صورة من مجزرة مران
نشرت صحيفة البلاغ اليمنية , في تاريخ (20/9/2004) مقالة, تحت عنوان ( مران تتكلم ) , وقد استطاع كاتب المقالة أن يصور بعض عمق المجزرة التي ارتكبها الرئيس اليمني في مران , ونتيجة لاهمية هذه المقالة , رايت أن اعيد نشرها من جديد , وهذا هو نص المقالة :
(سمعنا برجل تردى من قمة جبل عالٍ فوجدنا الحقيقة كالتالي: كان ماشياً على الطريق تحت جبل »الشرفة« وعلى يمينه هاوية ما إن نظرت من عليها حتى شعرت بالدوار، إذ أنك لا تكاد ترى البيوت التي تحتها إلاَّ كحبات صغيرة تمثل قرى »ولد نوار« أراد الجندي تفتيشه -بعد سيطرتهم على المكان- فرفض إلاَّ أن يفتشه الضابط، تقدم الضابط إليه وهو على طرف »الحيد« رفع يديه للتفتيش ووضع الضابط يديه في بطنه ولفهما إلى ظهره فاحتضنه ذلك »الحوثي« ورمى بنفسه مع الضابط من على شاهق لا تستطيع إدامة النظر إليه فترة ولو بسيطة، وُجِدَ الضابط بعد يومين جثة بدون رأس حيث التهمته الصخور عند ترديه.
- التقينا نساءً تقول بأن أزواجهن وإخوانهن مع الحوثي منذ بداية الحرب، غير مباليات بمصيرهم »ولا يقع شي بسيدي حسين«.
- حدثنا أحد الجنود أنهم وجدوا في كهفين امرأتين وضعن الحمل في الكهف، مع الأولى ولد والثانية بنت قال: »ندِّي لهن الأكل والشرب والقهوة ونجابرهن ما بقي إلا نبخرهن« أعطينا لهن مكبرات الصوت حتى ينادين أزواجهن ليصعدوا إليهن فرفضن وقلن لا بد أن يبقوا مع سيدهن حسين حتى يموتوا فقالوا: نحن الذين نجلب لكن الطعام يومياً فقالت إحداهن متذمرة: »طز فيكم خلوني أموت أدخل الجنة!!«.
-- أحد الجنود وضع بندقه على صدر أحد أنصار الحوثي بعد أن أصيب بعيار ناري في رجله وكتفه ونفذت ذخيرته وقال له: تراجع عن فكرك نسعفك المستشفى فأمسك بالبندق وضم فوهته إلى صدره وصاح: الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الخ، حتى مات وهو يردد الشعار.
كانت لي زيارة إلى جبال مران الوعرة والتي مثلت العامل الأساس في الصمود ووجدت في رحلتي الكثير...
> البداية..
قبل أن نحط رحالنا على مدينة حيدان كنا قد علمنا أن صاروخاً سقط سهواً على المدينة قتل شخصين أحدهما في بوفية للعصائر جاء به القدر من منطقة »عتمة« باحثاً عن لقمة عيشه وكان معه زميلان من منطقة »ريمة« قتلا -كذلك- بعد صعودهما إلى مران لمساندة الحوثي الذي تأثروا به عند قراءة ملازمه وسماع محاضراته وهم في مخبازتهم في حيدان، وجميعاً هم الآن في القبر -الثلاثة- إثنان باختيارهما والآخر باختيار القدر.
تتكئ مدينة حيدان على جبل أشم يسمى »جبل مفتاح« صعدنا من جانبه حتى وصلنا »المعتق« الذي تنحدر منه طريق وعرة إلى منطقة »فوط« والتي تعتبر مقر اللاجئين من مران الهاربين من الحرب ودماره والتي تجد فيها جمال الطبيعة الفاتنة التي تحوَّلت إلى صورة بائسة لما تشهده من حرمان وتشريد وبؤس ..لنا معه -بعد قليل- وقفة.
من »المعتق« تتجه أعلى إلى جبال مران الذي يستقبلك أولاً »قرن التيس« وهو يمثل مرتفعاً بسيطاً ظهرت عليه آثار »المتارس« التي جهزها أنصار الحوثي، وقد ظلت عليه المعركة ما يقارب شهراً أو يزيد نظراً للصمود الذي صمده أنصار الحوثي، ساعدهم على ذلك »الصراط« وهو يمثل طريقاً طوله حوالى »50« متراً عن يمينه ويساره هاوية قاتلة، لا مكان للمرور عليه إلا ما يتسع لسيارة واحدة والمعابر التي طغت على الأرض شاهدة على معركة دامية كانت هناك، وقد أطلق عليه الجنود اسم »قرن الثور« لاستصغار اسم »قرن التيس«.. بعد قرن الثور بعدة أمتار مرتفع كذلك اسمه »الديّر« تراجع إليه المقادمون بعد سقوط قرن التيس ومنه إلى جبل »الشرفة« الذي يمثل أرفع قمة على مستوى مران والذي دارت عليه مواجهة عنيفة شعر كل فريق منهما باليأس حتى تقدم إليه المقدم ناجي الفايق وقدم روحه رخيصة عند أول ملف فيه والذي كان سبباً في السيطرة على الجبل وقد مات بعد ست ساعات من إصابته وهو ينزف مستغيثاً بقائده وقيادات عدة عبر تلفونه ولما لم يسعفه أحد!!!! إتصل بأسرته وودعهم ثم مات حتى قال فيه شاعر من أنصار الحوثي كتب الأبيات خلف الجبال وداخل الكهوف قال في زامله:
ماحد تخطى كل عايق
حتى وصل روس الشواهق
إلا المقدم ناجي الفايق
رحم مثواه
كم قد لقينا من فيالق
قوات من سابق ولاحق
ولا وجدنا بينهم قايد
غزا مغزاه
بعد »الشرفة« تنحدر حتى تواجه »جبل الحكمي« الذي مثَّل المعركة قبل الأخيرة والمشهور بأنفاقه ومداخله في بطن الجبل تتوسطه منطقة »المجازين« فوق منزل الحوثي بأمتار.. وصلنا المجازين الساعة العاشرة صباحاً على صوت المدافع والدبابات من على منطقة »الجميمة« إلى »جبل سلمان« الذي يبعد عن »الجميمة« مسافة ليست بالبعيدة، والذي مثَّل المعركة الأخيرة في مران، وتفاجأنا بإسعاف عليه أربعة جنود قتلى أدخلوهم الوحدة الصحية المتواضعة وقد فارقوا الحياة وبداخلها العديد من المصابين بالإصابات غير الخطيرة.. كان الضرب هناك عنيفاً ومكثفاً قال أحدهم: »هكذا متواصل من أمس بعد العصر حتى الآن«.
- تلاحظ البيوت المدمرة على طول الجبل والتي تسكن في بعضها عدة أسر يصل عدد البعض إلى »٥٤« فرداً في بيت واحد نساءً وأطفالاً وشيوخاً ينتظرون اللقمة من لحظة لأخرى.. وإن نظرت إلى أسفل وجدت بجانب منزل الحوثي -سابقاً- ثكنة عسكرية من المدافع والدبابات والناقلات والأطقم العسكرية التي تحل محل قرية كانت عامرة لم يتبق منها غير بعض الأحجار التي لا تدلك على شيء كان هنا.. ومنها يتم القصف على »جبل سلمان«.. دخلنا إلى غرفة بها المقدم قائد النقطة تكلمنا معه، لم يدل بمعلومات واكتفى بقوله: »كمَّلنا ما بقي إلا التفتيش« عندها استأذنه أحد الجنود في الاتصال هاتفياً بعد أن قدم له التحية وأخبره بأنهم أخرجوا من كهف ثمانية قتلى من المقاومين أخذ السماعة وطمأن أهله ثم قال بعد أن صمت: »لا.. لا.. القتلى خيرات اليوم مننا حول »30« قتيلاً وأكثر من »80« جريحاً« قالها بصوت منخفض خوفاً من الضابط لكن الضابط نهره بقوله: »هاه.. هاه.. هاه« كل واحدة بصوت أرفع من التي قبلها ثم انتهره وأخرجه فاعتذرنا منه وخرجنا.
الحوثي يتكلم..
> حدثني شخص عايشه واحتك به وحضر معظم دروسه ومحاضراته برغم مخالفته له في الفكر كما يقول ويشهد له بذلك الآخرون وهو يمثل أحد أعيان عزلة »ولد نوار« التابعة لمران الشيخ/ حسين صلاح قال: كان السيد يلقي محاضراته كل خميس وجمعة يأتيه الناس من بعد العصر يمضغون القات ويلقي عليهم دروسه حتى صلاة المغرب ثم يصلون المغرب والعشاء ويتنالون العشاء الذي يجهزه طباخو السيد -قاطعته هنا- وسألته عن عدد الحضور في الدرس فقال: »المجلس حقه عرضه خمسة أمتار وطوله أربعين متر وهو يمتلي حتى وسط المجلس« ثم قال: »مكان السيد دائماً كان بجوار الباب وليس كما يزعمون داخل قفص زجاج اللهم الفترة الأخيرة ما كان يصافح الناس، بعد العشاء يعودون للدرس -مع التخزينة- حتى وقت الأخبار يفتح لهم قناة »الجزيرة« أو »العربية« عبر جهاز العرض السينمائي ويعرض لهم أحداث العراق ثم فلسطين، ثم يقفل الجهاز ويعلق على أعمال أمريكا في العراق وإسرائيل في فلسطين، وعظم خطرهما« ثم واصل قوله: »كان يدعو الناس دائماً لنبذ التعصب ويقول: لا بد أن نتوحد يا مران ونكون يداً واحدة أمام الشيطان الأكبر »أمريكا« وكان يفصل دروسه بفواصل إنشادية وجلسات للمرح والراحة ويستمرون حتى صلاة الفجر وهكذا كل خميس وجمعة يستقبل الوفود من داخل المحافظة وخارجها« ثم سكت قليلاً وكأنه يتذكر ثم قال: »مره قام أحد السادة يشرح »صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين«.
فقال: المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى والذين أنعم الله عليهم أهل البيت، فاعترضت عليه من وسط المجلس وقلت له -بالعامية-: »ما هذه ماسبرن يا سيدي واحنا مه بقيت لنا؟ مابو آيه فينا يالقبائل« قال: فاعترض عليه حسين الحوثي وقال: »المقصود بالذين أنعمت عليهم هم كل المسلمين وليس أهل البيت فقط، وكل المسلمين هم أهل البيت« ثم قال: ومن الأشياء التي كان يقولها إنه يجوز للسيد أن يزوج القبيلي لأنه لا يوجد دليل على عدم جوازه وهذا سبب بغض بعض الزيديين له -حسب رأيه- وعندما سألته عن سبب حب أبناء المنطقة له قال: أكبر سبب أنه نزل إلى مستواهم وكان يحل مشاكلهم بدون مقابل وخفَّض الزواج إلى »30« ألف ريال فقط، وما كان متكبر وكأنه والقبيلي سواء وعمري ما شفته مرة واحدة لابس لعمامة.
المأساة..
> الأضرار التي خلَّفتها الحرب ليست بالهينة، والمآسي التي يعايشها الكثير من أبناء مران أكبر من أن توصف، إذ أن جميعهم أطفالاً ونساءاً لا حول لهم ولا قوة، ففي منطقة »فوط« والتي تقع خلف جبل الحكمي وتمثِّل سهلاً أخضراً يقطن الكثير من النازحين من مران فيها من قبل وأثناء الحرب.
ونظراً للحالة المعيشية التي يعيشها الشعب اليمني برمته جعلت المأساة تزداد، فالعدد الافتراضي والطاقة الاستيعابية للأسر مثلاً ثمانية أفراد فكيف عندما يصبحون أربعين فرداً؟! لا تكاد تجد أسرة إلاَّ وفيه أسرة -على الأقل -نازحة ناهيكم عن البيوت التي فيها أكثر من خمس أسر مما دفع بالبعض اللجوء إلى المدارس كما هو الحال في مدرسة السلام التي لا تحمل معنى لاسمها، فالشيوخ والنساء والأطفال متزاحمون على فصولها ولا يمتلكون قوت يومهم ولا تكاد تجد مع كل ثلاثة أفراد بطانية واحدة لحافاً وفراشاً وكأنك تشاهد مخيماً في جنين، كما صرح بذلك أحدهم وقال: كل الأسرة لا توجد لدينا سوى بطانيتين اشتريناها من العسكري -أحد وجهاء منطقة »فوط« عبدالله صغير قال: جلبت كيس حب لإحدى الأسر فلم يناموا طوال الليل من الفرحة، ثم قال: السبب الذي جعل الحرب تتوسع أنهم سمحوا لـ»المتفيِّدين« بالنهب والسطو على ممتلكات الآخرين وخاصة من نزح منهم.. مما جعل الكثير ممن لم يكن مقاوماً يقاوم مع السيد حمية على حقه وعرضه وتساءل عن مصير اللاجئين وإلى متى سيستمروا خاصة أن بعضهم قد دمروا بيته بالكامل.
- تناولنا عنده وجبة الغداء ومعه في بيته اسرتان نازحتان وكان معنا شيخان كبيران قال الأول: ولدي ضائع من بداية الحرب والله أعلم حي أو ميت، ثم أجهش وخنقته الغصة واكتفى بالسكوت والنظر إلى الأرض، أما الآخر والذي يبلغ من العمر »٦٧« عاماً قال: والله إن هذا ثالث بيت نجلس فيه »كلما ضاقن خرجنا«.
- خمسة أطفال نازحين قالوا إن والدهم في مران لا يقاتل لكن يحرس البيت من »المتفيدين« ومن المقاومين لا يدخلوه لأن الدولة ستدمره وعددنا هانا »٨٢« فرد ثم تساءل الطفل هل عاد في مدارس موجودة من أجل يدرسوا أم قد دمرت؟!.
- أما في »جبل الحكمي« وبالتحديد منطقة »المجازين« فإن المأساة لا تقل عن »فوط« وما أصعبه من موقف عندما لحق سيارتنا ثلاثة أطفال من جانب بيتهم المدمر بعضه وهم يصيحون »أدّوا لنا غداء«..
- تجد آثار الحرب والدمار موجوداً على البيوت الممتدة على سفح جبل الحكمي وبعضها مدمر بالكامل كما في قرية »الجميمة« التي أصبحت أطلالاً بعد أثر.. في بيت واحد تقطن خمس عشرة أسرة أطفالاً ونساءاً إن وجدوا وجبة الغداء فلا أمل لهم في وجود العشاء وهكذا.
- أخبرونا ببيت دمروه على من يسكن فيه وصاحبه ليس من المقاومين إنما اشتبه الجنود في أن الضرب من داخل بيته فقصفوه حتى أحرقوا الفراش وكل ما يملك وهو الآن يسكن »الحر«.
- كانت هناك امرأة تحمل الماء على رأسها إلى بيتها فأصابتها قذيفة مدفع إليها مباشرة -كما قال شهود عيان -قطَّعت تلك المرأة لكي يبقى أطفالها عطشى ينتظرون.
- شاب آخر تزوج ولم يمض عليه سوى ثلاثة أيام من زواجه أصابت بيته ثلاث قذائف أو أكثر فارق على إثرها) . عروسه بعد أن أصيبت هي وبقية الأسرة.
تشاهد النساء والأطفال مجتمعين ليس لهم حديث إلاَّ تذكر من فقدوهم والمأساة أكبر من أن توصف حتى يحكم عليك كزائر وعليهم كسكان بالسكوت وعدم الابتسامة وقلة الحديث لكثرة الذكريات.. وإن أرجعت المسمى إلى أصله لكان »مُران« بالضم تثنية لمُر فأبناء مران يواجهون مرين مر الحرمان من أساسيات الحياة ومر البؤس والمأساة التي تلقونها.
نشرت صحيفة البلاغ اليمنية , في تاريخ (20/9/2004) مقالة, تحت عنوان ( مران تتكلم ) , وقد استطاع كاتب المقالة أن يصور بعض عمق المجزرة التي ارتكبها الرئيس اليمني في مران , ونتيجة لاهمية هذه المقالة , رايت أن اعيد نشرها من جديد , وهذا هو نص المقالة :
(سمعنا برجل تردى من قمة جبل عالٍ فوجدنا الحقيقة كالتالي: كان ماشياً على الطريق تحت جبل »الشرفة« وعلى يمينه هاوية ما إن نظرت من عليها حتى شعرت بالدوار، إذ أنك لا تكاد ترى البيوت التي تحتها إلاَّ كحبات صغيرة تمثل قرى »ولد نوار« أراد الجندي تفتيشه -بعد سيطرتهم على المكان- فرفض إلاَّ أن يفتشه الضابط، تقدم الضابط إليه وهو على طرف »الحيد« رفع يديه للتفتيش ووضع الضابط يديه في بطنه ولفهما إلى ظهره فاحتضنه ذلك »الحوثي« ورمى بنفسه مع الضابط من على شاهق لا تستطيع إدامة النظر إليه فترة ولو بسيطة، وُجِدَ الضابط بعد يومين جثة بدون رأس حيث التهمته الصخور عند ترديه.
- التقينا نساءً تقول بأن أزواجهن وإخوانهن مع الحوثي منذ بداية الحرب، غير مباليات بمصيرهم »ولا يقع شي بسيدي حسين«.
- حدثنا أحد الجنود أنهم وجدوا في كهفين امرأتين وضعن الحمل في الكهف، مع الأولى ولد والثانية بنت قال: »ندِّي لهن الأكل والشرب والقهوة ونجابرهن ما بقي إلا نبخرهن« أعطينا لهن مكبرات الصوت حتى ينادين أزواجهن ليصعدوا إليهن فرفضن وقلن لا بد أن يبقوا مع سيدهن حسين حتى يموتوا فقالوا: نحن الذين نجلب لكن الطعام يومياً فقالت إحداهن متذمرة: »طز فيكم خلوني أموت أدخل الجنة!!«.
-- أحد الجنود وضع بندقه على صدر أحد أنصار الحوثي بعد أن أصيب بعيار ناري في رجله وكتفه ونفذت ذخيرته وقال له: تراجع عن فكرك نسعفك المستشفى فأمسك بالبندق وضم فوهته إلى صدره وصاح: الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الخ، حتى مات وهو يردد الشعار.
كانت لي زيارة إلى جبال مران الوعرة والتي مثلت العامل الأساس في الصمود ووجدت في رحلتي الكثير...
> البداية..
قبل أن نحط رحالنا على مدينة حيدان كنا قد علمنا أن صاروخاً سقط سهواً على المدينة قتل شخصين أحدهما في بوفية للعصائر جاء به القدر من منطقة »عتمة« باحثاً عن لقمة عيشه وكان معه زميلان من منطقة »ريمة« قتلا -كذلك- بعد صعودهما إلى مران لمساندة الحوثي الذي تأثروا به عند قراءة ملازمه وسماع محاضراته وهم في مخبازتهم في حيدان، وجميعاً هم الآن في القبر -الثلاثة- إثنان باختيارهما والآخر باختيار القدر.
تتكئ مدينة حيدان على جبل أشم يسمى »جبل مفتاح« صعدنا من جانبه حتى وصلنا »المعتق« الذي تنحدر منه طريق وعرة إلى منطقة »فوط« والتي تعتبر مقر اللاجئين من مران الهاربين من الحرب ودماره والتي تجد فيها جمال الطبيعة الفاتنة التي تحوَّلت إلى صورة بائسة لما تشهده من حرمان وتشريد وبؤس ..لنا معه -بعد قليل- وقفة.
من »المعتق« تتجه أعلى إلى جبال مران الذي يستقبلك أولاً »قرن التيس« وهو يمثل مرتفعاً بسيطاً ظهرت عليه آثار »المتارس« التي جهزها أنصار الحوثي، وقد ظلت عليه المعركة ما يقارب شهراً أو يزيد نظراً للصمود الذي صمده أنصار الحوثي، ساعدهم على ذلك »الصراط« وهو يمثل طريقاً طوله حوالى »50« متراً عن يمينه ويساره هاوية قاتلة، لا مكان للمرور عليه إلا ما يتسع لسيارة واحدة والمعابر التي طغت على الأرض شاهدة على معركة دامية كانت هناك، وقد أطلق عليه الجنود اسم »قرن الثور« لاستصغار اسم »قرن التيس«.. بعد قرن الثور بعدة أمتار مرتفع كذلك اسمه »الديّر« تراجع إليه المقادمون بعد سقوط قرن التيس ومنه إلى جبل »الشرفة« الذي يمثل أرفع قمة على مستوى مران والذي دارت عليه مواجهة عنيفة شعر كل فريق منهما باليأس حتى تقدم إليه المقدم ناجي الفايق وقدم روحه رخيصة عند أول ملف فيه والذي كان سبباً في السيطرة على الجبل وقد مات بعد ست ساعات من إصابته وهو ينزف مستغيثاً بقائده وقيادات عدة عبر تلفونه ولما لم يسعفه أحد!!!! إتصل بأسرته وودعهم ثم مات حتى قال فيه شاعر من أنصار الحوثي كتب الأبيات خلف الجبال وداخل الكهوف قال في زامله:
ماحد تخطى كل عايق
حتى وصل روس الشواهق
إلا المقدم ناجي الفايق
رحم مثواه
كم قد لقينا من فيالق
قوات من سابق ولاحق
ولا وجدنا بينهم قايد
غزا مغزاه
بعد »الشرفة« تنحدر حتى تواجه »جبل الحكمي« الذي مثَّل المعركة قبل الأخيرة والمشهور بأنفاقه ومداخله في بطن الجبل تتوسطه منطقة »المجازين« فوق منزل الحوثي بأمتار.. وصلنا المجازين الساعة العاشرة صباحاً على صوت المدافع والدبابات من على منطقة »الجميمة« إلى »جبل سلمان« الذي يبعد عن »الجميمة« مسافة ليست بالبعيدة، والذي مثَّل المعركة الأخيرة في مران، وتفاجأنا بإسعاف عليه أربعة جنود قتلى أدخلوهم الوحدة الصحية المتواضعة وقد فارقوا الحياة وبداخلها العديد من المصابين بالإصابات غير الخطيرة.. كان الضرب هناك عنيفاً ومكثفاً قال أحدهم: »هكذا متواصل من أمس بعد العصر حتى الآن«.
- تلاحظ البيوت المدمرة على طول الجبل والتي تسكن في بعضها عدة أسر يصل عدد البعض إلى »٥٤« فرداً في بيت واحد نساءً وأطفالاً وشيوخاً ينتظرون اللقمة من لحظة لأخرى.. وإن نظرت إلى أسفل وجدت بجانب منزل الحوثي -سابقاً- ثكنة عسكرية من المدافع والدبابات والناقلات والأطقم العسكرية التي تحل محل قرية كانت عامرة لم يتبق منها غير بعض الأحجار التي لا تدلك على شيء كان هنا.. ومنها يتم القصف على »جبل سلمان«.. دخلنا إلى غرفة بها المقدم قائد النقطة تكلمنا معه، لم يدل بمعلومات واكتفى بقوله: »كمَّلنا ما بقي إلا التفتيش« عندها استأذنه أحد الجنود في الاتصال هاتفياً بعد أن قدم له التحية وأخبره بأنهم أخرجوا من كهف ثمانية قتلى من المقاومين أخذ السماعة وطمأن أهله ثم قال بعد أن صمت: »لا.. لا.. القتلى خيرات اليوم مننا حول »30« قتيلاً وأكثر من »80« جريحاً« قالها بصوت منخفض خوفاً من الضابط لكن الضابط نهره بقوله: »هاه.. هاه.. هاه« كل واحدة بصوت أرفع من التي قبلها ثم انتهره وأخرجه فاعتذرنا منه وخرجنا.
الحوثي يتكلم..
> حدثني شخص عايشه واحتك به وحضر معظم دروسه ومحاضراته برغم مخالفته له في الفكر كما يقول ويشهد له بذلك الآخرون وهو يمثل أحد أعيان عزلة »ولد نوار« التابعة لمران الشيخ/ حسين صلاح قال: كان السيد يلقي محاضراته كل خميس وجمعة يأتيه الناس من بعد العصر يمضغون القات ويلقي عليهم دروسه حتى صلاة المغرب ثم يصلون المغرب والعشاء ويتنالون العشاء الذي يجهزه طباخو السيد -قاطعته هنا- وسألته عن عدد الحضور في الدرس فقال: »المجلس حقه عرضه خمسة أمتار وطوله أربعين متر وهو يمتلي حتى وسط المجلس« ثم قال: »مكان السيد دائماً كان بجوار الباب وليس كما يزعمون داخل قفص زجاج اللهم الفترة الأخيرة ما كان يصافح الناس، بعد العشاء يعودون للدرس -مع التخزينة- حتى وقت الأخبار يفتح لهم قناة »الجزيرة« أو »العربية« عبر جهاز العرض السينمائي ويعرض لهم أحداث العراق ثم فلسطين، ثم يقفل الجهاز ويعلق على أعمال أمريكا في العراق وإسرائيل في فلسطين، وعظم خطرهما« ثم واصل قوله: »كان يدعو الناس دائماً لنبذ التعصب ويقول: لا بد أن نتوحد يا مران ونكون يداً واحدة أمام الشيطان الأكبر »أمريكا« وكان يفصل دروسه بفواصل إنشادية وجلسات للمرح والراحة ويستمرون حتى صلاة الفجر وهكذا كل خميس وجمعة يستقبل الوفود من داخل المحافظة وخارجها« ثم سكت قليلاً وكأنه يتذكر ثم قال: »مره قام أحد السادة يشرح »صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين«.
فقال: المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى والذين أنعم الله عليهم أهل البيت، فاعترضت عليه من وسط المجلس وقلت له -بالعامية-: »ما هذه ماسبرن يا سيدي واحنا مه بقيت لنا؟ مابو آيه فينا يالقبائل« قال: فاعترض عليه حسين الحوثي وقال: »المقصود بالذين أنعمت عليهم هم كل المسلمين وليس أهل البيت فقط، وكل المسلمين هم أهل البيت« ثم قال: ومن الأشياء التي كان يقولها إنه يجوز للسيد أن يزوج القبيلي لأنه لا يوجد دليل على عدم جوازه وهذا سبب بغض بعض الزيديين له -حسب رأيه- وعندما سألته عن سبب حب أبناء المنطقة له قال: أكبر سبب أنه نزل إلى مستواهم وكان يحل مشاكلهم بدون مقابل وخفَّض الزواج إلى »30« ألف ريال فقط، وما كان متكبر وكأنه والقبيلي سواء وعمري ما شفته مرة واحدة لابس لعمامة.
المأساة..
> الأضرار التي خلَّفتها الحرب ليست بالهينة، والمآسي التي يعايشها الكثير من أبناء مران أكبر من أن توصف، إذ أن جميعهم أطفالاً ونساءاً لا حول لهم ولا قوة، ففي منطقة »فوط« والتي تقع خلف جبل الحكمي وتمثِّل سهلاً أخضراً يقطن الكثير من النازحين من مران فيها من قبل وأثناء الحرب.
ونظراً للحالة المعيشية التي يعيشها الشعب اليمني برمته جعلت المأساة تزداد، فالعدد الافتراضي والطاقة الاستيعابية للأسر مثلاً ثمانية أفراد فكيف عندما يصبحون أربعين فرداً؟! لا تكاد تجد أسرة إلاَّ وفيه أسرة -على الأقل -نازحة ناهيكم عن البيوت التي فيها أكثر من خمس أسر مما دفع بالبعض اللجوء إلى المدارس كما هو الحال في مدرسة السلام التي لا تحمل معنى لاسمها، فالشيوخ والنساء والأطفال متزاحمون على فصولها ولا يمتلكون قوت يومهم ولا تكاد تجد مع كل ثلاثة أفراد بطانية واحدة لحافاً وفراشاً وكأنك تشاهد مخيماً في جنين، كما صرح بذلك أحدهم وقال: كل الأسرة لا توجد لدينا سوى بطانيتين اشتريناها من العسكري -أحد وجهاء منطقة »فوط« عبدالله صغير قال: جلبت كيس حب لإحدى الأسر فلم يناموا طوال الليل من الفرحة، ثم قال: السبب الذي جعل الحرب تتوسع أنهم سمحوا لـ»المتفيِّدين« بالنهب والسطو على ممتلكات الآخرين وخاصة من نزح منهم.. مما جعل الكثير ممن لم يكن مقاوماً يقاوم مع السيد حمية على حقه وعرضه وتساءل عن مصير اللاجئين وإلى متى سيستمروا خاصة أن بعضهم قد دمروا بيته بالكامل.
- تناولنا عنده وجبة الغداء ومعه في بيته اسرتان نازحتان وكان معنا شيخان كبيران قال الأول: ولدي ضائع من بداية الحرب والله أعلم حي أو ميت، ثم أجهش وخنقته الغصة واكتفى بالسكوت والنظر إلى الأرض، أما الآخر والذي يبلغ من العمر »٦٧« عاماً قال: والله إن هذا ثالث بيت نجلس فيه »كلما ضاقن خرجنا«.
- خمسة أطفال نازحين قالوا إن والدهم في مران لا يقاتل لكن يحرس البيت من »المتفيدين« ومن المقاومين لا يدخلوه لأن الدولة ستدمره وعددنا هانا »٨٢« فرد ثم تساءل الطفل هل عاد في مدارس موجودة من أجل يدرسوا أم قد دمرت؟!.
- أما في »جبل الحكمي« وبالتحديد منطقة »المجازين« فإن المأساة لا تقل عن »فوط« وما أصعبه من موقف عندما لحق سيارتنا ثلاثة أطفال من جانب بيتهم المدمر بعضه وهم يصيحون »أدّوا لنا غداء«..
- تجد آثار الحرب والدمار موجوداً على البيوت الممتدة على سفح جبل الحكمي وبعضها مدمر بالكامل كما في قرية »الجميمة« التي أصبحت أطلالاً بعد أثر.. في بيت واحد تقطن خمس عشرة أسرة أطفالاً ونساءاً إن وجدوا وجبة الغداء فلا أمل لهم في وجود العشاء وهكذا.
- أخبرونا ببيت دمروه على من يسكن فيه وصاحبه ليس من المقاومين إنما اشتبه الجنود في أن الضرب من داخل بيته فقصفوه حتى أحرقوا الفراش وكل ما يملك وهو الآن يسكن »الحر«.
- كانت هناك امرأة تحمل الماء على رأسها إلى بيتها فأصابتها قذيفة مدفع إليها مباشرة -كما قال شهود عيان -قطَّعت تلك المرأة لكي يبقى أطفالها عطشى ينتظرون.
- شاب آخر تزوج ولم يمض عليه سوى ثلاثة أيام من زواجه أصابت بيته ثلاث قذائف أو أكثر فارق على إثرها) . عروسه بعد أن أصيبت هي وبقية الأسرة.
تشاهد النساء والأطفال مجتمعين ليس لهم حديث إلاَّ تذكر من فقدوهم والمأساة أكبر من أن توصف حتى يحكم عليك كزائر وعليهم كسكان بالسكوت وعدم الابتسامة وقلة الحديث لكثرة الذكريات.. وإن أرجعت المسمى إلى أصله لكان »مُران« بالضم تثنية لمُر فأبناء مران يواجهون مرين مر الحرمان من أساسيات الحياة ومر البؤس والمأساة التي تلقونها.
تعليق