الاحتلال الأميركي للعراق: بوكس أميركانا (1)
طارق الدليمي
في عام 1981 كتب تشومسكي، أن الولايات المتحدة في سنين الحرب العالمية الثانية (19421941) كانت مقتنعة بأنها ستكون القوة المسيطرة كلياً على العالم بعد الحرب. وطرح السؤال التالي: كيف يمكن تنظيم العالم الذي سنهيمن عليه؟ وكانت الأجوبة هي الحصيلة المكتوبة في <<وثائق الخطط>> التي وضعت في وزارة الخارجية من قبل كبار مخططيها ومنهم جورج كينان وبالتعاون مع مجلس العلاقات الخارجية. اجتمع هؤلاء مرات عديدة وفي خلال سنوات (194539)، استطاعوا إنجاز ما يسمى <<خطة الأرض الكبيرة>> وهي تشمل المنطقة التي <<هي ضرورية استراتيجياً للسيطرة>> على العالم. وكان السؤال أي منطقة أولاً سنفتح؟ من أجل توسع الاستثمار؟ السيطرة السياسية؟ أم الاحتلال العسكري؟ وهذه الخطة تتضمن بالوقت ذاته أن يتم الاحتفاظ بالوضع الداخلي بدون تغيير سياسي أو مفاجآت اقتصادية أو اجتماعية. إن هذه المنطقة تشمل بالحد الأدنى من الناحية <<الجغرافية السياسية>> نصف الكرة الغربي برمته زائد الامبراطورية البريطانية سابقاً مع الشرق الأقصى. هنا يكون الشرق الأوسط القلب الأساسي من هذه الأرض الكبيرة، فهو مركز الخارطة الاستراتيجي وغني بالقوى البشرية والطاقة النفطية.
وانعكست الخطة فعلاً في هذا المضمار، إذ ازداد الدخل الأميركي من النفط من 19671940 من نفط الشرق الأوسط من 6010% مقابل نقصان الاعتماد البريطاني عليه من 72% إلى 30% في الفترة نفسها!! يلتقط هذه الأرضية الخطيرة جاي بوكمان في 29 أيلول 2002، ليشرح في مقالته الهدف الأساسي في العراق، بأن الولايات المتحدة التي كانت ترفض حديث الآخرين حولها بكونها امبريالية عالمية، بدأت تفكر جدياً بالاتجاه نحو هذا الهدف قياساً إلى صعود وضعها الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ويؤكد بوكمان أن حرب عاصفة الصحراء في 1991، كانت قد وضعت الأسس المادية للسياسة الجديدة النظام العالمي الجديد والذي صرح به بوش الأب وكان المسمار الذهبي في تخطيطه السياسي ريشارد هاس. بل ان وزارة الدفاع برئاسة تشيني في 1992 حاولت ترميم التصدع الذي نشأ جراء تسرب بعض أوراق وثيقة تشير إلى مثل هذه التوجهات، وقيل حينها ان بول وولفويتز مساعد تشيني في حينها في الحقل السياسي، كان هو المسؤول عنها. وفي عام 2000/ أيلول أصدرت مجموعة من السياسيين المحافظين الوثيقة الشهيرة <<مشروع القرن الأميركي الجديد>>. والحقيقة أن هذا المشروع يشكل المخطط الأساسي والوثيقة الأم التي منها انبثقت وثيقة أيلول 2000 الاستراتيجية الأمنية القومية للولايات المتحدة. وكان المنظر البارز لمشروع القرن الأميركي الجديد ومدرس مواده في جامعة بيل هو الأستاذ اليميني دونالد كاغان، حيث تتلخص وجهة نظره بضرورة القيام بحروب سريعة والانتصار على البلد المعني واحتلاله عسكرياً. وكان المثال النموذجي لديه هو العراق إذ قال: عندما تكون لدينا مشاكل اقتصادية في الداخل فهذا يعني أنها بسبب العراقيل في الإمدادات النفطية، ولكن إذا كان لدينا قوات في العراق!! دائمة فإنها حتماً ستمنع هذه العراقيل!! لكن المسمار الذهبي هاس عاد في تشرين الثاني 2000 ليؤكد على الولايات المتحدة أن تتحول في سلوكها العالمي من دولة أمة ناضجة إلى قوة امبراطورية عالمية، وعليه فإن القواعد العسكرية هي ضرورات امبراطورية أكثر مما هي حاجات مباشرة للاستثمار الاقتصادي أو السيطرة السياسية. ويعود ويكرر مرة ثانية في كتابه <<التدخل>> بأن <<التغييرات المطلوبة لبعض الأنظمة وفي بعض البلدان لا يمكن القيام بها بدون التدخل العسكري وبناء القواعد العسكرية الثابتة>> الهدف يظل طبعاً، إعادة <<بناء تلك الأقطار بعد أن يتم تحطيمها أثناء التدخل والاحتلال>>. وهذا يتطلب بالضرورة التخلص نهائياً من كل المعارضات الموجودة لإجراء هندسة مركبة مرة ثانية للبلد والمجتمع المحتل!! وهذا يستدعي بناء كاملاً جديداً للسلطة السياسية العسكرية، لا الدولة، وذلك لأن الدولة عملياً هي الولايات المتحدة وهي صاحبة القوة الغاشمة قوات الاحتلال العسكرية، التي هي تدير الأوضاع بصورة مفصلة. هنا يعيد هاس الاعتبار إلى تعريف ماكس فيبر للدولة ولكن بالمقلوب، اذ يجري بالاعتماد على القوة الغازية بدل القوة المسلحة الداخلية. وهذه القواعد العسكرية طبعاً ستكون هي التي تخدم المخطط العام ذا الأبعاد الامبراطورية، ولذلك يجب أن تبقى الفترات طويلة وغير معروفة. وفي الوقت نفسه هذا أيضاً يعني التظاهر بوجود حكومة محلية شرعية، ومحاولات يائسة لإثبات ذلك في كل الاتجاهات ولا سيما لدول الجوار، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة جارتهم جميعاً! ومن هذه الزاوية سيكون العراق بيدقاً أيضاً يستعمل في كل الاتجاهات السياسية والعسكرية ويكون مخلب قط ثقافياً إعلامياً في إشاعة نمط جديد من الأدب السياسي الخاضع للإعلام الأميركي تحت شعار الإصلاحات الديموقراطية وإنعاش الليبرالية الجديدة المعادية لكل أنواع الأصوليات القومية والدينية واليسارية.
وفي مقالته بوكمان يكشف بجلاء وصفاء توقعه بأن الولايات المتحدة باحتلالها للعراق، ستكون غير معنية بأشياء مهمة وأساسية يمكن إنجازها فور إسقاط صادم حسين، وذلك لسبب بسيط، بأنها غير متعجلة لهذه الإنجازات وبأن بقاءها لفترة طويلة كفيل بأن يحدث التغييرات المطلوبة، والمسألة تظل ذات أوجه متعددة، منها السياسي والثقافي والاقتصادي. وفي تشرين الأول 2002، وبعد بوكمان، يكمل روبرت أليسون، رئيس مجلس إدارة أنا داركو النفطية، بأن الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج والشرق الأوسط ضروري لإرجاع العراق وإيران إلى <<عائلة الأمم>> في العالم مرة ثانية!! فالسيطرة على العراق تعني وضع اليد على 110 مليارات برميل تشكل 12% من طاقة العالم. ومن مجموع 73 حقلاً نفطياً في العراق لم يتم استثمار الإنتاج فيه سوى الثلث!! وهذا يعني أن الولايات المتحدة سيكون لديها احتياط نفطي لمدة 98 سنة القادمة ويقتضي بالضرورة إزاحة كل المنافسين من أوروبا القديمة روسيا (لوك أويل) أو فرنسا <<توتال>>. وبالسيطرة على العراق وأفغانستان والقواعد في أذربيجان وجورجيا سيكون لدى أميركا الهيمنة على هذه المناطق <<المتاخمة للصين>> وحماية أنابيب النفط والغاز من بحر الخزر إلى البحر العربي. وفي الفترة نفسها، وضع المنظر الاستراتيجي جون أكينبيري، أستاذ الجغرافية السياسية في جامعة جورج تاون، خريطة الطريق النظرية للسلوك الامبراطوري الجديد، باكس أميركانا، والذي يفسر بالضبط أن الولايات المتحدة معنية بالحفاظ على السلم العالمي حسب رؤيتها لمصالحها الاستراتيجية الكونية، ويثبت أكينبيري بأن هذا السلوك الأميركي ليس امبريالياً ولكنه امبراطوري من الناحية الجغرافية السياسية وهو قدر تاريخي، يجري الاستمداد منه طريقة خاصة للعمل، لمواجهة المخاطر العالمية وفي مقدمتها دول الشر المارقة والإرهاب الدولي المسلح. وقد أشار في حينها العديد من القادة العسكريين قبل الحرب إلى أن الجيش الأميركي سيقوم بأكبر تغيير في حياته العسكرية في نصف القرن السابق، وأنه ينوي بناء مئات الآلاف من الوظائف العسكرية والشؤون المدنية والمخابرات الخاصة والتي تتلاءم مع خططه الجديدة وسياساته القادمة. بل ان لورنس كورب، الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في رئاسة ريغان، قال: يجب تطوير قدراتنا التقليدية لكي تكون قادرة على استيعاب المتغيرات المطلوبة في وظيفتنا السياسية الجديدة، هذا يعني النهوض بأعباء جديدة في بناء الأمم التي قد نجبر على التماس معها سياسياً أو احتلالها عسكرياً. أما كريستوفر لانجتون وهو المحرر الرئيسي للتقرير الذي نشره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فهو يقول: إن غزو العراق كان ناجحاً ولكن حدثت تعثرات بعد ذلك، ولا يمكن إلا التغلب عليها وهذا يتطلب البقاء عسكرياً على الأقل لمدة سنوات قادمة، ويشدد في كلامه بشاعرية تثير الشفقة: في مرحلة ما بعد الحرب والاحتلال وفي عمليات حفظ السلام أصبحت عقول وقلوب السكان في العراق هي الأرض التي يتعين الاستيلاء والإبقاء عليها. لكن مايكل هيرش يكتب في أيلول السابق بأن التجربة التي قادها في بغداد بريمر، حين كان نائب الملك هناك، كانت تعتمد بحذافيرها على الجداول الحديدية التي تم الاستعانة بها في ألمانيا بعد احتلالها عام 19521945. وبأن الخبراء الذين اعتمد عليهم بريمر، في نقل هذه المضابط ومنهم سيمون لايدن ابنة الفيلسوف المنظر مايكل لايدن ومسؤولة شمال العراق الكردي في البرنامج وترجمتها من خطة مارشال إلى إبداعات بريمر كانت حرفية إلى درجة أنهم أغفلوا ترجمة (مارك الرايخ) إلى الدينار العراقي!! وكان بريمر حين التقاه في بغداد يردد كلمات أيزنهاور بعد احتلال ألمانيا، إن هذا الاحتلال للعراق لا يمكن معرفته إلا من خلال نصف القرن القادم، أي ان هذا الاحتلال هو مشروع جيلي أكثر مما هو مشروع مادي ملموس مباشر. لكن هيرش يسأل ساخراً هل يمكن عقد المقارنة بهذه الشكل الكاريكاتوري، حيث لا يوجد المعادل الموضوعي مثل كونراد اديناور في العراق وحيث أكد باول نفسه لعدة مرات بأنه لا توجد زعامة كارزمية في العراق، بل حتى لا يمكن إيجاد <<صدام صغير>> لينتشل العراق من فوضاه القائمة حيث الانهيار الأمني والفساد الإداري والتهدم الاجتماعي والصراعات الطائفية والعرقية في كل مكان. أما جون فوستر فقد فند في مقالته في أيار 2003 كل هذه الدعاوى الفارغة والتي تستند في أسسها الى استدعاء التاريخ الاستعماري في القرن التاسع عشر، وحين طلب الشاعر روديارد كيبلينغ من أميركا التدخل في الشرق، <<عبء الرجل الأبيض>>، وذلك بعد الحرب الأميركية الاسبانية في 1898. ويتندر فوستر حول هذا الموضوع حين خطب كينيدي في حزيران 1963 مؤكداًبأن أميركا لا تريد السيطرة على العالم أو الهيمنة عليه. وقد نظر له في حينها رونالد ستيل في كتابه، الإمبريالية المحسنة أو باكس أميركانا، مشيراً إلى قدرات أميركا للتعاون مع شعوب العالم ودولها. فضح فوستر في مقالته كل التنظيرات اليمينية وبعض <<اليسارية>> التي تدافع عن الإمبراطورية الجديدة. وقد أعاد في كتابته إلى الأذهان المقالة الرائعة التي كتبها الراحل الكبير بول سويزي في تموز 1991 بعد الحرب على العراق. وكانت المقالة وقد شاركه فيها المفكر الكبير هاري ماجدوف ترتكز في معطياتها على الحقيقة الأساسية، وهي أنه لا يمكن البتة منع المجتمعات من محاولاتها أن تجد طرقها الخاصة في التطور وفي حل مشكلاتها المتعددة، وبالتأكيد لا يمكن الإملاء الخارجي وأن يكون تعويضاً فعلياً عن الطاقات الإبداعية الداخلية للشعوب وطبقاتها وقياداتها السياسية الاجتماعية. وأن هذه الإمبريالية المحسنة باكس أميركانا هي في الحقيقة نوع جديد من الإمبرياليات الإمبراطورية التي هي دولة عظمى منفلتة في طموحاتها ومصالحها الاقتصادية وعدوانيتها العسكرية والتي تشكل قطب الرحى في مجموعة من الدول الإمبريالية الهادفة إلى السيطرة الكلية على العالم. وبهذا المعنى فإن هذه الإمبراطورية وسماها بوكس أميركانا أو الزهري الاميركي، سوف تكون القوة المدمرة لكل المجتمعات المعادية لها، وسوف تناهض أي تغيير حقيقي في هذه المجتمعات ولا سيما الطرفية ومنها منطقتنا العربية بالذات، حين يكون هذا التغيير بدون رقابتها أو خارج إطار موافقتها وضمن المسار السياسي الذي ترسمه والدوائر الاقتصادية ومنها منظمة التجارة العالمية التي تحدده تحت شعارات العلاقة المباشرة بين اقتصاد السوق والليبرالية السياسية الوحشية للحفاظ على السلام العالمي وبقيادة المركز الإمبريالي وزارة الدفاع الأميركية والتي يشرف عليها ويهيمن في قلبها نخبة سياسية، ومنذ ترومان، مرتبطة كلياً مع المجمع الصناعي العسكري الأميركي وشركاته العملاقة، مورغان، موتورز، بروكتور أندكامبل والآن... هاليبرتون.. إنه النفط أيها الغبي!!
() سياسي وكاتب عراقي
طارق الدليمي
في عام 1981 كتب تشومسكي، أن الولايات المتحدة في سنين الحرب العالمية الثانية (19421941) كانت مقتنعة بأنها ستكون القوة المسيطرة كلياً على العالم بعد الحرب. وطرح السؤال التالي: كيف يمكن تنظيم العالم الذي سنهيمن عليه؟ وكانت الأجوبة هي الحصيلة المكتوبة في <<وثائق الخطط>> التي وضعت في وزارة الخارجية من قبل كبار مخططيها ومنهم جورج كينان وبالتعاون مع مجلس العلاقات الخارجية. اجتمع هؤلاء مرات عديدة وفي خلال سنوات (194539)، استطاعوا إنجاز ما يسمى <<خطة الأرض الكبيرة>> وهي تشمل المنطقة التي <<هي ضرورية استراتيجياً للسيطرة>> على العالم. وكان السؤال أي منطقة أولاً سنفتح؟ من أجل توسع الاستثمار؟ السيطرة السياسية؟ أم الاحتلال العسكري؟ وهذه الخطة تتضمن بالوقت ذاته أن يتم الاحتفاظ بالوضع الداخلي بدون تغيير سياسي أو مفاجآت اقتصادية أو اجتماعية. إن هذه المنطقة تشمل بالحد الأدنى من الناحية <<الجغرافية السياسية>> نصف الكرة الغربي برمته زائد الامبراطورية البريطانية سابقاً مع الشرق الأقصى. هنا يكون الشرق الأوسط القلب الأساسي من هذه الأرض الكبيرة، فهو مركز الخارطة الاستراتيجي وغني بالقوى البشرية والطاقة النفطية.
وانعكست الخطة فعلاً في هذا المضمار، إذ ازداد الدخل الأميركي من النفط من 19671940 من نفط الشرق الأوسط من 6010% مقابل نقصان الاعتماد البريطاني عليه من 72% إلى 30% في الفترة نفسها!! يلتقط هذه الأرضية الخطيرة جاي بوكمان في 29 أيلول 2002، ليشرح في مقالته الهدف الأساسي في العراق، بأن الولايات المتحدة التي كانت ترفض حديث الآخرين حولها بكونها امبريالية عالمية، بدأت تفكر جدياً بالاتجاه نحو هذا الهدف قياساً إلى صعود وضعها الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ويؤكد بوكمان أن حرب عاصفة الصحراء في 1991، كانت قد وضعت الأسس المادية للسياسة الجديدة النظام العالمي الجديد والذي صرح به بوش الأب وكان المسمار الذهبي في تخطيطه السياسي ريشارد هاس. بل ان وزارة الدفاع برئاسة تشيني في 1992 حاولت ترميم التصدع الذي نشأ جراء تسرب بعض أوراق وثيقة تشير إلى مثل هذه التوجهات، وقيل حينها ان بول وولفويتز مساعد تشيني في حينها في الحقل السياسي، كان هو المسؤول عنها. وفي عام 2000/ أيلول أصدرت مجموعة من السياسيين المحافظين الوثيقة الشهيرة <<مشروع القرن الأميركي الجديد>>. والحقيقة أن هذا المشروع يشكل المخطط الأساسي والوثيقة الأم التي منها انبثقت وثيقة أيلول 2000 الاستراتيجية الأمنية القومية للولايات المتحدة. وكان المنظر البارز لمشروع القرن الأميركي الجديد ومدرس مواده في جامعة بيل هو الأستاذ اليميني دونالد كاغان، حيث تتلخص وجهة نظره بضرورة القيام بحروب سريعة والانتصار على البلد المعني واحتلاله عسكرياً. وكان المثال النموذجي لديه هو العراق إذ قال: عندما تكون لدينا مشاكل اقتصادية في الداخل فهذا يعني أنها بسبب العراقيل في الإمدادات النفطية، ولكن إذا كان لدينا قوات في العراق!! دائمة فإنها حتماً ستمنع هذه العراقيل!! لكن المسمار الذهبي هاس عاد في تشرين الثاني 2000 ليؤكد على الولايات المتحدة أن تتحول في سلوكها العالمي من دولة أمة ناضجة إلى قوة امبراطورية عالمية، وعليه فإن القواعد العسكرية هي ضرورات امبراطورية أكثر مما هي حاجات مباشرة للاستثمار الاقتصادي أو السيطرة السياسية. ويعود ويكرر مرة ثانية في كتابه <<التدخل>> بأن <<التغييرات المطلوبة لبعض الأنظمة وفي بعض البلدان لا يمكن القيام بها بدون التدخل العسكري وبناء القواعد العسكرية الثابتة>> الهدف يظل طبعاً، إعادة <<بناء تلك الأقطار بعد أن يتم تحطيمها أثناء التدخل والاحتلال>>. وهذا يتطلب بالضرورة التخلص نهائياً من كل المعارضات الموجودة لإجراء هندسة مركبة مرة ثانية للبلد والمجتمع المحتل!! وهذا يستدعي بناء كاملاً جديداً للسلطة السياسية العسكرية، لا الدولة، وذلك لأن الدولة عملياً هي الولايات المتحدة وهي صاحبة القوة الغاشمة قوات الاحتلال العسكرية، التي هي تدير الأوضاع بصورة مفصلة. هنا يعيد هاس الاعتبار إلى تعريف ماكس فيبر للدولة ولكن بالمقلوب، اذ يجري بالاعتماد على القوة الغازية بدل القوة المسلحة الداخلية. وهذه القواعد العسكرية طبعاً ستكون هي التي تخدم المخطط العام ذا الأبعاد الامبراطورية، ولذلك يجب أن تبقى الفترات طويلة وغير معروفة. وفي الوقت نفسه هذا أيضاً يعني التظاهر بوجود حكومة محلية شرعية، ومحاولات يائسة لإثبات ذلك في كل الاتجاهات ولا سيما لدول الجوار، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة جارتهم جميعاً! ومن هذه الزاوية سيكون العراق بيدقاً أيضاً يستعمل في كل الاتجاهات السياسية والعسكرية ويكون مخلب قط ثقافياً إعلامياً في إشاعة نمط جديد من الأدب السياسي الخاضع للإعلام الأميركي تحت شعار الإصلاحات الديموقراطية وإنعاش الليبرالية الجديدة المعادية لكل أنواع الأصوليات القومية والدينية واليسارية.
وفي مقالته بوكمان يكشف بجلاء وصفاء توقعه بأن الولايات المتحدة باحتلالها للعراق، ستكون غير معنية بأشياء مهمة وأساسية يمكن إنجازها فور إسقاط صادم حسين، وذلك لسبب بسيط، بأنها غير متعجلة لهذه الإنجازات وبأن بقاءها لفترة طويلة كفيل بأن يحدث التغييرات المطلوبة، والمسألة تظل ذات أوجه متعددة، منها السياسي والثقافي والاقتصادي. وفي تشرين الأول 2002، وبعد بوكمان، يكمل روبرت أليسون، رئيس مجلس إدارة أنا داركو النفطية، بأن الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج والشرق الأوسط ضروري لإرجاع العراق وإيران إلى <<عائلة الأمم>> في العالم مرة ثانية!! فالسيطرة على العراق تعني وضع اليد على 110 مليارات برميل تشكل 12% من طاقة العالم. ومن مجموع 73 حقلاً نفطياً في العراق لم يتم استثمار الإنتاج فيه سوى الثلث!! وهذا يعني أن الولايات المتحدة سيكون لديها احتياط نفطي لمدة 98 سنة القادمة ويقتضي بالضرورة إزاحة كل المنافسين من أوروبا القديمة روسيا (لوك أويل) أو فرنسا <<توتال>>. وبالسيطرة على العراق وأفغانستان والقواعد في أذربيجان وجورجيا سيكون لدى أميركا الهيمنة على هذه المناطق <<المتاخمة للصين>> وحماية أنابيب النفط والغاز من بحر الخزر إلى البحر العربي. وفي الفترة نفسها، وضع المنظر الاستراتيجي جون أكينبيري، أستاذ الجغرافية السياسية في جامعة جورج تاون، خريطة الطريق النظرية للسلوك الامبراطوري الجديد، باكس أميركانا، والذي يفسر بالضبط أن الولايات المتحدة معنية بالحفاظ على السلم العالمي حسب رؤيتها لمصالحها الاستراتيجية الكونية، ويثبت أكينبيري بأن هذا السلوك الأميركي ليس امبريالياً ولكنه امبراطوري من الناحية الجغرافية السياسية وهو قدر تاريخي، يجري الاستمداد منه طريقة خاصة للعمل، لمواجهة المخاطر العالمية وفي مقدمتها دول الشر المارقة والإرهاب الدولي المسلح. وقد أشار في حينها العديد من القادة العسكريين قبل الحرب إلى أن الجيش الأميركي سيقوم بأكبر تغيير في حياته العسكرية في نصف القرن السابق، وأنه ينوي بناء مئات الآلاف من الوظائف العسكرية والشؤون المدنية والمخابرات الخاصة والتي تتلاءم مع خططه الجديدة وسياساته القادمة. بل ان لورنس كورب، الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في رئاسة ريغان، قال: يجب تطوير قدراتنا التقليدية لكي تكون قادرة على استيعاب المتغيرات المطلوبة في وظيفتنا السياسية الجديدة، هذا يعني النهوض بأعباء جديدة في بناء الأمم التي قد نجبر على التماس معها سياسياً أو احتلالها عسكرياً. أما كريستوفر لانجتون وهو المحرر الرئيسي للتقرير الذي نشره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فهو يقول: إن غزو العراق كان ناجحاً ولكن حدثت تعثرات بعد ذلك، ولا يمكن إلا التغلب عليها وهذا يتطلب البقاء عسكرياً على الأقل لمدة سنوات قادمة، ويشدد في كلامه بشاعرية تثير الشفقة: في مرحلة ما بعد الحرب والاحتلال وفي عمليات حفظ السلام أصبحت عقول وقلوب السكان في العراق هي الأرض التي يتعين الاستيلاء والإبقاء عليها. لكن مايكل هيرش يكتب في أيلول السابق بأن التجربة التي قادها في بغداد بريمر، حين كان نائب الملك هناك، كانت تعتمد بحذافيرها على الجداول الحديدية التي تم الاستعانة بها في ألمانيا بعد احتلالها عام 19521945. وبأن الخبراء الذين اعتمد عليهم بريمر، في نقل هذه المضابط ومنهم سيمون لايدن ابنة الفيلسوف المنظر مايكل لايدن ومسؤولة شمال العراق الكردي في البرنامج وترجمتها من خطة مارشال إلى إبداعات بريمر كانت حرفية إلى درجة أنهم أغفلوا ترجمة (مارك الرايخ) إلى الدينار العراقي!! وكان بريمر حين التقاه في بغداد يردد كلمات أيزنهاور بعد احتلال ألمانيا، إن هذا الاحتلال للعراق لا يمكن معرفته إلا من خلال نصف القرن القادم، أي ان هذا الاحتلال هو مشروع جيلي أكثر مما هو مشروع مادي ملموس مباشر. لكن هيرش يسأل ساخراً هل يمكن عقد المقارنة بهذه الشكل الكاريكاتوري، حيث لا يوجد المعادل الموضوعي مثل كونراد اديناور في العراق وحيث أكد باول نفسه لعدة مرات بأنه لا توجد زعامة كارزمية في العراق، بل حتى لا يمكن إيجاد <<صدام صغير>> لينتشل العراق من فوضاه القائمة حيث الانهيار الأمني والفساد الإداري والتهدم الاجتماعي والصراعات الطائفية والعرقية في كل مكان. أما جون فوستر فقد فند في مقالته في أيار 2003 كل هذه الدعاوى الفارغة والتي تستند في أسسها الى استدعاء التاريخ الاستعماري في القرن التاسع عشر، وحين طلب الشاعر روديارد كيبلينغ من أميركا التدخل في الشرق، <<عبء الرجل الأبيض>>، وذلك بعد الحرب الأميركية الاسبانية في 1898. ويتندر فوستر حول هذا الموضوع حين خطب كينيدي في حزيران 1963 مؤكداًبأن أميركا لا تريد السيطرة على العالم أو الهيمنة عليه. وقد نظر له في حينها رونالد ستيل في كتابه، الإمبريالية المحسنة أو باكس أميركانا، مشيراً إلى قدرات أميركا للتعاون مع شعوب العالم ودولها. فضح فوستر في مقالته كل التنظيرات اليمينية وبعض <<اليسارية>> التي تدافع عن الإمبراطورية الجديدة. وقد أعاد في كتابته إلى الأذهان المقالة الرائعة التي كتبها الراحل الكبير بول سويزي في تموز 1991 بعد الحرب على العراق. وكانت المقالة وقد شاركه فيها المفكر الكبير هاري ماجدوف ترتكز في معطياتها على الحقيقة الأساسية، وهي أنه لا يمكن البتة منع المجتمعات من محاولاتها أن تجد طرقها الخاصة في التطور وفي حل مشكلاتها المتعددة، وبالتأكيد لا يمكن الإملاء الخارجي وأن يكون تعويضاً فعلياً عن الطاقات الإبداعية الداخلية للشعوب وطبقاتها وقياداتها السياسية الاجتماعية. وأن هذه الإمبريالية المحسنة باكس أميركانا هي في الحقيقة نوع جديد من الإمبرياليات الإمبراطورية التي هي دولة عظمى منفلتة في طموحاتها ومصالحها الاقتصادية وعدوانيتها العسكرية والتي تشكل قطب الرحى في مجموعة من الدول الإمبريالية الهادفة إلى السيطرة الكلية على العالم. وبهذا المعنى فإن هذه الإمبراطورية وسماها بوكس أميركانا أو الزهري الاميركي، سوف تكون القوة المدمرة لكل المجتمعات المعادية لها، وسوف تناهض أي تغيير حقيقي في هذه المجتمعات ولا سيما الطرفية ومنها منطقتنا العربية بالذات، حين يكون هذا التغيير بدون رقابتها أو خارج إطار موافقتها وضمن المسار السياسي الذي ترسمه والدوائر الاقتصادية ومنها منظمة التجارة العالمية التي تحدده تحت شعارات العلاقة المباشرة بين اقتصاد السوق والليبرالية السياسية الوحشية للحفاظ على السلام العالمي وبقيادة المركز الإمبريالي وزارة الدفاع الأميركية والتي يشرف عليها ويهيمن في قلبها نخبة سياسية، ومنذ ترومان، مرتبطة كلياً مع المجمع الصناعي العسكري الأميركي وشركاته العملاقة، مورغان، موتورز، بروكتور أندكامبل والآن... هاليبرتون.. إنه النفط أيها الغبي!!
() سياسي وكاتب عراقي