شريك مستحيل الوجود
جوزف سماحة
تتوالى الوفود وتتكرّر التصريحات. يصل وزير خارجية دولة كبرى ما، يلتقي المسؤولين الإسرائيليين، يلتقي المسؤولين الفلسطينيين: وعود بتسهيل الانتخابات، عهود بالتمويل والدعم، وإشارات ملتوية أو صريحة إلى ضرورة إثبات أن غياب الرئيس ياسر عرفات أوجد فرصة للسلام في الشرق الأوسط.
الأداء الفلسطيني في الأيام الأخيرة كان معقولاً. حصل انتقال سلس للسلطة ولو أنه لم يخل من تشنجات. برز محمود عباس كأول بين متساوين في انتظار أن يحفر المسافة عنهم. أظهرت الحوارات وجود تفاوت وبرامج متباينة ولكنها توقفت عند ذلك. الامتعاض داخل حركة <<فتح>> قد لا يعبّر عن نفسه بترشيحات جدية متعددة. موضوع الانتخابات بعد شهر ونصف يهيمن على الجو.
الواضح أن إسرائيل مضطرة إلى بعض الانحناء. لا تريد تعكير هذا الاحتفال الدولي ب<<فرصة السلام>>. تضع عراقيل ثم تتراجع عنها (حق فلسطينيي القدس بالمشاركة في الانتخابات). ترفض أن تقطع تعهدات صارمة في ما يخص حجم الانسحاب من المدن. تصر على تمرير مقولاتها التقليدية من أن الأولوية المطلقة تبقى ل<<مكافحة الإرهاب>> باعتبارها الممر الإجباري لأي تقدم لاحق.
<<البركة>> الوحيدة الناجمة عن هذه <<الحركة>> هي عودة جزئية للروح إلى <<خريطة الطريق>>. لقد عادت كعنوان من عناوين اللقاءات السياسية. أزيح الغبار عنها، وأخرجت من غرفة العناية الفائقة. ويتميّز الزوار الأجانب، فضلاً عن الفلسطينيين، بإكثار الإشارة إليها من دون أن يجاريهم المسؤولون الإسرائيليون في ذلك. تستحضر <<الخريطة>> بصفتها أفقاً محتملاً ل<<خطة الفصل>> وليس بديلاً عنها علماً أن الثانية، لصاحبها أرييل شارون، كانت نوعاً من إعلان وفاة للأولى.
إن ما كان صعباً، أو مستحيلاً، قبل أسابيع أصبح ممكناً اليوم. كان هناك مَن يحاول، عبثاً، الإيهام بأن <<الخطة>> و<<الخريطة>> هما حركتان في جملة موسيقية واحدة. إلا أن إسرائيل كانت تتدخل باستمرار لتذكير المعنيين بأنها لا ترى الأمر على هذا النحو: <<الخطة>> هي، تعريفاً، بديل <<الخريطة>>. والحجة في ذلك أن <<الخطة>> قابلة للتنفيذ من طرف واحد (أو مع طرف غير فلسطيني)، في حين أن <<الخريطة>> تقتضي الشراكة والشريك غير موجود.
لم يعد في وسع شارون، ضمن المعطى المستجد، تكرير معزوفته. فالعالم، إذ يبذل جهداً مع الفلسطينيين، يحاول المساعدة في إيجاد هذا الشريك. ولا معنى للنجاح في هذا المضمار إلا بفتح الوضع السياسي عبر إيجاد صلة وصل، ولو نظرية، بين <<الخطة>> و<<الخريطة>>. إن العثور على الشريك المفقود يشترط إحياء <<الخريطة>> ويفترض أن يقود إلى إعادتها إلى طاولة المفاوضات.
إذا سار كل شيء على ما يرام في الأسابيع القادمة فإن محمود عباس سيكون رئيس السلطة الفلسطينية المتمتع بقدر من الرعاية العربية والدولية. يعني ذلك أنه سيكون عنواناً لعودة الفلسطينيين إلى وضعية <<الشريك المؤهل>>.
ويمكن الرهان، منذ الآن، أن إسرائيل ستضطر، في تلك اللحظة، إلى كشف بعض أوراقها. سيكون مطلبها (ومطلب واشنطن؟)، حتى لو وصلنا إلى هذه الوضعية من دون أي عنف فلسطيني، ضرورة إقدام السلطة الوطنية على <<تفكيك بنى الإرهاب>> والدخول في مواجهة مع المقاومين المسلحين، لن تكتفي إسرائيل بإصلاحات اقتصادية وأمنية وبتخفيف الفوضى. لن تقبل استمرار شكل من العرفاتية بعد رحيل عرفات. ستعتبر أن صفة <<الشريك>> لا تكتسب في انتخابات فلسطينية وإنما عبر تنفيذ التزامات تحدد هي مداها.
لن يكون سهلاً القفز فوق هذه العقدة من أجل تثبيت الترابط بين <<الخطة>> والخريطة خاصة إذا حصل المتوقع ودعمت واشنطن الشروط الإسرائيلية.
إن تركز النقاش اللاحق حول هذا الموضوع سيحاول إخفاء المشاكل الفعلية التي تمنع التوصل، في المدى المنظور، إلى تسوية.
نقلت مجلة أميركية حواراً دار في برلين قبل أشهر بين أحمد قريع وكونداليسا رايس. طلب أبو علاء الانتقال إلى وضع الأطر
المحددة للتسوية النهائية على أن يصار بعد ذلك إلى التنفيذ المرحلي للخطوات الآيلة إلى إقامة دولة. ردت مستشارة الأمن القومي (وزيرة الخارجية المقبلة) مذكّرة محدثها أنهما في برلين، وأن ألمانيا أمة موحدة وديموقراطية منذ عقود، ومع ذلك، أضافت، فإن حدودها النهائية لم ترسم إلا في العام 1991. كانت تقول له، عملياً، إن الحل النهائي مؤجل إلى حين إقامة الفلسطينيين في مطهر الديموقراطية لفترة طويلة.
إن المشاكل الحائلة دون تسوية يصعب تذليلها. فما يريده شارون هو حل مؤقت طويل المدى يقوم على إخلاء غزة وضم مناطق واسعة من الضفة وإرجاء البحث بمواضيع القدس واللاجئين والحدود النهائية. والموقف الأميركي، بعد وعود بوش، يعارض حق العودة ويوافق على ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل. ويمكن القول إن المواقف الأوروبية والروسية ليست بعيدة عن ذلك وإن كانت ترفقه بخطوات تجميلية من نوع تبادل الأراضي. والحصيلة هي أن السقف الدولي وإن كان أكثر ارتفاعاً من سقف شارون فهو أكثر انخفاضاً من السقف الفلسطيني حتى في تعريف محمود عباس له.
فأبو مازن، في ما نعرفه عنه، اختلف مع عرفات حول الأساليب وليس حول الأهداف. والمعروف أنه أيّد سلوك أبو عمار في كامب ديفيد وطابا ودافع عنه في الوسط الفلسطيني. ولقد تعمّد الإيحاء، في خطاب قبوله الترشيح، أنه ملتزم هذه الأهداف. وحتى لو افترضنا أن أبو مازن مال، لسبب ما، إلى الاقتراب من <<وثيقة جنيف>> فإنه سيبقى بعيداً جداً عمّا يرتضيه شارون وعمّا يمكن للإدارة الأميركية أن تسعى إليه.
إن هذه الصورة الإجمالية لمآل التفاوض المفترض هي التي تعطي معنى للخلافات التي ستنشب بمجرد أن تنتهي عملية تأهيل الشريك الفلسطيني. إن الانسداد كان، ولا يزال، ناجماً عن أن الطرف الإسرائيلي قوي، وعدواني، وتوسعي، وهو لا يتصور حلاً إلا بموافقة الشريك اليميني الأقصى والاستيطاني. إن الشريك الفلسطيني الوحيد، في الوعي الإسرائيلي الراهن، مستحيل الوجود.
جوزف سماحة
تتوالى الوفود وتتكرّر التصريحات. يصل وزير خارجية دولة كبرى ما، يلتقي المسؤولين الإسرائيليين، يلتقي المسؤولين الفلسطينيين: وعود بتسهيل الانتخابات، عهود بالتمويل والدعم، وإشارات ملتوية أو صريحة إلى ضرورة إثبات أن غياب الرئيس ياسر عرفات أوجد فرصة للسلام في الشرق الأوسط.
الأداء الفلسطيني في الأيام الأخيرة كان معقولاً. حصل انتقال سلس للسلطة ولو أنه لم يخل من تشنجات. برز محمود عباس كأول بين متساوين في انتظار أن يحفر المسافة عنهم. أظهرت الحوارات وجود تفاوت وبرامج متباينة ولكنها توقفت عند ذلك. الامتعاض داخل حركة <<فتح>> قد لا يعبّر عن نفسه بترشيحات جدية متعددة. موضوع الانتخابات بعد شهر ونصف يهيمن على الجو.
الواضح أن إسرائيل مضطرة إلى بعض الانحناء. لا تريد تعكير هذا الاحتفال الدولي ب<<فرصة السلام>>. تضع عراقيل ثم تتراجع عنها (حق فلسطينيي القدس بالمشاركة في الانتخابات). ترفض أن تقطع تعهدات صارمة في ما يخص حجم الانسحاب من المدن. تصر على تمرير مقولاتها التقليدية من أن الأولوية المطلقة تبقى ل<<مكافحة الإرهاب>> باعتبارها الممر الإجباري لأي تقدم لاحق.
<<البركة>> الوحيدة الناجمة عن هذه <<الحركة>> هي عودة جزئية للروح إلى <<خريطة الطريق>>. لقد عادت كعنوان من عناوين اللقاءات السياسية. أزيح الغبار عنها، وأخرجت من غرفة العناية الفائقة. ويتميّز الزوار الأجانب، فضلاً عن الفلسطينيين، بإكثار الإشارة إليها من دون أن يجاريهم المسؤولون الإسرائيليون في ذلك. تستحضر <<الخريطة>> بصفتها أفقاً محتملاً ل<<خطة الفصل>> وليس بديلاً عنها علماً أن الثانية، لصاحبها أرييل شارون، كانت نوعاً من إعلان وفاة للأولى.
إن ما كان صعباً، أو مستحيلاً، قبل أسابيع أصبح ممكناً اليوم. كان هناك مَن يحاول، عبثاً، الإيهام بأن <<الخطة>> و<<الخريطة>> هما حركتان في جملة موسيقية واحدة. إلا أن إسرائيل كانت تتدخل باستمرار لتذكير المعنيين بأنها لا ترى الأمر على هذا النحو: <<الخطة>> هي، تعريفاً، بديل <<الخريطة>>. والحجة في ذلك أن <<الخطة>> قابلة للتنفيذ من طرف واحد (أو مع طرف غير فلسطيني)، في حين أن <<الخريطة>> تقتضي الشراكة والشريك غير موجود.
لم يعد في وسع شارون، ضمن المعطى المستجد، تكرير معزوفته. فالعالم، إذ يبذل جهداً مع الفلسطينيين، يحاول المساعدة في إيجاد هذا الشريك. ولا معنى للنجاح في هذا المضمار إلا بفتح الوضع السياسي عبر إيجاد صلة وصل، ولو نظرية، بين <<الخطة>> و<<الخريطة>>. إن العثور على الشريك المفقود يشترط إحياء <<الخريطة>> ويفترض أن يقود إلى إعادتها إلى طاولة المفاوضات.
إذا سار كل شيء على ما يرام في الأسابيع القادمة فإن محمود عباس سيكون رئيس السلطة الفلسطينية المتمتع بقدر من الرعاية العربية والدولية. يعني ذلك أنه سيكون عنواناً لعودة الفلسطينيين إلى وضعية <<الشريك المؤهل>>.
ويمكن الرهان، منذ الآن، أن إسرائيل ستضطر، في تلك اللحظة، إلى كشف بعض أوراقها. سيكون مطلبها (ومطلب واشنطن؟)، حتى لو وصلنا إلى هذه الوضعية من دون أي عنف فلسطيني، ضرورة إقدام السلطة الوطنية على <<تفكيك بنى الإرهاب>> والدخول في مواجهة مع المقاومين المسلحين، لن تكتفي إسرائيل بإصلاحات اقتصادية وأمنية وبتخفيف الفوضى. لن تقبل استمرار شكل من العرفاتية بعد رحيل عرفات. ستعتبر أن صفة <<الشريك>> لا تكتسب في انتخابات فلسطينية وإنما عبر تنفيذ التزامات تحدد هي مداها.
لن يكون سهلاً القفز فوق هذه العقدة من أجل تثبيت الترابط بين <<الخطة>> والخريطة خاصة إذا حصل المتوقع ودعمت واشنطن الشروط الإسرائيلية.
إن تركز النقاش اللاحق حول هذا الموضوع سيحاول إخفاء المشاكل الفعلية التي تمنع التوصل، في المدى المنظور، إلى تسوية.
نقلت مجلة أميركية حواراً دار في برلين قبل أشهر بين أحمد قريع وكونداليسا رايس. طلب أبو علاء الانتقال إلى وضع الأطر
المحددة للتسوية النهائية على أن يصار بعد ذلك إلى التنفيذ المرحلي للخطوات الآيلة إلى إقامة دولة. ردت مستشارة الأمن القومي (وزيرة الخارجية المقبلة) مذكّرة محدثها أنهما في برلين، وأن ألمانيا أمة موحدة وديموقراطية منذ عقود، ومع ذلك، أضافت، فإن حدودها النهائية لم ترسم إلا في العام 1991. كانت تقول له، عملياً، إن الحل النهائي مؤجل إلى حين إقامة الفلسطينيين في مطهر الديموقراطية لفترة طويلة.
إن المشاكل الحائلة دون تسوية يصعب تذليلها. فما يريده شارون هو حل مؤقت طويل المدى يقوم على إخلاء غزة وضم مناطق واسعة من الضفة وإرجاء البحث بمواضيع القدس واللاجئين والحدود النهائية. والموقف الأميركي، بعد وعود بوش، يعارض حق العودة ويوافق على ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل. ويمكن القول إن المواقف الأوروبية والروسية ليست بعيدة عن ذلك وإن كانت ترفقه بخطوات تجميلية من نوع تبادل الأراضي. والحصيلة هي أن السقف الدولي وإن كان أكثر ارتفاعاً من سقف شارون فهو أكثر انخفاضاً من السقف الفلسطيني حتى في تعريف محمود عباس له.
فأبو مازن، في ما نعرفه عنه، اختلف مع عرفات حول الأساليب وليس حول الأهداف. والمعروف أنه أيّد سلوك أبو عمار في كامب ديفيد وطابا ودافع عنه في الوسط الفلسطيني. ولقد تعمّد الإيحاء، في خطاب قبوله الترشيح، أنه ملتزم هذه الأهداف. وحتى لو افترضنا أن أبو مازن مال، لسبب ما، إلى الاقتراب من <<وثيقة جنيف>> فإنه سيبقى بعيداً جداً عمّا يرتضيه شارون وعمّا يمكن للإدارة الأميركية أن تسعى إليه.
إن هذه الصورة الإجمالية لمآل التفاوض المفترض هي التي تعطي معنى للخلافات التي ستنشب بمجرد أن تنتهي عملية تأهيل الشريك الفلسطيني. إن الانسداد كان، ولا يزال، ناجماً عن أن الطرف الإسرائيلي قوي، وعدواني، وتوسعي، وهو لا يتصور حلاً إلا بموافقة الشريك اليميني الأقصى والاستيطاني. إن الشريك الفلسطيني الوحيد، في الوعي الإسرائيلي الراهن، مستحيل الوجود.