إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي

    مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
    ياسين الحاج صالح




    خيّمت الانتخابات الأميركية على الذكرى الثالثة ليوم 11 ايلول الذي دشّن انعطافا حادا في تاريخ العلاقات الدولية والنظام العالمي. أبرز ملامح هذا الانعطاف هو ما يُسمّى أميركياً الحرب ضد الإرهاب أو الحرب العالمية الرابعة.
    لماذا الرابعة؟ لا يهمّ إن كانت رابعة أو ثالثة، المهم أنها حرب، وأنها تندرج ضمن تحقيب حربي للتاريخ، وضمن نزعة مركزية أميركية لا تختلف عن المركزية الأوروبية إلا بارتدائها لباس الميدان. لكنها بالفعل عالمية، العالم كله مسرحها والعالم كله مطالَب باتخاذ موقع منها وفيها.
    واياً تكن نتيجة الانتخابات الأميركية بعد أسابيع قليلة من اليوم، فإن ما سيترتب عليها من تغير محتمل في السياسة الأميركية سيكون ادنى بما لا يقاس من التغير الذي أحدثه 11 ايلول. فالحدث تأسيسي ومستمر، وقد تبيّن في مذاهب وأجهزة وقوانين وتفضيلات سياسية واستعدادات نفسية، ليس من المتوقع أن تمسها المنافسات الانتخابية ولا تبدل الإدارات المحتمل في المستقبل المنظور.
    يتخذ هذا المقال من مذهب الضربات الاستباقية الذي تبنته إدارة الرئيس بوش في أيلول 2002 نقطة استدلال للنظر في أسس النظام الدولي الواقعية والفكرية، ومحاولة لتحديد موقعنا الراهن وآفاقنا المأمولة في عالم اليوم.
    تأسس مذهب الضربات الاستباقية على افتراض أن العدو الجديد، <<الإرهاب>>، يفتقر إلى العقلانية ولا يستند إلى حساب عقلاني لميزان القوى حين يقرر الضرب. ومن وجهة نظر الثقافة السياسية الأميركية والغربية، وهي الثقافة التي تأسس عليها النظام القانوني الدولي، تبدو هجمات 11 أيلول مستحيلة ثقافيا قبل أن تكون مدانة أخلاقيا وصعبة التخيّل تقنيا وغير مبررة سياسيا. وهي من باب الاستحالة هذا، مقلقة جدا. فهي غير عقلانية لأنها ترفض حساب المردود (الواقع أنها تدمج عناصر فوق عقلانية في حسابها: الاستشهاد والثواب..). وهذه عناصر لا تدخل في حساب الأفراد والدول والجماعات في الغرب.
    كان رد الفعل الأميركي الأول هو العجز عن الفهم، وهو عجز لا يعود إلى جهل بمنفّذي الاعتداء وتاريخهم فقط، ولا إلى انحياز <<حضاري>> أميركي متأصل ضد العرب فقط، ولكن أيضا إلى الطابع العجائبي والخيالي للفعل. وإذا كنا نحن العرب نستغرب ما ينطوي عليه الفعل من تصميم ومن حقد دفين، ونندهش لشيطانية التخطيط الكامن وراءه، فإنه يمتزج في استغراب الأميركيين لفاعليته الرمزية (قلق الخصاء)، وطابعه الملحمي، وجذريته القتالية، وجسارته المطلقة، وعبقرية التخطيط والتنسيق الكامنة وراءه لتحقيق غاية تدميرية، وبالخصوص ما ينطوي عليه من كراهية فائقة. إنه بالفعل حدث فاتن (مغوٍ ومثير للشقاق)، وموضوع للتأمّل لا يكاد يستنفد.
    ومن يلجأ إلى هذا النوع من السلاح المطلق، استخدام الجسد كقذيفة (قامت الطائرات بدور غلاف القذائف ومسرّعها ومصدر فتكها)، يستهين بالقوة ولا يبالي بأي تحليل عقلاني لميزان القوى. وإنه لمصدر إضافي للقلق أن صفة السلاح المطلق التي لم تكن تمنح إلا للسلاح النووي معرّضة للإلغاء بفضل القذيفة الجسد، وهو ما يهدّد بانكشاف أمني غير مسبوق لأميركا والغرب.
    لا تتساءل الثقافة السياسية الأميركية عما إذا كان اليأس من تعديل ميزان القوى هو الدافع وراء الخروج على منطقه العقلاني، لا تتساءل أيضاً عما إذا كانت هناك علاقة بين استحالة الحرب (بين الدول) وبين اللجوء إلى <<الإرهاب>> (من قبل أطراف دون الدولة)، ولا عن العلاقة بين استنفار عقلانية متعالية ولا جدوى العقلانية المشتركة. وإذ هي تفترض أن اللاعقلانية سبب الضعف، فلن تتساءل عن سبب اللاعقلانية (الجواب الرائج اليوم هو <<الحضارة>>، مقلّصة بدورها إلى نواتها الدينية)، ولا بالخصوص عن احتمال أن تكون العلاقة معكوسة، اي أن يكون الضعف هو سبب اللاعقلانية.
    ولد مذهب الضربات الاستباقية ليرد على التحدي الإرهابي غير العقلاني وليسكن القلق الثقافي والأمني اللصيق به، وذلك في سياق عملية إعادة هيكلة السياسة الدولية للولايات المتحدة بعد 11 ايلول. لكن شرط إمكانه هو القدرة الأميركية الفعلية، تقنيا وعسكريا واقتصاديا، على ضرب أي خصوم محتملين وسحقهم. وإلى جانب فكرة الضربات الاستباقية تضمنت إعادة الهيكلة المذكورة تغليبا للنزعة الانفرادية أو أحادية الجانب على تعددية الأطراف والعمل من خلال المنظمات الدولية. وتشكل الضربات الاستباقية مع النية المعلنة بالحفاظ على التفوق العسكري الأميركي على أي خصوم محتملين ركنا ما يعرف بمذهب بوش.
    ولا يبعد أن يكون المذهب قد وضع بمثابة تسويغ قبلي للحرب على العراق التي حسم قرارها في الفترة نفسها (ايلول 2002 أيضا)، وتعويضا عن افتقار تلك الحرب إلى أدلة مقنعة تبررها. فما لا تبرره الأدلة المتوفرة يحتاج إلى مذهب كامل.
    تفكيك مذهب توازن القوى
    كان توازن القوى الحجر الأساس في تنظيم العلاقات الأوروبية في القرن التاسع عشر والدولية بعد الحرب العالمية الثانية. لكن يجب القول إنه في الحالين، توازن على مستوى القمة وحدها: بين القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، وبين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي في القرن العشرين. ويتضمن هذا الأساس ذاته افتراضا مضمرا ينص على أن الأطراف المشاركة في النظام تقرأ الوقائع قراءة متماثلة أو متقاربة، بحيث أن أياً منها لن يستخلص من الوقائع المعنية دروساً مناقضة لما يحتمل أن يستخلصه الآخرون. ومن هذا الباب ينطوي كل تحليل يقوم على فكرة توازن القوى على عنصر تفاؤلي، بل طوبى تفاؤلية. فهو يتضمّن طبقة أولى من الافتراضات ترى، أولا، أن العقل التحليلي هو القاسم المشترك الأعظم بين الناس؛ وتسلّم، ثانياً، أن إمكانية نشوب النزاعات تقلّ حتى الصفر وفرص حلّها تكبر حتى اللانهاية بقدر ما تتجه العلاقة بين الأطراف نحو التوازن.
    لكن العنصر التفاؤلي مغروس في تربة تشاؤمية. فالمشكلة أن <<نعم>> للتوازن باتت تعني بالضرورة <<نعم>> للقوة، وأن ضبط القوة لم يعدد ممكناً بغير قوة موازنة. إنه سباق لا ينتهي.
    وهناك بعد طبقة افتراضيات أعمق مستمدّة من المذهب النفعي الذي يشكّل عنصراً أساسياً في بنية الثقافة الغربية الحديثة، والذي ينصّ على أن الهدف العقلاني لكل سلوك فردي (والفرد هو الحقيقة القياسية في هذا المذهب) هو أكبر قدر من السعادة (وهذه تأخذ شكل متع قابلة للقياس الكمي حسب جيرمي بنتام) وأقل قدر من الألم؛ وهو مذهب يستبطن بدوره عملية العلمنة الفعلية للحياة في الغرب الصناعي والرأسمالي وتراجع وزن الدين في توجيه سلوك الأفراد والأمم.
    هذا المذهب لا يزيل أية نزعة بطولية لكنه يُجري تحوّلاً عميقاً عليها: إن البطل هنا هو ليس المضحّي بحياته أو الشهيد بل الرائد في أي ميدان علمي أو أدبي أو تقني، هو الفاتح أو المؤسس. إن علمنة البطولة هي وجه من وجوه العلمنة الشاملة للحياة الفردية والجمعية. وعلّ عملية العلمنة هذه تلقي ضوءا على اختلاف مفهوم الشجاعة بين المجاهدين الإسلاميين وبين أعدائهم من الجنود الإسرائيليين والأميركيين.
    ومن المناخ الفكري للقرن التاسع عشر تسرّب إلى نظرية العلاقات الدولية ما يشبه نظرية اليد الخفية في الاقتصاد الكلاسيكي، اي افتراض تحقق المنافع للجميع إذا سعى كل منهم وراء مصالحه الخاصة الأنانية فحسب. فالميزة التي ينالها أي طرف (دولة) تتعلق بقدرته على حيازة قدر من القوة أكبر مما يناله الآخرون، الذي سيضطرون إلى مجاراته إن شاؤوا الحفاظ على موقعهم ومصالحهم. ويشكل الموقع الذي يحتله كل طرف في نظام توازن القوى، ومذهب توازن القوى ذاته القائم على افتراض عقلانية مرجعية مشتركة بين الجميع، أساس نظام من العلاقات يشمل الأطراف جميعاً.
    وأعمق من كل هذه الافتراضات الضمنية هناك افتراض مؤسس ينص على أن فرص كل من حيازة القوة واكتساب العقلانية ممنوحة للجميع بلا أدنى عوائق، وبالخصوص ليس هناك دول أو أطراف تعوق اكتساب دول واطراف أخرى للقوة والعقلانية. وهذا الافتراض مؤسس على النموذج الليبرالي التنافسي لاقتصاد السوق الحر. فاليد الخفية لا تعمل إذا كانت هناك تدخلات <<خارجية>>، أي من خارج العملية الاقتصادية الليبرالية المحكومة بمبدأ <<دعه يعمل>> وحده. وقد كان المذهب الليبرالي تسجيلا لأمر واقع في أوروبا القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للمنافسة الحرة، لكنه لم يعد كذلك في عصر الامبريالية والحرب الباردة وصولاً إلى أيام <<الحرب العالمية الرابعة>> التي نعيشها اليوم. فالنظام الدولي اليوم، وبصرف النظر عن أي نقاش حول الامبريالية والاحتكارات، قائم على احتكار صريح للقوة يبعده عن النموذج التنافسي ويده الخفية وعقلانيته المرجعية المتاحة بالتساوي لجميع الأطراف.
    تعود الأصول الحديثة لمذهب توازن القوى، كأساس للنظام الدولي، إلى نظام الوفاق الأوروبي التالي لمؤتمر فيينا الذي تلا بدوره هزيمة نابليون عام 1815. ومن أهم علائم سياقه التاريخي تقارب القوى الأوروبية الأساسية، أكثر فأكثر، في تأويل الوقائع، واشتراكها في فهم متماثل للقوة. إذ رغم أنها لم تكن متكافئة التطور وقتها، فقد كانت منخرطة في ديناميكية تاريخية واحدة، أثمرت خلال ما لا يزيد عن نصف قرن عن كوكبة من الدول الأمم، اقتصادها رأسمالي، نخبها القائدة عقلانية على العموم، ومجتمعاتها المدنية تشترك في نزعة دنيوية تعكس تطابق أو تقارب فكرة هذه الدول الأمم عن نفسها مع واقعها المعاين. إن العلمنة وجه اساسي في هذه السيرورة التي كانت تسمّى: التقدم.
    (غداً جزء ثانٍ)
    () كاتب سوري
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
x

رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

صورة التسجيل تحديث الصورة

اقرأ في منتديات يا حسين

تقليص

لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

يعمل...
X