المشاركة الأصلية بواسطة نهج البلاغة
التواضع حالة روحية لدى الفرد، تظهر نتائجها في مفردات حياته اليومية كطريقة جلوسه ومشيه، ونوعية ملبسه ومركبه، وفي تعامله - بشكل عام - مع الآخرين.
وهي حالة تنبع أساساً من وعي الإنسان، ومعرفته من جهة. ومن عظمة روحه من جهة أخرى، فكلّما ازداد علماً ورفعةً في النفس ازداد تواضعه. وعلى العكس كلّما عظم جهله، وحقرت نفسه ازداد تعالياً وتكبراً.
من هنا فإنه (ما تواضع إلا رفيع)(1) وما تكبر إلا وضيع. تماماً كما تتدلى الأغصان وتتواضع كلما حملت ثماراً. ولكنها ترتفع وتتعالى كلّما خليت من الثمار.
فالتواضع إذن قيمة بحدّ ذاتها، كما العلم والشجاعة والكرم وغيرها من الفضائل (فزينة الشريف التواضع)(2) وهو (زكاة الشرف)(3) ولا يوضع على شيء إلا زانه، كما أن الكبر لا يوضع على شيء إلا شانه..
ولذلك كان الأنبياء (عليهم السلام)، وهم أنبل بني البشر، أكثر الناس تواضعاً بعد أن (كرّه إليهم الله سبحانه التكابر ورضي لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين وكانوا قوماً مستضعفين)(4).
ولقد كان الإمام علي (عليه السلام): يرى أن (التواضع من أعظم العبادة)(5)، ولا يعتبر للحسب قيمة إلا به إذ (لا حسب إلا بتواضع)(6). يراه صفة أساسية من صفات المتقين حيث أن (منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع)(7).
ثم إنّ التواضع - بالإضافة إلى كل ذلك - سبب من أسباب النجاح، وشرط من شروط حسن الإدارة حيث أنه (بخفض الجناح تنتظم الأمور)(8).
وهو يرفع المؤمن في عيون أعدائه لأن (التواضع يكسوك المهابة)(9).
أو ليس قد وصف الله الذين يحبهم ويحبونه من الذين هم أعزّة على الكافرين بأنهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(10)؟ فقدم (الذلة على المؤمن) على (العزة على الكافر) فلا يكون عزيزاً على الكافرين إلا من كان ذليلاً على المؤمنين ومتواضعاً لهم.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته المعروفة بـ(القاصعة):
(الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرماً على غيره واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه - وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب - (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَ إِبْلِيسَ)(11) اعترضته الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فعدوّ الله إمامُ المتعصبين وسلف المتكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبريّة، وادّرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره، ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً واعدّ له في الآخرة سعيراً)(12)؟
ويقول (عليه السلام): (اعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلْع التكبّر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم، إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنوداً وأعواناً، ورجلاً وفرساناً، ولا تكونوا كالمتكبرين على ابن أمّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر)(13).
بهذا كان الإمام يوصي أصحابه..
وكما أوصى كان يعمل.. فكان متواضعاً مع الناس، يرفض أن يترفّع عليهم، أو يكون له ما ليس لهم..
فقد كان (عليه السلام) لا يحب حتى المديح، ويرفضه.. فحينما أثنى عليه أحد أصحابه وأطال في ذلك قال له الإمام: (إنّ من حقّ من عظم جلال الله سبحانه في نفسه وجلّ موضعه من قلبه أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كلٌّ ما سواه، وإنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله سبحانه عليه ولطف إحسانه إليه، فإنّه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حقّ الله عليه عظماً.
وإن من أسخف حالات الولاة، عند صالحي الناس، أن يظنّ بهم حبّ الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أنّي أحبّ الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك، لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء.
وربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من البقيّة في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابدّ من إمضائها.
فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة.
ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه.
فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي.
فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى)(14).
وكما كان لا يحب المديح، كان لا يحب المشي في كبرياء وأبّهة، فقد خرج ذات مرة وهو راكب على الفرس، فمشى البعض خلفه فالتفت إليهم، وقال: ألكم حاجة؟
فقالوا: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك.
فقال لهم: (انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب، ومذلة للماشي)!
وركب مرة أخرى فمشوا خلفه فقال (عليه السلام):
(انصرفوا، فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال، مفسدة لقلوب النوكي)(15).
ومرة أخرى وكان (عليه السلام) في طريقه إلى صفين مر هو وأصحابه بمدينة الأنبار، فخفّ وجهاء المدينة وأعيانها إلى استقبال الإمام، يسوقون دواباً مطهمة حملوها أشهى الطعام هدية للإمام وجنوده.
فسألهم الإمام: ما أردتم بهذا الذي صنعتم؟
قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء، فالمطايا هدية لك، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً.
فقال (عليه السلام): (أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء، فوالله ما ينفع هذا الأمراء! وإنكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له. وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإننا نكره أن نأكل من طعامكم شيئاً إلا بثمن).
قالوا: يا أمير المؤمنين نحن نُقَوّمه فنقبل ثمنه.
قال: (وإن غصبكم أحد فأعلمونا)(16).
وكان (عليه السلام) متواضعاً في الدار، كما كان متواضعاً في السوق، فهو في الدار كان يحتطب، ويستسقي، ويكنس، بينما كانت زوجته فاطمة (عليها السلام) تطحن، وتعجن، وتخبز(17).
وكان في السوق هو الذي يشتري، ويحمل ما اشتراه في طرف ردائه، وذات مرة رآه الناس فتبادروا إليه وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن حمله.
فقال: (ربّ العيال أحق بحمله)(18).
وكثيراً ما كان يحمل التمر والملح بيده ويقول:
لا ينقص الكامل من كماله***ما جرّ من نفع إلى عياله(19)
وربما كان يركب حماراً، ومن حوله الذين يركبون الخيل والبغال المطهمة، ويدلي رجليه من على ظهر الحمار إلى موضع واحد ويقول: (أنا الذي أهنت الدنيا!! )(20).
وذات مرة قابله رجل في الطريق وهو يحمل التمر إلى أهله، فأفرط في الثناء عليه وكان الإمام يتهم هذا الرجل، فقال له: (أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك)(21).
وكان يمشي في خمسة حافياً ويعلّق نعليه بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة؛ ويقول: (إنّها مواضع الله، وأحبّ أن أكون فيها حافياً)(22).
وكان يعجبه المتواضعون، ويكره المتكبرين في التاريخ، فيمدح النبي سليمان (عليه السلام) مثلاً لتواضعه ويقول: (كان سليمان إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم، ويقول: مسكين مع المساكين)(23).
وعلى العكس من المتكبرين الذين كلّما بولغ في مدحهم ازدادوا فرحاً فإن الإمام أقدم على حرق من سلّم عليه بالألوهية. فقد ذكر المؤرخون أنه أتى قوم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: السلام عليك يا ربّنا!
فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً، وحفر حفيرة إلى جانبها أخرى وأفضى بينهما، فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى النار حتّى ماتوا(24).
ولقد كان يؤنب كل من يفخر على الناس ويقول له:
(ما بال ابن آدم والفخر؟ أوله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه)(25)!
وحينما كان حاكماً على البلاد الإسلامية وأميراً للمؤمنين، ورد عليه أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل لليبس وجاء ليصب على يد الرجل فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل.
قال الإمام (عليه السلام): اقعد واغسل، فإن الله عزّ وجلّ يراك وأخوك الذي لا يتميّز منك ولا يتفضل عليك، يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة، مثل أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها. فقعد الرجل.
فقال له الإمام علي (عليه السلام): أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبر.
ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإمام الإبريق إلى ولده محمد بن الحنفية، وقال:
يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببتُ على يده، ولكن الله عزّ وجلّ يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، ولكن صبّ الأب على يد الأب فليصب الابن على يد الابن. فصب محمد بن الحنفية على يد الابن(26).
ثم أنه إذا كانت (آفة الرئاسة حب الفخر)(27) فإن أمير المؤمنين، لم تكن عنده ذرة منه، وإلا لم يقم بغسل يد ضيف عادي من عامة الناس، وهو يعتذر إليه، ويُقسمه أن يغسل مطمئناً، وكأنّ قنبراً خادمه، هو الذي يقوم بخدمته.
وكما كان الإمام لا يفتخر، فإنه لم يكن يرضى الفخر لأحد.. فقد حدث أن افتخر عند أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلان. فقال لهما:
(أتفتخران بأجساد بالية، وأرواح في النار؟ إن يكن لك عقل فإن لك خلقاً، وإن يكن لك تقوى فإن لك كرماً، وإلا فالحمار خير منك، ولست بخير من أحد)(28).
وكم كان يوصي أصحابه بالتواضع، ويقول لهم على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)(29)
ويقول (عليه السلام): (أهلك الناس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر)(30).
ويقول (عليه السلام): (من صنع شيئاً للمفاخرة حشره الله يوم القيامة أسود)(31).
وكان يرى المحبة من نتائج التواضع ويقول: (ثمرة التواضع المحبّة، وثمرة الكبر المسبّة)(32).
الهوامش
1 - غرر الحكم ودرر الكلم.
2 - بحار الأنوار: ج75، ص120.
3 - غرر الحكم ودرر الكلم.
4 - نهج البلاغة: الخطب 192.
5 - بحار الأنوار: ج75، ص119.
6 - بحار الأنوار: ج77، ص168.
7 - كنز الفوائد: ص31.
8 - غرر الحكم ودرر الكلم.
9 - المصدر السابق.
10 - سورة المائدة: 54.
11 - سورة ص: 7173.
12 - إعلام النبوة: ص97.
13 - نهج البلاغة: الخطب 192.
14 - روضة الكافي: ص352.
15 - بحار الأنوار: ج41، ص55.
16 - مناقب آل أبي طالب: ج1، ص310.
17 - المصدر السابق: ص309.
18 - مناقب آل أبي طالب: ج1، ص309.
19 - المصدر السابق.
20 - علي إمام المتقين: ج2، ص238.
21 - المصدر السابق.
22 - بحار الأنوار: ج41، ص54.
23 - بحار الأنوار: ج14، ص83.
24 - فروع الكافي: ج7، ص257.
25 - علي إمام المتقين: ج1، ص79.
26 - الاحتجاج: ص256257.
27 - غرر الحكم ودرر الكلم.
28 - بحار الأنوار: ج70، ص291.
29 - الترغيب والترهيب: ج3، ص588.
30 - بحار الأنوار: ج78، ص45.
31 - بحار الأنوار: ج73، ص292.
32 - غرر الحكم ودرر الكلم.
33 - بحار الأنوار: ج75، ص120.
34 - بحار الأنوار: ج78، ص9.
وهي حالة تنبع أساساً من وعي الإنسان، ومعرفته من جهة. ومن عظمة روحه من جهة أخرى، فكلّما ازداد علماً ورفعةً في النفس ازداد تواضعه. وعلى العكس كلّما عظم جهله، وحقرت نفسه ازداد تعالياً وتكبراً.
من هنا فإنه (ما تواضع إلا رفيع)(1) وما تكبر إلا وضيع. تماماً كما تتدلى الأغصان وتتواضع كلما حملت ثماراً. ولكنها ترتفع وتتعالى كلّما خليت من الثمار.
فالتواضع إذن قيمة بحدّ ذاتها، كما العلم والشجاعة والكرم وغيرها من الفضائل (فزينة الشريف التواضع)(2) وهو (زكاة الشرف)(3) ولا يوضع على شيء إلا زانه، كما أن الكبر لا يوضع على شيء إلا شانه..
ولذلك كان الأنبياء (عليهم السلام)، وهم أنبل بني البشر، أكثر الناس تواضعاً بعد أن (كرّه إليهم الله سبحانه التكابر ورضي لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين وكانوا قوماً مستضعفين)(4).
ولقد كان الإمام علي (عليه السلام): يرى أن (التواضع من أعظم العبادة)(5)، ولا يعتبر للحسب قيمة إلا به إذ (لا حسب إلا بتواضع)(6). يراه صفة أساسية من صفات المتقين حيث أن (منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع)(7).
ثم إنّ التواضع - بالإضافة إلى كل ذلك - سبب من أسباب النجاح، وشرط من شروط حسن الإدارة حيث أنه (بخفض الجناح تنتظم الأمور)(8).
وهو يرفع المؤمن في عيون أعدائه لأن (التواضع يكسوك المهابة)(9).
أو ليس قد وصف الله الذين يحبهم ويحبونه من الذين هم أعزّة على الكافرين بأنهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(10)؟ فقدم (الذلة على المؤمن) على (العزة على الكافر) فلا يكون عزيزاً على الكافرين إلا من كان ذليلاً على المؤمنين ومتواضعاً لهم.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته المعروفة بـ(القاصعة):
(الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرماً على غيره واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه - وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب - (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَ إِبْلِيسَ)(11) اعترضته الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فعدوّ الله إمامُ المتعصبين وسلف المتكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبريّة، وادّرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره، ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً واعدّ له في الآخرة سعيراً)(12)؟
ويقول (عليه السلام): (اعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلْع التكبّر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم، إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنوداً وأعواناً، ورجلاً وفرساناً، ولا تكونوا كالمتكبرين على ابن أمّه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر)(13).
بهذا كان الإمام يوصي أصحابه..
وكما أوصى كان يعمل.. فكان متواضعاً مع الناس، يرفض أن يترفّع عليهم، أو يكون له ما ليس لهم..
فقد كان (عليه السلام) لا يحب حتى المديح، ويرفضه.. فحينما أثنى عليه أحد أصحابه وأطال في ذلك قال له الإمام: (إنّ من حقّ من عظم جلال الله سبحانه في نفسه وجلّ موضعه من قلبه أن يصغر عنده - لعظم ذلك - كلٌّ ما سواه، وإنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله سبحانه عليه ولطف إحسانه إليه، فإنّه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حقّ الله عليه عظماً.
وإن من أسخف حالات الولاة، عند صالحي الناس، أن يظنّ بهم حبّ الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أنّي أحبّ الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك، لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء.
وربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من البقيّة في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابدّ من إمضائها.
فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة.
ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه.
فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي.
فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى)(14).
وكما كان لا يحب المديح، كان لا يحب المشي في كبرياء وأبّهة، فقد خرج ذات مرة وهو راكب على الفرس، فمشى البعض خلفه فالتفت إليهم، وقال: ألكم حاجة؟
فقالوا: لا، يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك.
فقال لهم: (انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب، ومذلة للماشي)!
وركب مرة أخرى فمشوا خلفه فقال (عليه السلام):
(انصرفوا، فإن خفق النعال خلف أعقاب الرجال، مفسدة لقلوب النوكي)(15).
ومرة أخرى وكان (عليه السلام) في طريقه إلى صفين مر هو وأصحابه بمدينة الأنبار، فخفّ وجهاء المدينة وأعيانها إلى استقبال الإمام، يسوقون دواباً مطهمة حملوها أشهى الطعام هدية للإمام وجنوده.
فسألهم الإمام: ما أردتم بهذا الذي صنعتم؟
قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء، فالمطايا هدية لك، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً.
فقال (عليه السلام): (أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء، فوالله ما ينفع هذا الأمراء! وإنكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له. وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإننا نكره أن نأكل من طعامكم شيئاً إلا بثمن).
قالوا: يا أمير المؤمنين نحن نُقَوّمه فنقبل ثمنه.
قال: (وإن غصبكم أحد فأعلمونا)(16).
وكان (عليه السلام) متواضعاً في الدار، كما كان متواضعاً في السوق، فهو في الدار كان يحتطب، ويستسقي، ويكنس، بينما كانت زوجته فاطمة (عليها السلام) تطحن، وتعجن، وتخبز(17).
وكان في السوق هو الذي يشتري، ويحمل ما اشتراه في طرف ردائه، وذات مرة رآه الناس فتبادروا إليه وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن حمله.
فقال: (ربّ العيال أحق بحمله)(18).
وكثيراً ما كان يحمل التمر والملح بيده ويقول:
لا ينقص الكامل من كماله***ما جرّ من نفع إلى عياله(19)
وربما كان يركب حماراً، ومن حوله الذين يركبون الخيل والبغال المطهمة، ويدلي رجليه من على ظهر الحمار إلى موضع واحد ويقول: (أنا الذي أهنت الدنيا!! )(20).
وذات مرة قابله رجل في الطريق وهو يحمل التمر إلى أهله، فأفرط في الثناء عليه وكان الإمام يتهم هذا الرجل، فقال له: (أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك)(21).
وكان يمشي في خمسة حافياً ويعلّق نعليه بيده اليسرى: يوم الفطر، والنحر، والجمعة، وعند العيادة، وتشييع الجنازة؛ ويقول: (إنّها مواضع الله، وأحبّ أن أكون فيها حافياً)(22).
وكان يعجبه المتواضعون، ويكره المتكبرين في التاريخ، فيمدح النبي سليمان (عليه السلام) مثلاً لتواضعه ويقول: (كان سليمان إذا أصبح تصفّح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين ويقعد معهم، ويقول: مسكين مع المساكين)(23).
وعلى العكس من المتكبرين الذين كلّما بولغ في مدحهم ازدادوا فرحاً فإن الإمام أقدم على حرق من سلّم عليه بالألوهية. فقد ذكر المؤرخون أنه أتى قوم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا: السلام عليك يا ربّنا!
فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً، وحفر حفيرة إلى جانبها أخرى وأفضى بينهما، فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة، وأوقد في الحفيرة الأخرى النار حتّى ماتوا(24).
ولقد كان يؤنب كل من يفخر على الناس ويقول له:
(ما بال ابن آدم والفخر؟ أوله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه)(25)!
وحينما كان حاكماً على البلاد الإسلامية وأميراً للمؤمنين، ورد عليه أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر المجلس وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطشت وإبريق خشب ومنديل لليبس وجاء ليصب على يد الرجل فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل.
قال الإمام (عليه السلام): اقعد واغسل، فإن الله عزّ وجلّ يراك وأخوك الذي لا يتميّز منك ولا يتفضل عليك، يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة، مثل أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها. فقعد الرجل.
فقال له الإمام علي (عليه السلام): أقسمت بعظيم حقي الذي عرفته لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبر.
ففعل الرجل ذلك، فلما فرغ ناول الإمام الإبريق إلى ولده محمد بن الحنفية، وقال:
يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببتُ على يده، ولكن الله عزّ وجلّ يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، ولكن صبّ الأب على يد الأب فليصب الابن على يد الابن. فصب محمد بن الحنفية على يد الابن(26).
ثم أنه إذا كانت (آفة الرئاسة حب الفخر)(27) فإن أمير المؤمنين، لم تكن عنده ذرة منه، وإلا لم يقم بغسل يد ضيف عادي من عامة الناس، وهو يعتذر إليه، ويُقسمه أن يغسل مطمئناً، وكأنّ قنبراً خادمه، هو الذي يقوم بخدمته.
وكما كان الإمام لا يفتخر، فإنه لم يكن يرضى الفخر لأحد.. فقد حدث أن افتخر عند أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلان. فقال لهما:
(أتفتخران بأجساد بالية، وأرواح في النار؟ إن يكن لك عقل فإن لك خلقاً، وإن يكن لك تقوى فإن لك كرماً، وإلا فالحمار خير منك، ولست بخير من أحد)(28).
وكم كان يوصي أصحابه بالتواضع، ويقول لهم على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)(29)
ويقول (عليه السلام): (أهلك الناس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر)(30).
ويقول (عليه السلام): (من صنع شيئاً للمفاخرة حشره الله يوم القيامة أسود)(31).
وكان يرى المحبة من نتائج التواضع ويقول: (ثمرة التواضع المحبّة، وثمرة الكبر المسبّة)(32).
الهوامش
1 - غرر الحكم ودرر الكلم.
2 - بحار الأنوار: ج75، ص120.
3 - غرر الحكم ودرر الكلم.
4 - نهج البلاغة: الخطب 192.
5 - بحار الأنوار: ج75، ص119.
6 - بحار الأنوار: ج77، ص168.
7 - كنز الفوائد: ص31.
8 - غرر الحكم ودرر الكلم.
9 - المصدر السابق.
10 - سورة المائدة: 54.
11 - سورة ص: 7173.
12 - إعلام النبوة: ص97.
13 - نهج البلاغة: الخطب 192.
14 - روضة الكافي: ص352.
15 - بحار الأنوار: ج41، ص55.
16 - مناقب آل أبي طالب: ج1، ص310.
17 - المصدر السابق: ص309.
18 - مناقب آل أبي طالب: ج1، ص309.
19 - المصدر السابق.
20 - علي إمام المتقين: ج2، ص238.
21 - المصدر السابق.
22 - بحار الأنوار: ج41، ص54.
23 - بحار الأنوار: ج14، ص83.
24 - فروع الكافي: ج7، ص257.
25 - علي إمام المتقين: ج1، ص79.
26 - الاحتجاج: ص256257.
27 - غرر الحكم ودرر الكلم.
28 - بحار الأنوار: ج70، ص291.
29 - الترغيب والترهيب: ج3، ص588.
30 - بحار الأنوار: ج78، ص45.
31 - بحار الأنوار: ج73، ص292.
32 - غرر الحكم ودرر الكلم.
33 - بحار الأنوار: ج75، ص120.
34 - بحار الأنوار: ج78، ص9.

تعليق