[grade="2E8B57 00008B 8B0000 4B0082"]
رسالة موجزة تتناول تاريخ الشيعة الاِمامية، ويبيّن نشأتهم وعقائدهم ومنهجهم الفقهي والتراث العلمي الذي تركوه، إلى غير ذلك ممّا يمتّ لهم بصلة.
إنّ المذهب الشيعي الإِمامي يقوم على دعامتين:
ـ الأصول التي يتبنّاها في مجال العقيدة.
2ـ الشريعة التي يقرّرها دستوراً لجوانب الحياة كافة.
وليس المذهب الشيعي مذهباً فقهياً بحتاً كالمذاهب الأربعة، وإنّما هو منهج متكامل يغذِّي الإنسان فكراً وعملاً، وعلى ضوء ذلك فلا محيص عن دراسة المذهب من جانبين:
أحدهما: يتعلّق بالأصول.
والآخر بالفروع.
وإليك الكلام في الجانب الأول.
تمهيد:
الشيعة لغةً واصطلاحاً وتاريخاً
الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايعَ القومُ: إذا تعاونوا، وربّما يُطلق على مطلق التابع، قال تعالى: (وإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْراهيمَ * إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[سورة الصافات: الآية 83 ـ 84].
وأمّا اصطلاحاً فتطلق على من يشايع علياً والأئمة من بعده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول (صلّى اللّه عليه وآله)، نصبهم لهذا المقام بأمرٍ من اللّه سبحانه.
فالتشيّع عبارة عن استمرار قيادة النبي (صلّى اللّه عليه وآله) بعد وفاته، بمن نصَبه للناس إماماً وقائداً للأمّة.
وأمّا تاريخاً فالشيعة هم ثلّة من المسلمين الأوائل الذين عاصروا الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) وآزروه وعاضدوه في مواقف عصيبة، فلمّا مضى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى انطووا تحت قيادة الإمام عليّ (عليه السّلام) وأولاده باعتباره الممثل الشرعي للخلافة والمنصوص عليه من قبل النبي (صلّى اللّه عليه وآله).
فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، ولا أَنّ الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاة النبي (صلّى اللّه عليه وآله).
وليس للتشيع تاريخ وراء تاريخ الإسلام، ولا للشيعة أُصول سوى أنّهم رهط من المسلمين الأوائل في عصر الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ومن جاء بعدهم عبر القرون، كل ذلك يعلم من خلال التحليلات التي ستمرّ عليك.
تسمية التشيّع:
إنّ الآثار المروية على لسان النبي (صلّى اللّه عليه وآله) تكشف اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف ثلة من المهاجرين والأنصار حول الإمام عليّ في حياة الرسول وكانوا معروفين بشيعة علي، وانّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) سمّاهم الشيعة ووصفهم بأنّهم الفائزون، وإليك بعض ما روي مقتصراً بالقليل من الكثير:
1ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي (صلّى اللّه عليه وآله) فأقبل عليّ، فقال (صلّى اللّه عليه وآله): والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت: (إنَّ الَّذِينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْـرُ البَـرِيَّة)[سورة البيّنة: الآية 7]، فكان أصحاب النبي (صلّى اللّه عليه وآله) إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البرية(1)
2ـ أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لمّا نزلت: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريَّة) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لعليّ (عليه السّلام): هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين(2)
وعلى ضوء هذه التسمية غلب لفظ الشيعة على من يشايع علياً في كلمات غير واحد من المؤرخين.
3ـ قال المسعودي في حوادث وفاة النبي (صلّى اللّه عليه وآله): إنّ الإمام علياً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر(3).
4ـ وقال النوبختي: إنّ أوّل فرق الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون شيعة عليّ في زمان النبي وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(4).
5ـ وقال الإمام أبو الحسن الأشعري: إنّما قيل لهم الشيعة لأنّهم شايعوا علياً وقدّموه على سائر أصحاب رسول اللّه(5).
6ـ يقول الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا علياً على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية(6).
7ـ وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً(7).
جاءت دعوته (صلّى اللّه عليه وآله) إلى التشيّع متزامنة مع دعوته للرسالة، فقد بذر التشيع حال حياته في غير موقف من مواقفه الحاسمة، وإليك نماذج منها:
1ـ حديث يوم الدار الذي جمع فيه أكابر بني هاشم وعشيرته وعرض عليهم رسالته، وقال: إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فلم يقم أحد إلاّ عليّ، فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا(8).
2ـ حديث المنزلة أعني قوله: (أما ترضى (مخاطباً علياً) أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)(9).
3ـ حديث الغدير الذي ورد في مصادر كثيرة ومتنوعة.
إنّ هذه الأحاديث وغيرها الناصّة على إمامة علي (عليه السّلام) وخلافته بعد النبي (صلّى اللّه عليه وآله) توقفنا على أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي بذر بذرة التشيع حال حياته وألفت أنظار المهاجرين والأنصار إلى قيادة عليّ (عليه السّلام) للأمة بعد رحيله (صلّى اللّه عليه وآله)، مضافاً إلى ما صدر على لسانه (صلّى اللّه عليه وآله) من الفضائل والمناقب لعلي وعترته حيث صار سبباً لاستقطاب الناس حوله في حال حياته (صلّى اللّه عليه وآله) وبعد رحيله.
هذا، وقد تزامنت دعوته (صلّى اللّه عليه وآله) للرسالة، دعوته للإمامة دون أن يكون بينهما سبق ولحوق.
وهو ما عبّرنا عنه أَنّ التشيع ليس ظاهرة طارئة، ولا الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاته (صلّى اللّه عليه وآله)، بل إنّ الإِسلام والتشيع وجهان لعملة واحدة.
وإليك أسماء مجموعة من روّاد الشيعة في عصر النبي (صلّى اللّه عليه وآله):
لمّا كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) هو الباذر الأوّل للتشيّع في عصره، فقد التفّ حول الإمام عليّ (عليه السّلام) مجموعة من المهاجرين والأنصار في عصره صلوات اللّه عليه وبعد رحيله، وناصروه في مواقف عديدة وعُرفوا بشيعة عليّ، ولأجل مرافقة المدعى بالدليل نذكر هنا أسماء روّاد التشيع من الصحابة في صدر الإسلام:
1ـ عبد اللّه بن عباس. 2ـ الفضل بن العباس. 3ـ قثم بن العباس. 4ـ عبد الرحمان بن العباس. 5ـ تمام بن العباس. 6ـ عقيل بن أبي طالب. 7ـ أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 8 ـ نوفل بن الحرث. 9ـ عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب. 10ـ عون بن جعفر.
11ـ محمد بن جعفر. 12ـ ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. 13ـ الطفيل بن الحرث. 14ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث. 15ـ عبد اللّه بن الحرث بن نوفل. 16ـ عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحرث. 17ـ العباس بن ربيعة بن الحرث. 18ـ العباس بن عتبة بن أبي لهب. 19ـ عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث. 20ـ جعفر بن أبي سفيان بن الحرث. هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:
21ـ سلمان المحمدي. 22ـ المقداد بن الأسود الكندي. 23ـ أبو ذر الغفاري. 24ـ عمار بن ياسر. 25ـ حذيفة بن اليمان. 26ـ خزيمة بن ثابت. 27ـ أبو أيوب الأنصاري (مضيّف النبي (صلّى اللّه عليه وآله)). 28ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان. 29ـ أُبي بن كعب. 30ـ قيس بن سعد بن عبادة. 31ـ عدي بن حاتم. 32ـ عبادة بن الصامت. 33ـ بلال بن رباح الحبشي. 34ـ أبو رافع مولى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله). 35ـ هاشم بن عتبة. 36ـ عثمان بن حنيف. 37ـ سهل بن حنيف. 38ـ حكيم بن جبلة العبدي. 39ـ خالد بن سعيد بن العاص. 40ـ بريدة بن الحصيب الأسلمي. 41ـ هند بن أبي هالة التميمي. 42ـ جعدة بن هبيرة. 43ـ حجر بن عدي الكندي. 44ـ عمرو بن الحمق الخزاعي. 45ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري. 46ـ محمد بن أبي بكر. 47ـ أبان بن سعيد بن العاص. 48ـ أُم سلمة زوج النبي (صلّى اللّه عليه وآله). 49ـ أُم هاني بنت أبي طالب. 50ـ أسماء بنت عميس.
هؤلاء خمسون صحابياً من روّاد الشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال.
قال محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام): عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) مثل: سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له، ومثل: أبي سعيد الخدري الذي يقول: أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولما سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، فقيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب، قيل له: وإِنّها لمفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن، ومثل: أبي ذر الغفاري، وعمّـار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة(10).
وبذلك يستغني القارئ عن الافتراضات الوهمية التي أبداها لفيف من المستشرقين تبعاً لما ورد على لسان بعض الباحثين من أُسطورة عبد اللّه بن سبأ التي حاكها سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع(11)
هذا هو معنى الشيعة لغة واصطلاحاً وتاريخاً ذكرناه بصورة موجزة والتفصيل يطلب من الكتب المعدّة لهذا الغرض.
وأمّا دراسة عقائد الشيعة ومنهجهم الفقهي فتتمّ ضمن الفصول التالية:
الأول: الشيعة والتوحيد.
الثاني: الشيعة والعدل.
الثالث: الشيعة والنبوّة.
الرابع: الشيعة والمعاد.
الخامس: الشيعة والإمامة والخلافة.
السادس: الشيعة والمنهج الفقهي.
السابع: الشيعة والتراث الفكري.
أولاً: الشيعة والتوحيد:
الشيعة تصف اللّه سبحانه كما وصف به نفسه ويقول: (قُل هوَ اللّهُ أحدٌ * اللّهُ الصَّمدُ * لَم يلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أحَد).
وتصفه بأنّه سبحانه قديم لم يزل ولا يزال، عالم قادر، حيّ قيّوم، سميع بصير، متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدّين: حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه، لا يجوز تعطيل ذاته عن صفاته كما لا يجوز تشبيه ذاته بمخلوقاته.
تعتقد الشيعة في توحيده ما كتبه الإمام الرضا (عليه السّلام) للمأمون العباسي، حيث سأله المأمون أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار.
فكتب (عليه السّلام) له: (إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً فرداً، صمداً، قيوماً، سميعاً بصيراً، قديراً قديماً قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلاً لا يجور وأنّه خالق كلّ شيء، وليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ له، ولا ندّ له، ولا كفو له، وأنّه المقصود بالعبادة والدعاء، والرغبة والرهبة)(12)
وقد عرض عبد العظيم الحسني عقيدته على الإمام الهادي علي بن محمد النقي (عليهم السّلام) فقال له: يا بن رسول اللّه، إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً ثبتُّ عليه حتى ألقى اللّه عزّ وجلّ.
فقال (عليه السّلام): هاتها.
فقلت: إنّي أقول إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه(13)
هذه عقيدة الشيعة في توحيده وتنزيهه، والقارئ إذا رجع إلى الكتب الكلامية والعقائدية التي أُلّفت بيد علماء الشيعة منذ أوائل القرن الثالث إلى العصر الحاضر يرى اتّفاقهم على ما ذكرنا، وقد اخترنا لك نصّين:
أحدهما: للرضا (عليه السّلام) الإمام الثامن للشيعة الإمامية (148 ـ 203 هـ).
وثانيهما: للإمام الهادي الإمام العاشر (232 ـ 254 هـ) فقد أمضى ما ذكره عبد العظيم الحسني عليه.
اخترنا هذين النصّين ليُعلم أنّ الشيعة أهل التنزيه منذ عهدٍ مبكّر، ومع ذلك كلّه فقد قسّم علماء الشيعة التوحيد إلى مراتب ودرجات نذكرها على وجه الإيجاز.
1ـ التوحيد الذاتي: واحد لا نظير له.
2ـ التوحيد الذاتي أيضاً: بسيط ليس بمركب.
3ـ التوحيد الأفعالي: إنّه لا خالق في الكون إلاّ هو.
4ـ التوحيد التدبيري: إنّه لا مدبّر للكون إلاّ هو.
5ـ التوحيد العبادي: لا معبود سواه.
ثم إنّ هناك مراتب للتوحيد ذكرها علماء الشيعة في كتبهم الكلامية واستنبطوها من القرآن الكريم وأحاديث العترة الطاهرة، وهي:
6ـ التوحيد في التقنين والتشريع: إنّه لا مقنّن ولا مشرّع إلاّ هو، وليس لأحد حقّ التشريع.
7ـ التوحيد في الطاعة: إنّه لا مطاع بالذات إلاّ هو ، ولو وجبت إطاعة النبي والإمام فإنّما هي بأمره سبحانه.
8ـ التوحيد في الحاكمية: لا حاكم إلاّ هو، وانّه ليس لأحد أن يحكم إلاّ بإذنه سبحانه.
9ـ التوحيد في الشفاعة: والمراد أنَّ الشفاعة حقّ للّه سبحانه، و لا يشفع لأحد إلاّ بإذنه (ولا يَشفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضى)[سورة الأنبياء: الآية 28].
10ـ التوحيد في الاستعانة: وانّه لا يستعان إلاّ به، ولو استعان بغيره بزعم أنّه يقوم بالإعانة مستقلاً فهو مشرك، ولو استعان بغيره معتقداً بأنّه معين بحول وقوّة منه سبحانه فهو عين التوحيد.
11ـ التوحيد في المغفرة: وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ هو.
12ـ التوحيد في الرازقية: وإنّه لا رازق إلاّ هو.
هذه مراتب التوحيد الاثنا عشر التي يتفقون فيها مع إخوانهم أهل السنّة لاسيما الأشاعرة .
نعم هناك مرتبة من التوحيد تختص بالشيعة الاِمامية يختلفون فيها عن سائر الفرق والطوائف الإسلامية وهي:
التوحيد في الصفات: والمراد به أنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة عين ذاته لا زائدة على الذات وإلاّ يلزم تعدد القدماء الثمانية ـ وهي مسألة كلامية خاض فيها عباقرة علم الكلام ـ خلافاً للأشاعرة القائلين بزيادة الصفات على الذات.
وهناك مصطلح كلامي وهو الصفات الخبرية والمقصود منها هي الصفات التي أخبر بها القرآن الكريم وأثبتها الوحي للّه سبحانه كعين اللّه، ويد اللّه، واستوائه على العرش، وما ماثلها، والمسلمون فيها على أقوال: فمن معطِّل يفوِّض تفسير هذه الآيات والصفات إلى اللّه تبارك وتعالى، إلى مجسِّم يفسّرها بالمعاني اللغوية من دون أن يجعلها ذريعة إلى المعاني المجازية، إلى مؤوّل يؤوّلها إلى معاني تجتمع مع تنزيهه.
والشيعة الاِمامية تحملها على المعاني اللغوية ولكن تجعلها كناية عن المفاهيم العالية، ولا ترى ذلك تأويلاً، فإنّ كلام العرب مشحون بالمجاز فاليد في قوله سبحانه: (يَدُ اللّهِ فَوقَ أيْدِيهم)[سورة الفتح: الآية 10]، مستعملة في نفس المعنى اللغوي لكن كناية عن سعة قدرته، وهو أمر رائج بين البلغاء ولا يعدّ تأويلاً.
ثم إنّ توحيده سبحانه بكونه الخالق والمدبّر لا يعني سلب التأثير عن العوامل الطبيعية والجنود الغيبية للربّ، فإنّ سلب التأثير الظلي والتبعي عن كل موجود سوى اللّه، يردّه الذكر الحكيم بقوله سبحانه: (وَأنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)[سورة البقرة: الآية 22].
وعلى ضوء ذلك فالماء يروي العطشان، كما أنّ الخبز يشبعُ الجائع، والماء ينبت النبت والزرع، لكن بأثر مودع فيه من جانب خالقه، فالقول بتأثيره في ظل إرادته سبحانه وأمره عَيْـن التوحيد الذي دعا إليه الذكر الحكيم.
ومن أراد أن يفسّر التوحيد في الخالقية والتدبير، بسلب الأثر عن كل موجود سواه، فقد خالف القرآن والوجدان الصريح ووقع في متاهات الجبر الذي سيوافيك بطلانه في الفصل الثاني.
تقسيم صفاته إلى ذاتي وفعلي:
إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي قائم بذاته، وفعليّ يعدّ وصفاً لفعله، والميزان في تمييز الصفات الذاتية عن الفعلية هو أنّ القسم الأول لا يقبل السلب والإيجاب، بخلاف الثاني ولذلك لا يصحّ أن يقال اللّه يعلم ولا يعلم، أو يقدر ولا يقدر، بخلاف الرزق فيصدق إنّه يرزق ولا يرزق ولذلك تعتقد الشيعة بأنّ من صفاته الفعلية كونه متكلّماً فالتكلّم صفة من صفاته الفعلية بالشرح التالي:
في تكلمه سبحانه:
اتفقت الشيعة على انّه سبحانه متكلّم، ولكن التكلّم عندهم من صفات الأفعال ويفسّر كونه متكلماً بأمرين.
الأوّل: إنّ كل ما في الكون كلام اللّه سبحانه، فكما أنّ الكلمة تعرب عمّـا يقوم في نفس المتكلّم من المعاني فكذلك كل ما في الكون يُعرب عن حكمته وعلمه وقدرته الواسعة قال سبحانه: (وَلَوْ أنَّما في الأرضِ مِنْ شَجَرةٍ أقلامٌ والبَحرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبعةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ)[سورة لقمان: الآية 27].
قال عليّ (عليه السّلام): يقولُ لِمَنْ أراد كونه: (كُن فيكون)، لا بِصَوتٍ يَقرَعُ، ولا بِنِداءٍ يُسمَعُ، وإنّما كلامُه سبحانه فِعلٌ منه أنشأَهُ ومثَّلَه، لم يكن من قبلِ ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً(14).
فكل ما في صحيفة الوجود من الموجودات الإمكانية، كلماته وتخبر عما في خالقها من كمال وجمال، وعلم وقدرة.
الثاني: إنّه سبحانه يخلق الحروف المنظومة والأصوات المقطّعة، يسمعها نبيّه ورسوله أو يرسل رسولاً فيبلّغه آياته، أو يلقي في روع النبي، وإلى هذه الأقسام الثلاثة يشير سبحانه، بقوله: (وما كانَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحياً أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ أو يُرسِلَ رَسُولاً فَيوحيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[سورة الشورى: الآية 51].
وقد بيّن تعالى أن تكلّمه مع الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:
1ـ (إلاّ وحياً).
2ـ (أو من وراء حجاب).
3ـ (أو يرسل رسولاً).
فقد أشار بقوله: (إلاّ وحياً) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.
كما أشار بقوله: (أو من وراء حجاب) إلى الكلام المسموع لموسى (عليه السّلام) في البقعة المباركة. قال تعالى: (فَلَمّا أتاها نُوديَ مِن شاطِئ الوادِ الأيمَنِ في البُقعَةِ المُباركَةِ مِنَ الشَّجَرةِ أنْ يا مُوسى إنّي أنا اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ)[سورة القصص: الآية 30].
وأشار بقوله: (أو يُرسل رسولاً) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: (نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأمينُ * على قَلْبِكَ)[سورة الشعراء: الآية 193ـ 194] ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه، تارة بلا واسطة، بالإلقاء في الروع، وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يُسمَع الصوت ولا يُرى المتكلم وذلك بخلق الأصوات والحروف، وثالثة بواسطة الرسول (أمين الوحي جبرائيل)، فهذه الأقسام الثلاثة الواردة في الآية المباركة.
إنّ موقف أئمّة أهل البيت في مسألة خلق القرآن وقدمه هو الموقف الإيجابي وإنّهم كانوا يرون القرآن حادثاً لا قديماً وإلاّ يلزم أن يكون القرآن إلهاً ثانياً.
وأمّا انّه مخلوق فلو أُريد انّه مختلق فهو أمر باطل شبيه قول الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن عنه: (إنْ هذا إلاّ قَولُ البَشَرِ)[سورة المدثر: الآية 25].
وإن أُريد انّه مخلوق للّه، وهو منزِّله وهو نفس المطلوب، وقد سئل الإمام الصادق (عليه السّلام) عن واقع القرآن فقال: هو كلام اللّه، وقول اللّه، وكتاب اللّه، ووحي اللّه وتنزيله، وهذا الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(15).
ومن هنا يعلم أنّ مسألة خلق القرآن كانت فتنة ابتلي بها المسلمون في عصر المأمون واستغلتها النصارى لصالحهم، وأوجدت فجوة عميقة بين المسلمين وكان النزاع نزاعاً بلا ثمر.
تقسيم صفاته إلى ثبوتية وسلبية:
إنّ المتكلّمين قسّموا صفاته سبحانه إلى ثبوتية وسلبية وقد بسطوا القول فيها ومن جملتها انّه سبحانه:
1ـ ليس بجسم.
2ـ ليس في جهة.
3ـ ليس في محل.
4ـ ليس حالاًّ في شيء ولا متّحداً مع غيره.
إلى غير ذلك من الصفات السلبية التي مرجعها إلى سلب النقائص عن ذاته سبحانه لأنّه الكمال المطلق.
وأمّا روَيته سبحانه فقد اتفق المسلمون على أنّه سبحانه لا يُرى في الدنيا وإنّما اختلفوا في روَيته في الآخرة.
روَيته تعالى في الآخرة:
ذهبت الشيعة الاِمامية تبعاً للذكر الحكيم وما جاء في خطب الإمام أمير المؤمنين إلى امتناع روَيته، قال سبحانه: (لا تُدرِكُهُ الأبْصارُ وهوَ يُدرِكُ الأبْصارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ)[سورة الأنعام: الآية 103].
وقال الإمام عليّ (عليه السّلام) في وصفه سبحانه: الأوّل الذي لم يكن له قبل، فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسيَّ الأبصارِ عن أن تنالَهُ أو تُدركَه(16).
وفي خطبة أُخرى: الحمد للّه الذي لا تُدركُه الشواهدُ، ولا تَحويه المشاهدُ، ولا تَراه النواظرُ، ولا تحجُبُه السواتِرُ(17).
وفي كلامه لذعلب اليماني عندما قال له: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السّلام): (أفَ أعبد ما لا أرى؟) فقال: وكيف تراه؟ فقال: (لا تدركه العيون بمشاهدةِ العِيانِ، لكن تدركه القلوبُ بحقائقِ الإيمانِ، قريبٌ من الأشياءِ، غيرَ ملابِس، بعيدٌ منها غيرَ مُباين)(18).
وأمّا ما يستدل به على جواز الرؤية في الآخرة فليس بتامّ، وقد استدلّ القائلون بجوازها قديماً وحديثاً بقوله سبحانه: (وُجوهٌ يَومئذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرةٌ * وَوُجُوهٌ يَومَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرةٌ)[سورة القيامة: الآية 22 ـ 25].
والدقة في الآيات الأربع توقفنا على أنّ المراد بالنظر هو انتظار الرحمة وذلك لوجهين:
1ـ إنّه سبحانه: يسنِد النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد من النظر هو الرؤية كان اللازم أن يقول مكان (الوجوه): العيون.
2ـ إنّ مقابلة بعض الآيات ببعض يرفع الإبهام عن قوله: (إلى ربّها ناظرة) ويتعيّن كونه بمعنى انتظار الرحمة وذلك بالشكل التالي:
أ ـ (وجوه يومئذ ناظرة) يقابلها قوله: (وجوه يومئذ باسرة).
ب ـ (إلى ربّها ناظرة) يقابلها قوله: (تظنّ أنْ يُفعل بها فاقرة).
لا شك أنّ الفقرتين الأوليتين واضحتان جداً، وإنّما الكلام في الفقرة الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابل الثالثة، بحكم أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.
وبما أنّ المراد من الفقرة الرابعة هو توقّع العذاب الكاسر للفقار، والقاصم للظهر يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الفقرة الثالثة ضدّ ذلك وليس هو إلاّ انتظار فضله سبحانه وكرمه.
على أنّه نسأل من يدّعي إمكان الرؤية للّه سبحانه في الآخرة، هل الرؤية تتعلّق بكل ذاته أو ببعضه؟ فإن تعلّقت بالجميع يكون سبحانه محاطاً مع أنّه جلّ جلاله محيط.
وإن تعلّقت بالبعض فصار ذات أجزاء وأبعاض تعالى عن التركيب.
وأمّا ما ورد في الروايات حول الرؤية فكلّها أخبار آحاد لا تثبت بها العقيدة خصوصاً إذا كانت مضادّة للذكر الحكيم والعقل السليم، على أنّ في سند البعض ضعفاً.
هذا إجمال القول في توحيده وصفاته الذاتية والفعلية، والإيجابية والسلبية.
نتيجة البحث:
وقد خرجنا من هذا البحث بالنتيجة التالية:
إنّ المسلمين متّفقون جميعاً على توحيده وتنزيهه ووصفه بالكمال، وإنّما تختلف الشيعة عن أهل السنّة في المسائل الكلامية التالية:
أ ـ إنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة عين ذاته وجوداً وتحققاً وإن كانت غيره مفهوماً، وذلك لئلاّ يلزم تعدّد القدماء خلافاً للأشاعرة حيث قالوا بزيادة الأوصاف على الذات، ولو أرادت الأشاعرة المغايرة والزيادة مفهوماً، لا تحققاً وخارجاً يصبح النزاع لفظياً، ولو أرادت المغايرة خارجاً وعيناً يلزم تعدد القدماء، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
ب ـ إنّ التكلم من صفاته الفعلية كالرزق والمغفرة والرحمة خلافاً للأشاعرة حيث فسّـروه بالكلام النفسي القائم بذاته.
ج ـ إنّه سبحانه منزّه عن الرؤية في الدنيا والآخرة خلافاً لأهل السنّة حيث قالوا بجوازها في الآخرة.
ثانياً: الشيعة والعدل:
اتّفق المسلمون على أنّه سبحانه عادل لا يجور، غير إنّ الشيعة اعتمدت في حكمها هذا على البرهان العقلي كما سيوافيك بيانه، واعتمدت السنّةُ في وصفه بالعدل على السمع، حيث يصفه القرآن الكريم بكونه قائماً بالقسط، قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أنَّهُ لا إلهَ إلأ هُوَ والمَلائِكَةُ وأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ)[سورة آل عنران: الآية 18].
والاختلاف في مصدر عدله نابع عن الاختلاف في مسألة أُخرى وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين أو الشرعيين، فذهبت الشيعة الاِمامية إلى أنّ العقل قادر على أن يدرك حسنَ الأفعال وقبحها، ويستقلَّ بالبعث إلى الفعل الحسن، والزجرِ عن الفعل القبيح، كالعدل والظلم فكل إنسان إذا جرّد نفسه عن كل شيء يرى في صميم ذاته حسنَ الأول وقبحَ الثاني، ومثله مجازاة الإحسان بالإحسان أو بالسوء، والعمل بالميثاق ونقضه فيستقلّ بحسن الأوليين وقبح الأخيرين ولأجله قالوا بأنّ التحسين والتقبيح عقليان لا شرعيان.
ولو حكم الشارع بحسن شيء أو قبحه فقد حكم العقل به قبله، لأنّه رسول باطني، وحكم الشرع مؤكّد لحكم العقل وليس حكماً تأسيسياً.
هذا هو موقف الشيعة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين وعلى ذلك بنت أُصولاً كلامية لا تقبل النقاش، وإليك تلك الأصول:
1ـ لا جبر ولا تفويض:
طرحت مسألة الجبر والتفويض في أواسط القرن الأوّل بين المسلمين فصاروا إلى أقوال وأوجدت فجوة سحيقة بين المسلمين ولم تزل آثارها إلى يومنا هذا.
فمن قائل بالجبر وانّه سبحانه هو الخالق لفعل الإنسان والموجد له وليس للإنسان أيّ دور في أفعاله وأعماله، وإنّما هو ظرف لظهور إرادته سبحانه في أعماله وأفعاله.
وإنّما ذهب القائل إلى هذا القول لأجل أنّه فسّر التوحيد بالخالقية بالمعنى الباطل وزعم أنّ معناه سلب الأثر عن العلل والعوامل الطبيعية، وعند ذاك يتجلّى الإنسان في مجال الأفعال كالظرف ليس له دور ولا تأثير في أفعاله وأعماله.
ولا شك أنّ تفسير التوحيد بالخالقية بهذا المعنى باطل، لما عرفت من تصريح الذكر الحكيم بدور العلل الطبيعية في نمو الأزهار والأشجار ـ مضافاً إلى أنّ القول بالجبر ينافي عدله سبحانه ـ فكيف يكون هو الخالق لعمل الإنسان ولا يكون له دور فيه، لكن هو المسؤول عن العمل؟!
إنّ للقول بالجبر سبباً آخر وهو تفسير القضاء والقدر ـ الذي لا غبار في صحتهما ـ بالمعنى السالب للاختيار عن الإنسان، وسيوافيك أنّ القضاء والقدر حقّ ولكنّهما لا يسلبان الاختيار عن الإنسان.
فهذا وذاك صارا سببين لنشوء القول بالجبر بين كثير من المسلمين حيث صيّرهم مكتوفي الأيدي أمام الحوادث والطوارئ.
فكما أنّ الجبر يخالف عدله سبحانه فكذلك التفويض ينافي توحيده، لأنّ معنى القول بالتفويض كون الإنسان مستقلاً في فعله وعمله عن اللّه سبحانه، وبذلك يصبح العمل إلهاً ثانياً لاستغنائه عن اللّه، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن الجمع بين فقر الإنسان في ذاته، وغناه في فعله عنه مع أنّ الفعل أثر الذات، والفعل متوقّف على ذات الفاعل وهو الواجب مفيض الوجود، فيكون الفعل ـ بالتالي ـ متوقفاً على الواجب؟
والصحيح أنّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ومعناه أنّ الإنسان في فعله يعتمد على قدرته سبحانه ومواهبه فبذلك يكون للواجب دور في عمله، وبما أنّه إنسان موجود مختار في أعمال القدرة والسلطنة في أيّ جانب من جوانب حياته، يكون هو المسؤول عن عمله لا غيره فالعمل نتاج المواهب الإلهية وإعمال السلطنة من ناحية العبد. ولتقريب ذلك المعنى أمثلة كثيرة مسطورة في الكتب الكلامية.
2ـ التكليف بما لا يُطاق أمر غير جائز:
إذا قلنا بأنّه سبحانه عادل لا يجور فلا يصحّ على الحكيم تكليف العبد فوق قدرته، وقولنا إنّه لا يصحّ للّه سبحانه ذلك النوع من التكليف لا يعني تحكيم فكرتنا وإرادتنا على اللّه سبحانه بل معناه إنّا نستكشف من التدبر في صفاته سبحانه وهو كونه حكيماً لا يعبث، وعادلاً لا يجور، إنّه لا يكلّف إنساناً إلاّ بما في وسعه وقدرته، قال سبحانه: (لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها)[سورة البقرة: الآية 286].
3ـ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض:
اتفقت الشيعة ـ بما أنّه سبحانه حكيم لا يعبث ـ على أنّ أفعاله معلّلة بالأغراض، ومعنى ذلك أنّ فعله لا ينفكّ عن الغرض، وليس الغرض غرضاً للفاعل وإنّما هو غرض لنفس الفعل، وكم فرق بين كون الغرض عائداً إلى الفاعل، وبين كون الفعل غير خال عن الغرض، ومقتضى الحكمة هو الثاني، أي عدم خلو فعله عن الغرض، ومقتضى غناه وكماله المطلق عدم عود الغرض إلى الفاعل.
وأظنّ أنّ النزاع بين الشيعة وأهل السنّة لفظيّ، فإنّ أهل السنّة ينفون أن يكون له سبحانه غرض في فعله يستكمل به ذاته والشيعة أيضاً يوافقونهم على ذلك ويقولون بأنّه سبحانه هو فوق الكمال ومن هو بهذه المكانة أسمى من أن يطلب غرضاً يستكمل به.
ولكنّ الشيعة تعتقد أنّ الغرض لا ينحصر بالغرض العائد إلى الفاعل بل هناك قسم آخر يخرج به الفعل عن العبثية ويضفي عليه وصف الحكمة ويكون غرضه سبحانه عائداً إلى المكلّفين، وهذا ما يتراءى من الذكر الحكيم في موارد مختلفة ويقول: (سَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّمواتِ وما في الأرض)[سورة لقمان: الآية 20].
فإنّ خلق السماوات والأرض لم يكن عبثاً، قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقناكُمْ عَبَثاً وأنَّكُمْ إلَينا لا تُرجَعُونَ)[سورة المؤمنون: الآية 115].
وقال سبحانه: (وما خَلَقْنا السَّمواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)[سورة الدخان: الآية 38].
4ـ القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار:
إنّ القضاء والقدر من المفاهيم الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة، قال سبحانه: (ما أصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرضِ ولا في أنْفُسِكُمْ إلاّ في كِتابٍ مِنْ قَبلِ أن نَبْـرأَها إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسيرٌ)[سورة الحديد: الآية 22].
وفي السنّة النبوية وأحاديث العترة الطاهرة تصريحات بالقضاء والقدر، وهذا ممّا اتّفق عليه المسلمون وإنّما الكلام في تفسيرهما.
إنّ اليهود ممّن غالت في التقدير حتى جعلته إلهاً ثانياً إلى حدٍّ ليس للّه سبحانه تغيير قضائه وقدره، يقول سبحانه حاكياً عنهم: (وقالَتِ اليَهودُ يَدُ اللّهِ مَغلولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاءُ ...)[سورة المائدة: الآية 64].
فَمن أراد تفسير القضاء والقدر على نحو يسلبان الاختيار عن الإنسان فقد وقع في متاهات الجبر فالإيمان بالقضاء والقدر يجب أن يكون بنحوٍ لا يسلب عن الإنسان اختياره قال سبحانه: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُوَْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[سورة الكهف: الآية 29]. وقال سبحانه: (إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً)[سورة الإنسان: الآية 3].
إنّ تقديره وقضاءه سبحانه يختلف حسب اختلاف الفاعل، فلو كان الفاعل فاعلاً موجَباً كالنار بالنسبة إلى الحرارة، وسقوط الحجر على الأرض فقد قدَّر وقضى بصدور الفعل عن الفاعل عن جبر واضطرار، وأمّا إذا كان الفاعل فاعلاً مختاراً ومسؤولاً أمام اللّه فقد قدَّر وقضى على صدور فعله منه عن إرادة واختيار.
فالتقدير والقضاء عند الشيعة يخالفان الجبر ويؤيدان الاختيار قال سبحانه: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَركْتُموها قائِمةً على أُصُولِها فَبإِذنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ)[سورة الحشر: الآية 5].
5 ـ تعذيب البريء مخالف لعدله:
اتّفقت الشيعة على أنّه لا يجوز سبحانه أن يعذّب أطفال الكفّار يوم القيامة، وذلك أنّ تعذيبهم بغير جرم اقترفوه مخالف لعدله وحكمته.
وقد أشرنا أنّ قولنا (لا يجوز) أو (يجوز) لا يعني تحكيم إرادتنا وفكرتنا على اللّه سبحانه حتى يكون الواجب محكوماً بحكم البشر فإنّ ذلك باطل لا مرية فيه، ولكن المراد هو استكشاف حال الواجب من خلال أوصافه من كونه حكيماً عادلاً فنستكشف من هذين الوصفين أنّه لا يعذّب طفلاً بريئاً سواء أكان طفلاً لمسلم أم لكافر.
6ـ وجوب المعرفة:
اتّفقت الشيعة على لزوم معرفة اللّه سبحانه لزوماً عقلياً بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم وهو حسن، وفي تركها احتمال الوقوع في الضرر وهو قبيح.
نعم غير الشيعة لم تلتزم بلزوم معرفة اللّه إلاّ سمعاً ونقلاً، ولكن لم يتبيّن لنا كنه مرادهم فإنّ المفروض أنّ الشريعة بعد لم تثبت فكيف يثبت وجوب المعرفة بحكم الشريعة؟
7ـ لزوم تكليف العباد:
إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغاية التي خلق لها، وذلك يتحقق في مورد الإنسان بالتكليف.
8 ـ لزوم بعث الأنبياء:
إذا كان الإنسان لم يُخلق سُدى بل خلق لغاية، والغاية ممّا لا يدركها البشر بعقله العادي، ففي ذمّته سبحانه إرسال الرسل لهداية الناس إلى الغايات المنشودة وإلاّ يلزم أن يكون خلق الإنسان سُدى وعبث.
9ـ قاعدة اللطف:
إنّ قاعدة اللطف لها دور في الكلام الشيعي وتترتّب عليها قواعد وأحكام، وحاصلها أنّه إذا كان الغرض المترتب على التكليف لا يحصل إلاّ بفعل يقرّب العبد من الطاعة ويبعّده عن المعصية، كان على اللّه سبحانه القيام بذلك.
وبعبارة أُخرى كل ما هو دخيل في تحقق الرغبة إلى الطاعة والابتعاد عن التمرد والمعصية في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر يجب على اللّه سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو يقول سبحانه: (وبَلَوناهُمْ بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لَعلَّهُمْ يَرجِعُونَ)[سورة الأعراف: الآية 168]. وقال تعالى: (وما أرْسَلْنا في قَريَةٍ مِنْ نَبيٍّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبأْساءِ والضَّرَّاءِ لَعلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[سورة الأعراف: الآية 94].
فإنّ تعليل ابتلاء الناس بالسراء والضراء لرجاء رجوعهم للطاعة دليل على أنّ كل ما يكون سبباً للجوء الناس للطاعة كان عليه سبحانه أن يقوم به لأنّه مقتضى حكمته. والعقل يستقلّ بحسن ذلك.
10ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة:
يجب النظر في برهان المدعي إذا ادّعى مسألة تمتّ إلى الدين بصلة على وجه يعاقب الإنسان لو لم يعتقد بها أو اعتقد بالخلاف.
إنّ للتحسين والتقبيح العقليين دوراً عظيماً في المسائل الكلامية اقتصرنا على هذه النتائج القليلة ومن أراد التفصيل فعليه مراجعة الكتب الكلامية المطوّلة(19).
خاتمة المطاف:
وفي خاتمة هذا الفصل أود أن أطرح مسألتين لهما دويّ في الأوساط العلمية، والمسألتان هما عبارة عن القول بالبداء والتقية، فقد وقعا غرضاً للنبال وأخذ المخالف يعترض على الشيعة بالقول بهما غافلاً عن أنّ النزاع بين الطائفتين نزاع لفظي ولو وقف المخالف على الحقيقة، لتجاوب معها وإليك البيان:
البداء عند الشيعة:
البداء في اللّغة هو الظهور بعد الخفاء، قال سبحانه: (وبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ ما لَمْ يَكُونوا يَحْتَسِبونَ * وبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَستَهْزِءُونَ)[سورة الزمر: الآية 47 ـ 48].
والبداء بهذا المعنى، لا يطلق على اللّه تعالى بتاتاً، لاستلزامه حدوث علمه بعد جهله بالشيء، تعالى عمّـا يقول الظالمون.
وهذا هو الذي ينسبه متكلمو السنّة إلى الشيعة، وهم براء من تلك النسبة وإنّما أرادوا منه المعنى الثاني الآتي.
و هو أنّ تقديره سبحانه للحوادث على قسمين:
أ ـ تقدير قطعي وقضاء مبرم.
ب ـ تقدير معلّق وقضاء غير منجّز.
فأمّا القسم الأوّل: فلا يتسرّب إليه البداء لافتراض كونه تقديراً حتمياً وقضاءً مبرماً، وإنّما يتسرّب البداء إلى القسم الثاني وهو القضاء المعلق فهو يتغيّر إمّا بالأعمال الصالحة أو الطالحة قال سبحانه: (إنّ اللّه لا يُغيِّرُ ما بِقَومٍ حتّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهمْ)[سورة الرعد: الآية 11].
وقال سبحانه: (وَلَوْ أنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقوا لَفَتَحْنا عَلَيهِمْ بَركاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرضِ ولكنْ كَذَّبُوا فأخْذناهُمْ بِما كانُوا يَكسِبُونَ)[سورة الأعراف: 96].
وقال تعالى: حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح (عليه السّلام): (فَقُلْتُ اسْتغفِروا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غفَّاراً * يُرسِلِ السَّماءَ عَلَيكُمْ مِدراراً * ويُمْدِدْكُمْ بِأموالٍ وَبَنينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أنهاراً)[سورة نوح: الآية 10 ـ 12].
فالبداء بهذا المعنى ممّا اتفق عليه المسلمون قاطبة كما اتفقوا على عدم صحة البداء بالمعنى الأول، وأمّا استعمال البداء (بدا للّه) في هذا المقام مع أنّه بداء لنا من اللّه فهو أشبه بالمجاز وقد استعمل النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في حديث الأقرع والأبرص والأعمى تلك اللفظة، وقال: وبدا للّه عزّ وجلّ أن يبتليهم(20) وعلى كلّ تقدير فليس النزاع في اللفظ والتسمية بل مورده هو المسمى والمقصود.
ولو أنّ علماء السنّة وقفوا على ما هو المقصود من القول بالبداء للّه لما اعترضوا على الشيعة الإمامية. وكم من مسائل خلافية لو طرحت في جوٍّ هادىَ يسوده روح البحث العلمي بعيدٍ عن التعصب لزالت حواجز الاختلاف ولتقاربت وجهات نظر الطائفتين.
التقية عند الشيعة:
التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، والغاية منها هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في البيئات التي صودرت فيها الحريات في القول والعمل، والرأي والعقيدة، فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت، مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها.
إنّ التقية سلاح الضعيف وكهف الخائف أمام القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض الأفكار والمبادئ.
وهذا شيء يستسيغه العقل كما ورد في الشرع، قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ)[سورة النحل: الآية 106].
وقال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ المُؤمِنونَ الكافِرينَ أولِياءَ مِنْ دُونِ المؤَمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ فَلَيسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءٍ إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)[سورة آل عمران: الآية 28].
ولا تختصّ بتقية المسلم من المشرك والكافر بل تعمّ تقية المسلم من المسلم الجائر أيضاً.
قال الرازي: إنّ مذهب الشافعي: إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلّى اللّه عليه وآله): حرمة مال المسلم كحرمة دمه، وقوله (صلّى اللّه عليه وآله): من قتل دون ماله فهو شهيد(21).
وقال جمال الدين القاسمي: وزاد الحق غموضاً وخفاءً، أمران: خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم(22).
وليعلم أنّ التقية إنّما تتصور في القضايا الشخصية أي تقية شخص من شخص آخر في بيئته. وأمّا التقية العامة بأن تصور العقائد أو الأحكام في الكتب الفقهية بشكل يوافق عقائد الموافق وفقهه فهذا ليس بصحيح.
فالشيعة لم تتّق ولن تتّق في محاضراتها وكتبها ومنشوراتها قدر شعرة، فمن يتهم الشيعة بالتقية في كتمان عقائدها وتحرير فقهها، فقد خبط خبطة عشواء لما عرفت من أنّ التقية ترجع إلى القضايا الشخصية. وأين هم من الباطنيّة الذين يخفون كتبهم حتّى عن معتنقيهم، والشيعة الإمامية لم تزل مجهرة بعقائدها بشتى الطرق وأساليبها.
أضف إلى ذلك أنّ الشيعة قامت لهم دول مختلفة في فترات كثيرة من التاريخ منذ ألف سنة فلماذا تتقي في تحرير عقائدها ونشر أفكارها وبثِّ فقهها؟!
ثالثاً: الشيعة والنبوّة العامة والخاصة
النبوّة عند الشيعة كسائر المسلمين: سفارة بين اللّه وبين ذوي العقول من عباده لهدايتهم إلى ما فيه السعادة في معاشهم ومعادهم.
والنبيّ هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة الواردة في الذكر الحكيم.
أعني قوله سبحانه: (ما كانَ لِبَشَـرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحْياً أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ أوْ يُرسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ إنَّهُ عليٌّ حَكيمٌ)[سورة الشورى: الآية 51].
وبما أنّ صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من اللّه والإنباء عنه عن كذب وافتراء ولم يكن لهم متاعٌ غير التزوير، ولا سلعة سوى السلطة فلابد في تمييز النبي عن المتنبّي من معايير وضوابط تكون هي الفصل في القضاء بالحق، وهي إحدى الأمور الثلاثة التالية:
1ـ التحدي بالإعجاز:
تجهيز الأنبياء بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوّة. والإعجاز يدل بالدلالة المنطقية على صدق دعواه، وذلك لأنّ المعجزة فيها خرق للنواميس الطبيعية فلا يمكن أن تقع من أحد إلاّ بعناية من اللّه تعالى، واقتدار منه، فلو كان مدّع النبوّة كاذباً في دعواه كان إقداره على المعجزة من قبله سبحانه إغراراً بالجهل، وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن نبوّته.
يقول سبحانه: (ولَوْ تَقَوَّلَ عَلينا بَعضَ الأقاويلِ * لأخَذْنا مِنْهُ باليَمين * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتينَ * فَما مِنكُمْ مِنْ أحدٍ عَنهُ حاجزينَ)[سورة الحاقة: الآية 44 ـ 47].
يريد سبحانه أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته وأظهرنا المعجزة بتصديقه لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين ولقطعنا منه الوتين، فإنّ في سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاءً منّا لها وإدخالاً للباطل في شريعة الحق فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء كما يجب علينا حفظها في مرحلة الحدوث.
2ـ تنصيص النبيّ السابق على نبوّة النبيّ اللاحق:
إذا ثبتت نبوّة نبيّ بدلائل مفيدة للعلم ثم نصّ هذا النبيُّ على نبوّة نبيّ لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوّة النبيّ اللاحق لا تقل في دلالتها عن المعجزة.
ولأجل ذلك يستدل المسلمون بالبشارات الواردة في العهدين على نبوّة نبيّ الإسلام، ويرشدنا إليه قوله سبحانه حاكياً عن المسيح: (وإذْ قالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يا بَني إسرائيلَ إنّي رَسولُ اللّهِ إليكم مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَديَّ مِنَ التَّوراةِ ومُبَشِّراً بِرَسولٍ يأتي مِنْ بَعدِي اسمُهُ أحمد)[سورة الصف: الآية 6][/grade]
القسم الأول
رسالة موجزة تتناول تاريخ الشيعة الاِمامية، ويبيّن نشأتهم وعقائدهم ومنهجهم الفقهي والتراث العلمي الذي تركوه، إلى غير ذلك ممّا يمتّ لهم بصلة.
إنّ المذهب الشيعي الإِمامي يقوم على دعامتين:
ـ الأصول التي يتبنّاها في مجال العقيدة.
2ـ الشريعة التي يقرّرها دستوراً لجوانب الحياة كافة.
وليس المذهب الشيعي مذهباً فقهياً بحتاً كالمذاهب الأربعة، وإنّما هو منهج متكامل يغذِّي الإنسان فكراً وعملاً، وعلى ضوء ذلك فلا محيص عن دراسة المذهب من جانبين:
أحدهما: يتعلّق بالأصول.
والآخر بالفروع.
وإليك الكلام في الجانب الأول.
تمهيد:
الشيعة لغةً واصطلاحاً وتاريخاً
الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايعَ القومُ: إذا تعاونوا، وربّما يُطلق على مطلق التابع، قال تعالى: (وإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْراهيمَ * إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[سورة الصافات: الآية 83 ـ 84].
وأمّا اصطلاحاً فتطلق على من يشايع علياً والأئمة من بعده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول (صلّى اللّه عليه وآله)، نصبهم لهذا المقام بأمرٍ من اللّه سبحانه.
فالتشيّع عبارة عن استمرار قيادة النبي (صلّى اللّه عليه وآله) بعد وفاته، بمن نصَبه للناس إماماً وقائداً للأمّة.
وأمّا تاريخاً فالشيعة هم ثلّة من المسلمين الأوائل الذين عاصروا الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) وآزروه وعاضدوه في مواقف عصيبة، فلمّا مضى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى انطووا تحت قيادة الإمام عليّ (عليه السّلام) وأولاده باعتباره الممثل الشرعي للخلافة والمنصوص عليه من قبل النبي (صلّى اللّه عليه وآله).
فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، ولا أَنّ الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاة النبي (صلّى اللّه عليه وآله).
وليس للتشيع تاريخ وراء تاريخ الإسلام، ولا للشيعة أُصول سوى أنّهم رهط من المسلمين الأوائل في عصر الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) ومن جاء بعدهم عبر القرون، كل ذلك يعلم من خلال التحليلات التي ستمرّ عليك.
تسمية التشيّع:
إنّ الآثار المروية على لسان النبي (صلّى اللّه عليه وآله) تكشف اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف ثلة من المهاجرين والأنصار حول الإمام عليّ في حياة الرسول وكانوا معروفين بشيعة علي، وانّ النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) سمّاهم الشيعة ووصفهم بأنّهم الفائزون، وإليك بعض ما روي مقتصراً بالقليل من الكثير:
1ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي (صلّى اللّه عليه وآله) فأقبل عليّ، فقال (صلّى اللّه عليه وآله): والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت: (إنَّ الَّذِينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئكَ هُمْ خَيْـرُ البَـرِيَّة)[سورة البيّنة: الآية 7]، فكان أصحاب النبي (صلّى اللّه عليه وآله) إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البرية(1)
2ـ أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لمّا نزلت: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريَّة) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) لعليّ (عليه السّلام): هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين(2)
وعلى ضوء هذه التسمية غلب لفظ الشيعة على من يشايع علياً في كلمات غير واحد من المؤرخين.
3ـ قال المسعودي في حوادث وفاة النبي (صلّى اللّه عليه وآله): إنّ الإمام علياً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر(3).
4ـ وقال النوبختي: إنّ أوّل فرق الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمّون شيعة عليّ في زمان النبي وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(4).
5ـ وقال الإمام أبو الحسن الأشعري: إنّما قيل لهم الشيعة لأنّهم شايعوا علياً وقدّموه على سائر أصحاب رسول اللّه(5).
6ـ يقول الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا علياً على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية(6).
7ـ وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً(7).
جاءت دعوته (صلّى اللّه عليه وآله) إلى التشيّع متزامنة مع دعوته للرسالة، فقد بذر التشيع حال حياته في غير موقف من مواقفه الحاسمة، وإليك نماذج منها:
1ـ حديث يوم الدار الذي جمع فيه أكابر بني هاشم وعشيرته وعرض عليهم رسالته، وقال: إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فلم يقم أحد إلاّ عليّ، فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا(8).
2ـ حديث المنزلة أعني قوله: (أما ترضى (مخاطباً علياً) أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)(9).
3ـ حديث الغدير الذي ورد في مصادر كثيرة ومتنوعة.
إنّ هذه الأحاديث وغيرها الناصّة على إمامة علي (عليه السّلام) وخلافته بعد النبي (صلّى اللّه عليه وآله) توقفنا على أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) هو الذي بذر بذرة التشيع حال حياته وألفت أنظار المهاجرين والأنصار إلى قيادة عليّ (عليه السّلام) للأمة بعد رحيله (صلّى اللّه عليه وآله)، مضافاً إلى ما صدر على لسانه (صلّى اللّه عليه وآله) من الفضائل والمناقب لعلي وعترته حيث صار سبباً لاستقطاب الناس حوله في حال حياته (صلّى اللّه عليه وآله) وبعد رحيله.
هذا، وقد تزامنت دعوته (صلّى اللّه عليه وآله) للرسالة، دعوته للإمامة دون أن يكون بينهما سبق ولحوق.
وهو ما عبّرنا عنه أَنّ التشيع ليس ظاهرة طارئة، ولا الشيعة وليدة الأحداث التي رافقت وفاته (صلّى اللّه عليه وآله)، بل إنّ الإِسلام والتشيع وجهان لعملة واحدة.
وإليك أسماء مجموعة من روّاد الشيعة في عصر النبي (صلّى اللّه عليه وآله):
لمّا كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) هو الباذر الأوّل للتشيّع في عصره، فقد التفّ حول الإمام عليّ (عليه السّلام) مجموعة من المهاجرين والأنصار في عصره صلوات اللّه عليه وبعد رحيله، وناصروه في مواقف عديدة وعُرفوا بشيعة عليّ، ولأجل مرافقة المدعى بالدليل نذكر هنا أسماء روّاد التشيع من الصحابة في صدر الإسلام:
1ـ عبد اللّه بن عباس. 2ـ الفضل بن العباس. 3ـ قثم بن العباس. 4ـ عبد الرحمان بن العباس. 5ـ تمام بن العباس. 6ـ عقيل بن أبي طالب. 7ـ أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 8 ـ نوفل بن الحرث. 9ـ عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب. 10ـ عون بن جعفر.
11ـ محمد بن جعفر. 12ـ ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. 13ـ الطفيل بن الحرث. 14ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث. 15ـ عبد اللّه بن الحرث بن نوفل. 16ـ عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحرث. 17ـ العباس بن ربيعة بن الحرث. 18ـ العباس بن عتبة بن أبي لهب. 19ـ عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث. 20ـ جعفر بن أبي سفيان بن الحرث. هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:
21ـ سلمان المحمدي. 22ـ المقداد بن الأسود الكندي. 23ـ أبو ذر الغفاري. 24ـ عمار بن ياسر. 25ـ حذيفة بن اليمان. 26ـ خزيمة بن ثابت. 27ـ أبو أيوب الأنصاري (مضيّف النبي (صلّى اللّه عليه وآله)). 28ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان. 29ـ أُبي بن كعب. 30ـ قيس بن سعد بن عبادة. 31ـ عدي بن حاتم. 32ـ عبادة بن الصامت. 33ـ بلال بن رباح الحبشي. 34ـ أبو رافع مولى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله). 35ـ هاشم بن عتبة. 36ـ عثمان بن حنيف. 37ـ سهل بن حنيف. 38ـ حكيم بن جبلة العبدي. 39ـ خالد بن سعيد بن العاص. 40ـ بريدة بن الحصيب الأسلمي. 41ـ هند بن أبي هالة التميمي. 42ـ جعدة بن هبيرة. 43ـ حجر بن عدي الكندي. 44ـ عمرو بن الحمق الخزاعي. 45ـ جابر بن عبد اللّه الأنصاري. 46ـ محمد بن أبي بكر. 47ـ أبان بن سعيد بن العاص. 48ـ أُم سلمة زوج النبي (صلّى اللّه عليه وآله). 49ـ أُم هاني بنت أبي طالب. 50ـ أسماء بنت عميس.
هؤلاء خمسون صحابياً من روّاد الشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال.
قال محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام): عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) مثل: سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له، ومثل: أبي سعيد الخدري الذي يقول: أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولما سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، فقيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب، قيل له: وإِنّها لمفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن، ومثل: أبي ذر الغفاري، وعمّـار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة(10).
وبذلك يستغني القارئ عن الافتراضات الوهمية التي أبداها لفيف من المستشرقين تبعاً لما ورد على لسان بعض الباحثين من أُسطورة عبد اللّه بن سبأ التي حاكها سيف بن عمر الكذّاب الوضّاع(11)
هذا هو معنى الشيعة لغة واصطلاحاً وتاريخاً ذكرناه بصورة موجزة والتفصيل يطلب من الكتب المعدّة لهذا الغرض.
وأمّا دراسة عقائد الشيعة ومنهجهم الفقهي فتتمّ ضمن الفصول التالية:
الأول: الشيعة والتوحيد.
الثاني: الشيعة والعدل.
الثالث: الشيعة والنبوّة.
الرابع: الشيعة والمعاد.
الخامس: الشيعة والإمامة والخلافة.
السادس: الشيعة والمنهج الفقهي.
السابع: الشيعة والتراث الفكري.
أولاً: الشيعة والتوحيد:
الشيعة تصف اللّه سبحانه كما وصف به نفسه ويقول: (قُل هوَ اللّهُ أحدٌ * اللّهُ الصَّمدُ * لَم يلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أحَد).
وتصفه بأنّه سبحانه قديم لم يزل ولا يزال، عالم قادر، حيّ قيّوم، سميع بصير، متعال عن جميع صفات خلقه، خارج عن الحدّين: حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه، لا يجوز تعطيل ذاته عن صفاته كما لا يجوز تشبيه ذاته بمخلوقاته.
تعتقد الشيعة في توحيده ما كتبه الإمام الرضا (عليه السّلام) للمأمون العباسي، حيث سأله المأمون أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار.
فكتب (عليه السّلام) له: (إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً فرداً، صمداً، قيوماً، سميعاً بصيراً، قديراً قديماً قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلاً لا يجور وأنّه خالق كلّ شيء، وليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ له، ولا ندّ له، ولا كفو له، وأنّه المقصود بالعبادة والدعاء، والرغبة والرهبة)(12)
وقد عرض عبد العظيم الحسني عقيدته على الإمام الهادي علي بن محمد النقي (عليهم السّلام) فقال له: يا بن رسول اللّه، إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً ثبتُّ عليه حتى ألقى اللّه عزّ وجلّ.
فقال (عليه السّلام): هاتها.
فقلت: إنّي أقول إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج عن الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه(13)
هذه عقيدة الشيعة في توحيده وتنزيهه، والقارئ إذا رجع إلى الكتب الكلامية والعقائدية التي أُلّفت بيد علماء الشيعة منذ أوائل القرن الثالث إلى العصر الحاضر يرى اتّفاقهم على ما ذكرنا، وقد اخترنا لك نصّين:
أحدهما: للرضا (عليه السّلام) الإمام الثامن للشيعة الإمامية (148 ـ 203 هـ).
وثانيهما: للإمام الهادي الإمام العاشر (232 ـ 254 هـ) فقد أمضى ما ذكره عبد العظيم الحسني عليه.
اخترنا هذين النصّين ليُعلم أنّ الشيعة أهل التنزيه منذ عهدٍ مبكّر، ومع ذلك كلّه فقد قسّم علماء الشيعة التوحيد إلى مراتب ودرجات نذكرها على وجه الإيجاز.
1ـ التوحيد الذاتي: واحد لا نظير له.
2ـ التوحيد الذاتي أيضاً: بسيط ليس بمركب.
3ـ التوحيد الأفعالي: إنّه لا خالق في الكون إلاّ هو.
4ـ التوحيد التدبيري: إنّه لا مدبّر للكون إلاّ هو.
5ـ التوحيد العبادي: لا معبود سواه.
ثم إنّ هناك مراتب للتوحيد ذكرها علماء الشيعة في كتبهم الكلامية واستنبطوها من القرآن الكريم وأحاديث العترة الطاهرة، وهي:
6ـ التوحيد في التقنين والتشريع: إنّه لا مقنّن ولا مشرّع إلاّ هو، وليس لأحد حقّ التشريع.
7ـ التوحيد في الطاعة: إنّه لا مطاع بالذات إلاّ هو ، ولو وجبت إطاعة النبي والإمام فإنّما هي بأمره سبحانه.
8ـ التوحيد في الحاكمية: لا حاكم إلاّ هو، وانّه ليس لأحد أن يحكم إلاّ بإذنه سبحانه.
9ـ التوحيد في الشفاعة: والمراد أنَّ الشفاعة حقّ للّه سبحانه، و لا يشفع لأحد إلاّ بإذنه (ولا يَشفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضى)[سورة الأنبياء: الآية 28].
10ـ التوحيد في الاستعانة: وانّه لا يستعان إلاّ به، ولو استعان بغيره بزعم أنّه يقوم بالإعانة مستقلاً فهو مشرك، ولو استعان بغيره معتقداً بأنّه معين بحول وقوّة منه سبحانه فهو عين التوحيد.
11ـ التوحيد في المغفرة: وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ هو.
12ـ التوحيد في الرازقية: وإنّه لا رازق إلاّ هو.
هذه مراتب التوحيد الاثنا عشر التي يتفقون فيها مع إخوانهم أهل السنّة لاسيما الأشاعرة .
نعم هناك مرتبة من التوحيد تختص بالشيعة الاِمامية يختلفون فيها عن سائر الفرق والطوائف الإسلامية وهي:
التوحيد في الصفات: والمراد به أنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة عين ذاته لا زائدة على الذات وإلاّ يلزم تعدد القدماء الثمانية ـ وهي مسألة كلامية خاض فيها عباقرة علم الكلام ـ خلافاً للأشاعرة القائلين بزيادة الصفات على الذات.
وهناك مصطلح كلامي وهو الصفات الخبرية والمقصود منها هي الصفات التي أخبر بها القرآن الكريم وأثبتها الوحي للّه سبحانه كعين اللّه، ويد اللّه، واستوائه على العرش، وما ماثلها، والمسلمون فيها على أقوال: فمن معطِّل يفوِّض تفسير هذه الآيات والصفات إلى اللّه تبارك وتعالى، إلى مجسِّم يفسّرها بالمعاني اللغوية من دون أن يجعلها ذريعة إلى المعاني المجازية، إلى مؤوّل يؤوّلها إلى معاني تجتمع مع تنزيهه.
والشيعة الاِمامية تحملها على المعاني اللغوية ولكن تجعلها كناية عن المفاهيم العالية، ولا ترى ذلك تأويلاً، فإنّ كلام العرب مشحون بالمجاز فاليد في قوله سبحانه: (يَدُ اللّهِ فَوقَ أيْدِيهم)[سورة الفتح: الآية 10]، مستعملة في نفس المعنى اللغوي لكن كناية عن سعة قدرته، وهو أمر رائج بين البلغاء ولا يعدّ تأويلاً.
ثم إنّ توحيده سبحانه بكونه الخالق والمدبّر لا يعني سلب التأثير عن العوامل الطبيعية والجنود الغيبية للربّ، فإنّ سلب التأثير الظلي والتبعي عن كل موجود سوى اللّه، يردّه الذكر الحكيم بقوله سبحانه: (وَأنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)[سورة البقرة: الآية 22].
وعلى ضوء ذلك فالماء يروي العطشان، كما أنّ الخبز يشبعُ الجائع، والماء ينبت النبت والزرع، لكن بأثر مودع فيه من جانب خالقه، فالقول بتأثيره في ظل إرادته سبحانه وأمره عَيْـن التوحيد الذي دعا إليه الذكر الحكيم.
ومن أراد أن يفسّر التوحيد في الخالقية والتدبير، بسلب الأثر عن كل موجود سواه، فقد خالف القرآن والوجدان الصريح ووقع في متاهات الجبر الذي سيوافيك بطلانه في الفصل الثاني.
تقسيم صفاته إلى ذاتي وفعلي:
إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي قائم بذاته، وفعليّ يعدّ وصفاً لفعله، والميزان في تمييز الصفات الذاتية عن الفعلية هو أنّ القسم الأول لا يقبل السلب والإيجاب، بخلاف الثاني ولذلك لا يصحّ أن يقال اللّه يعلم ولا يعلم، أو يقدر ولا يقدر، بخلاف الرزق فيصدق إنّه يرزق ولا يرزق ولذلك تعتقد الشيعة بأنّ من صفاته الفعلية كونه متكلّماً فالتكلّم صفة من صفاته الفعلية بالشرح التالي:
في تكلمه سبحانه:
اتفقت الشيعة على انّه سبحانه متكلّم، ولكن التكلّم عندهم من صفات الأفعال ويفسّر كونه متكلماً بأمرين.
الأوّل: إنّ كل ما في الكون كلام اللّه سبحانه، فكما أنّ الكلمة تعرب عمّـا يقوم في نفس المتكلّم من المعاني فكذلك كل ما في الكون يُعرب عن حكمته وعلمه وقدرته الواسعة قال سبحانه: (وَلَوْ أنَّما في الأرضِ مِنْ شَجَرةٍ أقلامٌ والبَحرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبعةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ)[سورة لقمان: الآية 27].
قال عليّ (عليه السّلام): يقولُ لِمَنْ أراد كونه: (كُن فيكون)، لا بِصَوتٍ يَقرَعُ، ولا بِنِداءٍ يُسمَعُ، وإنّما كلامُه سبحانه فِعلٌ منه أنشأَهُ ومثَّلَه، لم يكن من قبلِ ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً(14).
فكل ما في صحيفة الوجود من الموجودات الإمكانية، كلماته وتخبر عما في خالقها من كمال وجمال، وعلم وقدرة.
الثاني: إنّه سبحانه يخلق الحروف المنظومة والأصوات المقطّعة، يسمعها نبيّه ورسوله أو يرسل رسولاً فيبلّغه آياته، أو يلقي في روع النبي، وإلى هذه الأقسام الثلاثة يشير سبحانه، بقوله: (وما كانَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحياً أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ أو يُرسِلَ رَسُولاً فَيوحيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[سورة الشورى: الآية 51].
وقد بيّن تعالى أن تكلّمه مع الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:
1ـ (إلاّ وحياً).
2ـ (أو من وراء حجاب).
3ـ (أو يرسل رسولاً).
فقد أشار بقوله: (إلاّ وحياً) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.
كما أشار بقوله: (أو من وراء حجاب) إلى الكلام المسموع لموسى (عليه السّلام) في البقعة المباركة. قال تعالى: (فَلَمّا أتاها نُوديَ مِن شاطِئ الوادِ الأيمَنِ في البُقعَةِ المُباركَةِ مِنَ الشَّجَرةِ أنْ يا مُوسى إنّي أنا اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ)[سورة القصص: الآية 30].
وأشار بقوله: (أو يُرسل رسولاً) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: (نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأمينُ * على قَلْبِكَ)[سورة الشعراء: الآية 193ـ 194] ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه، تارة بلا واسطة، بالإلقاء في الروع، وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يُسمَع الصوت ولا يُرى المتكلم وذلك بخلق الأصوات والحروف، وثالثة بواسطة الرسول (أمين الوحي جبرائيل)، فهذه الأقسام الثلاثة الواردة في الآية المباركة.
إنّ موقف أئمّة أهل البيت في مسألة خلق القرآن وقدمه هو الموقف الإيجابي وإنّهم كانوا يرون القرآن حادثاً لا قديماً وإلاّ يلزم أن يكون القرآن إلهاً ثانياً.
وأمّا انّه مخلوق فلو أُريد انّه مختلق فهو أمر باطل شبيه قول الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن عنه: (إنْ هذا إلاّ قَولُ البَشَرِ)[سورة المدثر: الآية 25].
وإن أُريد انّه مخلوق للّه، وهو منزِّله وهو نفس المطلوب، وقد سئل الإمام الصادق (عليه السّلام) عن واقع القرآن فقال: هو كلام اللّه، وقول اللّه، وكتاب اللّه، ووحي اللّه وتنزيله، وهذا الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد(15).
ومن هنا يعلم أنّ مسألة خلق القرآن كانت فتنة ابتلي بها المسلمون في عصر المأمون واستغلتها النصارى لصالحهم، وأوجدت فجوة عميقة بين المسلمين وكان النزاع نزاعاً بلا ثمر.
تقسيم صفاته إلى ثبوتية وسلبية:
إنّ المتكلّمين قسّموا صفاته سبحانه إلى ثبوتية وسلبية وقد بسطوا القول فيها ومن جملتها انّه سبحانه:
1ـ ليس بجسم.
2ـ ليس في جهة.
3ـ ليس في محل.
4ـ ليس حالاًّ في شيء ولا متّحداً مع غيره.
إلى غير ذلك من الصفات السلبية التي مرجعها إلى سلب النقائص عن ذاته سبحانه لأنّه الكمال المطلق.
وأمّا روَيته سبحانه فقد اتفق المسلمون على أنّه سبحانه لا يُرى في الدنيا وإنّما اختلفوا في روَيته في الآخرة.
روَيته تعالى في الآخرة:
ذهبت الشيعة الاِمامية تبعاً للذكر الحكيم وما جاء في خطب الإمام أمير المؤمنين إلى امتناع روَيته، قال سبحانه: (لا تُدرِكُهُ الأبْصارُ وهوَ يُدرِكُ الأبْصارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ)[سورة الأنعام: الآية 103].
وقال الإمام عليّ (عليه السّلام) في وصفه سبحانه: الأوّل الذي لم يكن له قبل، فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسيَّ الأبصارِ عن أن تنالَهُ أو تُدركَه(16).
وفي خطبة أُخرى: الحمد للّه الذي لا تُدركُه الشواهدُ، ولا تَحويه المشاهدُ، ولا تَراه النواظرُ، ولا تحجُبُه السواتِرُ(17).
وفي كلامه لذعلب اليماني عندما قال له: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السّلام): (أفَ أعبد ما لا أرى؟) فقال: وكيف تراه؟ فقال: (لا تدركه العيون بمشاهدةِ العِيانِ، لكن تدركه القلوبُ بحقائقِ الإيمانِ، قريبٌ من الأشياءِ، غيرَ ملابِس، بعيدٌ منها غيرَ مُباين)(18).
وأمّا ما يستدل به على جواز الرؤية في الآخرة فليس بتامّ، وقد استدلّ القائلون بجوازها قديماً وحديثاً بقوله سبحانه: (وُجوهٌ يَومئذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرةٌ * وَوُجُوهٌ يَومَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرةٌ)[سورة القيامة: الآية 22 ـ 25].
والدقة في الآيات الأربع توقفنا على أنّ المراد بالنظر هو انتظار الرحمة وذلك لوجهين:
1ـ إنّه سبحانه: يسنِد النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد من النظر هو الرؤية كان اللازم أن يقول مكان (الوجوه): العيون.
2ـ إنّ مقابلة بعض الآيات ببعض يرفع الإبهام عن قوله: (إلى ربّها ناظرة) ويتعيّن كونه بمعنى انتظار الرحمة وذلك بالشكل التالي:
أ ـ (وجوه يومئذ ناظرة) يقابلها قوله: (وجوه يومئذ باسرة).
ب ـ (إلى ربّها ناظرة) يقابلها قوله: (تظنّ أنْ يُفعل بها فاقرة).
لا شك أنّ الفقرتين الأوليتين واضحتان جداً، وإنّما الكلام في الفقرة الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابل الثالثة، بحكم أنّ الأشياء تعرف بأضدادها.
وبما أنّ المراد من الفقرة الرابعة هو توقّع العذاب الكاسر للفقار، والقاصم للظهر يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من الفقرة الثالثة ضدّ ذلك وليس هو إلاّ انتظار فضله سبحانه وكرمه.
على أنّه نسأل من يدّعي إمكان الرؤية للّه سبحانه في الآخرة، هل الرؤية تتعلّق بكل ذاته أو ببعضه؟ فإن تعلّقت بالجميع يكون سبحانه محاطاً مع أنّه جلّ جلاله محيط.
وإن تعلّقت بالبعض فصار ذات أجزاء وأبعاض تعالى عن التركيب.
وأمّا ما ورد في الروايات حول الرؤية فكلّها أخبار آحاد لا تثبت بها العقيدة خصوصاً إذا كانت مضادّة للذكر الحكيم والعقل السليم، على أنّ في سند البعض ضعفاً.
هذا إجمال القول في توحيده وصفاته الذاتية والفعلية، والإيجابية والسلبية.
نتيجة البحث:
وقد خرجنا من هذا البحث بالنتيجة التالية:
إنّ المسلمين متّفقون جميعاً على توحيده وتنزيهه ووصفه بالكمال، وإنّما تختلف الشيعة عن أهل السنّة في المسائل الكلامية التالية:
أ ـ إنّ صفاته الثبوتية كالعلم والقدرة عين ذاته وجوداً وتحققاً وإن كانت غيره مفهوماً، وذلك لئلاّ يلزم تعدّد القدماء خلافاً للأشاعرة حيث قالوا بزيادة الأوصاف على الذات، ولو أرادت الأشاعرة المغايرة والزيادة مفهوماً، لا تحققاً وخارجاً يصبح النزاع لفظياً، ولو أرادت المغايرة خارجاً وعيناً يلزم تعدد القدماء، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
ب ـ إنّ التكلم من صفاته الفعلية كالرزق والمغفرة والرحمة خلافاً للأشاعرة حيث فسّـروه بالكلام النفسي القائم بذاته.
ج ـ إنّه سبحانه منزّه عن الرؤية في الدنيا والآخرة خلافاً لأهل السنّة حيث قالوا بجوازها في الآخرة.
ثانياً: الشيعة والعدل:
اتّفق المسلمون على أنّه سبحانه عادل لا يجور، غير إنّ الشيعة اعتمدت في حكمها هذا على البرهان العقلي كما سيوافيك بيانه، واعتمدت السنّةُ في وصفه بالعدل على السمع، حيث يصفه القرآن الكريم بكونه قائماً بالقسط، قال سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أنَّهُ لا إلهَ إلأ هُوَ والمَلائِكَةُ وأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ)[سورة آل عنران: الآية 18].
والاختلاف في مصدر عدله نابع عن الاختلاف في مسألة أُخرى وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين أو الشرعيين، فذهبت الشيعة الاِمامية إلى أنّ العقل قادر على أن يدرك حسنَ الأفعال وقبحها، ويستقلَّ بالبعث إلى الفعل الحسن، والزجرِ عن الفعل القبيح، كالعدل والظلم فكل إنسان إذا جرّد نفسه عن كل شيء يرى في صميم ذاته حسنَ الأول وقبحَ الثاني، ومثله مجازاة الإحسان بالإحسان أو بالسوء، والعمل بالميثاق ونقضه فيستقلّ بحسن الأوليين وقبح الأخيرين ولأجله قالوا بأنّ التحسين والتقبيح عقليان لا شرعيان.
ولو حكم الشارع بحسن شيء أو قبحه فقد حكم العقل به قبله، لأنّه رسول باطني، وحكم الشرع مؤكّد لحكم العقل وليس حكماً تأسيسياً.
هذا هو موقف الشيعة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين وعلى ذلك بنت أُصولاً كلامية لا تقبل النقاش، وإليك تلك الأصول:
1ـ لا جبر ولا تفويض:
طرحت مسألة الجبر والتفويض في أواسط القرن الأوّل بين المسلمين فصاروا إلى أقوال وأوجدت فجوة سحيقة بين المسلمين ولم تزل آثارها إلى يومنا هذا.
فمن قائل بالجبر وانّه سبحانه هو الخالق لفعل الإنسان والموجد له وليس للإنسان أيّ دور في أفعاله وأعماله، وإنّما هو ظرف لظهور إرادته سبحانه في أعماله وأفعاله.
وإنّما ذهب القائل إلى هذا القول لأجل أنّه فسّر التوحيد بالخالقية بالمعنى الباطل وزعم أنّ معناه سلب الأثر عن العلل والعوامل الطبيعية، وعند ذاك يتجلّى الإنسان في مجال الأفعال كالظرف ليس له دور ولا تأثير في أفعاله وأعماله.
ولا شك أنّ تفسير التوحيد بالخالقية بهذا المعنى باطل، لما عرفت من تصريح الذكر الحكيم بدور العلل الطبيعية في نمو الأزهار والأشجار ـ مضافاً إلى أنّ القول بالجبر ينافي عدله سبحانه ـ فكيف يكون هو الخالق لعمل الإنسان ولا يكون له دور فيه، لكن هو المسؤول عن العمل؟!
إنّ للقول بالجبر سبباً آخر وهو تفسير القضاء والقدر ـ الذي لا غبار في صحتهما ـ بالمعنى السالب للاختيار عن الإنسان، وسيوافيك أنّ القضاء والقدر حقّ ولكنّهما لا يسلبان الاختيار عن الإنسان.
فهذا وذاك صارا سببين لنشوء القول بالجبر بين كثير من المسلمين حيث صيّرهم مكتوفي الأيدي أمام الحوادث والطوارئ.
فكما أنّ الجبر يخالف عدله سبحانه فكذلك التفويض ينافي توحيده، لأنّ معنى القول بالتفويض كون الإنسان مستقلاً في فعله وعمله عن اللّه سبحانه، وبذلك يصبح العمل إلهاً ثانياً لاستغنائه عن اللّه، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن الجمع بين فقر الإنسان في ذاته، وغناه في فعله عنه مع أنّ الفعل أثر الذات، والفعل متوقّف على ذات الفاعل وهو الواجب مفيض الوجود، فيكون الفعل ـ بالتالي ـ متوقفاً على الواجب؟
والصحيح أنّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ومعناه أنّ الإنسان في فعله يعتمد على قدرته سبحانه ومواهبه فبذلك يكون للواجب دور في عمله، وبما أنّه إنسان موجود مختار في أعمال القدرة والسلطنة في أيّ جانب من جوانب حياته، يكون هو المسؤول عن عمله لا غيره فالعمل نتاج المواهب الإلهية وإعمال السلطنة من ناحية العبد. ولتقريب ذلك المعنى أمثلة كثيرة مسطورة في الكتب الكلامية.
2ـ التكليف بما لا يُطاق أمر غير جائز:
إذا قلنا بأنّه سبحانه عادل لا يجور فلا يصحّ على الحكيم تكليف العبد فوق قدرته، وقولنا إنّه لا يصحّ للّه سبحانه ذلك النوع من التكليف لا يعني تحكيم فكرتنا وإرادتنا على اللّه سبحانه بل معناه إنّا نستكشف من التدبر في صفاته سبحانه وهو كونه حكيماً لا يعبث، وعادلاً لا يجور، إنّه لا يكلّف إنساناً إلاّ بما في وسعه وقدرته، قال سبحانه: (لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها)[سورة البقرة: الآية 286].
3ـ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض:
اتفقت الشيعة ـ بما أنّه سبحانه حكيم لا يعبث ـ على أنّ أفعاله معلّلة بالأغراض، ومعنى ذلك أنّ فعله لا ينفكّ عن الغرض، وليس الغرض غرضاً للفاعل وإنّما هو غرض لنفس الفعل، وكم فرق بين كون الغرض عائداً إلى الفاعل، وبين كون الفعل غير خال عن الغرض، ومقتضى الحكمة هو الثاني، أي عدم خلو فعله عن الغرض، ومقتضى غناه وكماله المطلق عدم عود الغرض إلى الفاعل.
وأظنّ أنّ النزاع بين الشيعة وأهل السنّة لفظيّ، فإنّ أهل السنّة ينفون أن يكون له سبحانه غرض في فعله يستكمل به ذاته والشيعة أيضاً يوافقونهم على ذلك ويقولون بأنّه سبحانه هو فوق الكمال ومن هو بهذه المكانة أسمى من أن يطلب غرضاً يستكمل به.
ولكنّ الشيعة تعتقد أنّ الغرض لا ينحصر بالغرض العائد إلى الفاعل بل هناك قسم آخر يخرج به الفعل عن العبثية ويضفي عليه وصف الحكمة ويكون غرضه سبحانه عائداً إلى المكلّفين، وهذا ما يتراءى من الذكر الحكيم في موارد مختلفة ويقول: (سَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّمواتِ وما في الأرض)[سورة لقمان: الآية 20].
فإنّ خلق السماوات والأرض لم يكن عبثاً، قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقناكُمْ عَبَثاً وأنَّكُمْ إلَينا لا تُرجَعُونَ)[سورة المؤمنون: الآية 115].
وقال سبحانه: (وما خَلَقْنا السَّمواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)[سورة الدخان: الآية 38].
4ـ القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار:
إنّ القضاء والقدر من المفاهيم الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة، قال سبحانه: (ما أصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرضِ ولا في أنْفُسِكُمْ إلاّ في كِتابٍ مِنْ قَبلِ أن نَبْـرأَها إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسيرٌ)[سورة الحديد: الآية 22].
وفي السنّة النبوية وأحاديث العترة الطاهرة تصريحات بالقضاء والقدر، وهذا ممّا اتّفق عليه المسلمون وإنّما الكلام في تفسيرهما.
إنّ اليهود ممّن غالت في التقدير حتى جعلته إلهاً ثانياً إلى حدٍّ ليس للّه سبحانه تغيير قضائه وقدره، يقول سبحانه حاكياً عنهم: (وقالَتِ اليَهودُ يَدُ اللّهِ مَغلولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيفَ يَشاءُ ...)[سورة المائدة: الآية 64].
فَمن أراد تفسير القضاء والقدر على نحو يسلبان الاختيار عن الإنسان فقد وقع في متاهات الجبر فالإيمان بالقضاء والقدر يجب أن يكون بنحوٍ لا يسلب عن الإنسان اختياره قال سبحانه: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُوَْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[سورة الكهف: الآية 29]. وقال سبحانه: (إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً)[سورة الإنسان: الآية 3].
إنّ تقديره وقضاءه سبحانه يختلف حسب اختلاف الفاعل، فلو كان الفاعل فاعلاً موجَباً كالنار بالنسبة إلى الحرارة، وسقوط الحجر على الأرض فقد قدَّر وقضى بصدور الفعل عن الفاعل عن جبر واضطرار، وأمّا إذا كان الفاعل فاعلاً مختاراً ومسؤولاً أمام اللّه فقد قدَّر وقضى على صدور فعله منه عن إرادة واختيار.
فالتقدير والقضاء عند الشيعة يخالفان الجبر ويؤيدان الاختيار قال سبحانه: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَركْتُموها قائِمةً على أُصُولِها فَبإِذنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ)[سورة الحشر: الآية 5].
5 ـ تعذيب البريء مخالف لعدله:
اتّفقت الشيعة على أنّه لا يجوز سبحانه أن يعذّب أطفال الكفّار يوم القيامة، وذلك أنّ تعذيبهم بغير جرم اقترفوه مخالف لعدله وحكمته.
وقد أشرنا أنّ قولنا (لا يجوز) أو (يجوز) لا يعني تحكيم إرادتنا وفكرتنا على اللّه سبحانه حتى يكون الواجب محكوماً بحكم البشر فإنّ ذلك باطل لا مرية فيه، ولكن المراد هو استكشاف حال الواجب من خلال أوصافه من كونه حكيماً عادلاً فنستكشف من هذين الوصفين أنّه لا يعذّب طفلاً بريئاً سواء أكان طفلاً لمسلم أم لكافر.
6ـ وجوب المعرفة:
اتّفقت الشيعة على لزوم معرفة اللّه سبحانه لزوماً عقلياً بمعنى أنّ العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها، لما في المعرفة من أداء شكر المنعم وهو حسن، وفي تركها احتمال الوقوع في الضرر وهو قبيح.
نعم غير الشيعة لم تلتزم بلزوم معرفة اللّه إلاّ سمعاً ونقلاً، ولكن لم يتبيّن لنا كنه مرادهم فإنّ المفروض أنّ الشريعة بعد لم تثبت فكيف يثبت وجوب المعرفة بحكم الشريعة؟
7ـ لزوم تكليف العباد:
إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغاية التي خلق لها، وذلك يتحقق في مورد الإنسان بالتكليف.
8 ـ لزوم بعث الأنبياء:
إذا كان الإنسان لم يُخلق سُدى بل خلق لغاية، والغاية ممّا لا يدركها البشر بعقله العادي، ففي ذمّته سبحانه إرسال الرسل لهداية الناس إلى الغايات المنشودة وإلاّ يلزم أن يكون خلق الإنسان سُدى وعبث.
9ـ قاعدة اللطف:
إنّ قاعدة اللطف لها دور في الكلام الشيعي وتترتّب عليها قواعد وأحكام، وحاصلها أنّه إذا كان الغرض المترتب على التكليف لا يحصل إلاّ بفعل يقرّب العبد من الطاعة ويبعّده عن المعصية، كان على اللّه سبحانه القيام بذلك.
وبعبارة أُخرى كل ما هو دخيل في تحقق الرغبة إلى الطاعة والابتعاد عن التمرد والمعصية في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر يجب على اللّه سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو يقول سبحانه: (وبَلَوناهُمْ بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لَعلَّهُمْ يَرجِعُونَ)[سورة الأعراف: الآية 168]. وقال تعالى: (وما أرْسَلْنا في قَريَةٍ مِنْ نَبيٍّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبأْساءِ والضَّرَّاءِ لَعلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[سورة الأعراف: الآية 94].
فإنّ تعليل ابتلاء الناس بالسراء والضراء لرجاء رجوعهم للطاعة دليل على أنّ كل ما يكون سبباً للجوء الناس للطاعة كان عليه سبحانه أن يقوم به لأنّه مقتضى حكمته. والعقل يستقلّ بحسن ذلك.
10ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة:
يجب النظر في برهان المدعي إذا ادّعى مسألة تمتّ إلى الدين بصلة على وجه يعاقب الإنسان لو لم يعتقد بها أو اعتقد بالخلاف.
إنّ للتحسين والتقبيح العقليين دوراً عظيماً في المسائل الكلامية اقتصرنا على هذه النتائج القليلة ومن أراد التفصيل فعليه مراجعة الكتب الكلامية المطوّلة(19).
خاتمة المطاف:
وفي خاتمة هذا الفصل أود أن أطرح مسألتين لهما دويّ في الأوساط العلمية، والمسألتان هما عبارة عن القول بالبداء والتقية، فقد وقعا غرضاً للنبال وأخذ المخالف يعترض على الشيعة بالقول بهما غافلاً عن أنّ النزاع بين الطائفتين نزاع لفظي ولو وقف المخالف على الحقيقة، لتجاوب معها وإليك البيان:
البداء عند الشيعة:
البداء في اللّغة هو الظهور بعد الخفاء، قال سبحانه: (وبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ ما لَمْ يَكُونوا يَحْتَسِبونَ * وبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَستَهْزِءُونَ)[سورة الزمر: الآية 47 ـ 48].
والبداء بهذا المعنى، لا يطلق على اللّه تعالى بتاتاً، لاستلزامه حدوث علمه بعد جهله بالشيء، تعالى عمّـا يقول الظالمون.
وهذا هو الذي ينسبه متكلمو السنّة إلى الشيعة، وهم براء من تلك النسبة وإنّما أرادوا منه المعنى الثاني الآتي.
و هو أنّ تقديره سبحانه للحوادث على قسمين:
أ ـ تقدير قطعي وقضاء مبرم.
ب ـ تقدير معلّق وقضاء غير منجّز.
فأمّا القسم الأوّل: فلا يتسرّب إليه البداء لافتراض كونه تقديراً حتمياً وقضاءً مبرماً، وإنّما يتسرّب البداء إلى القسم الثاني وهو القضاء المعلق فهو يتغيّر إمّا بالأعمال الصالحة أو الطالحة قال سبحانه: (إنّ اللّه لا يُغيِّرُ ما بِقَومٍ حتّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهمْ)[سورة الرعد: الآية 11].
وقال سبحانه: (وَلَوْ أنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقوا لَفَتَحْنا عَلَيهِمْ بَركاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرضِ ولكنْ كَذَّبُوا فأخْذناهُمْ بِما كانُوا يَكسِبُونَ)[سورة الأعراف: 96].
وقال تعالى: حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح (عليه السّلام): (فَقُلْتُ اسْتغفِروا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غفَّاراً * يُرسِلِ السَّماءَ عَلَيكُمْ مِدراراً * ويُمْدِدْكُمْ بِأموالٍ وَبَنينَ ويَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكُمْ أنهاراً)[سورة نوح: الآية 10 ـ 12].
فالبداء بهذا المعنى ممّا اتفق عليه المسلمون قاطبة كما اتفقوا على عدم صحة البداء بالمعنى الأول، وأمّا استعمال البداء (بدا للّه) في هذا المقام مع أنّه بداء لنا من اللّه فهو أشبه بالمجاز وقد استعمل النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في حديث الأقرع والأبرص والأعمى تلك اللفظة، وقال: وبدا للّه عزّ وجلّ أن يبتليهم(20) وعلى كلّ تقدير فليس النزاع في اللفظ والتسمية بل مورده هو المسمى والمقصود.
ولو أنّ علماء السنّة وقفوا على ما هو المقصود من القول بالبداء للّه لما اعترضوا على الشيعة الإمامية. وكم من مسائل خلافية لو طرحت في جوٍّ هادىَ يسوده روح البحث العلمي بعيدٍ عن التعصب لزالت حواجز الاختلاف ولتقاربت وجهات نظر الطائفتين.
التقية عند الشيعة:
التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، والغاية منها هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في البيئات التي صودرت فيها الحريات في القول والعمل، والرأي والعقيدة، فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت، مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها.
إنّ التقية سلاح الضعيف وكهف الخائف أمام القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض الأفكار والمبادئ.
وهذا شيء يستسيغه العقل كما ورد في الشرع، قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ)[سورة النحل: الآية 106].
وقال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ المُؤمِنونَ الكافِرينَ أولِياءَ مِنْ دُونِ المؤَمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ فَلَيسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءٍ إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)[سورة آل عمران: الآية 28].
ولا تختصّ بتقية المسلم من المشرك والكافر بل تعمّ تقية المسلم من المسلم الجائر أيضاً.
قال الرازي: إنّ مذهب الشافعي: إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله (صلّى اللّه عليه وآله): حرمة مال المسلم كحرمة دمه، وقوله (صلّى اللّه عليه وآله): من قتل دون ماله فهو شهيد(21).
وقال جمال الدين القاسمي: وزاد الحق غموضاً وخفاءً، أمران: خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم(22).
وليعلم أنّ التقية إنّما تتصور في القضايا الشخصية أي تقية شخص من شخص آخر في بيئته. وأمّا التقية العامة بأن تصور العقائد أو الأحكام في الكتب الفقهية بشكل يوافق عقائد الموافق وفقهه فهذا ليس بصحيح.
فالشيعة لم تتّق ولن تتّق في محاضراتها وكتبها ومنشوراتها قدر شعرة، فمن يتهم الشيعة بالتقية في كتمان عقائدها وتحرير فقهها، فقد خبط خبطة عشواء لما عرفت من أنّ التقية ترجع إلى القضايا الشخصية. وأين هم من الباطنيّة الذين يخفون كتبهم حتّى عن معتنقيهم، والشيعة الإمامية لم تزل مجهرة بعقائدها بشتى الطرق وأساليبها.
أضف إلى ذلك أنّ الشيعة قامت لهم دول مختلفة في فترات كثيرة من التاريخ منذ ألف سنة فلماذا تتقي في تحرير عقائدها ونشر أفكارها وبثِّ فقهها؟!
ثالثاً: الشيعة والنبوّة العامة والخاصة
النبوّة عند الشيعة كسائر المسلمين: سفارة بين اللّه وبين ذوي العقول من عباده لهدايتهم إلى ما فيه السعادة في معاشهم ومعادهم.
والنبيّ هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة الواردة في الذكر الحكيم.
أعني قوله سبحانه: (ما كانَ لِبَشَـرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحْياً أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ أوْ يُرسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ إنَّهُ عليٌّ حَكيمٌ)[سورة الشورى: الآية 51].
وبما أنّ صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من اللّه والإنباء عنه عن كذب وافتراء ولم يكن لهم متاعٌ غير التزوير، ولا سلعة سوى السلطة فلابد في تمييز النبي عن المتنبّي من معايير وضوابط تكون هي الفصل في القضاء بالحق، وهي إحدى الأمور الثلاثة التالية:
1ـ التحدي بالإعجاز:
تجهيز الأنبياء بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوّة. والإعجاز يدل بالدلالة المنطقية على صدق دعواه، وذلك لأنّ المعجزة فيها خرق للنواميس الطبيعية فلا يمكن أن تقع من أحد إلاّ بعناية من اللّه تعالى، واقتدار منه، فلو كان مدّع النبوّة كاذباً في دعواه كان إقداره على المعجزة من قبله سبحانه إغراراً بالجهل، وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن نبوّته.
يقول سبحانه: (ولَوْ تَقَوَّلَ عَلينا بَعضَ الأقاويلِ * لأخَذْنا مِنْهُ باليَمين * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتينَ * فَما مِنكُمْ مِنْ أحدٍ عَنهُ حاجزينَ)[سورة الحاقة: الآية 44 ـ 47].
يريد سبحانه أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته وأظهرنا المعجزة بتصديقه لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين ولقطعنا منه الوتين، فإنّ في سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاءً منّا لها وإدخالاً للباطل في شريعة الحق فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء كما يجب علينا حفظها في مرحلة الحدوث.
2ـ تنصيص النبيّ السابق على نبوّة النبيّ اللاحق:
إذا ثبتت نبوّة نبيّ بدلائل مفيدة للعلم ثم نصّ هذا النبيُّ على نبوّة نبيّ لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوّة النبيّ اللاحق لا تقل في دلالتها عن المعجزة.
ولأجل ذلك يستدل المسلمون بالبشارات الواردة في العهدين على نبوّة نبيّ الإسلام، ويرشدنا إليه قوله سبحانه حاكياً عن المسيح: (وإذْ قالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يا بَني إسرائيلَ إنّي رَسولُ اللّهِ إليكم مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَديَّ مِنَ التَّوراةِ ومُبَشِّراً بِرَسولٍ يأتي مِنْ بَعدِي اسمُهُ أحمد)[سورة الصف: الآية 6][/grade]
تعليق