إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

عشرة ردود في عشرة عصور (علم الأئمة بالغيب والاعتراض عليه بالإلقاء إلى التهلكة)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عشرة ردود في عشرة عصور (علم الأئمة بالغيب والاعتراض عليه بالإلقاء إلى التهلكة)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات ، وترفع الدرجات ،
    وأفضل السلام وأكمل الصلاة على سيد الكائنات وأشرف الموجودات ، محمد صاحب المعجزات الباهرات ،
    وعلى الأئمة المعصومين من آله ذوي الكرامات والحجج البينات .


    أخواني المؤمنين ، أخواتي الفاضلات
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    على هامش الحوار مع الأخ ( منصــــف ) في شبكة هجر بخصوص شبهة علم الغيب بالنسبة للأئمة الأطهار عليهم السلام و كذلك اختيار الموت و تهمة الإلقاء إلى التهلكة ،،
    و كما ذكرنا بأن علماءنا الكرام قتلوا هذه القضية بحثاً و تمحيصاً و تفنيداً
    و لكي تتم الفائدة للجميع
    أضــع بين أياديكم هذه الردود الرصينة لثلة من علماء الطائفة و محدّثيها
    و نخبة من كلام الأئمة الأطهار (ع) بخصوص هذ الشبهــة،

    ليكون مرجعاً للجميع و يستفيد من الأخوة و الأخوات.


    الموضوع سيشمل عشرة ردود خُطت في عشــرة عصـــور :

    1 - في عصر الإمام الرضا عليه السلام ( ت 203 هـ ) .
    2 - في عصر الكليني رحمه الله ( ت 329 هـ ) . الجواب عن الاعتراضات على الكافي .
    3 - في عصر الشيخ المفيد رحمه الله ( ت 413 هـ ) .
    4 - في عصر الشيخ الطوسي رحمه الله ( ت 460 هـ ) .
    5 - في عصر الشيخ ابن شهر آشوب رحمه الله ( ت 588 هـ ) .
    6 - في عصر الشيخ العلامة الحلي رحمه الله ( ت 726 هـ ) .
    7 - في عصر الشيخ المجلسي رحمه الله ( ت 1110 هـ ) .
    8 - في عصر الشيخ البحراني رحمه الله ( ت 1186 هـ ) .
    9 - مع السيد الخراساني رحمه الله في القرن السابق ( ت 1368 هـ ) .
    10- في هذا القرن .


    سيتخلل هذه الردود قبلها و بعدها بعض التعليقات المفيدة لسماحة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي - حفظه الله تعالى - الذي جمــع و حقق هذه الردود،
    فجزاه الله عن أهل البيت (ع) خيــر الجــزاء.

    يتبع >>>


  • #2
    نكمل ...


    1 - عصر الإمام الرضا عليه السلام ( ت 203 هـ )

    عرضت المشكلة على الإمام أبي الحسن الرضا علي بن موسى بن جعفر ابن محمد عليه السلام ( ت 203 ه ) فيما رواه الكليني رحمه الله في ( الكافي ) كتاب الحجة ، باب ( أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) :

    الحديث الرابع : علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت للرضا عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه . وقوله - لما سمع صياح الإوز في الدار - : ( صوائح تتبعها نوائح ) ! وقول أم كلثوم : ( لو صليت الليلة داخل الدار ، وأمرت غيرك يصلي بالناس ) فأبى عليها ! وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة ، بلا سلاح ! وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف ! كان هذا مما لم يجز تعرضه ؟ !
    فقال : ذلك كان ، ولكنه خير في تلك الليلة ، لتمضي مقادير الله عز و جل.

    والمستفاد من هذا الحديث أمور :

    الأول: إن المشكلة كانت مطروحة منذ عهود الأئمة ، وعلى المستوى الرفيع ، إذ عرضها واحد من كبار الرواة وهو : الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين ، أبو محمد الزراي الشيباني ، من خواص الإمام الرضا عليه السلام ، وروى عن الإمام الكاظم عليه السلام ، وعنه جمع من أعيان الطائفة ، وقد صرح بتوثيقه ، وله كتاب معروف رواه أصحاب الفهرستات ، وله حديث كثير في الكتب الأربعة. وهو من كبار آل زرارة ، البيت الشيعي المعروف بالاختصاص بالمذهب .

    الثاني: إن علم الإمام ومعرفته بوقت مقتله ، وما ذكر في الرواية من الأقوال والأفعال الدالة على اختياره للقتل وإقدامه على ذلك ، كلها أمور كانت مسلمة الوقوع ، ومعروفة في عصر السائل .

    الثالث: إن الراوي إنما سأل عن وجه إقدام الإمام على هذه الأمور ، وإنه مع العلم بترتب قتله على ذلك ، كيف يجوز له تعريض نفسه له ؟ وهو مضمون الاعتراض الثاني .

    الرابع: إن جواب الإمام الرضا عليه السلام بقوله : ( ذلك كان ) تصديق بجميع ما ورد في السؤال من أخبار ( علم الإمام ) والأقوال والأفعال التي ذكرها السائل ، وعدم معارضته الإمام الرضا عليه السلام لشئ ، من ذلك وعدم إنكاره ، كل ذلك دليل على موافقة الإمام الرضا عليه السلام على اعتقاد السائل بعلم الإمام بوقت قتله .

    الخامس : جواب الإمام الرضا عليه السلام عن السؤال بتوجيه إقدام الإمام ، وعدم الاعتراض على أصل فرض علم الغيب ، دليل على قبول هذا الفرض ، وعدم ثبوت الاعتراض الأول .

    السادس : قول الإمام عليه السلام في الجواب : ( لكنه خير ) صريح في أن الإمام عليه السلام أعطي الخيرة من أمر موته ، فأختار القتل لتجري الأمور على مقاديرها المعينة في الغيب ، وليكون أدل على مطاوعته لإرادة الله وانقياده لتقديره . وهذا أوضح المعاني ، وأنسبها بعنوان الباب . وعلى نسخة ( حين ) التي ذكرها المجلسي ، فالمعنى أن القتل قد عين حينه ووقته ، لمقادير قدر الله أن تمضي وتتحقق ، فتكون دلالة الحديث على ما في العنوان من مجرد ثبوت علم الإمام بوقت قتله وإقدامه ، وعدم امتناعه وعدم دفعه عن نفسه ، وذلك يتضمن أن الإمام وافق التقدير وجرى على وفقه . وأما نسخة ( حير ) فلا معنى لها ، لأن تحير الإمام ليس له دخل في توجيه إقدامه على القتل عالما به ، بل ذلك مناقض لهذا الفرض ، مع أنه لا يناسب عنوان الباب . فيكون احتمالها مرفوضا .
    ولعلها مصحفة عن ( خبر ) بمعنى أعلم ، فيكون الجريان على التقدير وإمضائه تعليلا لإخبار الإمام وإعلامه ، لكنه لا يخلو من تأمل .
    فالأولى بالمعنى ، والأنسب بالعنوان : هو ( خير ) كما أوضحنا . فدلالة الحديث على ثبوت علم الإمام بوقت موته ، واختياره في ذلك واضحة جدا . والجواب عن الاعتراض بالإلقاء في التهلكة : هو أن الإمام إنما اختار الموت والقتل بالكيفية التي جرى عليها التقدير ، حتى يكشف عن منتهى طاعته لله وانقياده لإرادته وحبه له وفنائه فيه وعشقه له ورغبته في لقائه ، كما نقل عنهم قولهم عليهم السلام : ( رضا لرضاك ، تسليما لأمرك ، لا معبود سواك ) .


    يتبع >>>


    تعليق


    • #3


      2 - عصر الشيخ الكليني ( ت 329 هـ )

      المحدث الأقدم أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي ، مجدد القرن الرابع ، المتوفى سنة 329 ه وقد عاش في عصر الغيبة الصغرى وعاصر من الوكلاء ثلاثة ، وقد احتل بين الطائفة مكانة مرموقة ، وكانت له بين علماء الإسلام منزلة عظيمة ، وننقل بعض ما قاله الكبراء في حقه :
      قال النجاشي ( ت 450 ه ) : شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم .
      وقال الطوسي ( ت 460 ه ) : ثقة عارف بالأخبار ، جليل القدر . وقال العامة فيه : من فقهاء الشيعة ، ومن أئمة الإمامية وعلمائهم .
      قال السيد بحر العلوم ( ت 1212 ه ) : ثقة الإسلام ، وشيخ مشايخ الأعلام ، ومروج المذهب في غيبة الإمام عليه السلام ، ذكره أصحابنا . . . واتفقوا على فضله وعظم منزلته.
      وكتابه العظيم ( الكافي ) أول الكتب الأربعة المعتمدة عند الشيعة في الحديث وأجلها وأوسعها ، والذي مجد به كبار الطائفة وأعلامهم :
      فقال المفيد ( ت 413 ه ) فيه : هو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة .
      وقال الشهيد الأول ( ت 786 ه ) : كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل الإمامية مثله .
      وقال المازندراني ( ت 1081 ه ) وهو شارح الكافي : كتاب الكافي أجمع الكتب المصنفة في فنون علوم الإسلام ، وأحسنها ضبطا ، وأضبطها لفظا ، وأتقنها معنى ، وأكثرها فائدة ، وأعظمها عائدة ، حائز ميراث أهل البيت ، وقمطر علومهم .
      وقال السيد بحر العلوم ( ت 1212 ه ) : إنه كتاب جليل ، عظيم النفع ، عديم النظر ، فائق على جميع كتب الحديث بحسن الترتيب ، وزيادة الضبط والتهذيب ، وجمعه للأصول والفروع ، واشتماله على أكثر الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام.

      لقد عقد الشيخ الكليني في كتابه ( الكافي ) بابا في كتاب ( الحجة )
      بعنوان : ( باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) .
      وأورد فيه ( ثمانية ) أحاديث تدل على ما في العنوان ، ومنها الحديث المذكور سابقا ، عن الإمام الرضا عليه السلام .
      وعقد الكليني لهذا الباب بهذا العنوان يدل بوضوح على أن المشكلة كانت معروضة في عصره ، وبحاجة إلى حسم ، فلذلك لجأ إلى عقده.
      فلنمر بمضمون الأحاديث ، كي نقف على مداليلها:
      الحديث الأول : بسنده عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : أي إمام لا يعلم ما يصيبه ، وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجة لله على خلقه .
      ودلالته على عنوان الباب واضحة .

      الحديث الثاني : بسنده عمن أدخل على موسى الكاظم عليه السلام فأخبر أنه قد سقي السم وغدا يحتضر ، وبعد غد يموت .
      ودلالته على علم الإمام بوقت موته واضحة .

      الحديث الثالث : بسنده عن جعفر الصادق عليه السلام ، عن أبيه الباقر عليه السلام : أنه أتى أباه علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، قال له : إن هذه الليلة يقبض فيها ، وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
      ودلالته على علم الإمام بليلة وفاته واضحة .

      الحديث الرابع : وقد أوردناه في المقطع السابق بعنوان ( عصر الإمام الرضا عليه السلام ) .

      الحديث الخامس : بسنده عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام ، وفيه : أن الله غضب على الشيعة وأنه خيره نفسه ، أو الشيعة ، وأنه وقاهم بنفسه . ودلالته على تخييره بين أن يصيبهم بالموت ، أو يصيبه هو ، وعلى اختياره الموت وقاء لهم ، واضحة .

      الحديث السادس : بسنده إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام ، أنه قال لمسافر الراوي : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له : يا علي ، ما عندنا خير لك .
      ومن الواضح أن هذا القول هو دعوة للإمام إلى ما عند رسول الله ، وهو كناية واضحة عن الموت ، وقد مثل الإمام الرضا عليه السلام وضوح ذلك بوضوح وجود الحيتان في القناة التي أشار إليها في صدر الحديث .

      الحديث السابع : بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، أن أباه أوصاه بأشياء في غسله وفي كفنه وفي دخوله قبره ، وليس عليه أثر الموت ، فقال الباقر عليه السلام : يا بني ، أما سمعت علي بن الحسين عليه السلام ينادي من وراء الجدار : ( يا محمد ، تعال ، عجل ) .
      دلالته مثل الحديث السابق ، في كون الدعوة إلى الدار الأخرى ، والقرينة هنا أوضح ، حين أوصى الإمام بتجهيزه . ودلالة هذين الحديثين على الاختيار للإمام واضحة ، إذ أن مجرد الدعوة ليس فيها إجبار على الامتثال ، بلى يتوقف على الإجابة الاختيارية لذلك .

      الحديث الثامن : بسنده عن عبد الملك بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام حتى كان بين السماء والأرض . ثم خير : النصر ، أو لقاء الله . فاختار لقاء الله تعالى .
      ودلالته على ما في عنوان الباب واضحة ، للتصريح فيه بالتخيير ثم اختيار الإمام لقاء الله .

      ومع وضوح دلالة جميع هذه الأحاديث على ما في عنوان الباب كما شرحناه ، فلا يرد نقد إلى الكليني ، ولا الكافي ، ولا هذا الباب بالخصوص ، ومن حاول التهجم على الكتاب والتشكيك في صحة نسخه ، والمناقشة في أسانيد هذه الأحاديث ، فهو بعيد عن العلم وأساليب عمل العلماء .

      والتشكيك في دلالة الأحاديث على مدلول عنوان الباب يدل على الجهل باللغة العربية ، ودلالتها اللفظية والبعد عن أوليات علم الكلام بشكل مكشوف ومفضوح ، فلا نجد من اللازم التعرض لكل ما ذكر في هذا المجال ، إلا أن محاولة التهجم على الكتاب ، وأسانيده ، لا بد من ذكرها وتفنيدها ، وهي :

      أولا : ما ذكر تبعا لمستشرق أمريكي أثار هذه الشبهة - من أن نسخ كتاب ( الكافي ) مختلفة ، وأن هناك فرقا بين رواية الصفواني ، ورواية النعماني ، للكتاب ، وبين النسخة المطبوعة المتداولة . نقول : إن تلاميذ الكليني الذين رووا عنه كتاب ( الكافي ) بالخصوص كثيرون ، وقد صرح علماء الرجال بروايتهم للكتاب عن مؤلفه الكليني ، وهم : الصفواني ، والنعماني ، وأبو غالب الزراري ، وأبو الحسن الشافعي ، وأبو الحسين الكاتب الكوفي ، والصيمري ، والتلعكبري ، وغيرهم.
      وإن دلت كثرة الرواة على شئ فإنما تدل على أهمية الكتاب والعناية به ، والتأكد من نصه ، ولا بد أن يبذل المؤلف والرواة غاية جهدهم في تحقيق عملية المحافظة عليه ، والتأكد من بلوغه بالطرق الموثوقة المتعارفة لتحمل الحديث وأدائه .
      أما الاختلاف بين النسخ على أثر وقوع التصحيف والسهو في الكتابة ، وعلى طول المدة الزمنية بيننا وبين القرن الرابع على مدى عشرة قرون ، فأمر قد مني به تراثنا العربي ، فهل يعني ذلك التشكيك في هذا التراث ؟ ! كلا ، فإن علماء الحديث قد بذلوا جهودا مضنية في الحفاظ على هذا التراث وجمع نسخه والمقارنة بينها ، والترجيح والاختيار والتحقيق والتأكد من النص ، شأنهم في ذلك شأن العلماء في عملهم مع النصوص الأخرى ، من دون أن يكون لمثل هذه التشكيكات أثر في حجيتها أو سلب إمكان الإفادة منها ، ما دامت قواعد التحقيق والتأكد والتثبت ، متوفرة ، والحمد لله .

      أما تهريج الجهلة بأساليب التحقيق ، وبقواعد البحث العلمي في انتخاب النصوص ، وإثارتهم وجود نسخ مختلفة ، فهو نتيجة واضحة للأغراض المنبعثة من الحقد والكراهية للعلم ، وقديما قيل : ( الناس أعداء ما جهلوا ) .

      وثانيا : مناقشة الأحاديث المذكورة ، من حيث أسانيدها ، ووجود رجال موسومين بالضعف فيها . والرد على ذلك :
      أن البحث الرجالي ، ونقد الأسانيد بذلك ، لا بد أن يعتمد على منهج رجالي محدد ، يتخذه الناقد ، ويستدل عليه ، ويطبقه ، وليس ذلك حاصلا بمجرد تصفح الكتب الرجالية ، ووجدان اسم لرجل ، والحكم عليه بالضعف أو الثقة ، تبعا للمؤلفين الرجاليين وتقليدا لهم ، مع عدم معرفة مناهجهم وأساليب عملهم . وإن من المؤسف ما أصاب هذا العلم ، إذ أصبح ملهاة للصغار من الطلبة ، يناقشون به أسانيد الأحاديث ، مع جهلهم بالمناهج الرجالية التي أسس مؤلفو علم الرجال كتبهم عليها ، وبنوا أحكامهم الرجالية على أساسها ، مع أهمية ما يبتني على تلك الأحكام من إثبات ونفي ، ورد وأخذ ، لأحاديث وروايات في الفقه والعقائد والتاريخ وغير ذلك . كما أن معرفة الحديث الشريف ، وأساليب تأليفه ومناهج مؤلفيه له أثر مهم في مداولة كتبهم والاستفادة منها .

      ولقد أساء من أقحم - ولا يزال يقحم - الطلبة في وادي هذا العلم ، الصعب المسالك ، فيصرفون أوقاتهم الغالية في مناقشات ومحاولات عقيمة ، ويبنون عليها الأحكام والنتائج الخطيرة . كالمناقشة في أسانيد أحاديث هذا الباب الذي نبحث عنه في كتاب ( الكافي ) للشيخ الكليني ، فقد جهل المناقش أمورا من مناهج النقد الرجالي ، ومن أسلوب عمل الكليني ، فخبط خبط عشواء في توجيه النقد إلى ( الكافي ) .
      فمن ناحية : إن قسم الأصول من ( الكافي ) إنما يحتوي على أحاديث ترتبط بقضايا عقائدية ، وأخرى موضوعات لا ترتبط بالتعبد الشرعي ، كالتواريخ وأحوال الأئمة ومجريات حياتهم .
      ومن المعلوم أن اعتبار السند ، وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم ، إنما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي ، للتعبد به ، لأن طريق اعتبار الحديث توصلا إلى التعبد به متوقف على اعتباره سنديا ، بينما القضايا الاعتقادية ، والموضوعات الخارجة لا يمكن التعبد بها ، لأنها ليست من الأحكام الشرعية ، فليس المراد منها هو التعبد بمدلولها والتبعية للإمام فيها ، وإنما المطلوب الأساسي منها هو القناعة والالتزام القلبي واليقين ، وليس شئ من ذلك يحصل بالخبر الواحد حتى لو صح سنده ، وقيل بحجيته واعتباره ، لأنه على هذا التقدير لا يفيد العلم ، وإنما يعتبر للعمل فقط . نعم ، إن حاجة العلماء إلى نقل ما روي من الأحاديث في أبواب الأصول الاعتقادية ، لمجرد الاسترشاد بها ، والوقوف من خلالها على أساليب الاستدلال والطرق القويمة المحكمة التي يتبعها أئمة أهل البيت عليهم السلام في الاقناع والتدليل على تلك الأصول . ولا يفرق في مثل هذا أن يكون الحديث المحتوي عليه صحيح السند أو ضعيفة ، ما دام المحتوى وافيا بهذا الغرض وموصلا إلى الاقناع الفكري بالمضمون . وليس التشكيك في سند الحديث المحتوي على الاقناع مؤثرا لرفع القناعة بما احتواه من الدليل .
      وكذا الموضوعات الخارجة ، كالتواريخ وسني الأعمار وأخبار السيرة ، ليس فيها شئ يتعبد به حتى تأتي فيه المناقشة السندية ، وإنما هي أمور ممكنة ، يكفي في الالتزام بها ونفي احتمال غيرها ورود الخبر به . فلو لم يمنع من الالتزام بمحتوى الخبر الوارد أصل محكم ، أو فرع ملتزم ، ولم تترتب على الالتزام به مخالفة واضحة ، أو لم تقم على خلافه أدلة معارضة ، كفى الخبر الواحد في احتماله لكونه ممكنا . وإذا غلب على الظن وقوعه باعتبار كثرة ورود الأخبار به ، أو توافرها ، أو صدور مثل ذلك الخبر من أهله الخاصين بعلمه ، أو ما يماثل ذلك من القرائن والمناسبات المقارنة ، كفى ذلك مقنعا للالتزام به .

      وبما أن موضوع قسم الأصول من الكافي ، وخاصة الباب الذي أورد فيه الأحاديث الدالة على ( علم الأئمة عليهم السلام بوقت موتهم وأن لهم الاختيار في ذلك ) هو موضوع خارج عن مجال الأحكام والتعبد بها وليس الالتزام به منافيا لأصل من الأصول الثابتة ، ولا لفرع من الفروع الشرعية ، ولا معارضا لآية قرآنية ، ولا لحديث ثابت في السنة ، ولا ينفيه دليل عقلي ، وقد وردت به هذه المجموعة من الأحاديث والآثار - مهما كان طريقها - فقد أصبح من الممكن والمحتمل والمعقول .

      وإذا توافرت الأحاديث وتكررت ، كما هو في أحاديث الباب ودلت القرائن الأخرى المذكورة في كتب السيرة والتاريخ ، وأيدت الأحاديث المنبئة عن تلك المضامين حصل من مجموع ذلك وثوق واطمئنان بثبوته . ولا ينظر في مثل ذلك إلى مفردات الأسانيد ومناقشتها رجاليا .

      ومن ناحية أخرى : فإن المنهج السائد في عرف قدماء العلماء ، وأعلام الطائفة ، هو اللجوء إلى المناقشة الرجالية في الأسانيد ، ومعالجة اختلاف الحديث بذلك ، في خصوص موارد التعارض والاختلاف . وقد يستدل على هذه السيرة وقيام العمل بها ، باعتمادهم في الفقه وغيره على الأحاديث المرسلة المقبولة والمتداولة وإن كانت لا سند لها ، فضلا عن المقطوعة الأسانيد ، في صورة انفرادها بالحكم في الموقف .

      وللبحث عن هذا المنهج ، وقبوله أو مناقشته ، مجال آخر . هذا ، مع أن الكليني لم يكن غافلا - قط - عن وجود هذه الأسماء في أسانيد الأحاديث ، لتسجيله لها وعقد باب لها في كتابه .
      كيف ، وهو من رواد علم الرجال ، وقد ألف كتابا في هذا العلم باسم ( الرجال ) ؟ !
      أما اتهام الرواة لهذه الأحاديث بالارتفاع والغلو ، ومحاسبة المؤلف الكليني على إيرادها ، لأنها تحتوي على ثبوت علم الغيب للأئمة عليهم السلام . فهذا مبني على الجهل بأبسط المصطلحات المتداولة بين العلماء :
      فالغلو اسم يطلق على نسبة الربوبية إلى البشر - والعياذ بالله - ، بينما هذا معنون ب ( أن الأئمة يعلمون متى يموتون . . . ) فالباب يتحدث عن ( موت الأئمة ) وهذا يناقض القول ب ( الغلو ) وينفيه .
      فجميع رواة هذا الباب ، يبتعدون - بروايتهم له - عن الغلو المصطلح ، قطعا . فيكف يتهمهم بالغلو ؟ ! هذا ، والكليني نفسه ممن ألف كتابا في الرد على ( القرامطة ) وهم فرقة تنسب إلى الغلاة مما يدل على استيعاب الكليني وتخصصه في أمر الفرق . فكيف يحاسب بمثل ذلك ؟ !
      ثم إن قول الكليني في عنوان الباب : ( وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) يعني أن الموت الإلهي الذي قهر الله به عباده وما سواه ، بدون استثناء ، وتفرد هو بالبقاء دونهم ، لا بد أن يشملهم - لا محالة - ولا مفر لهم منه ، وإنما امتازوا بين سائر الخلائق بأن جعل الله اختيارهم لموتهم إليهم ، وهذا يوحي :
      أولا : أن لهم اختيار وقت الموت ، فيختارون الآجال المعلقة ، قبل أن تحتم ، فيكون ذلك بإرادة منهم واختيار وعلم ، رغبة منهم في سرعة لقاء الله ، وتحقيقا للآثار العظيمة المترتبة على شهادتهم في ذلك الوقت المختار . وهذا أنسب بكون إقداماتهم مع كامل اختيارهم ، وعدم كونها مفروضة عليهم ، وأنسب بكون ذلك مطابقا لقضاء الله وقدره ، فهو يعني إرادة الله منهم لما أقدموا عليه ، من دون حتم . وإلا ، فإن كان قضاءا مبرما وأجلا حتما لازما ، فكيف يكونون مختارين فيه ؟ ! وما معنى موافقتهم على ما ليس لهم الخروج عنه إلى غيره ؟ !

      ثانيا : أن لهم اختيار نوع الموت الذي يموتون به ، من القتل بالسيف ضربة واحدة ، كما اختار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ذلك ، أو بشرب السم أو أكل المسموم كما اختاره أكثر الأئمة عليهم السلام ، أو بتقطيع الأوصال وفري الأوداج واحتمال النصال والسهام وآلام الحرب ، والنضال ، وتحمل العطش والظمأ ، كما جرى على الإمام سيد الشهداء عليه السلام . ولا يأبى عموم لفظ العنوان ( لا يموتون إلا باختيار منهم ) عن الحمل على ذلك كله . مع أن في المعنى الثاني بعدا اجتماعيا هاما ، وهو : أن الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يعلمون من خلال الظروف ، والأحداث ، والمؤشرات والمجريات ، المحيطة بهم - بلا حاجة إلى الاعتماد على الغيب وإخباره - أن الخلفاء الظلمة ، والمتغلبين الجهلة ، على حكم العباد والبلاد ، سيقدمون على إزهاق أرواحهم المقدسة بكل وسيلة تمكنهم ، لأنهم لا يطيقون تحمل وجود الأئمة عليهم السلام الرافضين للحكومات الجائرة والفاسدة ، والتي تحكم وتتحكم على الرقاب بالباطل ، وباسم الإسلام ليشوهوا سمعته الناصعة بتصرفاتهم الشوهاء . فكان الأئمة الأطهار تجسيدا للمعارضة الحقة الحية ، ولو كانوا في حالة من السكوت ، وعدم مد اليد إلى الأسلحة الحديدية ، لكن وجوداتهم الشريفة كانت قنابل قابلة للانفجار في أي وقت ! وتعاليمهم كانت تمثل الصرخات المدوية على أهل الباطل ، ودروسهم وسيرتهم كانت تمثل الشرارات ضد تلك الحكومات ! فكيف تطيق الأنظمة الفاسدة وجود هؤلاء الأئمة ، لحظة واحدة ! فإذا كان الأئمة عليهم السلام يعلمون أن مصيرهم - مع هؤلاء - هو الموت ، ويعرفون أن الظلمة يكيدون لهم المكائد ، ويتربصون بهم الدوائر ، ويدبرون لقتلهم والتخلص من وجودهم ، ويسعون في أن ينفذوا جرائمهم في السر والخفاء ، لئلا يتحملوا مسؤولية ذلك ، ولا يحاسبوا عليه أمام التاريخ ! ولو تم لهم إبادة هؤلاء الأئمة سرا وبالطريقة التي يرغبون فيها ، لكان أنفع لهم ، وأنجع لأغراضهم ! لكن الأئمة عليهم السلام لا بد أن يحبطوا هذه المكيدة على الظلمة القتلة ، يأخذوا بأيديهم زمام المبادرة في هذا المجال المهم الخطر ، ويختاروا بأنفسهم أفضل أشكال الموت ، الذي يعلن مظلوميتهم ، ويصرخ بظلاماتهم ، ويفضح قاتليهم ، ويعلن عن الإجرام والكيد الذي جرى عليهم ، ولا تضيع نفوسهم البريئة ، ولا دماؤهم الطاهرة ، هدرا . فلو كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقتل في بيته ، أو في بعض الأزقة والطرق ، خارج المسجد . فمن كان يفند الدعايات الكاذبة التي بثها بنو أمية بين أهل الشام بأن عليا عليه السلام لا يصلي ؟ ! فلما سمعوا أنه قتل في المسجد ، تنبهوا إلى زيف تلك الدعايات المضللة .

      وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام ، يقتل في المدينة ، فمن كان يطلع عليه قضيته ؟ ! وحتى إذا كان يقتل في ( مكة ) : فمضافا إلى أنه كان يعاب عليه أن حرمة الحرم قد هتكت بقتله ! فقد كان يضيع دمه بين صخب الحجيج وضجيجهم ! بل إذا قتل الحسين عليه السلام في أرض غير كربلاء ، فأين ؟ ! وكيف ؟ ! وما هو : تفسير كل النصوص التي تناقلتها الصحف ، والأخبار عن جده النبي المختار حول الفرات ؟ وكربلاء ؟ وتربتها الحمراء ؟ ! وهذا الاختيار يدل - مضافا إلى كل المعاني العرفانية التي نستعرضها - يدل على : تدبير حكيم ، وحنكة سياسية ، ورؤية نافذة ، وحزم محكم ، قام به الأئمة عليهم السلام في حياتهم السياسية تجاه الظالمين المستحوذين على جميع المقدرات ، والذين سلبوا من الأمة كل الحريات حتى حرية انتخاب الموت كما وكيفا ووقتا ومكانا . فإن خروج الأئمة عليهم السلام بتدابيرهم الحكيمة عن سلطة الحكام في هذه المعركة ، وتجاوزهم لإراداتهم ، وأخذ زمام الاختيار بأيديهم ، وانتخابهم للطريقة المثلى لموتهم ، يعد انتصارا باهرا ، في تلك الظروف الحرجة القاهرة . ولقد قلت - عن مثل هذا - في كتابي ( الحسين عليه السلام سماته وسيرته ) ما نصه : ( وهل المحافظة على النفس ، والرغبة في عدم إراقة الدماء ، والخوف من القتل ، أمور تمنع من أداء الواجب ؟ ! وتعرقل مسيرة المسؤولية الكبرى ، وهي : المحافظة على الإسلام وحرماته ؟ ! وإتمام الحجة على الأمة بعد دعواتها المتتالية ؟ ! واستنجادها المتتابع ؟ ! ثم هل تعقل المحافظة على النفس ، بعد قطع تلك المراحل النضالية ، والتي كان أقل نتائجها المنظورة : القتل ؟ ! إذ أن يزيد صمم وعزم على الفتك بالإمام على السلام ، الذي كان يجده السد الوحيد أمام استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأموي العضوض ، فلا بد من أن يزيحه عن الطريق . ويتمنى الحكم الأموي لو أن الحسين عليه السلام كان يقف هادئا ساكنا - ولو للحظة واحدة - حتى يركز في استهدافه ، ويقتله ! ! وحبذا لو كان قتل الحسين عليه السلام بصورة اغتيال ، حتى يضيع دمه ، وتهدر قضيته ! ! وقد أعلن الحسين عليه السلام عن رغبتهم في أن يقتلوه هكذا ، وأنهم مصممون على ذلك حتى لو وجدوه في جحر هامة ! وأشار يزيد إلى جلاوزته أن يحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ، ولو كان متعلقا بأستار الكعبة ! فلماذا لا يبادر الإمام عليه السلام إلى انتخاب أفضل زمان ، وفي أفضل مكان ، وبأفضل شكل ، للقتل ؟ ! الزمان ( عاشوراء ) المسجل في عالم الغيب ، والمثبت في الصحف الأولى ، وما تلاها ( من أنباء الغيب ) التي سنستعرضها . والمكان ( كربلاء ) الأرض التي ذكر اسمها على الألسن منذ عصور الأنبياء . أما الشكل الذي اختاره للقتل : فهو النضال المستميت ، الذي ظل صداه ، وصدى بطولاته وقعقعات سيوفه ، وصرخات الحسين عليه السلام المعلنة عن أهدافه ومظلوميته ، مدوية في أذن التاريخ على طول مداه ، يقض مضاجع الظالمين ، والمزورين للحقائق . إن الإمام الحسين عليه السلام وبمثل ما قام به من الإقدام ، أثبت خلود ذكره ، وحديث مقتله ، على صفحات الدهر ، حتى لا تناله خيانات المحرفين ، ولا جحود المنكرين ، ولا تزييف المزورين ، بل يخلد خلود الحق والدين ) .
      وأخيرا : فإن الشيخ الكليني وهو : ( أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ) كما شهد له النجاشي ، قد بنى تأليف كتابه على أساس محكم ، ومن شواهد الإحكام فيه : أنه رحمه الله عقد بابا بعنوان ( باب نادر في ذكر الغيب ) أورد فيه أحاديث تحل مشكلة الاعتراض الأول على ( علم الأئمة للغيب ) وفيها الجواب الصريح لقول السائل للأئمة : ( أتعلمون الغيب ؟ ) ويجعل نتيجة هذا الباب أصلا موضوعا للأبواب التالية : ومن تلك الأحاديث : حديث حمران بن أعين ، قال لأبي جعفر عليه السلام : أرأيت قوله جل ذكره : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا . . . ) ( الآية ( 25 ) من سورة الجن ( 72 )) ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : ( إلا من ارتضى من رسول . . . ) ( الآية ( 26 ) من سورة الجن ( 72 )) وكان - والله - محمد ممن ارتضاه . فقد كان الكليني يراعي ترتيب أبواب كتابه ترتيبا ، منهجيا ، برهانيا ، حتى تؤتي نتائجها الحتمية بشكل منطقي مقبول ، فجعل في كتابه ( الكافي ) للدين سدا لا يستطيع الملحدون أن يظهروه بشبههم وتشكيكاتهم ، ولا يستطيعون له نقبا .




      يتبع >>>


      تعليق


      • #4


        3 - عصر الشيخ المفيد رحمه الله ( ت 413 هـ )

        الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ، البغدادي العكبري ، الشهير بالشيخ المفيد ، وابن المعلم ، مجدد القرن الخامس ( 336 - 413 ه ) .
        قال فيه النجاشي ( ت 450 ه ) : فضله أشهر من أن يوصف في الفقه ، والكلام ، والرواية ، والثقة ، والعلم .
        وقال الطوسي ( ت 460 ه ) : جليل ثقة ، من جملة متكلمي الإمامية ، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته ، وكان مقدما في العلم ، وصناعة الكلام ، وكان فقيها متقدما فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب .
        قال ابن أبي طي ( ت 630 ه ) : كان أوحد في جميع فنون العلم : الأصلين ، والفقه ، والأخبار ، ومعرفة الرجال ، والتفسير ، والنحو ، والشعر ، وكان يناظر أهل كل عقيدة ، مع العظمة في الدولة البويهية ، والرتبة الجسيمة عند الخلفاء ، وكان قوي النفس ، كثير البر ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، يلبس الخشن من الثياب ، وكان مديما للمطالعة والتعليم ، ومن أحفظ الناس ، قيل : ( إنه ما ترك المخالفين كتابا إلا وحفظه ) وبهذا القدر على حل شبه القوم ، وكان من أحرص الناس على التعليم ، يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة ، فيتلمح الصبي الفطن ، فيستأجره من أبويه ، وبذلك كثره تلاميذه .
        وقال السيد بحر العلوم ( ت 1212 ه ) : المفيد رحمه الله شيخ المشايخ الجلة ، ورئيس رؤساء الملة ، فاتح أبواب التحقيق بنصب الأدلة ، والكاسر بشقاشق بيانه الرشيق حجج الفرق المضلة ، اجتمعت فيه خلال الفضل ، وانتهت إليه رئاسة الكل ، واتفق الجميع على علمه وفضله وفقهه وعدالته وثقته وجلالته ، وكان - رضي الله عنه - كثير المحاسن ، جم المناقب ، حديد الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب ، واسع الرواية ، خبيرا بالرجال والأخبار والأشعار ، وكان أوثق أهل زمانه في الحديث ، وأعرفهم بالفقه والكلام ، وكل من تأخر عنه استفاد منه .

        لقد وجه هذا الاعتراض إلى الشيخ المفيد ضمن المسائل الحاجبية فأجاب عنها ضمن الجوابات العكبرية المطبوعة ، وإليك نص السؤال ثم الجواب :

        المسألة العشرون :
        قال السائل : الإمام عندنا على أنه يعلم ما يكون : فما بال أمير المؤمنين عليه السلام خرج إلى المسجد ، وهو يعلم أنه مقتول ، وقد عرف قاتله ، والوقت والزمان ؟ ! وما بال الحسين عليه السلام صار إلى أهل الكوفة ، وقد علم أنهم يخذلونه ولا ينصرونه ؟ ! وأنه مقتول في سفرته تلك ؟ ! ولم - لما حوصر ، وقد علم أن الماء منه ، لو حفر ، على أذرع - لم يحفر ؟ ! ولم أعان على نفسه حتى تلف عطشا ؟ ! والحسن عليه السلام وداع معاوية ، وهو يعلم أنه ينكث ، ولا يفي ، ويقتل شيعة أبيه عليهما السلام ؟ !

        والجواب - وبالله التوفيق - : عن قوله : ( إن الإمام يعلم ما يكون بإجماعنا ) : أن الأمر على خلاف ما قال ، وما أجمعت الشيعة - قط - على هذا القول ، وإنما إجماعهم ثابت على أن الإمام يعلم الحكم في كل ما يكون ، دون أن يكون عالما بأعيان ما يحدث ويكون على التفصيل والتمييز . وهذا يسقط الأصل الذي بنى عليه الأسئلة بأجمعها .

        فصل ( 1 ): لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان حوادث تكون بإعلام الله تعالى له ذلك . فأما القول بأنه يعلم كل ما يكون ، فلسنا نطلقه ، ولا نصوب قائله ، لدعواه فيه من غير حجة ولا بيان .

        فصل ( 2 ): والقول بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم قاتله ، والوقت الذي يقتله فيه ، وقد جاء الخبر متضافرا : أنه كان يعلم في الجملة أنه مقتول ، وجاء أيضا بأنه كان يعلم قاتله على التفصيل .
        فأما علمه بوقت قتله ، فلم يأت فيه أثر على التفصيل ، ولو جاء فيه أثر لم يلزم ما ظنه المستضعفون ، إذ كان لا يمتنع أن يتعبده الله بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه الله بذلك علو الدرجة ما لا يبلغه إلا به . ولعلمه تعالى بأنه يطيعه - في ذلك - طاعة ، لو كلفها سواه لم يؤدها ، ويكون - في المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس - ما لا يقوم مقامه غيره . فلا يكون أمير المؤمنين عليه السلام ملقيا بيده إلى التهلكة ، ولا معينا على نفسه معونة مستقبحة في العقول .

        فصل ( 3 ): فأما علم الحسين عليه السلام بأن أهل الكوفة خاذلوه : فلسنا نقطع على ذلك ، إذ لا حجة عليه من عقل ولا سمع . ولو كان عالما بذلك ، لكان الجواب عنه ما قدمناه في الجواب عن علم أمير المؤمنين عليه السلام بوقت قتله ، والمعرفة بقاتله ، كما ذكرناه .

        فصل ( 4 ): أما دعواه علينا : أنا نقول : إن الحسين عليه السلام كان عالما بموضع الماء ، وقادرا عليه . فلسنا نقول ذلك ، ولا جاء به خبر على حال ، وظاهر الحال التي كان عليها الحسين عليه السلام في طلب الماء والاجتهاد فيه يقضي بخلاف ذلك . ولو ثبت أنه كان عالما بموضع الماء ، لم يمتنع في العقول أن يكون متعبدا بترك السعي في طلب الماء من ذلك الموضع ، ومتعبدا بالتماسه من حيث كان ممنوعا عنه ، حسب ما ذكرناه في أمير المؤمنين عليه السلام ، غير أن الظاهر خلاف ذلك ، على ما قدمناه .

        فصل ( 5 ): والكلام في علم الحسن عليه السلام بعاقبة حال موادعته معاوية ، بخلاف ما تقدم ، وقد جاء الخبر بعلمه ذلك ، وكان شاهد الحال يقضي به . غير أنه دفع به عن تعجيل قتله ، وتسليم أصحابه إلى معاوية وكان فيه ذلك لطف في مقامه إلى حال معينة ، ولطف لبقاء كثير من شيعته وأهله وولده ، ورفع لفساد في الدين هو أعظم من الفساد الذي حصل عند هدنته . وكان عليه السلام أعلم بما صنع ، لما ذكرناه وبينا الوجه فيه وفصلناه .

        والمستفاد من مجموع السؤال والجواب : إن الظاهر من السؤال ، هو ما أكد المفيد على نفيه وهو دعوى ( علم الأئمة للغيب بلا واسطة ) . وهذا أمر لم تقل به الشيعة فضلا عن أن تجمع عليه ، لما قد ذكرنا في صدر هذه المقالة - من أن ( علم الغيب بهذه الصورة ) خاص بالله تعالى ، ومستحيل أن يكون لغيره من الممكنات . والممكن علمه من الغيب بالنسبة إلى النبي والأئمة عليهم السلام هو الغيب بواسطة الوحي والإلهام من الله تعالى ، وهذا لم ينفه المفيد .
        والمجمع عليه - من هذا - بين الشيعة : أن الأئمة عليهم السلام يعلمون جميع الأحكام الشرعية بلا استثناء ، لارتباط ذلك بمقامهم في الخلافة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أثبت ذلك في علم الكلام . وأما غير الأحكام ، فالظاهر من المفيد أنه وضع ذلك في دائرة الإمكان ووقفه على ورود الخبر والأثر به ، فما قامت عليه الآثار قبل والتزم به ، وليس أصله مستحيلا عقلا ولا ممتنعا من جهة آية أو سنة ، أو عقل . وهكذا قال في موضع ( علم الأئمة بمقاتلهم وما جرى عليهم ) : فالتزم بعلم أمير المؤمنين عليه السلام بالمقدار الذي جاءت به الأخبار ، فما كان منها واردا بالتفصيل التزم بعلمه له بالتفصيل ، وما كان واردا بالإجمال التزم بعلمه بالإجمال .
        وقد نفى المفيد في الفصل الثاني الاعتراض على علي عليه السلام ( بأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة إذا كان عالما بوقت مقتله ) . بأنه عليه السلام على ذلك يكون مأمورا بتحمل ذلك والصبر عليه والاستسلام له ، لينال - بهذه الطاعة وهذا التسليم - المقامات الربانية العالية المعدة له ، والتي لا يبلغها إلا بذلك . فليس المفيد - رحمه الله - في رد هذا الاعتراض مخالفا لما التزمته الطائفة من ( علم الإمام بمقتله ، وإقدامه عليه بالاختيار ) وإن ادعى أن الآثار لم تنص على التفصيل ، بل على مجرد الاجمال . والتفصيل بتعيين الساعة والوقت ، وإن لم يذكر في الآثار ، إلا أن المعلوم من القرائن كون ذلك واضحا ومتوقعا للإمام عليه السلام . ويظهر من هذا أن مجئ الأثر بذلك - لو تم - لكان كافيا ، ووافيا للالتزام به ، وعدم حاجة ذلك إلى القطع به ، لما ذكرنا من أن ورود الأخبار - غير المعارضة ولا المنافية لأصل ثابت أو فرع مقبول - يكفي للالتزام في مثل هذه المواضيع ، التي هي بحاجة إلى مقنعات متعارفة ، دون حاجة إلى مثبتات قطعية ، أوحجج شرعية .
        والقول بأن الأئمة يعلمون الغيب بالإجمال دون التفصيل ، قول التزم به من الطائفة السيد المرتضى وآخرون ، وسنذكرهم أيضا . إلا أن المستفاد من مجموع كلام المفيد - والطوسي فيما سيأتي - أن الطائفة مجمعة على أن النبي والأئمة يعلمون الغيب - من الله وبوحيه وإلهامه - إما بالتفصيل أو بالإجمال ، وليس في الطائفة من ينكر علمهم هذا . فالقول بنفي علم الغيب عنهم ، مخالف لإجماع الطائفة ، كما أن الالتزام بعلمهم بالغيب بالاستقلال مناف لعقائد الطائفة ، ومعارض بآيات القرآن المطلقة الدالة على اختصاص ذلك بالله تعالى .
        وأما بالنسبة إلى الحسين عليه السلام : فقد ورد في السؤال البحث عن ثلاثة أمور :
        1 - عن علم الإمام عليه السلام بأن أهل الكوفة يخذلونه ولا ينصرونه .
        2 - عن علمه عليه السلام أنه مقتول في سفرته تلك . 3
        - عن السبب في عدم حفره لتحصيل الماء . والمفيد - رحمه الله - لم ينف علم الإمام بذلك كله ، ولم يقال باستحالته وامتناعه .

        بل هو لم يجب عن السؤال ، ولعل سكوته كان من أجل ثبوته ، لتضافر الأخبار المعلنة عن خبر مقتل الحسين عليه السلام ومكانه ، بما لم يبق ريب فيه للمخالفين ، حتى عدوه من دلائل النبوة وشواهدها الثابتة ، كما سيأتي بيانه .
        وأما السؤال الأول : فقد نفى الشيخ المفيد قطعه هو به ، لعدم قيام حجة عليه عنده ، ولكنه كما عرفت - لم ينفه مطلقا - . فيمكن أن يقال : إن عدم ثبوت حجة عند الشيخ ، لا ينافي ثبوتها عند غيره ، خصوصا إذا لاحظنا إرسال السائل لذلك كالمسلم . مع أن شواهد العلم بخذلان أهل الكوفة كانت واضحة - من غير طريق علم الغيب - لكل ناظر إلى أحداث ذلك اليوم ومجرياته ، وقد تنبأ بذلك أكثر المروي عنهم الكلام في هذا المقام ، وفيهم من ليس من ذوي الاهتمام بهذه الشؤون ، فكيف بالإمام الحسين عليه السلام الذي كان محور الأحداث تلك ومدارها ؟ ! ثم إن افتراض المفيد لعلم الحسين عليه السلام بأنه يخذل ويقتل ، والجواب عن إقدامه على ذلك بالتعبد ، قرينة واضحة على إمكان العلم بذلك عنده ، وأنه أمر ليس معارضا للعقل ولا للكتاب ، وإنما لم يلتزم به لعدم ورود أثر به عنده ! فلو أثبتنا على ورود الأثر بذلك بتواتر الآثار والأخبار ، كفى دليلا للالتزام به ، وعدم قابلية الاعتراض الثاني للوقوف في وجهه .

        وكذلك أجاب المفيد عن الأمر الثالث بعدم قيام الحجة عليه وعدم ورود أثر به ، مع مخالفته لمقتضى الحال وشواهده . وبالنسبة إلى الإمام الحسن عليه السلام : فقد صرح المفيد - رحمه الله - بعلمه بمستقبل حال معاوية ، ونكثه وثيقة الصلح ، واستدل على ذلك بمجرد مجئ الخبر به ، ومطابقته لمقتضى الحال . فيدل على كفاية ذلك لإثبات ( علم الإمام بالغيب ) . وأما الاعتراض بالإقدام على التهلكة فقد أجاب عنه بالمصلحة واللطف ، ومقابلة ذلك بالأهم .
        فقد ظهر أن الشيخ المفيد رحمه الله لا يمنع من نسبة ( علم الغيب ) إلى الأئمة إذا كان من طريق إعلام الوحي والإلهام لهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأنه في إثبات جزئيات ذلك بحاجة إلى ورود الأخبار والآثار بذلك . وأن شواهد الأحوال والسيرة تؤكد إثبات ذلك أو نفيه عند المعارضة . وقد نقلنا فيما سبق رأي الشيخ المفيد في علم الأئمة بالغيب مصرحا بثبوت ذلك لهم مستفادا ، من دون كونه صفة ذاتية لهم ، ولا وجوب عقلي له ، بل إنما هو كرامة من الله لهم ، وأن السمع قد ورد به . وقد نسب هذا القول إلى ( جماعة أهل الإمامة ) ولم يستثن إلا شواذا من الغلاة وأثبت في كتابه ( الإرشاد ) نماذج من الروايات في إخباراتهم الغيبية سواء عن الماضيات أو المستقبلات ، وحتى عن أحوال المخاطبين وما يكنونه في أنفسهم ، ذكر ذلك في الدلالة على إمامة كل واحد من الأئمة عليهم السلام في فصل أحواله . فما نسب إليه - رحمه الله - من أن الحسين عليه السلام لم يكن يعلم بمقتله ، وأنه إنما توجه إلى الكوفة بغرض الاستيلاء على الملك ، وأنه لو كان عالما بإنه يقتل لما ذهب ، لأنه إلقاء في التهلكة ! ! ! . كلها نسب باطلة إلى الشيخ المفيد - رحمه الله - لم تدل على ذلك عبارته المذكورة هنا التي استند إليها الناسبون ، وبتروا وقطعوا أوصالها ، لتؤدي ما يريدون !


        يتبع >>>


        تعليق


        • #5


          4 - عصر الشيخ الطوسي ( ت 460 هـ )

          الشيخ أبو جعفر ، محمد بن الحسن بن علي الطوسي ( 385 - 460 ه ) .

          قال السيد بحر العلوم : شيخ الطائفة المحقة ، رافع أعلام الشريعة الحقة ، إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين ، وعماد الشيعة الإمامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين ، محقق الأصول والفروع ، ومهذب فنون المعقول والمسموع ، شيخ الطائفة على الاطلاق ، ورئيسها الذي تلوي إليه الأعناق ، صنف في جميع علوم الإسلام ، وكان القدوة في كل ذلك والإمام .

          وقد عرض الشيخ الطوسي الاعتراض وأجاب عنه ،
          وهذا نص ما ذكره :


          فإن قيل : أليس في أصحابكم من قال : ( إن الحسين عليه السلام كان يعلم ما ينتهي إليه أمره ، وأنه يقتل ويخذله من راسله وكاتبه ، وإنما تعبد بالجهاد والصبر على القتل ) . أيجوز ذلك عندكم ، أم لا ؟ ! وكذلك قالوا في أمير المؤمنين عليه السلام : ( إنه كان يعلم أنه مقتول ) . والأخبار عنه مستفيضة به .
          وأنه كان يقول : ( ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا ) - ويومئ إلى لحيته ورأسه - . وأنه كان يقول تلك الليلة - وقد خرج وصحن الإوز في وجهه : ( إنهن صوائح تتبعها نوائح ) . قالوا : ( وإنما أمر بالصبر على ذلك ) . فهل ذلك جائز عندكم ؟ !

          قيل : اختلف أصحابنا في ذلك : فمنهم من أجاز ذلك ( علق محقق ( تخليص الشافعي ) : يقصد بذلك الشيخين المفيد والكليني - قدس الله سرهما - وعلى ذلك جرى كثير من علمائنا المتأخرين قدس الله أسرارهم ، كالعلامة الحلي ، والمجلسي ، والشهيد ، وغيرهم . وقد علق الكليني في أصول ( الكافي ) بابا خاصا بذلك سماه : ( باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ) واستعرض فيه جملة من الروايات عن الأئمة في إثبات ذلك ) وقال : لا يمتنع أن يتعبد بالصبر على مثل ذلك ، لأن ما وقع من القتل - وإن كان ممن فعله قبيحا - فالصبر عليه حسن ، والثواب عليه جزيل . بل ، ربما كان أكثر ، فإن مع العلم بحصول القتل - لا محالة - الصبر أشق منه إذا جوز الظفر وبلوغ الغرض .
          ومنهم من قال : إن ذلك لا يجوز ، لأن دفع الضرر عن النفس واجب عقلا وشرعا ، ولا يجوز أن يتعبد بالصبر على القبيح ، وإنما يتعبد بالصبر على الحسن ، ولا خلاف أن ما وقع من القتل كان قبيحا ، بل من أقبح القبيح . وتأول هذا القائل ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، من الأخبار الدالة على علمه بقتله ، بأن قال : كان يعلم ذلك على سبيل الجملة ، ولم يعلم بالوقت بعينه ، وكذلك علم الليلة التي يقتل فيها بعينها ، غير أنه لم يعلم الوقت الذي يحدث فيه القتل . وهذا المذهب هو الذي اختاره المرتضى - رحمة الله عليه - في هذه المسألة . ولي - في هذه المسألة - نظر. ( الحزب / يعني السيد الجلالي )

          والذي يستفاد من هذا النص سؤالا وجوابا :

          1 - أن الطائفة لم تختلف في أصل ( أن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وما يجري عليهم ) لكن المرتضى خالف في خصوص ( الوقت المعين ) للقتل ، هل يعرفه الإمام بالتفصيل ، أو يعرفه بالإجمال ؟ وأما العلم بحوادث أخر فهو - أيضا مجمع عليه ، ولا خلاف فيه .

          2 - أن الأخبار التي ظاهرها العلم بالتفصيل - حتى بوقت الموت - متضافرة وواردة ، وإنما القائل بالإجمال يحاول تأويلها !

          3 - أن القائل بالإجمال إنما صار إلى ذلك ، لتصوره أن أمرا مثل الإقدام على الشهادة أمر لا يمكن التعبد به ، لأنه قتل قبيح ، ولا تعبد بالقبيح ! وأن دفع الضرر واجب عقلا وشرعا ، فلا يجوز تركه على الإمام .

          لكن هذا التصور خاطئ لوجوه :

          الأول : أن كون الفعل قبيحا صدورا من الفاعل ، لا يقتضي كونه قبيحا بالنسبة إلى الواقع عليه ، فبالإمكان أن يفرض العمل قبيحا صدورا باعتبار حرمته على الفاعل أن يقوم به ، ولكنه يكون بالنسبة إلى القابل ، أو الواقع عليه جائزا مباحا ، أو مرادا . فلا مانع من أن يكون قتل الأئمة عليهم السلام حراما على القاتلين ، لكونه ظلما وتعديا ، بل من أقبح صوره وأفحشها ، ولكن يكون الصبر على ذلك من الإمام أمرا حسنا لكونه امتثالا لأمر الله ، وانقيادا لإرادته ، ورضا بقضائه ، وتعبدا بما عبد به الإمام ، لتحقيق المصالح الدنيوية عليه ، ولبلوغ الأئمة المقامات العالية المفروضة لهم في ظرف طواعيتهم وتحملهم لذلك .

          الثاني : أنه مع ورود النص بثبوت علم الأئمة لا وجه للجوء إلى مثل هذا التصور ، لأن قبح القتل - في موارد - إنما هو من جهة كونه ظلما وحراما وكذا الإقدام على أن يقتل ، والإلقاء إلى التهلكة ، إنما يكون حراما إذا كان منهيا عنه ، أما إذا تعلق به أمر إلهي ، وصار موردا للتعبد به لمصلحة ، فهو لا يكون قبيحا للمتعبد بذلك ، والمفروض أن الأخبار قد وردت بذلك ، فلا بد من فرض جوازه وحسنه . كما كان الإقدام على الشهادة ، والقتل في سبيل الله ، من أفضل القرب وأشرفها ، وأكثرها أجرا ، وتستوجب أرفع الدرجات مع الصديقين .

          الثالث : أن تحمل القتل والصبر عليه ، في مثل هذا الفرض ، لا يصح تسميته ضررا ، بل هو نفع ، من أنفع ما يقدم عليه عباد الله المخلصون ، ويختارونه لكونه لقاء الله ، ومقربا إليه ، ولما يترتب على ذلك من المصالح للإسلام وللأمة ، ولأنه محقق أروع الأمثلة للتضحية والفداء في سبيل الأهداف الإلهية الكبيرة والجليلة . فلا حرمة فيه شرعا ، ولا عقلا ، بل هو محبوب ، وواجب في بعض الأحيان .

          4 - وقد دل هذا النص على أن المتفرد بالقول بالإجمال إنما هو السيد المرتضى ، وأن القائل بالإجمال يعارض التعبد بالصبر على ذلك ، فظهر أن المفيد - الذي مر افتراضه للتعبد - إنما يفترض ذلك على تقدير التفصيل ، وأن القول بالإجمال ليس بحاجة إلى افتراض ذلك . مبيت علي عليه السلام على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة . ثم إن ما يؤكد جواز إقدام الإمام عليه السلام على الأخطار مع علمه بها هو مبيت علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة هجرته من مكة إلى المدينة فاديا له بنفسه ، حتى نزلت فيه آية ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . . . ) الآية ( 207 ) من سورة البقرة ( 2 ).
          وقد كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتوجه إلى الغار وأنام عليا على فراشه وألبسه برده. فقال علي السلام في ذلك شعرا :
          وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
          وبت أراعي منهم ما ينوبني * وقد صبرت نفسي على القتل والأسر


          ولم يكن يخفى على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يتهدد الإمام عليه السلام من الخطر ، فكيف أمره بالمبيت وأنامه على فراشه ؟ ! وما كان يخفى على علي عليه السلام خطر القتل والأسر ، فكيف تعبد بذلك وأطاع ؟ !
          ولو قيل : إنهما كانا يعلمان عدم إصابته بأذى في ذلك ، فهو إثبات لعلم الغيب الذي يحاول إنكاره . مع أنه قد كان القتل محتملا كما قال الله تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) ( الآية ( 3 ) من سورة الأنفال ( 8 ))
          وكما احتمله الإمام علي عليه السلام في شعره المذكور ؟ !

          حول شهادة الحسين عليه السلام : ثم إن للشيخ الطوسي كلاما حول أعذار الحسين عليه السلام في مخرجه ومقتله ، ذكره في ( تلخيص الشافي ) وهو بعين العبارة مذكور في كتاب ( تنزيه الأنبياء ) للسيد المرتضى ، فلا بد من ذكره ، سؤالا وجوابا ، لارتباطه الوثيق بهذا المبحث :
          فإن قيل : فما أعذار الحسين عليه السلام ؟ ! لأنه خرج بأهله وعياله إلى الكوفة ، والمستولي عليها أعداؤه والمتأمر فيها من قبل يزيد منبسط اليد والأمر والنهي ، وقد رأى صنيع أهل الكوفة بأبيه وأخيه عليهما السلام ، وأنهم غادرون خوانون ؟ ! وكيف خالف ظنه ظن جميع أصحابه ، لأن ابن عباس - رحمة الله عليه - أشار بالعدول عن خروجه ، وقطع على العطب . وابن عمر لما ودعه بقول : أستودعك الله من قتيل . وأخوه محمد مثل ذلك . إلى غير ما ذكرناه ممن تكلم في هذا الباب ؟ ! ثم لما علم بقتل مسلم بن عقيل - وقد أنفذه رائدا له - كيف لم يرجع ، ويعلم الغدر من القوم ، وتفطن بالحيلة والمكيدة ؟ ! ثم كيف استجاز أن يحارب بنفر قليل ، لجموع عظيمة خلفها مواد لها كثيرة ؟ ! ثم لما عرض عليه ابن زياد الأمان ، وأن يبايع يزيد ، كيف لم يستجب حقنا لدمه ودماء من معه من أهله وشيعته ومواليه ؟ ! ولم ألقى بيده إلى التهلكة ؟ ! وبدون هذا الخوف سلم أخوه الحسن عليه السلام الأمر إلى معاوية ؟ !

          وقد أجابا عن جميع ما ورد في السؤال بتفصيل ، ونحن نقسمه إلى مقاطع لتسهيل الارجاع إليها :
          قيل لهم :

          1 - قد علمنا أن الإمام متى غلب على ظنه أن يصل إلى حقه والقيام بما فوض إليه - بضرب من الفعل - وجب عليه ذلك ، وإن كان فيه ضرب من المشقة يتحمل مثلها - تحملها . وأبو عبد الله عليه السلام لم يسر إلى الكوفة إلا بعد توثق من القوم وعهود وعقود ، وبعد أن كاتبوه عليه السلام طائعين غير مكرهين ، ومبتدئين غير مجيبين . وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرائها ، تقدمت إليه عليه السلام في أيام معاوية ، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن عليه السلام ، فدفعهم وقال في الجواب ما وجب .
          ثم كاتبوه بعد وفاة الحسن عليه السلام - ومعاوية باق - فوعدهم ومناهم . وكانت أيام معاوية صعبة لا يطمع في مثلها . فلما مضى معاوية أعادوا المكاتبة وذلك الطاعة ، وكرروا الطلب والرغبة ، ورأى عليه السلام من قوتهم - على من كان يليهم في الحال من قبل يزيد وتسلحهم عليه وضعفه عليهم - ما قوى في ظنه أن المسير هو الواجب ، وتعين عليه فعله .

          2 - ولم يكن في حسابه أن القوم يغدر بعضهم ، ويضعف بعضهم عن نصرته ، ويتفق ما اتفق من الأمور الطريفة الغريبة . . . إن أسباب الظفر بالعدو كانت لائحة ، وإن الاتفاق السيئ هو الذي عكس الأمر وقلبه حتى تم فيه ما تم .

          3 - وقد هم أبو عبد الله عليه السلام لما عرف بقتل مسلم وأشير عليه بالعود ، فوثب إليه بنو عقيل فقالوا : والله ، لا ننصرف حتى ندرك ثارنا أو نذوق ما ذاق أخونا ، فقال عليه السلام : ( لا خير في العيش بعد هؤلاء ) .

          4 - ثم لحقه الحر بن يزيد ومن معه من الرجال . . . ومنعه من الانصراف ، وسامه أن يقدم على ابن زياد ، نازلا على حكمه ، فامتنع ، ولما رأى ألا سبيل إلى العود ، ولا إلى دخول الكوفة ، سلك طريق الشام سائرا نحو يزيد ، لعلمه عليه السلام بأنه - على ما به - أرق به من ابن زياد وأصحابه ! فسار حتى قدم عليه عمر بن سعد في العسكر العظيم ، وكان من أمره ما قد ذكر وسطر . فيكف يقال : إنه عليه السلام ألقى بيده إلى التهلكة ؟ ! وقد روي أنه عليه السلام قال لعمر بن سعد : اختاروا مني : إما الرجوع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو أن أضع يدي على يد يزيد - فهو ابن عمي يرى في رأيه - ، وإما أن تسيروا بي إلى ثغر من ثغور المسلمين ، فأكون رجلا من أهله ، لي ماله ، وعلي ما عليه . وإن عمر كتب إلى عبيد الله بن زياد بما سأل ، فأبى عليه ، وكاتبه بالمناجزة ، وتمثل بالبيت المعروف ، وهو : الآن إذ علقت مخالبنا به * يرجو النجاة ولات حين أوان فلما رأى عليه السلام إقدام القوم ، وأن الدين منبوذ وراء ظهورهم ، وعلم أنه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجل الذل والعار ، وآل أمره - من بعد - إلى القتل ، التجأ إلى المحاربة والمدافعة لنفسه ، وكان بين إحدى الحسنيين : إما الظفر ، أو الشهادة والميتة الكريمة .

          5 - وأما مخالفة ظنه لظن جميع من أشار عليه من النصحاء ، كابن عباس وغيره ، فالظنون إنما تغلب بحسب الأمارات ، وقد تقوى عند واحد ، وتضعف عند آخر ، ولعل ابن عباس لم يقف على ما كوتب به عليه السلام من الكوفة ، وما تردد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود المواثيق . . .

          6 - فأما محاربة الكثير بالنفر القليل ، فقد بينا أن الضرورة دعت إليها ، وأن الدين والحزم معا ما اقتضيا في هذه الحال إلا ما فعل . . .

          7 - وليس يمتنع أن يكون عليه السلام في تلك الحال مجوزا أن يفئ إليه قوم ممن بايعه وعاهده ثم قعد عنه ، ويحملهم ما يرون - من صبره وعدم استسلامه ، وقلة ناصره - على الرجوع إلى الحق ، دينا أو حمية ، فقد فعل ذلك نفر منهم حتى قتلوا بين يديه عليه السلام شهداء . ومثل هذا يطمع فيه ، ويتوقع في أحوال الشدة . . .

          8 -. . . والحسين عليه السلام لما قوي في ظنه النصرة ممن كاتبه ووثق له ، فرأى من أسباب قوة نصار الحق وضعف نصار الباطل ، ما وجب معه عليه الطلب والخروج . فلما انعكس ذلك ، وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتفاق ، رام الرجوع والمكافة والتسليم ، كما فعل أخوه عليه السلام ، فمنع من ذلك ، وحيل بينه وبينه.

          أقول : لا بد من تفسير ما ورد في هذا النص - سؤالا وجوابا - من عبارة : ( كيف خالف ظنه ظن جميع أصحابه ) في السؤال .
          وعبارة : ( غلب على ظنه ) و ( قوى في ظنه ) في الفقرة الأولى من الجواب ،
          وعبارة ( وأما مخالفة ظنه لظن جميع من أشار عليه ) في الفقرة الخامسة ،
          وعبارة : ( لما قوى في ظنه النصرة ) في الفقرة الثامنة .
          حيث أضيفت كلمة ( الظن ) إلى الإمام عليه السلام ، وهي ظاهرة في إرادة حالة الشك والتردد ، خصوصا بقرينة كلمات ( غلب ) و ( قوى ) و ( قوي ) وقياسه بظنون الآخرين .
          وهذا بلا شك ، يعطي الموافقة على أن الإمام عليه السلام لم يكن متأكدا بصورة علمية مما يقدم عليه . فلا بد إذن من توجيه لهذا الاطلاق ،
          فأقول : بما أن المرتضى والطوسي استعملا في الجواب كلمة ( الظن ) في مورد الحكم الشرعي حيث قالا في الفقرة الأولى : ( متى غلب ظنه أنه يصل إلى حقه . . . بضرب من الفعل وجب عليه ذلك ) وفي الفقرة الثامنة : ( لما قوي في ظنه النصرة . . . ما وجب معه عليه الطلب والخروج ) . وهذا ( الوجوب ) حكم شرعي .
          وقد عرفنا فيما نقله المفيد إجماع الطائفة على أن الإمام يعلم الأحكام كلها ، ولا يعتمد فيها على مجرد ( الظن ) حيث قال المفيد : ( وإنما إجماعهم ثابت على أن الإمام يعلم الحكم في كل ما يكون ) وكذلك قال : ( وعلى ذلك جماعة أهل الإمامة ) في إثبات علم الأئمة بالغيب المستفاد من الله تعالى ، واستثنى الغلاة .
          وكذلك ما حصل من حصر الطوسي أقوال الطائفة في مسألة علم الأئمة بالغيب بين قولين فقط ، ولم يختلفا في أصل علم الأئمة بالغيب ، وإنما اختلفا في معرفة ( وقت القتل ) بين التفصيل والإجمال ، واتفقا على العلم بغير ذلك بالتفصيل ، فإنه يقتضي أن يكون الإمام عالما بالأحكام . كما عرفت أن الطوسي نسب القول بالعلم الاجمالي بوقت القتل إلى خصوص المرتضى ، مما يقتضي ، عدم مخالفته للطائفة في التزام العلم في غير هذا ، ومنه الأحكام . كما أن استدلال الكلاميين من الطائفة على ثبوت علم الإمام بالأحكام وضرورة ذلك معروف في كتب الكلام . ومع كل هذا ، فيكف يمكن أن يريد الطوسي والمرتضى مجرد الشك والاحتمال - ولو الاحتمال الراجح - من كلمة ( الظن ) ؟ !
          فلا بد أن يكون المراد بالظن ليس ما يقابل اليقين ، بل يراد به هو ( اليقين ) . وقد استعمل ( الظن ) وأطلق على ( اليقين ) لغة ، وصرح علماء اللغة بذلك :
          قال الجوهري : الظن : معروف ، وقد يوضع موضع العلم .
          وقال الأزهري : الظن : يقين ، وشك .
          وقال ابن سيده : الظن : شك ، ويقين ، إلا أنه ليس بيقين عيان ، إنما هو يقين تدبر.
          فإذا كان المراد بالظن هو اليقين ، فالمعنى : أن الإمام عليه السلام لما علم بأن الفعل الكذائي هو الواجب عليه حسب الظروف المعينة التي تحيط به ، فهو عالم بما يقوم به ، في صلحه وسلمه ، وفي خروجه وحربه .
          والإمام الحسين عليه السلام كان على علم ويقين بأن حركته هي إعلان عن حقه في قيادة المسلمين التي آلت إليه في تلك الظروف ، وأنه بخروجه وقيامه يملأ الثغرة التي كادت الدولة الأموية أن توسعها بعد ما أحدثتها ، والضربة القاضية التي كاد يزيد أن يوقعها بالأمة الإسلامية والدين الإلهي ، بعد أن أنهكهما أبوه طعنا ، فكانت حركته سدا منيعا يصد الجاهلية أن تعود إلى الحياة . ويدل على أن مراد المرتضى والطوسي ( علم الإمام بما يجري ) قولهما في آخر الفقرة الرابعة : ( فلما رأى عليه السلام إقدام القوم ، وأن الدين منبوذ وراء ظهورهم ، وعلم أنه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجل الذل . . . ) .
          فإذا كان الحسين عليه السلام علم هذا ، فأجدر به أن يعلم غيره مما جرى ! وأما قولهما في الفقرة الثانية : ( ولم يكن في حسابه أن القوم يغدر بعضهم . . . ) . فمعناه : أن احتمالات الغدر والخيانة وطروء الظروف غير المنظورة ، أمور لا تدخل في الحساب ، لأنها تخمينات لا يمكن الاعتماد عليها لمن يقدم على مثل ما أقدم عليه الإمام الحسين عليه السلام في الخطورة والأهمية ، وفي النتائج العظيمة والوخيمة التي كانت تترتب عليه إيجابا وسلبا . فالإمام الحسين عليه السلام بنى حركته على أساس من علمه بوجوبها عليه ، وعلمه بما يترتب عليها من النتائج ، وما يجب أن يتحمله من المآسي والآلام ، فلا تمنعه الاحتمالات ولا تدخل في حسابه التخمينات ، ولم يأبه بما يثار في هذه الطريق من الأخطار ، إذ لا ينقض اليقين بيقين أحد من الناس العاديين ، فكيف بظنونهم واحتمالاتهم ؟ ! إن الحسين عليه السلام كان يعمل ويسير من منطلق العلم بالحكم الشرعي المحدد له في مثل ظرفه ، والواضح له من خلال تدبر مصالح الإسلام والمسلمين ، والمعروف له من بوابة الغيب المتصلة بطرق السماء من خلال الوحي النبوي والإلهام ، فكان يرى كل شئ رأي العين ، ويسير بثبات ويقين ، ولم يكن ليصرفه عن واجبه الإلهي المعلوم له ، كل ما يعرفه من غدر الكوفة وخيانة أهلها ، فكيف ينصرف باحتمال غدرهم ، وظن خيانتهم ؟ ! وقد شرحنا في كتابنا ( الحسين عليه السلام سماته وسيرته ) جانبا من هذه الحقيقة ، في ذكر مواجهة الإمام الحسين عليه السلام لجواب الناصحين له بعدم الخروج ، والمتنبئين بأن مصيره ( القتل ) فكان الجواب الحاسم : ( أن الحسين عليه السلام إذا كان خارجا لأداء واجب الدعوة إلى الله ، فلا يكون خروجه لغوا ، ولا يحق لأحد أن يعاتبه عليه ، لأنه إنما يؤدي بإقدامه واجبا إلهيا ، وضعه الله على الأنبياء وعلى الأئمة من قبل الحسين عليه السلام ، ومن بعده . وإذا أحرز الإمام تحقق شرط ذلك ، وتمت عنده العدة - ولو الظاهرية - للخروج ، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلت إليه . فهو لا محالة خارج ، ولا تقف أمامه العراقيل المنظورة له والواضحة ، فضلا عن تلك المحتملة والقائمة على الفرض والتخمين ، مثل الغدر به ، أو قتله وهلاكه ! ذلك الذي عرضه الناصحون .
          فيكف لو كان المنظور هو ( الشهادة ) والقتل في سبيل الله ، التي هي من أفضل النتائج المتوقعة والتي يترقبها الإمام ، والمطلوبة لمن يدخل هذا السبيل ، ويسير في هذا الطريق الشائك . مع أن الشهادة مقضية ومأمور بها ، ويحتاج إلى توفيق عظيم لنيلها ، فهي إذن من صميم الأهداف التي كان يضعها الإمام الحسين عليه السلام نصب عينيه ، ويسعى لطلبها ، لا أنها موانع في طريق إقدامه ! وأما أهل العراق وسيرتهم ، وأنهم أهل النفاق والشقاق ، وعادتهم الغدر والخيانة ، فهي أمور لا تعرقل خطة الإمام في قيامه بواجبه ، وإن كان فيها ضرر متصور ، فهي على حياة الإمام ، وتمس راحته ، وليس هذا مهما في مقابل أمر القيادة الأهم ، وأداء واجب الإمامة الإلهي ، حتى يتركها من أجل ذلك . ولذلك لم يترك الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة بالرغم من إظهاره استياءه منهم إلى حد الملل والسأم ! ولكن لا يجوز له - شرعا - أن يترك موقع القيادة ، وواجب الإمامة من أجل أخلاقهم المؤذية . وكذلك الواجب الذي ألقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق ، وأهل الكوفة بالخروج إليهم والقيام بقيادة أمرهم وهدايتهم إلى الإسلام ، لم يتأد إلا بالخروج ، ولم يسقط هذا الواجب بمجرد احتمال العصيان غير المتحقق ، في ظاهر الأمر ، فكيف يرفع اليد عنه ، وما هو عذره عن الحجة التي تمت عليه بدعوتهم ؟ ! ولم يبد منهم نكث وغدر به ؟ ! فلا بد أن يمضي الإمام في طريق أداء واجبه ، حتى تكون له الحجة عليهم ، إذا خانوا وغدروا ، كما حدث في كربلاء ، ولو كان على حساب وجوده الشريف
          ).
          وقلت فيه أيضا : ( وغريب أمر أولئك الذين ينظرون إلى الموقف من زاوية المظاهر الحاضرة ، ويحذفون من حساباتهم الأمور غير المنظورة ، ويريدون أن يحاسبوا حركة الإمام وخروجه ، على أساس أنه إمام عالم بالمصير ، بل لا بد أن يعرف كل شئ من خلال الغيب ! فيكف يقدم على ما أقدم ، وهو عالم بكل ما يصير ؟ ! والغرابة في أن الإمام الحسين عليه السلام لو عمل طبقا لما يعلمه من الغيب ، لعاب عليه كل من يسمع بالأخبار ، ويقرأ التاريخ : أنه ترك دعوة الأمة المتظاهرة بالولاء له ، من خلال آلاف الكتب والعهود - والواصلة إليه بواسطة أمناء القوم ورؤسائهم - استنادا إلى احتمالات الخيانة والتخاذل ، التي لم تظهر بوادرها إلا بالتخمين ، حسب ماضي هذه الجماعة وأخلاقهم . فلو علم الإمام بعلمه بالغيب ، الذي لم يؤمن به كثير من الناس في عصره ومن بعده ، ولم يسلمه له غير مجموعة قليلة من شيعته ، وأطاع أولئك الناصحين له بعده الخروج ، لكان مطيعا لمن لم تجب عليه طاعتهم ، وتاركا لنجدة من تجب عليه نجدتهم . كما أن طاعة أولئك القلة من الناصحين ، لم تكن بأجدر من طاعة الآلاف من عامة الشعب ، الذي قدموا له الدعوة ، وبإلحاح ، وقدموا له الطاعة والولاء . وقبل هذا وبعده : فإن الواجب الإلهي يحدوه ، ويرسم له الخطط ، للقيام بأمر الأمة ، فإذا تمت الحجة بوجود الناصر ، فهذا هو الدافع الأول والأساسي للإمام على الإقدام ، دون الإحجام على أساس الاحتمالات السياسية ، والتوقعات الظاهرية ، وإنما استند إليها في نصوص من كلماته وتصريحاته ، لإبلاغ الحجة ، وإفحام الخصوم ، وتوضيح المحجة ، لكل جاهل ومظلوم ).

          إن حاصل ما ذكره المرتضى والطوسي في أمر الحسين عليه السلام هو : إنه عليه السلام علم بواجبه وتيقن بتمامية الحجة ، بدعوة أهل العراق وتواتر كتبهم إليه ، وطلبهم له ، واستقر عليه هذا الواجب ، فنهض لأداء واجبه ، وخرج إليهم ليتم هو الحجة عليهم ، وهو إن كان عالما بالنتيجة المعلومة له من الغيب - أو من شواهد الحال - إلا أنه لم تقم حجة خارجية عيانا ترد الحجة التي قدمها أهل الكوفة بدعوتهم للإمام ، إلا بعد حصر الإمام في كربلاء . والإمام لم يكلف - قبل كربلاء - بالعمل بواجبه الظاهر ، ولو أخبر - هو - بما يعلمه من الغيب ، هل كان يصدقه أحد ؟ ! خصوصا من أهل الكوفة الذين دعوة ؟ ! وبالأخص قبل أن يظهر منهم الغدر ، وقبل أن يحاط بالإمام في كربلاء ؟ ! وأما في كربلاء ، فإن الأمر قد اختلف ، وقد تمت الحجة على أهل الكوفة بحضور الإمام ، وبظهور الغدر والخيانة منهم ! وكان واجب الإمام هو حفظ كرامته وحرمته ، وكرامة الإسلام وحرمته التي ستهتك وتهدر باستسلامه .
          مع أن مصيره المعلوم كان هو القتل حتى بعد الاستسلام ! وكما قال الطوسي والمرتضى - بنص العبارة - في الفقرة السادسة : ( فإن الضرورة دعت إليها - أي المحاربة - وإن الدين ، والحزم - معا - ما اقتضيا - في هذه الحال - إلا ما فعل ) .

          فبعد إتمام الإمام عليه السلام الحجة بما قام به من الخروج والمسير إلى أهل الكوفة ، وحتى عرضه عليهم الصلح والسلام - وبكل خياراته وأشكاله - ورفضهم لها كلها ، تمت الحجة عليهم ، فحاربهم وقاومهم وجاهدهم ، وناضلهم ، حتى نال الشهادة . ومن المخزي أن بعض المتطفلين على العلم والدين ، والقلم والكتابة ، اتبع ما تشابه من عبارات الطوسي والمرتضى والمفيد ، فاستشهد بظواهرها - ومن دون بحث وتحقيق عن الأعماق والدلالات المرادة فيها - على ما وضعه نصب عينيه - من نفي علمهم بالغيب - يحاول إثباته والتأكيد عليه ، بصور مختلفة : فتارة : بدعوى أن الحسين عليه السلام لم يكن يعلم بما وقع عليه من القتل والبلاء ، وإنما خرج طالبا للحكم والسلطان والملك والخلافة ! ولكنه فوجئ بجيش أقوى مما معه ، وبغدر من وعده النصر وخذلانه ، وانقلب الأمر عليه ! وبدعوى : أنه ما كان يريد أن يقتل ، وأنه كان في خروجه يأمل النصر ويتوقعه ، ولذلك عرض على جيش الكوفة عروضا سلمية ! وأخرى بدعوى : أنه لم يقم إلا منطلقا من خلال العناوين الفقهية العامة ، من دون أن يكون لخصوصية إمامته دخلا في خروجه وحركته ! إن هؤلاء لو جردوا الحسين عليه السلام عن قدسية الإمامة التي قلده الله بهــا ، وسلبوا عنه علم الإمامة بالغيب حتى الحكم الشرعي ومعرفة ما يجب عليه أن يفعل ! فلماذا جردوه وسلبوه من التنبه لما عرفه أناس عاديون عاصروا الأحداث - مثل الفرزدق ، وابن عباس ، وابن عمر ، وحتى بعض النساء - فأعلنوا أن ذهابه إلى العراق يؤدي إلى قتله ؟ ! ولماذا فرضوا أن الحسين عليه السلام لم ير ما رآه أولئك برؤية واضحة ؟ ! وقد أبلغوه آراءهم ورؤاهم ، فهلا تنبه - لو فرضت له غفلة - ؟ !
          إن هؤلاء ينزلون بالحسين إلى مرتبة أقل من إنسان عادي عاصر الأحداث ! وكيف لهم أن يعرضوا - بغمضة عين - عن عشرات الآثار والروايات والأخبار والأحاديث ، وفيها الصحيح والمسند والمتصل ، وذات الدلالات الواضحة ، والتي ملئت بها كتب السيرة والحديث والتاريخ ، والتي أخبرت عن ( مقتل الحسين ومصرعه في كربلاء ) وعلى لسان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي أمير المؤمنين عليه السلام ؟ ! تلك الأخبار التي عدت من ( دلائل النبوة ) و ( معجزات الإمامة ) والتي احتج بها المسلمون ، وتواتر خبرها بينهم ! فأخبرت عن ( قتل الحسين في كربلاء ) قبل مولده ، وعنده ، وبعده ، وقد أحضر الرسول تربة مصرعه وشمها ، وحضر علي أرض كربلاء ، وصبر أبا عبد الله فيها وهو في طريق صفين ذهابا وإيابا .


          يتبع >>>


          تعليق


          • #6


            5 - عصر الشيخ ابن شهر آشوب ( ت 588 هـ )

            هو الشيخ أبو جعفر ، محمد بن علي بن شهر آشوب بن أبي نصر ، السروي المازندراني ، رشيد الدين .
            قال الصفدي : أحد شيوخ الشيعة ، حفظ القرآن وله ثمان سنين .
            قال ابن أبي طي الحلبي : اشتغل بالحديث ، ولقي الرجال ، ثم تفقه وبلغ النهاية في فقه أهل البيت ، ونبغ في الأصول ، ثم تقدم في القراءات والقرآن ، والتفسير ، والعربية . وكان مقبول الصورة ، مليح العرض على المعاني ، وصنف في : المتفق والمفترق ، والمؤتلف المختلف ، والفصل والوصل ، وفرق بين رجال الخاصة ورجال العامة - يعني أهل السنة والشيعة - . كان كثير الخشوع ، مات في شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة .
            وقال الصفدي : بلغ النهاية في أصول الشيعة ، كان يرحل إليه من البلاد ، ثم تقدم في علم القرآن ، والغريب ، والنحو . ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد ، فأعجبه وخلع عليه ، وأثنى عليه كثيرا .
            وقال الداوودي في ( طبقات المفسرين ) : كان إمام عصره ، وواحد دهره ، أحسن الجمع والتأليف ، وغلب عليه علم القرآن والحديث ، وهو عند الشيعة كالخطيب البغدادي لأهل السنة في تصانيفه ، وتعليقات الحديث ورجاله ومراسيله ، ومتفقه ومفترقه ، وإلى غير ذلك من أنواعه . واسع العلم ، كثير الفنون ،قال ابن أبي طي : ما زال الناس بحلب لا يعرفون الفرق بين ابن بطة الحنبلي ، وابن بطة الشيعي ، حتى قدم الرشيد ، فقال : ( ابن بطة الحنبلي بالفتح ، والشيعي بالضم ) ( نقلنا هذه الكلمات من مقدمة العلامة الجليل محمد صادق بحر العلوم - رحمه الله - لكتاب ( معالم العلماء ) لابن شهر آشوب ).

            وقد تعرض للمشكلة في ذيل آية : ( . . . ولا أعلم الغيب . . . ) من الآية ( 31 ) من سورة هود ( 11 ) وهي مكية ،

            فقال : النبي والإمام يجب أن يعلما علوم الدين والشريعة . ولا يجب أن يعلما الغيب ، وما كان ، وما يكون . لأن ذلك يؤدي إلى أنهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته ، ومعلوماته لا تتناهى ، وإنما يجب أن يكونا عالمين لأنفسهما ، وقد ثبت أنهما عالمان بعلم محدث . والعلم لا يتعلق - على التفصيل - إلا بمعلوم واحد ، ولو علما ما لا يتناهى ، لوجب أن يعلما وجود ما لا يتناهى من المعلومات ، وذلك محال .
            ويجوز أن يعلما الغائبات والكائنات الماضيات ، والمستقبلات ، بإعلام الله تعالى لهما شيئا منها . وما روي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم أنه مقتول ، وأن قاتله ابن ملجم : فلا يجوز أن يكون عالما بالوقت الذي يقتله فيه على التمييز ، لأنه لو علم ذلك لوجب عليه أن يدفعه عن نفسه ، ولا يلقي بيده إلى التهلكة ! وإن هذا - في علم الجملة - غير واجب .

            إن ما أثبته الشيخ ابن شهر آشوب موافق لما سبق ذكره سوى نقطة واحدة :
            فما ذكره من نفي ( علم الغيب بالاستقلال ) عن الأئمة مجمع عليه بين المسلمين : وذلك لما ذكرنا في صدر هذا البحث من دلالة الآيات الكريمة على اختصاص ذلك بالله تعالى . مضافا إلى ما ذكره ابن شهر آشوب من الاستدلال العقلي بأن النبي والإمام محدود متناه ، والغيب لا حد له ، ولا يمكن أن يحيط المحدود باللامنتهي . ثم ما ذكره من إمكان علم الغيب بإعلام الله تعالى : هو أيضا مما أجمعت عليه الطائفة ، ودلت عليه الآيات الكريمة التي ذكرناها في صدر البحث . وأما التفرقة بين علم الإمام بالحوادث ، وخصوصا ما يرتبط بقتله ، من الالتزام بالتفصيل في غير وقت القتل ، والالتزام بالإجمال فيه . فهذا أيضا قد سبق قول المرتضى فيه ، والتزامه . وقد أضاف ابن شهر آشوب تصريحا بأن على فرض علم الإمام بوقت قتله بالعلم الاجمالي ، فلا يرد عليه اعتراض الالقاء في التهلكة ، لأن الدفع حينئذ غير واجب لفرض الاجمال فيه وعدم معرفته الأمر بالتفصيل . وإنما اختص ابن شهر آشوب بالتزامه بالاعتراض على تقدير علم الإمام بوقت قتله تفصيلا ، فقال : ( فلا يجوز أن يكون عالما بالوقت الذي يقتله فيه على التمييز ، لأنه - لو علم ذلك - لوجب عليه أن يدفعه عن نفسه ، ولا يلقي بيده إلى التهلكة ) .
            وهذه هي النقطة التي خالف فيها ابن شهر آشوب من سبقه ، لأن المفيد الذي أشار إلى مسألة علم الجملة ، قال بإمكان القول بالتفصيل ، ومنع كون ذلك من الالقاء في التهلكة ، لإمكان التعبد بالصبر على القتل للإمام . وحتى المرتضى - الذي التزم بالجملة ، ونفى التعبد - لم يصرح بالتزامه اعتراض الالقاء في التهلكة على تقدير التفصيل ، فلعله دفعه بأحد الوجوه الكثيرة المتصورة ، والتي يكون تحمل القتل بها أمرا حسنا أيضا ولو بغير التعبد !

            ولعل ابن شهر آشوب عد فقدان الإمام ضررا وتهلكة فحكم فيه بوجوب الدفع ، وعدم الالقاء ، محافظة على وجوده الشريف لأداء مهمات الإمامة . لكن إطلاق لفظ ( الضرر ) ولفظ ( التهلكة ) على ما جرى على الإمام ممنوع ، مطلقا : فإنه إذا علم الإمام إرادة الله تعالى لما يجري عليه ، مع أنه يعلم ما فيه من المصلحة للدين والأمة ، والمصلحة لنفسه الشريفة بالفوز بالشهادة ورفع الدرجات والكرامة الإلهية ، بانقياده المطلق لأوامر الله تعالى ، وتسليمه المطلق لله ، ورضاه بما يرضاه تعالى ، فلا ريب ، أن لا يكون في ما يقدم عليه أي ضرر ، ولا يمكن أن يسمى ذلك تهلكة بأي وجه ، إلا في المنظار المادي ، والدنيوي . ونظرة إلى قصة إبراهيم ، وولده الذبيح إسماعيل ، عليهما السلام ، التي جاءت في القرآن الكريم ، حين أمر الله إبراهيم بذبح ابنه ، فقال تعالى في نهايتها : ( فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين ) الآيات ( 103 - 106 ) من سورة الصافات ( 37 ). . .
            فقد سمى الله ذلك تسليما ، وتصديقا ، وإحسانا ، وجعه ( بلاء مبينا ) مع أنه لم يتحقق فيه ذبح ، بل فدي إسماعيل بذبح عظيم . فإذا لم يكن ما جرى على إسماعيل إلقاء في التهلكة وكان شرعيا ؟ ! فلماذا لا يكون ما جرى على أهل البيت عليهم السلام من القتل - بأنواعه - أمرا شرعيا متعبدا به ، وقد تعبد به إبراهيم من قبل ؟ ! ولماذا لا يكون ما فعلوه تسليما ، وتصديقا لقضاء الله ، وإحسانا ؟ ! وقد تحملوه في سبيل الله ، وأهداف الدين السامية ؟ وأما ( البلاء ) هنا فهو ( أبين ) لأنه قد تحقق ، وأريقت دماء آل بيت الرسول عليهم الصلاة والسلام ، ولم يفد عنهم بشئ ! مع أن عمل الإمام ، لم يكن امتحانا خاصا وفرديا ، بل هو عمل أعظم وأهم ، لكونه إحياء للإسلام ولرسالة الله الخالدة .
            فإذا علم الإمام بتفصيل أسباب ما يجري عليه من الحوادث ، ونتائجه الباهرة ، فهو أحرى أن ينقاد لامتثال ذلك والإطاعة لإرداة الله ، وعمل في مثل هذه العظمة والأهمية ، لا يكون الموت من أجله ( تهلكة ) .
            كل هذا مع عدم وجود ( جبر ) ولا إكراه للإمام على شئ ، وإنما الأمور هي تحت إختياره ، وبهذا يكون إقدامه أبلغ في الكشف عن عظمته وحبه لله والانقياد له تعالى ، لما يختار لقاء الله تعالى على النصر الدنيوي . وقد جاد هذا المعنى الأخير في بعض روايات الباب . فإذا لم يكن إقدامهم على ما أصابهم أمرا ( مضرا ) ولا يصح تسميته ( تهلكة ) ولا مانع من أن يكونوا عالمين به ، وعارفين له ، فكيف يجعل إقدامهم عليه دليلا على نفي علمهم به ؟ !


            يتبع >>>

            تعليق


            • #7


              6 - عصر الشيخ العلامة الحلي ( ت 726 هـ )

              هو الإمام الشيخ جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر ، أبو منصور ، الشهير بالعلامة الحلي.
              قال ابن داود : شيخ الطائفة ، وعلامة وقته ، وصاحب التحقيق والتدقيق ، كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول .
              وقال ابن حجر : ابن المطهر عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم ، وكان آية في الذكاء . . . واشتهرت تصانيفه في حياته . . . وكان مشتهر الذكر حسن الأخلاق ، ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال : ( لو كان يفهم ما أقول أجبته ) ومات في المحرم سنة 726 ه عن 80 سنة ( 38 ).

              وأما السيد السائل : فهو السيد المهنا بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة ، من آل يحيى النسابة ابن جعفر الحجة بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام زين العابدين علي السجاد عليه السلام . فهو حسيني ، عبيدلي ، أعرجي ، مدني . قال ابن حجر في الدرر الكامنة 4 / 318 : الحسيني ، الإمامي ، المدني ، قاضي المدينة ، اشتغل كثيرا ، وكان حسن الفهم ، جيد النظم ، ولأمراء المدينة فيه اعتقاد ، وكانوا لا يقطعون أمرا دونه ، وكان كثير النفقة ، متحببا إلى المجاورين ، ويحضر مواعيد الحديث . . . من فقهاء الإمامية ، مع تحقق المعرفة ، وحسن المحاضرة ، ومات سنة 754 .
              ووصفه العلامة في أول جوابه عن مسائله بقوله : السيد الكبير ، النقيب الحسيب النسيب ، المعظم المرتضى ، عز السادة ، زين السيادة ، معدن المجد والفخار ، الحكم والآثار ، الجامع للقسط الأوفى من فضائل الأخلاق ، والفائز بالسهم المعلى من طيب الأعراق ، مزين ديوان القضاء ، بإظهار الحق على المحجة البيضاء عند ترافع الخصم ، نجم الحق والملة والدين .
              وانظر الحقائق الراهنة في أعلام المائة الثامنة ، ص 224 ، من طبقات أعلام الشيعة لشيخنا آقا بزرك الطهراني رحمه الله.

              ذكر السيد المهنا بن سنان الحسيني المدني في المسائل الثالثة التي وجهها إلى العلامة الحلي ، المسألة 15 منها سؤالا هذا نصه :
              ما يقول سيدنا ، فيما نقل أن مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان يعرف الليلة التي يقتل فيها ويخبر بها ؟ ! فيكف خرج عليه السلام في تلك الليلة ، ملقيا بيده إلى التهلكة ؟ ! وإن فعله عليه السلام هو الحجة ، لكن نطلب وجها نجيب عن الشبهة ، فقد سأل المملوك عنها شخص بدمشق . فأوضح لنا ذلك ، أحسن الله إليك .

              ويبدون أن الشبهة كانت مثارة من قبل غير السائل ، بل الإثارة كانت من بعض المخالفين من أهل دمشق .
              وفي هذا السؤال فائدة جيدة ، حيث ورد فيه التنبيه إلى أن فعل الإمام لو كان حجة ، فلا معنى للاعتراض عليه ، وذلك لأن من ثبتت إمامته ، وقامت الحجج على كونه إماما مفترض الطاعة ، فهو لا شك في كونه عالما بأحكام الله تعالى ، وكل ما يصدر منه هو طاعة لله ، ولا تصدر منه المعصية ، لأن الإمام عندنا يشترط فيه العصمة عن الذنوب ، وكذلك يشترط فيه العلم بأحكام الشريعة بالإجماع .
              فإذا ثبتت إمامته ، لم يحاسب على شئ من إقدامه فعلا أو تركا ، فيكف يتصور أن يكون ملقيا بنفسه إلى التهلكة ، حتى مع فرض علمه بما يجري عليه .
              ففرض الالقاء في التهلكة مناف لأصل ثبوت إمامته ، فهو منتف في حقه ، قبل أن يبحث عن كونه عالما بالغيب وبما يجري عليه تفصيلا . . . فلا يبتني نفي علمه بالغيب على فرض حرمة الالقاء للنفس إلى التهلكة . وقد شرحنا هذا الأمر في صدر البحث .

              وقد أجاب العلامة الحلي على هذا السؤال بقوله :
              يحتمل أن يكون عليه السلام أخبر بوقوع القتل في تلك الليلة ، ولم يعلم أنه في أي وقت من تلك الليلة ! أو أنه لم يعلم في أي مكان يقتل ! أو أن تكليفه عليه السلام مغاير لتكليفنا ، فجاز أن يكلف ببذل مهجته الشريفة - صلوات الله عليه - في ذات الله تعالى ، كما يجب على المجاهد الثبات ، وإن أدى ثباته إلى القتل ، فلا يعذل في ذلك .

              والظاهر أن العلامة إنما أخذ في الاعتبار في جوابه فرض السائل أن إلقاء الشبهة ليس من قبل من يعتقد بالإمامة ومستلزماتها ، بل من رجل من المخالفين لا يعتقد إمامة الإمام ، ولا يلتزم بشرائطها المعروفة من العصمة والعلم وغير ذلك . وعلى ذلك ، فلو أريد إلزامه بعلم الإمام وتصديق الأخبار الدالة على معرفته بمقتله - والتي وردت ولم تنكر - فلا بد من الخروج بأحد الوجوه التي ذكرها العلامة : إما بالالتزام بتحديد الخبر الواصل إليه ، وأنه عن أصل القتل وشخص القاتل ، دون زمانه المحدد . أو بالالتزام بتحديد الخبر بما دون مكان معين .

              وعلى هذين الفرضين فلا ينافي إقدام الإمام حتى على قتله ، لأنه لم يخبر بالزمان والمكان الخاصين ، حتى يكلف باجتنابهما ، فلا يرد اعتراض أنه أقدم على الهلكة .
              وأما الجواب الثالث ، فهو مناسب حتى للسائل المعتقد بالإمامة ، وهو أن يكون الإمام متعبدا بتكليف خاص ، وهو مثل المجاهد المأمور والمكلف بالجهاد حتى الشهادة . فالإمام كالمجاهد الذي يستشهد - لا يعاتب ولا يعذل ، لأن فعله طاعة ، وليس حراما ولا معصية ، ولا يقال في حقه : إنه ألقى بيده إلى التهلكة .




              يتبــع >>>


              تعليق


              • #8


                7 - في عصر العلامة المجلسي ( ت 1110 هـ )

                الشيخ محمد باقر بن محمد تقي بن المقصود علي الأصفهاني المجلسي ( ت 1110 ه ) .
                قال القمي : هو شيخ الإسلام والمسلمين ، ومروج المذهب والدين ، الإمام ، العلامة ، المحقق المدقق . كان إماما في الجمعة والجماعة ، وهو الذي روج الحديث ونشره ، سيما في بلاد العجم ، وترجم لهم الأحاديث بأنواعها ، مضافا إلى تصلبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقمع المعتدين والمخالفين من أهل الأهواء والبدع سيما الصوفية والمبدعين . . .. وقد شرح الكتب الأربعة - الأصول الحديثية - بملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار ، ومرآة العقول في شرح الكافي ، وحاول جمل شتات كتب الحديث والأخبار في أكبر موسوعة حديثية وهي ( بحار الأنوار ) . وقد بحث في المشكلة التي نبحث فيها في كتابة ( مرأة العقول ) الذي شرح في أحاديث ( الكافي ) التي وردت في ( باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون . . . ) ونقل فيه كلمات المفيد في الرسالة العكبرية ، والعلامة الحلي في جوابات المسائل المهنائية ،

                ومما قاله :
                منشأ الاعتراض أن حفظ النفس واجب عقلا وشرعا ، ولا يجوز إلقاؤها إلى التهلكة .
                وقال في شرح جواب الإمام في بعض أحاديث الباب : هو مبني على منع كون حفظ النفس واجبا مطلقا ، ولعله كان من خصائصهم عدم وجوب ذلك عند اختيارهم الموت . وحكم العقل في ذلك غير متبع . مع أن حكم العقل بالوجوب في مثل ذلك غير مسلم . وقد أجاب عن الاعتراض بوجوه ثلاثة :

                الأول : أن حفظ النفس ليس بواجب مطلقا . وذلك لما ذكرنا سابقا من أن هذا الواجب يسقط إذا زاحمه واجب آخر أهم متوقف على التضحية بالنفس ، مثل حفظ الدين والإسلام ، فلا بد من تقديم الأهم ، ويسقط غيره ، فيجب التضحية بالنفس . وقد احتمل المجلسي أن يكون عدم وجوب حفظ النفس خاصا بالأئمة عليهم السلام عند اختيارهم الموت .
                وهذا الجواب مبني على فرض ثبوت إمامته ، وثبوت الاختيار له في انتخاب الموت .
                ومن الواضح أنه مع هذا الفرض ، لا يصح الاعتراض ، كما أسلفناه في الأمر الثالث مما قدمناه في صدر البحث . إذ أن فعل الإمام - حينئذ - حجة في نفسه ، ودليل على جواز إقدامه ، من دون احتمال كونه إلقاء محرما إلى التهلكة المنهي عنه .

                الثاني : أن حكم العقل بوجوب حفظ النفس غير مسموع ولا متبع . إذ مع إقدام الإمام على فعل ، وحسب المصلحة والهدف الصالح الأهم الذي ارتآه ، فلا أثر لحكم العقل واستهجانه ، لأنه إنما يدرك المنافع العاجلة الظاهرية ، لكن المتشرع إنما يصبوا إلى النعيم الأخروي والأهداف السامية ، غير المرئية للعقل ، ولا المطلوبة له .

                الثالث : عدم تسليم وجود حكم للعقل بوجوب حفظ النفس في مثل هذا المقام : لأن العقل إنما يدرك الكليات ، دون الأمور الخاصة ، فلو فرضنا أن إلقاء النفس إلى التهلكة كان أمرا قبيحا عند العقل ، فهو بمعناه الكلي أمر يدركه العقل العملي ، وبصورته المجردة عن أية ملاحظة أو غرض يتدارك به ذلك القبح .
                فلو ترتبت على الالقاء مصلحة ، أوجبت حسنة ، لم يكن للعقل أن يعارض ذلك ، بل لا بد له أن يوازن بين ما يراه من القبح وما فيه من الحسن . وبعبارة أخرى ليس ما يدركه العقل هنا وفي صورة المعارضة للأغراض ، واجب الإطاعة والاتباع ، وإنما المتبع هو الراجح من مصلحة الغرض أو مفسدة ما يراه العقل ، كالعكس فيما يدرك العقل حسنه ولكن الأغراض تبعده والشهوات تأباه !

                والحاصل : أن درك العقل للحسن والقبح الذاتيين وإن كان مسلما ، إلا أن اتباعه ليس واجبا ، والعمل عليه ليس متعينا إذ أحرز الإنسان مصلحته في مخالفته ، بعادة أو عرف أو شرع . وإذا علمنا بأن الأئمة عليهم السلام إنما أقدموا على القتل وتحمل المصائب لأغراض لهم - وهي الوجوه التي عرضنا بعضها وسنعرض بعضها الآخر - فلا أثر لحكم العقل في موردهم بقبح الفعل ، ولا بوجوب حفظ النفس ، بل قد يحكم بوجوب الالقاء ، وحرمة المحافظة على النفس ، نظرا للأخطار العامة ، والكبرى المترتبة على حفظ النفس ، ولفوات الآثار المهمة بذلك .
                وهذان الأمران - الثاني والثالث - إنما طرحهما الشيخ المجلسي على أثر الافراط في الاستناد إلى العقل وحكمه ، إلى حد الاعتراض به على مسلمات دينية وشرعية وتاريخية ، اعتمادا على فرضيات واحتمالات نظرية بحتة ، لم يؤخذ فيها بالنظر مسائل التوفيقات الشرعية ولا الآثار الواردة . وهذا نظير ما اعتاد أن يلهج به صغار الطلبة من استخدام كلمة العقل ونقده ، والفكر وصياغته وتجديده ، والفلسفة والتبجح بها ، على حساب الدين والشرع والتاريخ ، والعقيدة ومسلماتها وأصولها ، والغريب أن ذلك يتم باسم الدين ، وعلي يد من يتزيى بزي أهل العلم والدين !
                وقد ذكر الشيخ المجلسي في ( بحار الأنوار ) أجوبة المفيد والعلامة الحلي بنصها ، أيضا .


                يتبع >>>


                تعليق


                • #9


                  8 - في عصر الشيخ البحراني ( ت 1186 هـ )

                  المحدث الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور الدرازي البحراني .
                  قال أبو علي الحائري في ( منتهى المقال ) : عالم فاضل ، متبحر ماهر متتبع ، محدث ورع ، عابد صدوق ، من أجلة مشايخنا وأفاضل علمائنا المتبحرين .
                  وقال الشيخ التستري في ( مقابس الأنوار ) : العالم العامل ، المحقق الكامل ، المحدث الفقيه ، المتكلم الوجيه ، خلاصة الأفاضل الكرام ، وعمدة الأماثل العظام ، الحاوي ، من الورع والتقوى أقصاهما ، ومن الزهد والعبادة أسناهما ، ومن الفضل والسعادة أعلاهما ، ومن المكارم والمزايا أغلاهما ، الزكي النقي التقي . . .
                  وقال المولى شفيع في ( الروضة البهية ) : من أجلاء هذه الطائفة ، كثير العلم ، حسن التصانيف ، نقي الكلام ، بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين . . . وكان ثقة ورعا عابدا زاهدا . . . من فحول العلماء الأجلة .
                  وقال هو عن كتابه ( الدرر النجفية ) : كتاب لم يعمل مثله في فنه ، مشتمل على تحقيقات رائقة ، وأبحاث فائقة .
                  وقال الحائري في ( منتهى المقال ) : كتاب جيد جدا ، مشتمل على علوم ومسائل ، وفوائد ورسائل ، جامع لتحقيقات شريفة ، وتدقيقات لطيفة .

                  فقد أورد في كتابه ( الدرر النجفية ) هذا الاعتراض ، وأجاب عنه بالتفصيل ، نورد ما يناسب ذكره هنا ،
                  قال :
                  درة نجفية : قد كثر السؤال من جملة من الاخلاء الأعلام ، والأجلاء الكرام عن الوجه في رضا الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وإعطائهم بأيديهم لما أوقعه بهم مخالفوهم من القتل بالسيف أو السم ؟ حيث إنهم عالمون بذلك ، لما استفاضت به الأخبار من أن الإمام عليه السلام يعلم انقضاء أجله ، وأنه هل يموت بموت حتف أنفه ، أو بالقتل أو بالسم ! وحينئذ ، فقبوله ذلك ، وعدم تحرزه من الامتناع ، يستلزم الالقاء باليد إلى التهلكة ، مع أن الالقاء باليد إلى التهلكة محرم نصا ، قرآنا ، وسنة ! وقد أكثر المسؤولون من الأجوبة في هذا الباب ، بل ربما أطنبوا فيه أي إطناب بوجوه لا يخلو أكثرها من الايراد ، ولا تنطبق على المقصود والمراد .
                  وحيث إن بعض الأخوان العظام ، والخلان الكرام سألني عن ذلك في هذه الأيام ، رأيت أن أكتب في المقام ما استفدته من أخبارهم عليهم الصلاة والسلام .

                  فأقول : - وبالله الثقة لإدراك المأمول وبلوغ كل مسؤول - : يجب أن يعلم :

                  أولا : أن التحليل والتحريم توقيفية من الشارع عز شأنه ، فما وافق أمره ورضاه فهو حلال ، وما خالفهما فهو حرام . وليس للعقل - فضلا عن الوهم - مسرح في ذلك القمام .

                  وثانيا : أن مجرد الالقاء باليد إلى التهلكة - على إطلاقه - غير محرم ، وإن أشعر ظاهر الآية بذلك ، إلا أنه يجب تقييده وتخصيصه بما قام الدليل على جوازه .
                  وذلك : فإن الجهاد متضمن للإلقاء باليد إلى التهلكة ، مع أنه واجب ، نصا وإجماعا .
                  وكذلك الدفاع عن النفس ، والأهل ، والمال . ومثله - أيضا - وجوب الاعطاء باليد إلى القصاص ، وإقامة الحد عليه ، متى استوجبه .

                  وثالثا : إنهم صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم وما يتعلق بمبدئهم ومآلهم يجرون على ما اختارته لهم الأقدار السبحانية ، ورضيته لهم الأقضية الربانية . فكل ما علموا أنه مختار له تعالى بالنسبة إليهم - وإن اشتمل على غاية الضرر والبؤس - ترشفوه - ولو ببذل المهج والنفوس - .
                  إذا تقررت هذه المقدمات الثلاث ، فنقول : إن رضاهم صلوات الله عليهم بما ينزل بهم ، من القتل بالسيف والسم ، وكذا ما يقع بهم من الهوان والظلم على أيدي أعدائهم ، مع كونهم عالمين به ، وقادرين على دفعه ، إنما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه وتعالى ، ومختارا له بالنسبة إليهم ، وموجبا للقرب من حضرة قدسه ، والجلوس على بساط أنسه .
                  وحينئذ ، فلا يكون من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة ، الذي حرمته الآية ، إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع نهي تحريم ، وهذا مما علم رضاه به واختياره له ، فهو على النقيض من ذلك . ألا ترى أنه ربما نزل بهم شئ من تلك المحذورات قبل الوقت المعد ، والأجل المحدد ، فلا يصل إليهم منه شئ من الضرر ، ولا يتعقبه المحذور والخطر ؟ !
                  فربما امتنعوا منه ظاهرا ، وربما احتجبوا منه باطنا ، وربما دعوا الله سبحانه في رفعه فيرفعه عنهم ، وذلك لما علموا أنه غير مراد له سبحانه في حقهم ، ولا مقدر لهم .
                  وبالجملة : فإنهم صلوات الله عليهم يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار ، وما اختاره لهم القادر المختار .
                  ولا بأس بإيراد بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار ليندفع بها الاستبعاد ، ويثبت بها المطلوب والمراد :

                  فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام - عطر الله مرقده - في ( الكافي ) بسنده عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت للرضا عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ( إلى آخر الحديث الذي نقلناه سابقا )
                  وأضاف بعده : وحاصل سؤال السائل المذكور : أنه مع علمه عليه السلام بوقوع القتل ، فلا يجوز له أن يعرض نفسه له ، لأنه من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة ، الذي حرمه الشارع ؟ !
                  فأجاب عليه السلام بما هذا تفصيله وبيانه : أنه - وإن كان الأمر كما ذكرت من علمه عليه السلام بذلك - لكنه ليس من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة الذي هو محرم ، لأنه عليه السلام خير في تلك الليلة بين لقاء الله تعالى على تلك الحال ، أو البقاء في الدنيا ، فاختار عليه السلام اللقاء على الوجه المذكور ، لما علم أنه مختار ، ومرضي له ، عند ذي الجلال . كما يدل عليه قوله عليه السلام ، لما ضربه اللعين ابن ملجم - الملجم بلجام جهنم وعليه ما يستحقه - : ( فزت ورب الكعبة ) . وهذا معنى قوله : ( لتمضي مقادير الله تعالى )
                  يعني : أنه سبحانه قدر وقضى في الأزل أنه عليه السلام لا يخرج من الدنيا إلا على هذه الحال ، باختياره ورضاه بها . ومن ذلك ما رواه في الكتاب المذكور عن عبد الملك بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ( وذكر الحديث الثامن الذي رواه الكليني ) .
                  ومن ذلك ما رواه - أيضا - عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال فيه : فقال له حمران : جعلت فداك ، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام ، وخروجهم ، وقيامهم بدين الله عز ذكره ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم ، والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا ؟ ! فقال أبو جعفر عليه السلام : يا حمران ، إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم ، وقضاه وأمضاه ، وحتمه ، على سبيل الاختيار ، ثم أجراه . فبتقدم علمه إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام علي والحسن والحسين ، وبعلم صمت من صمت منا . ولو أنهم - يا حمران - حيث نزل بهم من أمر الله تعالى ، وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله تعالى أن يدفع عنهم ذلك ، وألحوا عليه في طلب إزالة تلك الطواغيت ، وذهاب ملكهم ، إذا لأجابهم ، ودفع ذلك عنهم . ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم ، أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد . وما كان ذلك الذي أصابهم - يا حمران - لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ، ولكن لمنازل ، وكرامة من الله أراد أن يبلغوها ! فلا تذهبن بك المذاهب فيهم .
                  أقول : وهو صريح في المطلوب ، على الوجه المحبوب .

                  ثم روى عدة أحاديث تدل على أنهم عليهم السلام امتنعوا من فعل ما يؤدي إلى قتلهم ، لكون ذلك في غير الأجل المحدد لموتهم ، ولم يختاروا ذلك إلا في الوقت المقدر ، حتى يكون اختيارهم موافقا للقضاء ورضا به .
                  ويبدو من المقدمة ( الأولى ) والمقدمة ( الثانية ) مما قدمهما على الجواب ، أنه يوافق المجلسي - رحمه الله - في كليهما . ولعل لجوءه إلى هذه الأسلوب من جهة ميله إلى استبعاد تحكيم العقل في مثل هذه القضايا التي هي أمور خاصة ، وليست كليات وثوابت عامة حتى يمكن للعقل التدخل فيها ، كما أن ما ثبت من الشرع فيه حكم ، وجاء منه توقيف ، فليس للعقل إلا التسليم وترجيح المصلحة الشرعية على مدركاته . وهذا - كما أشرنا سابقا - نتيجة لرد الفعل الذي استحوذ على علمائنا الأخباريين من التطرف الذي انغمر فيه بعض العقلانيين ، ممن قصرت يده عن علوم الشريعة ونصوصها ، فراح يجول ويصول في علوم الشريعة بجناح العقل وأدلته ، وبنى الدين أصولا وفروعا وموضوعات خارجية وأمورا واقعة ، وأحداثا تاريخية ، على مدركاته العقلية .
                  من أن من الواضح : أن الأمور التعبدية ، وكذا الموضوعات الخارجية ، وكل الأمور والحوادث ، والحقائق الشخصية ، وصفات الأئمة عليهم السلام ، وما صدر منهم . . . إلى غير ذلك من الأمور الخاصة ليست مسرحا للعقل ، وإنما طريقها الإثبات بالنقل . والعقل النظري إنما يدرك المعقولات العامة التي ترتبط بالحقائق الكونية الثابتة ولذلك يجب أن تكون مدركة لجميع العقلاء ، ومقبولة لديهم ، لا خاصة بعقل طائفة دون أخرى ، ولا مبتنية على قضية دون أخرى .
                  أما العملي فهو يدرك حسن أمر أو قبح آخر ، ولا يستتبع عملا ، وإنما للعامل أن يراعي مصلحته ويوازن فيه ما يخصه بين ما يمسه وبين ما يدركه العقل ، فيرجح ما يناسبه . فالانسحاب وراء الخيالات الخاصة بعنوان العقل ، كما يفعله أدعياء العقل ونقده - في عصرنا الحاضر - جهل بأبسط المسائل العقلية ، وهو مجال علمه .


                  يتبــع >>>

                  تعليق


                  • #10


                    9 - في القرن الماضي مع السيد الإمام الخراساني ( ت 1368 هـ )

                    هو المجتهد الكبير ، والعلامة النحرير ، فريد دهره ، ووحيد عصره ، قدوة العلماء المتبحرين ، سيد الفقهاء والمجتهدين ، عمدة العلماء العاملين ، ونخبة الأفاضل والمجتهدين ، ملاذ الأنام ، وثقة الإسلام ، سيدنا الأعظم ، سماحة آية الله العظمى السيد ميرزا محمد الهادي الحسيني الخراساني الحائري ، قدس الله سره .
                    وقال الشيخ محمد حسن كبة في إجازته له : السيد السند ، والمولى الجليل المعتمد ، فخر المحققين ، وافتخار المدققين ، صفوة العلماء الكرام ، وعماد الفقهاء الأجلة الفخام ، التقي النقي ، الطاهر الزكي ، نتيجة الشرف الأقدم ، وسلالة سيد الأمم صلى الله عليه وآله وسلم .
                    وقال شيخ الشريعة الأصفهاني ( ت 1339 هـ ) في إجازته له : العالم العامل ، الفاضل الكامل ، أبا الفضائل والفواضل ، صاحب القريحة القويمة ، والسليقة المستقيمة ، والحدس الصائب ، والنظر الثاقب ، المستعد لإفاضة نتائج المطالب من الكريم الفياض الواهب ، عمدة العلماء المحققين ، وزبدة الفضلاء المدققين ، العالم العلم العيلم ، الثقة الورع ، التقي النقي ، العدل الصفي .
                    وقال السيد مهدي الأصفهاني الكاظمي ( من تلامذته ) : كان - رحمه الله - من أعاظم علماء الفقه والأصول ، وأكابر فضلاء المعقول والمنقول ، وكان عارفا بالرجال ، والتاريخ ، والحديث ، والتفسير ، والعربية ، ماهرا في الفنون العقلية والنقلية .
                    وقال الكاظمي في ( أحسن الأثر ) ص 36 : وأما مناظراته : فإنه إذا صادف خارج ملة أو مذهب ، فهو يفحمهم ويلقمهم الحجر - لا محالة - لما عليه من عظيم المقدرة في علم المناظرة ، وزيادة إلمام بكل العلوم معقولها ومنقولها . أما في المعقول : فإن له اليد الطولى في علم المنطق والحكمة والهيئة والرياضيات والكلام والفلسفة . وأما في المنقول : فلقد برع فيه ، واجتهد ، وحاز السبق بها على معاصريه.
                    وفي عصر السيد الخراساني في القرن الهجري الماضي ( القرن الرابع عشر الهجري ) خيم شيح الاستعمار الغربي الملحد على البلاد الإسلامية ودنس الغربيون أرض الشرق الطاهرة بأرجلهم الدنسة ، وبدأوا بنفث سموم الفسق والإلحاد ، وبذر الشقاق والفساد ، في كل قطر وبين كل العباد ، وحالوا التفرقة بين أجزاء الوطن الإسلامي ، وقطع أوصال الأمة الإسلامية ، على أساس من الطائفية البشعة والعنصرية القذرة ، والنزاعات المفتعلة ، ونصبوا بينهم العداء ليأكل بعضهم بعضا ، فلا تكون لهم وحدة متشكلة ، ولئلا تكون أمة قوية متراصة .
                    وحاولوا تأجيج شرر التفرقة بين المذاهب الإسلامية الفقهية ، وتوسيع رقعة الخلاف بينها مهما أمكن ، وتوسيع الخلافات الصغيرة ، وتأجيج النزاعات الحقيرة والقديمة ، كما حاولوا تأسيس مذاهب فقهية جديدة ، وإبراز فقهاء جدد ومجددين ! وسعوا في إثارة النزاعات والخلافات بين أهل المذهب الواحد ، لتتسع رقعة الخلاف على راقعها ، ولقد جنوا على البشرية عامة ، وعلى المسلمين خاصة ، بهذه الأعمال جناية كبرى ، لكنهم جنوا من أفعالهم تلك أنهم استولوا على العباد والبلاد وخيراتها وتراثها وجمالها وحتى عقولها ، وذهبوا بكل ذلك إلى بلادهم في شمال العالم الأرضي لتعيش بها شعوبهم - قرنا من الزمان - في رفاه من العيش ورغد ، وأمن واستقرار ، وهدوء وقانون ، على حساب عذاب ملايين من أفراد البشر في سائر أقطار العالم الجنوبية .
                    وقد وجدوا في المذهب الشيعي الاثني عشري طائفة متماسكة مؤمنة بمبادئ الإسلام الحقة ، لأنها تعتمد على القرآن وأهل البيت ، الثقلين ، الذين خلفهما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لبني أمته ، ووعد أنها لا تضل ما تمسكت بهما ، وأنهما لا يفترقان - أبدا - إلى يوم القيامة .
                    فكان الشيعة أقوى مذاهب الأمة يدا ، وأكثرها صبرا وجلدا ، وأوفاها للإسلام ، وأشدها دفاعا عن القرآن ، وأعلاها نداءً بالوحدة الإسلامية ، وأكثرها سعيا للتقرب بين المسلمين . فلم يجد الاستعمار الغربي البغيض وأيديه العميلة إلا السعي في تشويه سمعة هذه الطائفة بين المسلمين من جهة ، والسعي في تشتيت وحدة الشيعة من جهة أخرى . وقد أثاروا الشبه بين عوام الشيعة ، والتشكيكات في المذهب أصولا وفروعا ، ونبشوا التاريخ ليجدوا مثل هذه المشكلة ( الاعتراض على علم الأئمة بالغيب ) فأثاروها ، رغبة في أن توجد شقاقا في الطائفة الشيعية ، بالرغم من كونها شبهة بائدة قديمة ، وقد أجاب عنها علماء الشيعة منذ عصور الأئمة وإلى اليوم بأجوبة سديدة قويمة .
                    إلا أن الغربيين الحمقى ، لا يهمهم ذلك ، وليس همهم إلا التشبث بكل ذريعة ووسيلة - ولو وهمية - لإيقاع الفرقة . فانبرى السيد الخراساني ( ت 1948 م ) للتصدي لهذه الشبهة في رسالة ( عروض البلاء على الأولياء ) .
                    وقد ذكر فيها ( عشرين وجها ) من بنات أفكاره ، ومبدعات تحقيقاته ، من دون مراجعة أو إرجاع إلى مصدر أو كتاب . ونجد بعض الوجوه منها قد وردت في الأجوبة المذكورة في ما سبق من العصور ، وخاصة في الأحاديث الشريفة . ومن المطمأن به أن ذلك كان في مخزون فكر السيد على أثر مراجعته الواسعة للمصادر ، وخاصة كتب الحديث الشريف . وقد يكون بعضها من توارد الأفكار ، لأن تلك الوجوه كلها ، وخصوصا ما ورد في الأثر منها ، وجوه توافق الفطرة السليمة ويقف عليها صاحب السليقة المستقيمة ، كما أنه يوافق كثيرا من الحقائق الراهنة في حياة الأئمة الأطهار عليهم السلام وسيرتهم الكريمة .
                    والسيد الخراساني هو من عرفناه ابن هذه السلالة ، وسائر على نهجهم ، ومتعمق بالغور في علومهم ، وممتلئ مشبع بأفكارهم ومالك لأزمة تراثهم . فلا غرو أن يكون ما توصل إليه موافقا لما ذكروه في النتيجة !
                    والوجوه التي ذكرها هي :

                    الأول : الفناء المحض في ذات الله ، وإثبات كمال العبودية له .
                    الثاني : الرضا والتسليم لمشيئة الله ، والسير بمقتضى تقديره . وهذا وارد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا عليه السلام ، والإمام الباقر عليه السلام .
                    الثالث : العلم بعموم قدرة الله تعالى وكمال حكمته .
                    الرابع : إظهار عظمة الله تعالى ، وأنه مستحق لكل تعظيم وتسليم من العبد .
                    الخامس : ظهور مقام العبد وسمو مرتبة هذه العبادة .
                    السادس : حتى يهون الخطب على سائر العباد .
                    السابع : حتى لا يعترض الخلق ، ويسلموا لأمر الله تعالى ، وترضى خواطرهم .
                    الثامن : حتى يستحق الأئمة المثوبات والأجور العظيمة فيكونون الأولين بمقام الخلافة والإمامة . وهذا الوجه ورد في جواب للإمام الباقر عليه السلام ، وقد ذكره البحراني . وقد استطرد السيد الخراساني - في هذا المورد - إلى ذكر : ( الإشكال في فائدة الصلاة على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ) . و ( أن الفائدة تعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى المصلي عليه ؟ ) .
                    التاسع : أن التوجه إلى الله تعالى - مع البلاء - يكون أكمل .
                    العاشر : أن الفرج بعد الشدة ، فيه لذة عظيمة .
                    الحادي عشر : أن الضغط العارض على النفس مثل الزناد القادح ، فالتنورات القلبية والأشعة الروحية ، لا تعقل فعليتها إلا بتلك الآلام والمصائب .
                    الثاني عشر : أن تمييز الخبيث من الطيب ، متوقف على الابتلاء . وفي ضمنه أجاب عن : ( فائدة فعلية معرفة الخبيث ) .
                    الثالث عشر : أن العبد إذا علم أن البلاء إنما جاءه من جهة القرب من الله وحبه له ، سيستبشر بالبلاء ، ويشكر الله عليه .
                    الرابع عشر : أن مصائب الأئمة عليهم السلام - والحسين عليه السلام خاصة - لها منافع عظيمة لجميع الخلق . وفيه حديث عن الشعائر والمجالس الحسينية وأهميتها ، ومدى اهتمام الأعداء بإزالتها ومحاربتها .
                    الخامس عشر : أن بقاء الشريعة الإسلامية إنما تم بمظلومية الأئمة عليهم السلام وصبرهم .
                    السادس عشر : أن ما جرى على الأئمة يثبت صحة النبوة والرسالة ، ببيان انفرد بذكره المصنف .
                    السابع عشر : أن في وقوع البلاء على أهل بيت الرسول ، تصديقا لأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها ، وذلك من أعظم ( دلائل النبوة ) وهي من المعاجز التي تحققت بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم .
                    الثامن عشر : رضا الأئمة عليهم السلام وتسليمهم لهذه المصائب دليل على كمال إيمانهم ، وصحة أعمالهم ، وقوة نياتهم ، وذلك دليل على استحقاقهم للإمامة .
                    التاسع عشر : أن مظلومية الأئمة عليهم السلام دليل على لزوم وجود ( المعاد ) ببيان فريد ذكره المصنف .
                    متم العشرين : أن تحمل الأئمة عليهم السلام للبلايا والمصائب لطف من جهة دلالته على دناءة الدنيا وحقارتها .

                    وقد ذكر السيد في نهاية هذا الوجه نكتة عرفانية مهمة ، حاصلها :
                    ( أن من فدى روحه في ( الحج ) بدل الأضحية ، شوقا إلى لقاء الله ، فهو في أعلى مراتب القرب والقبول ) .

                    أقول : ولذلك جعل الله لمن مات مهاجرا إلى الله ورسوله - في الحج - أجرا وقع على الله تعالى . هذا إذا مات بغير اختياره ، فيكف إذا مات باختياره للموت ؟ ! ويلاحظ أن الوجوه التي ذكرها السيد الخراساني قد وضعت بشكل فني من حيث تفاعل المؤمن بالإسلام معها ،
                    لأنها تعتمد على ربط الجوابات بالعقيدة : ففيها ما يرتبط بعقيدة التوحيد وصفات الله تعالى . وأنه في منتهى العظمة واستحقاقها ، وأنه قادر ، حكيم ، وأنه قدر الأمور بحكمته ، ومولويته البالغة :
                    وفيها ما يرتبط بالنبوة وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وأن دعوة الإسلام صحيحة ، لأن فداءها والواقفين في مقدم صفوف المدافعين عنها هم أهل بيت النبي ، ولو كان دينا مزيفا لوقف هؤلاء في المواقع الخلفية حتى يستلذوا من دنياهم ومما زيفوا ، ولكنهم أثبتوا بتضحياتهم ، أن الدين حق ، وأنهم لم يجيئوا به ، ولم يحملوا رايته إلا أداء لواجب الرسالة والإمامة وحقها .
                    وهذا مما انفرد بذكره السيد الخراساني . وكذلك تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر متواترا بما يجري فيما بعده على أهل بيته ، فكان كما قال .
                    وفيها ما يرتبط بالإمامة : وأن الأئمة أثبتوا إخلاصهم لله وللنبي ولهذا الدين وحقانيته ، وأنهم لم يطلبوا بالإمامة دنيا فانية ، وإنما هو الحق الذي أرادوا تحقيقه ، ولذلك ضحوا بأنفسهم في سبيله .
                    وفيها ما يرتبط بالعدل والمعاد : إذ إن المظالم التي جرت على أهل البيت الطاهر لا بد أن يكون لهم بها مقابل وأجر ، والذين قاموا بهذه المظالم ووطدوا بها حكمهم في الخلافة ، والتذوا بالحكم في دنياهم ، لا بد أن يحاسبوا ويجازوا على ظلمهم ، وقد ماتوا وهم مالكو أرائكها ، أين يجدون جزاء ما جنوا بعد هذه الدنيا ؟ ! إن العدل والوجدان ، يقتضيان أن تقام محكمة تأخذ الحق وتحاكم العدوان وتنزل القصاص ، وتوصل المجرمين إلى الهوان ، وتعطي المظلومين حقوقهم . وقد ملئت رسالة السيد الخراساني بالمعاني الدقيقة والفوائد الجليلة ، والإفادات الروحية والعرفانية الرفيعة ، مما يزيد من روعتها وعظمتها العلمية والروحية . وقد رأيت خلال سعيي للكتابة عن هذا البحث أن أحقق هذه الرسالة ، وأقدمها لمحبي العلم والمعرفة ، بعون الله .



                    يتبـــع >>>


                    تعليق


                    • #11


                      10 - وفــي هــذا العصــر :

                      في مطلع القرن الخامس عشر الهجري ، وفي العقد الأخير من القرن العشرين ، حين هبت رياح النصر الإلهي للأمة الإسلامية ، من خلال حركة دينية قادها زعيم عظيم من سادة أهل البيت ، السيد الورع التقي ، المجتهد المجاهد ، الإمام الخميني ، فجدد للإسلام رسمه واسمه وقوته ، وأعاد إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم ، وصدقوا بقدرتهم ، ووجدوا ذاتهم العظيمة بعد تياه ويأس وبؤس وشقاء ، فرضتها عليهم إيحاءات الغربيين بالتخلف والضعف والعجز ، والاستخفاف بالشرق ودينه وعرفه وذوقه وتراثه ! فنفث الإمام الخميني في الأمة روح القوة والوحدة والألفة والمجد والعزة ، وأيده الله تعالى بجنود لم يرها المستعمرون الملحدون ، من بين شباب الأمة ومستضعفيها ، ومن لم يحسب لهم الطواغيت حسابا ، فانتصروا بأيد خالية من السلاح - سوى الإيمان - على أكبر دول المنطقة عمالة وغطرسة ، وأوسعها مساحة وإمكانيات ، وهي دولة ( إيران ) الشاه العميل ، والمرتمي في أحضان أمريكا ، والذي جعل من بلده ترسانة لأنواع الأسلحة الاستراتيجية .
                      كان هذا الانتصار العظيم ، بعد قرن من سيطرة الغرب الكافر على أرض الإسلام ، من حدوده الشرقية إلى سواحله الغربية - وبعد عمل دقيق ودؤوب وماكر - بالاستيلاء على كل مرافق الحياة الحساسة ، وقد سلط عليها - من بعد - عملاءه . لكن الأمة الإسلامية ، أصبحت من الرشد والوعي ، وبفضل أجهزة الإعلام الحديثة ، بحيث لا يخفى عليها ما يجري في أنحاء العالم كله ، وفي العالم الإسلامي بالذات . فلا يخفى عليها دجل تلك الدعايات الكاذبة التي تروجها الوهابية السعودية ، والسلفية الممقوتة ، والعلمانية الملحدة ، وكل الذين وضعوا أيديهم أمس - أو يضعونها اليوم ، أو غدا - في أيدي الصهيونية الحاقدة على الإسلام والمسلمين ! إن الصحوة الإسلامية المجيدة ، والعودة الحميدة إلى الإسلام ، التي عمت البلاد الإسلامية من الشرق إلى الغرب ، إنما هي ثمرة يانعة من ثمار حركة الإمام الخميني المقدسة ، وإن الوعي الإسلامي العظيم لن تنطلي عليه أساليب الاستعمار وذيوله الماكرة ، والتي بليت وتهرأت في سبيل تشتيت كلمة المسلمين وتفتيت قواهم ، وإثارة الفتن والقلاقل - بالكذب والبهتان والتكفير - فيما بينهم . لقد استخدموا هذه المرة - وفي هذه الأيام بالذات - عناصر من داخل الاطار الشيعي ، ببعث بعض المنبوذين من المنتمين بالاسم أو المواطنة أو العائلة ، إلى الإسلام ، ودفعهم إلى الكتابة باسم الشيعة ، ضد الثورة الإسلامية . ومن ذلك ما صدر أخيرا من إثارات تشكيكية ضد عقائد المذهب وتراثه ومصادره وتاريخه . عادوا إلى بث بذور النفاق والشقاق بين الطائفة الشيعية - العمود الفقري للحركة الإسلامية الجديدة - ليقصموا بذلك ظهرها ، ويخنقوها في مهدها ! وذلك بإثارة الشبه والدعايات المغرضة ، ومما أثاروه هذه الشبهة البائدة القديمة ، وقد تولى كبرها وإثارتها من يدعي ( العقل ونقده ) سارقا لمجموعة من النصوص من هذا الكتاب وذاك ، ومراوغا في الكلمات والجمل والفصول ، زاعما أنه اهتدى إلى هذه ( المشكلة وحلها ) وأنه يقوم بقراءة جديدة للفكر الإسلامي والعقل الشيعي ! أو يصوغهما صياغة جديدة ! إن الشبهة هذه قد أكل الدهر عليها وشرب ، وقد أرهقها علماؤنا منذ القدم وفي مختلف العصور ردا وتفنيدا ! فلم يكن في إثارتها في هذه الظروف ، إلا لغرض سياسي مشؤوم ولزلزلة التزام المؤمنين العقيدي ، وفصل عرى الوحدة الإيمانية بينهم . ولقد وفقني الله - حماية للعقيدة ، ودفاعا عن الفكر الإسلامي ، وانتصارا لحركة الإسلام الجديدة ، وتزييفا لمثل تلك المحاولات اللئيمة ، وتحصينا لمعتقدات المؤمنين - أن أقوام بهذا الجهد المتمثل في البحث عن أصول المشكلة ، وتحديد محل البحث منها ، وعرض الأجوبة الموروثة منذ عصر الأئمة عليهم السلام وحتى اليوم . والهدف - بعد نسف تلك الدعوى التي أثارتها أجهزة الكفر ، وإبطال ما توهموه حلا لها ، والذي هو الهدف من إثارتها ، وهو نفي علم الأئمة بالغيب ! - هو إشباع المسألة بحثا وتنقيبا حتى يقف المسلم على حقيقة الأمر وجليته ، بكل أبعاده . وقد توصلنا من خلال ذلك إلى نتائج مهمة ، نلخصها فيما يأتي من صفحات :

                      خلاصة البحث


                      1 - تعتقد الشيعة الإمامية أن علم الغيب ، بالاستقلال خاص بالله تعالى ، بنص القرآن الكريم .

                      2 - وتعتقد أن الله تعالى يطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الغيب بوسيلة الوحي أو الالهام ، وهذا أيضا منصوص عليه في القرآن الكريم ، ومذكور في الحديث الشريف . وكذا الإمام يعلم ذلك بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

                      3 - أجمعت الطائفة الإمامية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام يعلمان - بإعلام الله وإطلاعه - الغيب ، سواء في الأحكام ، أو في الموضوعات ، ويدخل في ذلك علمهم بأسباب موتهم والمصائب الجارية عليهم ، وما يرتبط بذلك من الزمان والمكان والفاعل ، علما تفصيليا .
                      إلا أن أفرادا خالفوا في خصوص ( وقت القتل ) فاعتقدوا فيه بالعلم الاجمالي ، وعدم التحديد التفصيلي ، حذرا من ورود الاعتراض التالي عليهم . ويترتب على القول بالتفصيل كونهم عليهم السلام مختارين في انتخاب الموت لأنفسهم . وقد دلت على ذلك الأحاديث والآثار المنقولة .

                      4 - لقد اعترض المنحرفون والخارجون عن المذهب على الشيعة في أصل ( علم الأئمة بالغيب ) . واستدلوا على ذلك بالآيات ، وبدليل العقل بمحدودية المخلوقين فلا يمكنهم الإحاطة بالغيب الذي هو غير محدود .
                      ورد هذا الاعتراض : بأن الله تعالى نص في القرآن بأنه يطلع من يشاء من الرسل على الغيب .
                      وأما العقل ، فبأن ما ذكر من اللازم ، إنما يلزم على تقدير ادعاء أن غير الله يعلم بالغيب بالاستقلال وبنفسه ، وقد عرفت أن ذلك خاص بالله تعالى ، ولا يشركه فيه أحد من المخلوقات بشرا أو ملائكة أو غيرهما . وإنما نقول في مسألة علم النبي - ويتبعه الإمام - بما يطلعهما الله تبارك وتعالى عليه من مخزون علمه ، وبإرادته . وقد استأثر الله لنفسه بكثير من العلوم كعلم الساعة ووقتها ، وأمر الروح . ولكنه بفضله على أوليائه من الرسل والأئمة عليهم السلام يلهمهم علوما اختصهم بذلك دون البشر ، كرامة لهم وإعظاما لشأنهم . وقد استثنى الله تعالى ذلك مما دل على حصر الغيب بنفسه ، في القرآن الكريم . فليس اعتقاد ذلك منافيا لمدلول تلك الآيات التي هي حق .

                      5 - ومع اعتقادنا بأن النبي والإمام يعلمان الغيب بإعلام الله ويطلعان عليه بالوحي والإلهام ، فإن علمها لا بد أن يكون محددا بحدود الوحي والإلهام والإعلام الإلهي وإطلاعه جل وعز لهما على ما يشاء من الغيب .
                      وقد دلت الأحاديث والآثار والنقول - المتواترة بالمعنى - على حصول علم الغيب لهم عليهم السلام في بعض القضايا والأمور الماضية والمستقبلة . وهذا في نفسه كاف لإبطال ما أقيم من الشبه - في وجه هذا المعتقد - باسم الأدلة العقلية ، فلو تحقق علمهم بالغيب بنحو الموجبة الجزئية انقضى الدليل على سلب ذلك كليا ، ونفيه بشكل عام . لكن ذلك لا يستلزم الإثبات الكلي إلا إذا دل الدليل عليه ، كما وردت به الروايات والآثار العديدة . وحيث لا مانع - شرعي ولا عقلي - من الالتزام بها ، بعد كونها ممكنة ، فلا نرى في الالتزام بمداليلها ومضامينها محذورا .

                      6 - وقد أثيرت في وجه الالتزام بهذه الروايات والآثار ، والاعتقاد بعلم الغيب للنبي والأئمة عليهم السلام ( شبه ) من قبيل الحوادث التاريخية المنقولة في سيرتهم عليهم السلام والتي تتضمن قضايا ظاهرها عدم علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بالنتائج المترتبة عليها . مثل ما في قضية ( خالد ) وفعلته المنكرة في إحدى قبائل العرب ، التي قتل فيها جماعة من المسلمين ، ولما اطلع الرسول على فعله تبرأ منه وبعث من فداهم .
                      فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علم ما سيفعله خالد لما أرسله ، ولمنعه ولا بد له بغيره ؟ ! وكذلك تأمير الإمام علي عليه السلام زياد ابن أبيه ، الذي أدى بعد ميله إلى معاوية إلى فتكه بالشيعة . فلو كان الإمام يعلم بعاقبة أمره ، لما ولاه ، ولما اعتمد عليه ؟ ! وقضايا أخرى ظاهرها أن النبي والإمام كانا يظهران أسفهما على ما صدر منهما ، مما يدل على عدم علمهما بالنتائج !
                      أقول : إن هذه القضايا التاريخية لا يمكن الاعتماد عليها في بحث علم الغيب ، لكونها قضايا مبتورة لم تنقل بتفاصيلها الواضحة ، بل لا يعتمد على ناقليها الذين ليسوا إلا من كتاب الأجهزة الحكومية ومؤرخي السلطات ، والذين يسعون إلى إخفاء حقائق كثيرة من كل ما يروونه ، فلم نعرف عنها تفصيلا لكل جزئياتها وخصوصياتها ، ومع ذلك لا يمكن الحكم من خلالها على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا الإمام عليه السلام بشئ ما لم نعرف كل ظروفها ومجرياتها .
                      ثم إن النبي والإمام عليهما السلام لم يكن بإمكانهما إبداء كل ما يعلمان ، والتصريح بكل شئ إلى من حولهما من الناس ، لاختلاف مقاماتهم في العقيدة والإيمان والالتزام والتصديق ، وقابلية الادراك والتعقل ، وسعة المعرفة ، وبعد النظر ، والتقوى ، والزهد في الشهوات ، ولذلك تجد اختلافا في الخطابات الصادرة إليهم حسب مستوياتهم ، فليس بإمكان النبي والإمام التصريح بكل الحقائق لكل السامعين ، وليس من المفروض أن يقبل جميع السامعين ما يسمعون ، وكذلك ليس كل الناقلين أمناء في ما ينقلون .

                      ومع هذه الحقائق لم يبق اعتماد على مثل هذه القضايا المبتورة بحيث يرد به الأخبار والآثار المتضافرة الواردة عن علم الأئمة عليهم السلام بالغيب . وإن صحت ، فالنبي والإمام عليهما السلام مكلفون أن يتصرفوا ويتعاملوا مع الآخرين حسب ظواهر الأمور والأسباب الطبيعية ، لا على أساس ما يعلمونه من الغيب . إن من الغريب أن يحاول المغرضون مواجهة ما ورد من روايات علم الغيب بالإشكالات السندية ، ومعارضتها بمثل هذه القضايا التي لم تثبت حتى بسند ضعيف ، وإنما هي أخبار تاريخية ، لا يعتمد على ناقليها في مجال القصص ، فضلا عن مجال الأحكام والعقائد !

                      7 - وقد اعترضوا على علم الأئمة عليهم السلام بالغيب أنه يستلزم أن يكونوا قد أقدموا على إلقاء أنفسهم إلى التهلكة ، لأن خروجهم إلى موارد الخطر - مع علمهم بذلك - يلزم منه ما ذكر .
                      والإلقاء إلى التهلكة حرام شرعا بنص القرآن الكريم ، وحرام عقلا لأنه إضرار بالنفس ، وهو قبيح . مع أنه لا ريب في قبح ما أجراه الظالم على أهل البيت عليهم السلام ، بل هو من أقبح القبيح ، فكيف يقدم الأئمة العالمون بقبحه عليه ؟ !
                      وقد أجيب عن ذلك بوجوه :

                      الجواب الأول : أن هذا الاعتراض إنما يتصور ويفرض بعد الاعتقاد بعلم الأئمة للغيب ، أما لو أنكر ذلك ، ولم يعتقد بعلمهم به ، فلا يرد الاعتراض ، لأنه مع عدم العلم لا يكون الإقدام إلا على ما يجوز ، وليس إلقاء إلى التهلكة ، فلا يكون الاجتناب عليه واجبا ، لعدم التكليف بما لا يعلم ورفعه عمن لا يعلم ، فلا يكون الاعتراض واردا . ومن ذلك يعلم أن الجمع بين الاعتراضين في الأسئلة التي وردت في هذا المجال ، وكذا الكتب الباحثة عنه ، إنما هو مبني على الجهل والغرض الباطل . وكذلك نعلم أن الأسئلة إنما يوجهها غير الشيعة ويعترضون بها على الشيعة بفرض اعتقادهم في الأئمة بعلم الغيب ، وأنه على هذا التقدير يأتي الاعتراض بالإلقاء إلى التهلكة . ولكن إذا ثبت أو فرض علم الأئمة بالغيب ، فالجواب عن الاعتراض بما سيأتي من الوجوه الأخر .

                      الجواب الثاني : أن الأئمة إذا ثبتت إمامتهم بالأدلة القطعية الواردة في كتب الإمامة ، فلا بد أن تتوفر فيهم شروطها التي منها ( العصمة ) و ( العلم بالأحكام الشرعية ) لاقتضاء مقام خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك . وحينئذ فالمعتقد بالإمامة يسلم بأن الإمام لا يقدم على فعل الحرام ، فلا يكون إقدامهم على ذلك من الالقاء المحرم ، ولا بد من الالتزام بأحد التوجيهات الآتية .
                      وأما غير المعتقد بالإمامة فلا يرى لزوما لأصل الاعتقاد بعلم الأئمة ، فلا وجه في اعتراضه !
                      لأنه لا يراهم مقدمين على ما يعلمون ! فهذا الاعتراض على كلا الفرضين غير وارد .

                      الجواب الثالث : إن درك العقل لقبح صدور ذلك من الظالمين لا ينكر ، لكنه لا يستلزم قبحا على المظلومين ، لعده رضاهم بذلك ، وعدم تمكينهم ، وإنما قاموا بما يلزمهم القيام به ، حسب وظائفهم وما يراد منهم ، وهو حكم عليهم من قبل الله تعالى ، فلا يكون إقدامهم على الأمور الحسنة أو المباحة ، قبيحا بإرادة الظالم وفعله ، وكل من الظالم والمظلوم مكلف ومحاسب بما يقوم به حسب وظيفته ونيته ، وعلى ما صدر منه ، فالأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى .

                      الجواب الرابع : إن شمول ( الالقاء المحرم ) لإقدام الأئمة عليهم السلام غير صحيح ، لا شرعا ، ولا عقلا . أما شرعا ، فإن الالقاء إنما يكون حراما إذا كان إلى التهلكة ، وليس ( الموت ) في سبيل الله ( تهلكة ) وإنما هو عين ( الفوز ) و ( النجاة ) و ( السعادة ) و ( الحياة ) في نظر الأئمة عليهم السلام وشيعتهم . كما قال أمير المؤمنين عليه السلام - لما ضرب بالسيف على رأسه - : ( فزت ورب الكعبة ) . وكما قال الحسين عليه السلام : ( إني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما ) .
                      وأما عقلا : فلما مر من أن الحكم بحرمة الالقاء إلى التهلكة ليس مطلقا ، بل إنما هو - على فرض وروده - خاليا عن مصلحة وأدرك العقل قبحه ، ولا يكون حراما إذا كان فيه نفع أهم وأعم ، وكان في صالح الإنسان المقدم عليه نفسه ، أو في صالح أمته أو دينه ، أو وطنه ، لأن العقل حينئذ يقدم مصلحة الفعل على مفسدة القبح المدرك ، فلا يحكم بحرمته ، ولا يعاقب المقدم عليه ، بل يثاب .
                      وعلى فرض وروده ، وإطلاق حكمه ، فهو ليس إلزاميا إذا عارضته أحكام دينية وأغراض شرعية ومصالح عامة إلهية ، وإنما هو مجرد إدراك وجداني يصادمه إدراك ضرورة وجدانية باتباع الأحكام الدينية والإرادة الإلهية .

                      وأما المصالح التي ذكروها في الإقدام على الأخطار ، وعروضها على الأئمة الأطهار ، فهي الوجوه التالية :

                      الأول : العمل بمقتضى القضاء الإلهي والقدر الرباني ، والانصياع للإرادة المولوية ، التي يعلمها الأئمة عليهم السلام . وقد ورد هذا الوجه في حديث للإمام الباقر عليه السلام وللأمام الرضا عليه السلام ، وذكره عدة من العلماء الأبرار .

                      الثاني : اختيار لقاء الله تعالى على البقاء في الدنيا الفانية . وقد ورد في الحديث الشريف أيضا .

                      الثالث : التعبد بأوامر الله تعالى بأن يقدموا أنفسهم قرابين في سبيل الدين ، ويضحوا بأرواحهم الطاهرة من أجل إعلاء كلمة الدين .
                      ذكره الشيخ المفيد ، ونسبه الطوسي إلى جمهور الطائفة ، وذكره جمع من بعده كالعلامة الحلي وغيره .

                      الرابع : أن ما ترتب على ذلك من المصالح الدنيوية والمقامات الدائمة الأخروية ، يتدارك بها ما فيها من الآلام الزائلة . وهناك وجوه أخر ، ومصالح دقيقة عرفانية ، مستنبطة من سائر أحوالهم وأقوالهم ، جمعها سماحة آية الله العظمى الإمام الخراساني في كتابه ( عروض البلاء على الأولياء ) ذكرناها مجملا ، ولا نطيل هذا الملخص بإعادتها .
                      وسوف يقرؤها العلماء في النص المحقق لكتابه.


                      وقد وفقني الله تبارك وتعالى ، لإعداد هذا البحث في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام والمذهب ، حيث يستهدف الكفر العالمي الحضارة الإسلامية بأعنف الحملات الطائشة . وكان دوري - بعد التجميع لنصوص الإجابات المعروضة في طول التاريخ - أني وضعتها في إطار قراءات تحليلية يمكن من خلالها الوقوف على الأبعاد الدلالية والعقيدية غير المنظورة . وأسأل الله أن يتقبل هذه الخدمة للحق ، وأن يثيبنا في الدنيا بالتوفيق للعلم والعمل الصالح ، وفي الآخرة بالمغفرة والجنة ، وأن يلحقنا بالصالحين والحمد لله رب العالمين .

                      السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.


                      انتهى البحث


                      و لكن قد ننقل بعض المقتطفات من هنا و هناك لتتم الفائدة.

                      و تقبلوا تحياتي ،،،
                      أخوكم الحزب ،،،


                      تعليق


                      • #12


                        و من الردود أيضاً ما أورده الشيخ الأميني ( رضوان الله تعالى عليه ) في موسوعة الغدير الجزء الخامس ص 52

                        علم أئمة الشيعة بالغيب




                        شاعت القالة حول علم الأئمة من آل محمد صلوات الله عليه وعليهم ممن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعند كل منهم حوشي من الكلام، يزخرف الزلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأن الشيعة تفردت بهذا الرأي عن المذاهب الإسلامية، وليس في غيرهم من يقول بذلك في إمام من أئمة المذاهب، فاستحقوا بذلك كل سبسب وتحامل ووقيعة، فحسبك ما لفقه القصيمي في " الصراع " من قوله في صحيفة ب تحت عنوان : الأئمة عند الشيعة يعلمون كل شئ، والأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئا أعلمهم الله إياه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شئ ص 125 وص 126 [ من الكافي للكليني ]
                        ثم قال : وفي الكتاب نصوص أخرى أيضا في المعنى، فالأئمة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وإنه لا يخفى عليهم شئ، والمسلمون كلهم يعلمون أن الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسنة وعن الأئمة في أنه لا يعلم الغيب إلا الله متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب... إلخ.

                        ج - العلم بالغيب أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آت إنما هو أمر سائغ ممكن لعامة البشر كالعلم بالشهادة يتصور في كل ما ينبأ الانسان من عالم غابر، أو عهد قادم لم يره ولم يشهده، مهما أخبره بذلك عالم خبير، أخذا من مبدأ الغيب والشهادة، أو علما بطرق أخرى معقولة، وليس هناك أي وازع من ذلك، وأما المؤمنون خاصة فأغلب معلوماتهم إنما هو الغيب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقاءه والحياة بعد الموت والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الأكبر، إلى آخر ما آمن من به المؤمن وصدقه، فهذا غيب كله، وأطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز، وبذلك عرف الله المؤمنين في قوله تعالى : (( الذين يؤمنون بالغيب )) " البقرة 3 "
                        وقوله تعالى : (( الذين يخشون ربهم بالغيب )) " الأنبياء 49 "
                        وقوله : (( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب )) " فاطر 18 "
                        وقوله : (( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب )) " يس 11 "
                        وقوله : (( من خشي الرحمن بالغيب )) " ق 33 "
                        وقوله : (( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة )) " الملك 12 "
                        وقوله : (( جنات عدن وعد الله عباده بالغيب )) " مريم 61 ".

                        ومنصب النبوة والرسالة يستدعي لمتوليه العلم بالغيب من شتى النواحي مضافا إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى : (( كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )) " هود " ومن هنا قص على نبيه القصص، وقال بعد النبأ عن قصة مريم : (( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك )) " آل عمران 44 " وقال بعد سرد قصة نوح : (( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك )) " هود 49 " وقال بعد قصة إخوان يوسف : (( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك )) " يوسف 102 ".

                        وهذا العلم بالغيب الخاص بالرسل دون غيرهم ينص عليه بقوله تعالى : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ))

                        نعم : ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

                        فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلهم يعلمون الغيب بنص من الكتاب العزيز، ولكل منهم جزء مقسوم، غير أن علم هؤلاء كلهم بلغ ما بلغ
                        محدود لا محالة كما وكيفا،
                        وعارض ليس بذاتي،
                        ومسبوق بعدمه ليس بأزلي،
                        وله بدء ونهاية ليس بسرمدي،
                        ومأخوذ من الله سبحانه وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو.


                        والنبي ووارث علمه في أمته (1) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) أجمعت الأمة الإسلامية على أن وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علمه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام راجع الجزء الثالث من كتابنا ص 95 - 101.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم الناس بشئ من ذلك، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته، وإنما العلم، والعمل به، وإعلام الناس بذلك، مراحل ثلاث لا دخل لكل مرحلة بالأخرى، ولا يستلزم العلم بالشئ وجوب العمل على طبقه، ولا ضرورة الاعلام به، ولكل منها جهات مقتضية ووجوه مانعة لا بد من رعايتها، وليس كلما يعلم يعمل به، ولا كلما يعلم يقال.

                        قال الحافظ الأصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفى 790 في كتابه القيم [ الموافقات في أصول الأحكام ] ج 2 ص 184 : لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد، وقد تحصل [ للحاكم ] بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يد على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه.
                        الحديث.

                        فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم (1) وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه : إن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمد الكذب، لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها لا من الخوارق التي تداخلها أمور، والقائل
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات : لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة.

                        إلى أن قال : والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقا للواقع ليس بخطأ لأنه حكم بما أمر الله.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة العظمى.

                        إلى أن قال : في ص 187.

                        إن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من ذلك أحد حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين.

                        فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية.


                        وقال في ص 189 :
                        فصل : إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها ؟
                        فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم وذلك على أوجه :

                        أحدها أن يكون في أمر مباح كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده بشر، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم.

                        الثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره، والكرامة كما إنها خصوصية كذلك هي فتنة واختبار لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس.

                        وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه : أنه يراهم من وراء ظهره.
                        لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.


                        الثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته فهذا أيضا جائز كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك... إلخ.


                        فهلا كان من الغيب نبأ إبني نوح، وأنباء قوم هو وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وذكرى ذي القرنين، ونبأ من سلف من الأنبياء والمرسلين ؟ !

                        وهلا كان منه ما أسر به النبي صلى الله عليه وآله إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها فلما نبأها به وقالت : من أنبأك هذا ؟ قال : نبأني العليم الخبير ؟ " تحريم 3 ".

                        وهلا كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل ما لم يستطع عليه صبرا ؟ " الكهف "

                        وهلا كان منه ما كان يقول عيسى لأمته : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ؟ " آل عمران 49 ".

                        وهلا كان منه قول عيسى لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ؟ " الصف 6 "

                        وهلا كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف : لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ؟ " يوسف 15 ".

                        وهلا كان ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمرا من الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم ؟ " البقرة 33 ".

                        وهلا كانت منه تلكم البشارات الجمة المحكية عن التوراة والانجيل والزبور وصحف الماضين وزبر الأولين بنبوة نبي الاسلام وشمائله وتاريخ حياته وذكر أمته ؟.

                        وهلا كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المروية عن الكهنة والرهابين والاقسة حول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته ؟.

                        ليس هناك أي منع وخطر إن علم الله أحدا ممن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أو سيكون، من علم السماوات والأرضين، من علم الأولين والآخرين، من علم الملائكة والمرسلين.

                        كما لم ير أي وازع إذا حبا أحدا بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.

                        ولا يتصور عندئذ قط اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أي مرتبة رابية، وشتان بينهما، إذ القيود الامكانية البشرية مأخوذة في العلم البشري دائما لا محالة، سواء تعلق بالغيب أو تعلق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أن العلم الآلهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الاحدية الخاصة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.

                        وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلا وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كل شئ أن يقرأ ما فيه ويطلع عليه لم يشارك الله قط في صفته العلم بالغيب، ولا يلزم منه الشرك.

                        فلا مقايسة بين العلم الذاتي المطلق وبين العرضي المحدود، ولا بين ما لا يكيف بكيف.
                        ولا يؤين بأين وبين المحدود المقيد.
                        ولا بين الأزلي الأبدي وبين الحادث الموقت.

                        ولا بين التأصلي وبين المكتسب من الغير، كما لا يقاس العلم النبوي بعلم غيره من البشر، لاختلاف طرق علمهما، وتباين الخصوصيات والقيود المتخذة في علم كل منهما، مع الاشتراك في إمكان الوجود.

                        بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلد فيما علما من الأحكام الشرعية ولو أحاط المقلد بجميعها، لتباين المبادئ العلمية فيهما.

                        فالعلم بالغيب على وجه التأصل والاطلاق من دون قيد بكم وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنما هما من صفات الباري سبحانه، ويخصان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنى نفيا وإثباتا في مثل
                        قوله تعالى : (( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله )) " النمل 65 "
                        وقوله تعالى : (( إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور )) " فاطر 38 "
                        وقوله تعالى : (( إن الله يعلم غيب السموات والأرض بصير بما تعملون )) " الحجرات 18 "
                        وقوله تعالى : (( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )) " الجمعة 8 "
                        وقوله تعالى : (( عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم )) " الحشر 22 "
                        وقوله تعالى : (( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم )) " السجدة 6 "
                        وقوله تعالى : (( عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم )) " التغابن 18 "
                        وقوله تعالى : حكاية عن نوح، (( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك )) " أنعام 50، و مثلها في هود 31 "
                        وقوله تعالى حكاية عن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم : (( لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير )) " الأعراف 188 ".

                        وبهذا التفصيل في وجوه العلم يعلم عدم التعارض نفيا وإثباتا بين أدلة المسألة كتابا وسنة، فكل من الأدلة النافية والمثبتة ناظر إلى ناحية منها، والموضوع المنفي من علم الغيب في لسان الأدلة غير المثبت منه وكذلك بالعكس.

                        وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل البيت العصمة عليهم السلام مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام مجيبا يحيى بن عبد الله بن الحسن لما قاله : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟
                        فقال عليه السلام : سبحان الله ضع يدك على راسي فوالله ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت،
                        ثم قال : لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله (1)
                        وكذلك الحال في بقية الصفات الخاصة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى فإنها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصصة، فلو كان عيسى على نبينا وآله وعليه السلام يحيي كل الموتى بإذن الله، أو كان خلق عالما بشرا من الطين بإذن ربه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله : إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " آل عمران 49 " لم يكن يشارك المولى سبحانه في صفته الإحياء والخلق، والله هو الولي، وهو محيي الموتى، وهو الخلاق العليم.

                        وإن الملك المصور في الأرحام مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها (2) لم يكن يشارك ربه في صفته، والله هو الخالق
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه.

                        (2) عن حذيفة مرفوعا : إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئا ولا ينقص.

                        أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول.

                        وابن الدبيع في التيسير 4 ص 40.

                        وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول 4 ص 40 : إذا بلغت " يعني المضغة " أن تخلق نفسا بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ؟ أشقى أم سعيد ؟ وما عمره ؟ وما رزقه ؟ وما أثره ؟ وما مصائبه ؟ فيقول الله فيكتب الملك.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        البارئ المصور، وهو الذي يصور في الأرحام كيف يشاء.

                        والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدر له من خير وشر وشقاوته وسعادته ثم ينفخ في الروح (1) لا يشارك ربه، والله هو الذي لم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا وملك الموت مع أنه يتوفى الأنفس، وأنزل الله فيه القرآن وقال : (( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم )) " السجدة 11 " صح مع ذلك الحصر في قوله تعالى : (( الله يتوفى الأنفس حين موتها )) ، والله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شئ من ذلك، كما صحت النسبة في قوله تعالى : (( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم )) " النحل 28 "
                        وفي قوله تعالى : (( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين )) " النحل 32 "
                        ولا تعارض في كل ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.

                        والملك لا يغشاه نوم العيون (2) ولا تأخذه سنة الراقد بتقدير من العزيز العليم وجعله، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله : (( لا تأخذه سنة ولا نوم )) .

                        ولو أن أحدا مكنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض برمتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.

                        فهلم معي نسائل القصيمي عن أن قول الشيعة بأن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئا أعلمهم الله إياه كيف يتفرع عليه القول بأن الأئمة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب ؟
                        وما وجه الاشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه ؟

                        وقد ذهب على الجاهل أن الحكم بأن القول بعلم الأئمة بما كان وما يكون - وليس هو كل الغيب ولا جله - وعدم خفاء شئ من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب.

                        تحديد لعلم الله، وقول بالحد في صفاته سبحانه، ومن حده
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) عن ابن مسعود مرفوعا : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح.
                        أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من أئمة الصحاح إلا النسائي وأحمد في مسنده 1 ص 374، 414، 430، وأبو داود في مسنده 5 ص 38، وذكره ابن الأثير في جامعه، وابن الدبيع في التيسير 4 ص 39.

                        (2) راجع الخطبة الأولى من نهج البلاغة وشروحها.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        فقد عده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

                        والنصوص الموجودة في الكتاب والسنة على أن لا يعلم الغيب إلا الله قد خفيت مغزاها على المغفل ولم يفهم منها شيئا، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد.

                        ونسائل الرجل :
                        كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمة قومه ؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال : أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة (1) وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في مسنده ج 5 ص 388 عن أبي إدريس قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة.
                        ( الحــزب : وجدت هذه الرواية أيضاً في "صحيح مسلم" و "المستدرك" و "السنن الواردة في الفتن" و "الفتن لنعيم بن حماد" و أيضاً مستشهد بها في "فتح الباري" و "حاشية بن القيم" و غيرهــا )
                        وقد جهل بأن علم المؤمن بموته واختياره الموت واللقاء مهما خير بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمر خطير بعيد عن خطر المؤمن فضلا عن أئمة المؤمنين من العترة الطاهرة،
                        هلا يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمتهم من ذلك وعدوه فضائل لهم ؟
                        ذكروا عن ابن شهاب (2) قال : كان أبو بكر - ابن أبي قحافة - والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر : ارفع يدك يا خليفة رسول الله إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.

                        وذكر أحمد في مسنده 1 ص 48 و 51، والطبري في رياضه 2 ص 74 إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلا جمعة، وفي الرياض ج 2 ص 75 عن كعب الأحبار إنه قال لعمر : يا أمير المؤمنين اعهد بأنك ميت إلى ثلاثة أيام فلما قضى ثلاثة أيام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال : القول ما قال كعب.

                        وروى إن عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر : إحترس أو أخرج العجم من المدينة فإني لا آمن أن يطعنك رجل منهم في هذا الموضع.

                        ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.

                        وعن جبير بن مطعم قال : إنا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلا
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) صحيح مسلم في كتاب الفتن، مسند أحمد 5 ص 386، البيهقي، تاريخ ابن عساكر 4 ص 94، تيسير الوصول 4 ص 241، خلاصة التهذيب 63، الإصابة 1 ص 218، التقريب 82.

                        (2) ك 3 ص 64، صف 1 ص 10، يا 1 ص 180.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        يقول : يا خليفة ! فقال أعرابي من لهب من خلفي : ما هذا الصوت ؟ قطع الله لهجتك والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبدا.

                        فسببته وأدبته فلما رمينا الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه ففتحت عرقا من رأسه فسال الدم، فقال رجل : أشعر أمير المؤمنين أما والله لا يقف بعد هذا العام ههنا أبدا.

                        فالتفت فإذا هو ذلك اللهبي فوالله ما حج عمر بعدها.

                        خرجه ابن الضحاك.

                        وإن تعجب فعجب إخبار الميت وهو يدفن عن شهادة عمر في أيام خلافة أبي بكر، أخرج البيهقي عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري قال : كنت فيمن دفن ثابت بن قيس وكان قتل باليمامة (1) فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول : محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان البر الرحيم.
                        فنظرنا إليه فإذا هو ميت.


                        وذكره القاضي في " الشفاء " في فصل إحياء الموتى وكلامهم.

                        وعن عبد الله بن سلام قال : أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال : مرحبا بأخي مرحبا بأخي، أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام ؟ فقلت : بلى.
                        قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مثل لي في هذه الخوخة - وأشار عثمان إلى خوخة في أعلى داره - فقال : حصروك ؟
                        فقلت : نعم.
                        فقال : عطشوك ؟ فقلت : نعم.
                        فأدلى دلوا من ماء فشربت حتى رويت، فها أنا أجد برودة ذلك الدلو بين ثديي وبين كتفي.
                        فقال : إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نصرت عليهم ؟ فاخترت الفطر (2).


                        وعنه قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي : صبرا فإنك تفطر عندنا القابلة.

                        وعن كثير بن الصلت عن عثمان قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي هذا فقال : إنك شاهد معنا الجمعة " ك 3 ص 99 "

                        وعن ابن عمر : إن عثمان أصبح يحدث الناس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قال : يا عثمان أفطر عندنا غدا.

                        فأصبح صائما وقتل من يومه.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) بلدة باليمن على ستة عشر مرحلة من المدينة، وكانت وقعة اليمامة في ربيع الأول سنة اثنتى عشر هجرية في خلافة أبي بكر.
                        (2) الرياض النضرة 2 ص 127، الإتحاف للشبراوي 92.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ


                        قال محب الدين الطبري في " الرياض " 2 ص 127 بعد رواية ما ذكر : واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهارا ومرة ليلا.

                        وأخرج الحاكم في " المستدرك " 3 ص 203 بسند صححه إخبار عبد الله بن عمرو الأنصاري الصحابي ابنه جابر بشهادته يوم أحد، وإنه أول قتيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فكان كما أخبر به.

                        م - وذكر الخطيب البغدادي في تاريخه 2 ص 49 عن أبي الحسن المالكي أنه قال : كنت أصحب خير النساج - محمد بن إسماعيل - سنين كثيرة ورأيت له من كرامات الله تعالى ما يكثر ذكره غير أنه قال لي قبل وفاته بثمانية أيام، إني أموت يوم الخميس المغرب فادفن يوم الجمعة قبل الصلاة وستنسى فلا تنساه.

                        قال أبو الحسين : فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبرني بموته فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين فسألتهم لم رجعوا فذكروا أنه يدفن بعد الصلاة، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم فوجدت الجنازة قد أخرجت قبل الصلاة أو كما قال.


                        وهذه القصة ذكرها ابن الجوزي أيضا في المنتظم 6 ص 274 ].

                        غيض من فيض :


                        توجد في طي كتب الحفاظ ومعاجم أعلام القوم قضايا جمة في أناس كثيرين عدوها لهم فضلا وكرامة تنبأ عن علمهم بالغيب وبما تخفي الصدور، ولا يراها أحد منهم شركا، ولا يسمع من القصيمي ومن لف لفه فيها ركزا، وأمثالها في أئمة الشيعة هي التي جسها القوم، وألقت عليهم جشمها، وكثر فيها منهم الرطيط، وإليك جملة من تلكم القضايا.

                        1 - قال أبو عمرو بن علوان خرجت يوما إلى سوق الرحبة في حاجة فرأيت جنازة فتبعتها لأصلي عليها ووقفت حتى يدفن الميت في جملة الناس فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمد فلححت بالنظر واسترجعت واستغفرت الله " إلى أن قال " : فخطر في قلبي : أن زر شيخك الجنيد، فانحدرت إلى بغداد فلما جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال لي : ادخل أبا عمر وتذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد.
                        تاريخ بغداد 7 ص 247، صف 2 ص 236.


                        2 - قال ابن النجار كان الشيخ " أبو محمد عبد الله الجبائي المتوفى 605 " يتكلم يوما في الاخلاص والرياء والعجب وأنا حاضر في المجلس فخطر في نفسي : كيف الخلاص من العجب ؟ فالتفت إلي الشيخ وقال : إذا رأيت الأشياء من الله وأنه وفقك لعمل الخير وأخرجك من البين سلمت من العجب.
                        هب 5 ص 16 .


                        3 -عن الشيخ علي الشبلي قال : احتاجت زوجتي إلى مقنعة فقلت : علي دين خمسة دراهم فمن أين أشتري لك مقنعة ؟ فنمت فرأيت من يقول لي : إذا أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز.

                        فلما أصبحت أتيته بقاسيون فقال لي : ما لك يا علي ؟ اجلس وقام إلى منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم فأخذتها ورجعت.
                        هب 5 ص 74.


                        4 -قال أبو محمد الجوهري سمعت أخي أبا عبد الله يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله أي المذاهب خير ؟ وقال قلت : على أي المذاهب أكون ؟ فقال : ابن بطة ابن بطة (1) فخرجت من بغداد إلى عكبرا فصادف دخولي يوم الجمعة فقصدت الشيخ أبا عبد الله ابن بطة إلى الجامع فلما رآني قال لي ابتداء صدق رسول الله، صدق رسول الله.
                        هب 3 ص 123.


                        5 - قال أبو الفتح القواس لحقتني إضاقة وقتا من الزمان فنظرت فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفين كنت ألبسهما فأصبحت وقد عزمت على بيعهما وكان يوم مجلس أبي الحسين بن سمعون فقلت في نفسي : أحضر المجلس ثم انصرف فأبيع الخفين والقوس.

                        قال : وكان القواس قل ما يتخلف عن حضور مجلس ابن سمعون قال أبو الفتح : فحضرت المجلس فلما أردت الانصراف ناداني أبو الحسين : يا أبا الفتح لا تبع الخفين ولا تبع القوس فإن الله سيأتيك برزق من عنده.
                        تاريخ ابن عساكر 1 ص 276.


                        6 - قال الحافظ ابن كثير في تاريخه 12 ص 144 : قدم الخطيب أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي وكان يحضر في مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفا من الرجال والنساء، قال بعضهم : دخلت عليه وهو يشرب مرقا فقلت في نفسي : ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن فناولني فضله فقال : اشربها على تلك النية. قال :
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) هو الحافظ أبو عبد الله عبيد الله بن محمد الفقيه الحنبلي العكبري توفي سنة 387.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        فرزقني الله حفظ القرآن.


                        7 -قال أبو الحارث الأولاسي : خرجت من حصن أولاس اريد البحر فقال بعض أخواني : لا تخرج فإني قد هيأت لك " عجة " حتى تأكل قال : فجلست فأكلت معه ونزلت إلى الساحل وإذا أنا بإبراهيم بن سعد [ أبو إسحاق الحسني ] العلوي قائما يصلي فقلت في نفسي : ما أشك إلا أنه يريد أن يقول : امش معي على الماء، ولئن قال لي لامشين معه، فما استحكم الخاطر حتى قال : هيه يا أبا الحارث امش على الخاطر.

                        فقلت : بسم الله فمشى هو على الماء فذهبت أمشي فغاصت رجلي فالتفت إلي وقال لي يا أبا الحارث : العجة أخذت برجلك.
                        فذهب وتركني.
                        طب 6 ص 86، كر 2 ص 208، صف 2 ص 242.


                        8 -كان ابن سمعون محمد بن أحمد الواعظ المتوفى 387 يعظ يوما على المنبر وتحته أبو الفتح بن القواس فنعس ابن القواس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ فحين استيقظ قال ابن سمعون : رأيت رسول الله في منامك هذا ؟ قال : نعم.
                        قال : فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عما كنت فيه.
                        تاريخ بغداد 1 ص 276، المنتظم 7 ص 199،
                        تاريخ ابن كثير 11 ص 323.



                        9 - روي عن ابن الجنيد أنه قال : رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان فقلت : ألا تستحي من الناس ؟
                        فقال - وهو لا يظنهم ناسا - : لو كانوا ناسا ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة إنما الناس جماعة غير هؤلاء
                        فقلت : أين هم ؟
                        فقال : في مسجد الشونيزي قد أضنوا قلبي واتعبوا جسدي، كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل فأكاد أحترق قال : فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر فإذا ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم فرفع أحدهم رأسه إلي وقال : يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث وأنت كلما قيل لك شئ تقبل.
                        فإذا هم : أبو بكر الدقاق.
                        وأبو الحسين النوري (1 ).
                        وأبو حمزة محمد بن علي الجرجاني الفقيه الشافعي.
                        ذكره ابن الأثير كما في تاريخ ابن كثير 11 ص 97،
                        وابن الجوزي في صفة الصفوة 2 ص 234.



                        10 - جاء يوما شاب نصراني في صورة مسلم إلى أبي القاسم الجنيد الخزاز فقال
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
                        (1) توفي في سنة 295، ومن جملة العجائب المذكورة في ترجمته في تاريخ ابن كثير 11 ص 106 : أنه صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره.
                        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

                        له : يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ؟ فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال : أسلم فقد آن لك أن تسلم قال : فأسلم الغلام.
                        تاريخ ابن كثير 11 ص 114.


                        م - وحكي عن أبي الحسن الشاذلي المتوفى 656 قوله : لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يحدث في غد وما بعده إلى يوم القيامة.
                        هب 5 ص 279 ].

                        العجب العجاب :

                        وأعجب من هذه كلها دعوى الرجل من القوم أنه يرى اللوح المحفوظ ويقرأه فتؤخذ منه تلكم الدعاوي الضخمة، وتذكر في سلسلة الفضائل، وتأتي في كتبهم حقايق راهنة من دون أي مناقشة في الحساب.

                        قال ابن العماد في شذرات الذهب 8 ص 286 في ترجمة المولى محيي الدين محمد ابن مصطفى القوجوي الحنفي المتوفى 950 صاحب الحواشي على البيضاوي ومؤلفات أخرى : كان يقول إذا شككت في آية من القرآن أتوجه إلى الله تعالى فيتسع صدري حتى يصير قدر الدنيا ويطلع فيه قمران لا أدري هما أي شئ ثم يظهر نور فيكون دليلا إلى اللوح المحفوظ فأستخرج منه معنى الآية.

                        م - وقال في ج 8 ص 178 في ترجمة المولى بخشي الرومي الحنفي المتوفى 931 : رحل إلى ديار العرب فأخذ عن علمائهم وصارت له يد طولى في الفقه والتفسير (إلى أن قال) : كان ربما يقول : رأيت في اللوح المحفوظ مسطورا كذا وكذا فلا يخطئ أصلا ].

                        وقال اليافعي في مرآة الجنان 3 ص 471 : إن الشيخ جاكير المتوفى سنة 590 كان يقول : ما أخذت العهد على أحد حتى رأيت اسمه مرفوعا في اللوح المحفوظ من جملة مريدي.

                        وقال في المرآة ج 4 ص 25 : كان الشيخ ابن الصباغ أبو الحسن علي بن حميد المتوفى 612 لا يصحب إلا من يراه مكتوبا في اللوح المحفوظ من أصحابه.
                        وذكره ابن العماد في شذراته 5 ص 52.


                        توجد جملة كثيرة من هذه الأوهام الخرافية في طبقات الشعراني، والكواكب الدرية للنووي، وروض الرياحين لليافعي، وروضة الناظرين للشيخ أحمد الوتري وأمثالها.


                        (( الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون )) [ الأعراف 182 ]

                        انتهى النقل من كتاب ( الغديــر ) الجزء الخامس
                        تأليف الحبــر العلم المجاهد الشيخ عبدالحسين أحمد الأميني النجفي ( قدس الله نفسه الزكية )

                        الحـــــزب ،،،،


                        تعليق

                        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                        حفظ-تلقائي
                        x

                        رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                        صورة التسجيل تحديث الصورة

                        اقرأ في منتديات يا حسين

                        تقليص

                        لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                        يعمل...
                        X