواقع التاريخي إنّما كان تطبيقاً حتمياً لخبر النبي الأكرم، وآمنوا أن أخباره ـ صلى الله عليه وآله ـ عن حدثٍ سوف يقع في المستقبل لا بدّ له أن يظهر في الواقع التاريخي.
ونحن نحاول في خاتمة هذه المناظرة, بيني وبين أخي الشيخ عثمان عرض حقيقة «غيبة الإمام الثاني عشر» مصحوبة بالشرح والتوضيح والتجميع والتبويب، حتى يصل كل الحاضرين في هذه المناظرة من إخواني أهل السنة ومن إخواني الوهابيين إلى الإيمان والتصديق بتلك الحقيقة الأساسية العظيمة.
ولعله يحسن ـ لتكون هذه الحقيقة واضحة وضوحاً يناسب أهميتها ـ أن نذكر ـ قبل ذلك ـ أن الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي كان يعتقد أن الإمام المهدي هو أحد الاثني عشر, قال في شرحه لحديث الاثني عشر: «... أحدهما المهدي ـ المنتظر ـ ، لأنه من آل بيت محمّد صلى الله عليه وسلم<( )، وكان الإمام ابن كثير الدمشقي ـ أيضاً ـ من أئمة أهل السنة الذين يعتقدون أن الإمام المهدي أحد الأئمة الاثني عشر وقد صرّح بذلك في تفسيره( ) وفي تاريخه( )، ونقل عنه مفتي الديار السعودية « ابن باز» ذلك( ).
ويحسن أن يكون مفهوماً إنني آمنت بهذا الأمر؛ لأن النصوص النبوية واستقراء الحوادث المحيطة بها تؤكّد صحة هذه النصوص، ولا يمكن أن يهجس في خاطري أن أنسب إلى الإسلام ما هو بريء منه!. إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفـسي أبداً إنما أنا أسير مع النصوص الثابتة, فجنحت إلى هذا الأمر بإيحاء النص واتجاهه.
ويحسن لي هنا أن أنقل للمستمع البيان الصادر من علماء المملكة العربية السعودية, الذي بين أن الإمام المهدي هو الإمام الثاني عشر في حديث الاثني عشر، وقد صدر البيان من قبل « رابطة العالم الإسلامي» المعروفة باتجاهها الوهابي, وكان بإشراف جماعة من كبار علماء السعودية، مع إمضاء مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي محمد المنتصر الكناني, وقام بكتابة هذا البيان فضيلة الشيخ محمد المنتصر الكناني وأقرّت به اللجنة المكونة من أصحاب الفضيلة والعلم الشيخ الجليل صالح بن عثيمين وفضيلة الشيخ أحمد محمد جمال وفضيلة أحمد علي وفضيلة الشيخ الجليل عبد الله خياط, وبإشراف الشيخ محمد صالح القزاز مدير الرابطة, والذي يهمني في هذا البيان الطويل هـي هذه العبارة المقتطفة: «هو ـ الإمام المهدي ـ آخر الخلفاء الراشدين، الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح، وأحاديث المهدي، واردة عن كثير من الصحابة...<.
وقد كان إمام أهل السنة ـ أبو داود السجستاني ـ من الذين يؤمنون بأنّ الإمام المهدي هو أحد الأئمة الاثني عشر، ومن ثم فقد أورد في سننه أحاديث الأئمة الاثني عشر, في كتاب الإمام المهدي ـ رضي الله عنه ـ , وفي هذا يقول الإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي في كتابه «النهاية»: «فصلٌ في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان، وهو أحد الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين ..<.
وقد عقد أبو داود السجستاني ـ رحمه اللّه ـ كتاب المهدي مفرداً في سننه، فأورد في صدره حديث جابر بن سمرة، عن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليهم الأمة», وفي رواية «لا يزال الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، قال فكبّر الناس وضجوا، ثم قال كلمه خفيت، قلت لأبي: ما قال، قال كلهم من قريش»( ), والمهم الآن أن نقول: إننا لا نشك أن الإمام المهدي هو أحد الأئمة الاثني عشر، وبالتحديد هو الإمام الثاني عشر، وسبق أن ذكرنا بعض أدلتنا على ذلك، عند البحث عن إمامة الأئمة الاثني عشر, عندما طرحنا هذا الموضوع في هذه المناظرة المباركة, وبقي هنا أن نذكر دليلا ً قوياً وهذا الدليل هو الشرارة الأولى, التي قادتني إلى الإيمان بعقيدة الإمام المهدي حسب العقيدة الاثني عشرية, وقد كنت أبحث عن السبب الذي جعل الإمام أبا داود السجستاني يقرن بين الإمام المهدي وحديث الاثني عشر إلى أن اكتشفت هذا الدليل, فعرفت سبب ذلك, لكنه يفرض على كل مستمع أن يتأمل في الأحاديث والروايات التي وردت في الإمام المهدي، والواردة في إمامة الأئمة الاثني عشر، وسوف يجد أن الروايات الأولى ذكرت أن «الهرج» سوف يكون بعد مضى الإمام المهدي ـ رضي الله عنه ـ ، وإن الروايات الثانية ذكرت أن الهرج سوف يكون بعد مضـي الأئمة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم ـ , ولعله يحسن ـ ليكون هذا الدليل واضحاً وضوحاً يناسب أهميّته ـ أن نزيد في إيضاحه وبيانه فنقول: إننا عندما نطرح روايات الإمام المهدي، أمام الروايات التي ذكرت أن الأئمة اثنا عشر سوف نلاحظ إنها تذكر أن الأئمة الاثنا عشر، لن تنتهي حياة آخرهم إلاّ قبيل القيامة، ثم يكون ماذا؟ أي ما الذي سوف يحدث بعد مضي الإمام الثاني عشر؟ فيجيب الرسول الأكرم ـ صلى الله عيه وآله وسلم ـ: «ثم يكون الهرج», فالرسول ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ أخبرنا أن «الهرج» سوف يكون بعد مضي الإمام المهدي، ثم أخبرنا إنه سيكون «الهرج» بعد مضي الإمام الثاني عشر، فعلمنا من خلال الجمع بين الخبرين أن الإمام المهدي هو الإمام الثانـي عشر, وبعد أن انتقلت من عقيدة أهل السنة في الإمام المهدي إلى عقيدة الاثني عشرية رأيت أن هذا الدليل من الأدلة المذكورة في كتب الاثنـي عشرية, وقد أشار إلى هذا المحدث الجليل الإمام النعماني (من كبار المحدثين فـي القرن الرابع الهجري) في كتابة القيم «الغيبة», بعد أن ذكر روايات عن الأئمة الاثني عشر في كتب أهل السنة: «...وفـي قوله صلى الله عليه وآله في آخر الحديث الأوّل( ): «ثم يكون الهرج» أدلّ دليل على ما جاءت به الروايات متّصلة, من وقوع الهرج بعد مضي القائم «الإمام المهدي» عليه السلام بخمسين سنة، وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرد بذكره الاثني عشر خليفة ألا الأئمة الذين هم خلفاؤه...»( ).
ونحب أن نذكر حقيقة مسلّمة تحدّثنا عن الكثرة الهائلة من الروايات المتواترة الصادرة من الأئمة الاثني عشر، التي ينص فيها كل إمام من الأئمة الاثني عشر، على إمامه الإمام الذي بعده, إلى أن ينص الإمام الحادي عشر على إمامة الإمام المهدي آخر الأئمة ـ رضوان الله عليهم ـ حتى أصبح نص كل إمام على الإمام الذي بعده قاعدة ضرورية التزم بها كل الأئمة، وننصح أخانا الشيخ عثمان ـ هداه الله ـ أن يقرأ تلك الروايات قبل دراسة حقيقة الغيبة وقبل أن ينتقدها ويسخر منها, كما ننصحه أن يقرأ الدلائل القوية المتعددة والمتنوعة التي تثبت أن الإمام الثاني عشر هو الإمام المهدي محمّد بن الحسن العسكري, الذي ولد في سنة (255 هـ)، وبعد الإيمان بتلك الحقائق الأساسية السابقة الموثوق بصحتها، والمستمدة من الكتاب والسنة، سيكون الإيمان بالغيبة أمراً ضرورياً، والذي يريد أن يؤمن بحقيقة الغيبة قبل التصديق بتلك الحقائق، إنما مثله مثل الذي يسعي بأن يسلِّم بأن رسالة محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ رسالة ربّانية قبل التصديق بنبوته, ومن ثمّ لا بدّ لمن يريد أن يدرك حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر أن يلتزم بمسألة التدرج في البحث وبمنهج البحث الذي اتفقنا عليه مع الشيخ عثمان في المناظرة الأولى حينما قلت لأخي الشيخ عثمان إنني كتبت كتاباً بعنوان «المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين<، فلا يمكن الإيمان بحقيقة الغيبة قبل التصديق بمقدماتها, عندئذٍ من السهولة أن نصل إلى الجزم والقطع بغيبة الثاني عشر.
والذين يعانون من الإنكار لهذه الحقيقة من أمثال أخي الشيخ عثمان، هم الذين يفصلون بين الأحاديث والروايات المتواترة في حقيقة الغيبة, وتلك الحقائق الأساسية المسلّمة المستمدة من السنة القطعية, حقيقة نص الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ على إمامة الأئمة الاثني عشر، وحقيقة نص كل إمام على الإمام الذي بعده، وحقيقة أن الإمام الثاني عشر، هو محمّد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر الذي ولد في سنة (255 هـ).
ولما كان قصدنا في هذه المناظرة مع أخي الشيخ عثمان, هو بيان أسباب التحوّل من المذهب الوهابي إلى المذهب الاثني عشري، أرى من الضرورة، تبيين أن حقيقة الغيبة، هي آخر خاصية من خصائص الاثني عشرية وجدت مكاناً في العقل والقلب، ومن ثمّ جعلتها في آخر نقطة في الهرم العظيم للاثني عشرية.
إنني قبل التصديق والتسليم بحقيقة غيبة الإمام الثاني عشر المهدي ـ رضوان الله عليه ـ قد اضطريت أن أبحث عن كتب الحديث والروايات القديمة، التي ذكرت أحاديث وروايات الغيبة قبل أن تتحقق في الواقع التاريخي, وأن أراجع تراجم رواتها، وتراجم كل المؤلفين حول حقيقة الغيبة, كما إنني لم أعتمد إلاّ على الراوي الذي أحرزت وتأكّدت من عدالته ووثاقته, من خلال دراستي الخاصة، لاسيما بعد أن تبين لي الأثر المحسوس للخصومة المذهبية على بعض علماء الجرح والتعديل ومن ثمّ لم أسلّم بكل ما ذكروه في جرح بعض الرواة، خاصة إذا ثبت لي أن منشأ جرح الراوي هو الخصومة المذهبية، واعتمدت في الدرجة الأولى على كتب الحديث والرواية التي كتبت قبل تحقق الغيبة في واقع الحياة، ثم اعتمدت في الدرجة الثانية على كتب الحديث والرواية التي كتبت في عصر تحقق الغيبة، ثم الكتب التي كتبت في الزمان القريب من عصر تحقق الغيبة، كما استفدت في معرفة تاريخ تأليف بعض كتب الحديث المتخصصة في جمع أحاديث الغيبة على الفهارس القديمة، لاسيما على الفهرست القيم للرجالي الكبير الشيخ النجاشي، وعلى فهرست الإمام المحدّث الشيخ الطوسي, ورجعت ـ أيضاً ـ إلى فهرست ابن النديم، وعقدت مقارنة بين الفهارس القديمة لعلماء الاثني عشرية والفهارس القديمة لعلماء أهل السنة، وبعد المقارنة استيقنت بصدق ما ذكرته فهارس الاثني عشرية, وكانت المقارنة ضرورية بالنسبة لي؛ لأنني لم أكن ـ في البداية ـ أطمئن لعلماء الاثني عشرية, ولا شك أن الأمانة العلمية التي وجدتها ـ بعد بحث طويل ـ عند المفيد والنجاشي والطوسي، كانت من الأسباب الرئيسية التي خلقت في نفسي الاطمئنان لأقوال المحققين من علماء الاثني عشرية, إنني أؤمن من أنه ليس من المنطق السليم التشكيك في كل أحاديث وروايات الاثني عشرية، قبل دراسة كتبهم الحديثية والروائية بروح علمية بعيدة عن الخصومة المذهبية، ومن ثمّ فأنا أرفض منهج الوهابية في التعامل مع روايات الاثني عشرية حول الغيبة، ولو فتح باب الشك من دون دليل أو برهان، لما أمكن لنا أنّ نصدّق بأية رواية.
إنّما يكون الشك مفيداً عندما يبعثنا على البحث عن الرواية من حيث المتن والسند, أمّا إذا جعلنا نرفض أي رواية دون بحثٍ وتحقيق, فسوف يكون مرضاً فكرياً خطيراً، ومن البديهيات أن الشك ليس غاية بل هو وسيلة، وليس محلاً للبقاء بل هو مقدّمة للحركة الفكرية.
ومنهجنا عند البحث عن روايات الاثني عشرية أن لا نسلّم أو نشكك بأي رواية، إلا بعد التحقيق والبحث في متنها وسندها، وحتى الرواية الضعيفة من حيث السند التي نشك فيها، فنحن لا نقبل متنها إلا إذا صحت لدينا بسندٍ آخر، فمن ثمّ فالأحاديث والروايات التي سنذكرها في خاصية الغيبة قد أحرزنا ثبوتها بصورة مجملة، وإذا ذكرنا رواية ضعيفة من حيث السند, إنما نذكرها لأننا تأكدنا من صحتها بأسانيد أخرى صحيحة, ومن هنا فأنا أرفض تشكيك أخي الشيخ عثمان الخميس, حيث رأيته في هذه المناظرة يكذِّب كلما رواه الاثنا عشريون, فقد وجدت أن الأحاديث والروايات الواردة في الغيبة قد تواترت من حيث المعنى واللفظ, وتناقلها المحدّثون في كتب الحديث والروايات قبل الغيبة, ثم تحققت مضامينها ومعانيها بنفس الصورة التي رسمتها, ومن ثم فلم نحتاج إلى حذف الرواية الضعيفة من حيث السند.
فلنترك الشك الذي يراه الشيخ عثمان؛ لأنه لا يستند على دليل، ولنقدّر تبعتنا الخطيرة تجاه تلك الأحاديث والروايات المتواترة في هذه الحقيقة العظيمة, وقد تبين لي أن منبع الشك في روايات الاثني عشرية كانت عندي قديماً وهي عند الشيخ حالياً, إنما يرجع هذا الشك إلى إنني وجدت أنه في القرن الرابع الهجري ـ بعد الغيبة الكبرى ـ انتشرت روايات الأئمة الاثني عشرية ـ التي تذكر حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر ـ في وسط علماء أهل السنة حتى شك بعضهم فيها، بحجة واهية، وهي أن روايات الأئمة الاثني عشر في غيبة الإمام الثاني عشر, لماذا اختفت في القرون الثلاثة الأولى؟!! وفي هذا التساؤل تجاهلاً لما حدث لروايات أهل البيت في القرون الثلاثة الأولى, وأنتم رأيتم أن الشيخ عثمان قرأ عبارة ابن تيمية ـ رضوان الله عليه ـ التي بين فيها أن أهل السنة لم يأخذوا عن أهل البيت وعرفتم دور دائرة الرجس من بني أمية في عزلنا عن روايات أهل البيت, لقد أتى على روايات أهل البيت المطهرين وغير المطهرين وقتٌ حكم عليها فيه بالحرق والإعدام، وكان اقتناء شيء منها يعد جريمة لا يعلم عقوبتها إلا الله، بل أن مجرّد ذكر اسم أحد الأئمة الاثني عشر، أو الإشارة إلى رواياتهم، أو الاستفادة منها في كتاب من كتب الحديث لدى المذهب السني، أو حتى مجرد ذكر اسم أحد الرواة من اتباع الأئمة الاثني عشر، كان يعتبر جناية يعاقب عليها صاحبها، وكان إذا أجبرت الضرورة أحد المحدّثين ـ من أهل السنة ـ على أن يذكر في كتابه رواية واحدة من روايات أهل البيت المطهرين, أو حتى روايات أهل البيت غير المطهرين، كان يبتعد كل البعد عن التصريح بأسمائهم( )، ويكتفي بأن يطلق عليهم اسماً لا يعرفه الحكّام، بل الأكثر من ذلك، أن بعض المحدثين ـ من أهل السنة ـ الذين عاشوا في عصر محنة الأئمة الاثني عشر اضطروا أن يحذفوا روايات الأئمة الاثني عشر، من الكتب التي جمعوا فيها الأحاديث الصحيحة، لاسيما وإن كتب الحديث ـ في المذهب السني ـ جمعت في عصر محنة الأئمة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم ـ ، ومن ثم فقد اكتفوا بمجرد الإشارة إلى الأئمة الاثني عشر في كتب الحديث وحذف الجزء الخاص بذكر أسماءهم!! واختفت روايات الأئمة الاثني عشر من كتب محدّثي أهل السنة بسبب هذه الظروف تماماً, كما بينت للشيخ عثمان كيف أن الإمام الصنعاني بين أن أهل السنة حذفوا الصلاة على الآل خوفاً من بني أمية، وتضاعفت المسؤولية على أصحاب الأئمة الاثني عشر، وعلى شيعتهم المتمسكين بحديث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في الأئمة الاثني عشر، وبذلوا كل جهدهم في سبيل حفظ وتدوين روايات الأئمة الاثني عشر, ولكن شدة المحنة التي مرت فيها روايات الأئمة الاثني عشر فرضت على شيعتهم الصعوبات، والتعرض لهجوم السلطان وصل أحياناً إلى إعدام بعض الذين جمعوا روايات أهل البيت, أو تعرضوا لتشويه السمعة حتى عدّوهم من المجروحين بعد أن عرف السلطان اتصالهم بأهل البيت، ولعلي لا أخرج من الموضوع المتفق عليه بيننا في هذه المناظرة إذا ذكرت واحدة من محاولات السلطان في إحراق وإعدام روايات الأئمة الاثني عشر, عندما حاول السلطان أن يبطش بأحد كبار محدّثي الاثني عشرية المهتمين بجمع روايات أهل البيت وهو المحدّث الخبير «محمّد بن عمير الأزدي»( ) حتى اضطرت أخته أن تدفن كتبه( )، التي تضمنت بعض روايات الأئمة الاثني عشر, ولا شك أن محنة أهل البيت تعد من الضروريات والبديهيات التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون السنة والشيعة ووافقهم أخي الشيخ عثمان، وفي محنة الأئمة الاثني عشر يقول العالم والمفكّر السني المشهور، الشيخ محمّد الغزالي
ـ رضوان الله عليه ـ : «كان تنقل أهل البيت في أقطار الأرض، إثر ما وقع عليهم قديماً من حيف, وفي العصر الأول ذهب الإمام جعفر الصادق( ) إلى مدينة رسول الله صلى لله عليه وسلم يعتزل بها من الفتن ويبتعد بدينه عن مؤامرات السلطة وإرهاب العباسيين, وجعفر الصادق رجلٌ مطارد من حكومة ذلك العصر، يرقب في أية لحظة أن يقاد إلى مصرعه، كما اقتيد غيره من آل البيت النبوي<( ).
وفي القرن الرابع الهجري كانت الدولة العباسية ـ بسبب ضعف الخليفة العباسي الذي عجز عن السيطرة على مدينة بغداد( ) وأعمالها فضلاً عن غيرها من بلدان العالم الإسلامي ـ قد رفعت الحصار على روايات الأئمة الاثني عشر, فكان من الطبيعي أن تظهر روايات الأئمة الاثني عشر بعد أن انتهى عصر محنتهم!! وبعد أن أمن شيعتهم من بطش السلطان, ومن ثم أخرجوا كتب الحديث والروايات التي اختفت في عصر المحنة، وبذلك نكون قد أجبنا على السؤال الذي ذكرناه في كتابنا «الصلة بين الاثني عشرية وفرق الغلاة» والذي ردده الشيخ عثمان في هذه المناظرة وفي كتبه وأشرطته, وهو لماذا اختفت روايات الأئمة الاثني عشر في حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر إلى أن ظهرت في القرن الرابع؟( ).
ٍوسنرى بوضوح كيف تم تدوين أحاديث وروايات الغيبة في عصر المحنة، ولكن منهج السير في هذا الحوار يقتضي أن نذكر ـ قبل ذلك ـ أقوال المحدثين القدماء في الأحاديث والروايات الواردة في حقيقة الغيبة ـ فسوف تسهّل لنا معرفة سير تدوين أحاديث وروايات الغيبة ـ ولقد كان الإمام الشيخ الصدوق (شيخ المحدّثين في القرن الرابع)( ) يبذل جهداً عظيماً في جمع أحاديث وروايات الغيبة، كان ثمرته كتابه «إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة»، ويقول في هذه الأحاديث والروايات: «إن الأئمة ـ عليهم السلام ـ قد أخبروا بغيبته ـ عليه السلام ـ ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستحفظ في الصحف ودوّن في الكتب من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمة ـ عليهم السلام ـ إلاّ وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوّنه في مصنّفاته، وهي الكتب التي تعرف بالأصول, مدوّنة مستحفظة عند شيعة آل محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب [يعني: كتاب إكمال الدين] في مواضعها، فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلّفين للكتب أن يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة، فألّفوا ذلك في كتبهم ودوّنوه في مصنفاتهم من قبل كونها، وهذا محالٌ عند أهل اللبّ والتحصيل، أو أن يكونوا قد أسسوا في كتبهم الكذب فاتّفق الأمر لهم كما ذكروا وتحقق كما ذكروا وتحقق كما وضعوا من كذبهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالهم، وهذا ـ أيضاً ـ محال كسبيل الوجه الأوّل، فلم يبق في ذلك إلاّ أنّهم حفظوا عن أئمتهم المستحفظين للوصية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلى آخر المقامات ما دوّنوه في كتبهم وألّفوه في أصولهم، وبذلك وشبهه فلح الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً»( ).
ويقول ـ أيضاً ـ : « قد صح بالأخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبي والأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ من أمر القائم الثاني عشر من الأئمة وغيبته حتى يطول الأمد، وتقسو القلوب، ويقع اليأس من ظهوره، ثم يطلعه الله، وتشرق الأرض بنوره، ويرتفع الظلم والجور بعدله»( ).
وفي تلك الحقيقة الكبيرة والأساسية، وفي تلك الروايات الصريحة الصحيحة التي أخبرتنا عن غيبة الإمام الثاني عشر، يقول الإمام أمين الإسلام المحدّث الخبير الطبرسي: «وخلّدها المحدّثون من الشيعة في أصولهم المؤلّفة في أيّام السيّدين الباقر والصادق عليهما السلام، وآثروها عن النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام واحداً بعد واحد»( ).
ومن جملة كبار المحققين القدماء الذين ذكروا أحاديث وروايات الغيبة, وتركوا لأجلها مذهب أهل السنة ودخلوا في مذهب الاثني عشرية الشيخ الإمام أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي( ), كان من أهل السنة قبل معرفته لأحاديث وروايات الغيبة، قال في تلك الأحاديث والروايات: «نقل إليهم أسلافهم حالة (الإمام الثاني عشر) وغيبته وصورة أمره واختلاف الناس فيه عند حدوث ما يحدث وهذه كتبهم فمن شاء أن ينظر فيها فلينظر»( ).
وأمثال هذه الأقوال الصادرة من المحدثين والمحققين كثيرة والمهم الآن أن نقول: إن هناك اتفاقاً بين سير تدوين أحاديث وروايات الغيبة وبين هذه الأقوال التي نقلناها عن المحدثين ـ رضوان الله عليهم ـ ، فنحن وجدنا بعد الرجوع إلى عشرات الكتب الحديثية والروائية ودراستها في أكثر من عشر سنوات, مصداقية وحقانية تلك الأقوال، وسوف نثبت ذلك بالأدلة القوية عندما يتقدم بنا البحث في هذه الحقيقة الهائلة.
وفي هذا القول نجد مواجهة الإمام الأقدم إسماعيل بن علي بن أبي سهل ـ رضوان الله عليه ـ ، لشبهات بعض المنكرين لحقيقة الغيبة، أو الغافلين عن الأحاديث والروايات المتواترة في هذه الحقيقة، والذين أغلقوا على أنفسهم باب البحث في متونها ورواتها، ويبيّن الفرق بين الروايات التي يرفضها ويحاربها السلطان, والروايات التي يسعى ويرغب أن تنشر بين الناس، ثم يذكر تلك الحقيقة المسلّمة, حقيقة نص كل إمام من الأئمة الاثني عشر على الإمام الذي بعده, قال ـ رضي الله عنه ـ في كتابه «التنبيه والإمامة»( ): «فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن عليه السلام على ما شرحت وإنّه قد غاب, كما جاءت الأخبار في الغيبة فإنها جاءت مشهورة متواترة وكانت الشيعة تتوقّعها وتترجاها»( ).
«أخبار الشيع [يعني: الشيعة الاثني عشرية] أوكد من أخبار غيرهم من المسلمين؛ لأنه ليس معهم دولة ولا سيف ولا رهبة ولا رغبة، وإنما تنقل الأخبار الكاذبة لرغبة أو رهبة أو حمل عليها بالدول، وليس في أخبار الشيعة شيء من ذلك، وإذا صحّ بنقل الشيعة النصّ من النبي صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام، صحّ بمثل ذلك النصَّ من علي على الحسن، ومن الحسن على الحسين، ثمّ على إمام إمام إلى الحسن بن علي، ثمّ على الغائب الإمام بعده عليه السلام؛ لأن رجال أبيه الحسن عليه السلام الثقات كلّهم قد شهدوا له بالإمامة وغاب عليهم السلام؛ لأن السلطان طلبه طلباً ظاهراً، ووكّل بمنازله وحرمه سنتين<( ).
وليست هذه الحقيقة تعبر عن رأي أصحاب تلك الأقوال، كما إنها ليست رأياً لغيرهم من العلماء، إنما هي النصوص القاطعة التي لا مجال لتأويلها.
ونؤثر أن ننقل للمستمعين لهذه المناظرة ما كتبه عنها المحدّث الخبير (شيخ المحدّثين في القرن الخامس) الإمام محمّد بن الحسن الطوسي، في كتابه القيم «الغيبة» فهو أدّق ما يكون, قال بعد أن بيّن بياناً قاطعاً من نصوص السنة في كتب أهل السنة، وكتب الاثني عشرية، أن أوصياء الرسول الأكرم هم الأئمة الاثنا عشر: «ويدلّ أيضاً على إمامة ابن الحسن [الإمام الثاني عشر المهدي عليه السلام] وصحّة غيبته ما ظهر وانتشر من الأخبار الشائعة الذائعة عن آبائه عليهم السلام قبل هذه الأوقات بزمان طويل، من أنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، وصفة غيبته وما يجري فيها من الاختلاف، ويحدث فيها من الحوادث، وإنّه يكون له غيبتان إحداهما أطول من الأخرى، وإن الأولى يعرف فيها خبره، والثانية لا يعرف فيها أخباره، فوافق ذلك على ما تضمنته الأخبار، ولولا صحّتها وصحّة إمامته لما وافق ذلك، لأنه لا يكون إلاّ بإعلام الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله, ونحن نذكر من الأخبار التي تضمّنت ذلك طرفاً؛ ليعلم صحّة ما قلناه، لأنّ استيفاء جميع ما روي في هذا المعنى يطول، وهو موجود في كتب الأخبار»( ).
وقال بعد أن بيّن بياناً كاملاً من الأحاديث المتواترة عن الرسول الأكرم
ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن الروايات المتواترة عن الأئمة الاثني عشر، أن حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر من الحقائق القطعية والحتمية: «والأخبار في هذا المعنى [أي في غيبة الإمام المهدي رضوان الله عليه] أكثر من أن تحصى ذكرنا طرفاً منها لئلا يطول به الكتاب, على أن هذه الأخبار متواتر بها لفظاً ومعنى, وأمّا اللفظ فإنّ الشيعة تواترت بكلّ خبر منه، وأمّا المعنى فإنّ كثرة الأخبار، واختلاف جهاتها وتباين طرقها وتباعد رواتها يدلّ على صحتها»( ).
واعتبر الإمام العظيم الشيخ المفيد حقيقة الغيبة من الحقائق الكبرى في الإسلام، فلننظر كيف وصف ـ رضي الله عنه ـ تلك الحقيقة ورسمها بما يناسب شأنها الكبير في السنة النبوية القطعية, قال: «وقد سبق النص عليه [الإمام الثاني عشر] من نبي الهدى صلى الله عليه وآله ثم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ونصّ عليه الأئمة عليهم السلام واحداً بعد واحدٍ إلى أبيه الحسن عليه السلام, ونصّ أبوه عليه عند ثقاته وخاصة شيعته»( ).
«وكان الخبر بغيبته [الإمام المهدي] ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته, وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأخرى كما جاءت بذلك الأخبار»( ).
وآخر ما ننقله من أقوال كبار المحدّثين القدماء في شأن الأحاديث والروايات التي ذكرت حقيقة الغيبة، ما قاله المحدّث الكبير الإمام النعماني في كتابه القيّم والعظيم: «الغيبة», قال بعد أن ذكر النصوص والروايات المتواترة في إمامة الأئمة الاثني عشر, وفي حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر، وبعد أن شرحها بدقةٍ وعمق: «هذا الأحاديث التي يذكر فيها، أنّ للقائم عليه السلام غيبتين أحاديث قد صحّت عندنا بحمد الله، وأوضح الله قول الأئمة الاثني عشر عليهم وأظهر برهان صدقهم فيها، فأمّا الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام عليه السلام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة عن كلّ ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة( ) التي انقضت أيّامها وتصرّمت مدّتها, والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يريده الله تعالى، والتدبير الذي يمضيه في الخلق، ولوقوع التمحيص والامتحان والبلبلة والغربلة والتصفية على من يدّعي هذا الأمر كما قال عزّ وجلّ: (مَا كانَ اللهُ لِيَذَرِ المؤمنينَ على ما أنتُم عليهِ حتّى يَميزَ الخبيثَ مِن الطيِّبِ، وما كان اللهُ ليُطلِعَكُم على الغَيبِ ...)( ) وهذا زمان ذلك قد حضر، جعلنا الله فيه من الثابتين على الحقّ، وممّن لا يخرج في غربال الفتنة، فهذا معنى قولنا له غيبتان»( ).
«للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول الله صلى الله عليه وآله ذكرها وتقدّم من أمير المؤمنين عليه السلام خبرها، ونطق في المأثور من خطبه والمروي عنه من كلامه وحديثه بالتحذير من فتنتها، وحمل أهل العلم والرواية عن الأئمة من ولده عليهم السلام واحد بعد واحد أخبارها حتّى ما منهم أحدٌ إلاّ وقد قدّم القول فيها، ووصف امتحان الله تبارك وتعالى اسمه خلقه بها»( ).
تعليق