يوم الكوثر( يوم الولادة )
في النصف الثاني من عام 1320هـ، ولد في إيران مولود غيّر ـ فيما بعد، بثورته الالهية ـ مصير إيران والعالم الإسلامي. وفجّر ثورة اصطفت في وجهها منذ البداية القوى المهيمنة على العالم واعداء حرية الشعوب واستقلالها كافة، سعياً للقضاء عليها. غير أنهم عجزوا ـ بفضل الله ومنّه ـ عن مواجهة انجازه العظيم، وخابوا في الاساءة إلى العقيدة والفكر الذي كان ينادي به وينافح عنه.
وقتئذ لم يكن أحد يعلم ان العالم سيتعرف على هذا المولود ذات يوم باسم "الإمام الخميني"، مثلما لم يتصور أحد عندما بدأ ثورته أنه سيقف في مواجهة اعتى القوى العالمية، وسيدافع عن استقلال البلاد ومجد الأمة الإسلامية، وسيمسي محيي دين الله في عصر تمسخ فيه القيم.
الخلفية التاريخية
العشرون من جمادى الآخرة "يوم الكوثر".. لما قضى ابناء الرسول الاكرم (ص) نحبهم، فرح مشركو قريش وراحوا يشنعون برسول الله بأنه أبتر لا ذرية له. فأنزل الله تعالى: {انا اعطيناك الكوثر .. إنّ شانئك هو الابتر}.. فكان يوم العشرين من جمادى الآخرة يوم تدفق كوثر الولاية والإمامة على هذه الارض، حيث ولدت سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)، ولتصبح فيما بعد زوج وأنيس إمام العدالة الانسانية الخالد، وأُمَّاً لذرية تقف في طليعتها كواكب الإمامة الأحد عشر، الذين اضاءوا طريق هداية الانسانية، وكان كل من ابعاد حياتهم حكمة الهية. فصلحهم وحربهم، ومناجاتهم وسكوتهم، وعلمهم وحلمهم، وحياتهم الحافة بالمقاومة والعذاب والمختومة بالشهادة، وآخرها غيبة المهدي الموعود؛ كلّها الهية تدل على أن عباد الله مسدَّدون في زمن التحدي والتردي وتكالب الزمان، وانّ دعاة الحق ومنائر الهداية حاضرون دوماً يمارسون دورهم في هداية البشرية، وانّ الارض لا تخلو من حجة الله على خلقه ابداً.
ومع بداية عصر الغيبة، تواصل الصراع الدائم بين الخير والشر. وجيلاً بعد جيل وقف الطغاة وعبدة المال والمفسدون في جبهة الظلام، وفي الجهة الأخرى وقف المؤمنون والصالحون والاخيار في وادي النور، لتتواصل المواجهة فيما بينهم.
كانت انوار الوحي قد اضاءت آفاق العالم. وزاد الإسلام من دائرة انتشاره بعد أن وجد طريقه إلى قلوب عباد الله الاخيار، فضم ما حوليه من الشرق ووصل إلى قلب اوربا في الغرب، وشكّل حضارة عظمى لم يسبق لها مثيل، وشهدت البشرية تحولاً عظيماً في العلوم والآداب والثقافة والفنون وفي مختلف مظاهر الحضارة الحقيقة؛ كل ذلك على اساس محكم من الايمان والعقيدة. إذ كان تقبل الفطرة السليمة لرسالة الرسول الامين التحررية، بدرجة من العمق والسعة اعجز حكّام السوء، مع كل ما أوتوا من ظلم وجور، من الوقوف في وجه تقدم هذه الرسالة الالهية.
كانت اوربا تحترق في بربرية القرون الوسطى. وتخندق الماديون المهيمنون على عباد الله المظلومين في ذلك الجزء من العالم، خلف الصليب للحيلولة دون سطوع رسالة النبي الاكرم (ص) ـ الذي بشَّر به السيد المسيح (ع) ـ على دنياهم المظلمة، لكي لا تبور بضاعة الكنيسة التي أخذت تعرض في القرون الوسطى عقيدة خالية من الروح، وتقيم حكومة تفتيش العقائد الاوروبية، التي عدّت بحق وصمة عار في تاريخ البشرية. ومما يدعو إلى الحيرة والاسى معاً هو أنهم في ذات الوقت الذي انتبهوا لأنفسهم وعزموا على القضاء على دين الرسول الخاتم (ص)، كانت قد اندلعت في هذا الجزء من العالم نيران النفاق ونزعة التسلط وسادت الفرقة والاختلاف.
وفي غضون ذلك توفرت جملة من العوامل ساعدت في ظهور ارضية التحولات العلمية والصناعية في اوروبا، واستحواذ القوى والحكومات المعادية على التكنولوجيا ووسائل التقدم. وأضفى انتشار العلوم والفنون الحديثة ـ الذي كان للحضارة الإسلامية دور مهم ومصيري فيها ـ على المجتمع الاوروبي البدائي المتخلف رونقاً خاصاً. وبدلاً من أن يفكر قادة البلدان الإسلامية بما يصلح حالهم واحوال شعوبهم، رجّحوا الاستسلام للغفلة والتخلف بدلاً من المبادرة للعمل والاجتهاد؛ فنتج عن ذلك تنامي سطوة الاعداء يوماً بعد آخر، فانطلقوا يوسعون من مناطق نفوذهم حتى باتت ـ مع الاسف ـ مناطق مترامية الاطراف من العالم الإسلامي تحت هيمنة الدول الاستعمارية. وهكذا تواصلت القصة المؤلمة لسلطة القوة والمال والكفر وتدخُّل المستعمرين السافر والخفي في مصير البلدان الإسلامية عدّة قرون.
وتوالت في ايران سلالات الملوك والسلاطين على الحكم. ورغم الظلم والجور المتواصل الذي مارسته هذه السلالات الحاكمة، إلاّ أن الشعب الايراني المناضل، الذي لبى طواعية نداء التوحيد ورسالة الرسول الاكرم (ص)، كان حتى وقت متأخر يرفع لواء الحضارة الإسلامية وثقافتها. غير أن ظلم الملوك، ودسائس الاستعمار الحديث الذي هدف من ورائها إلى بث الفرقة والتنازع؛ كانا في تزايد مطرد، خاصة وان الاعداء دخلوا الميدان هذه المرة بواسائل جديدة، وبذريعة الاعمار والتقدم. وقد قادت خيانات السلاطين القاجار، وما اقترن بها من اجتياح للاراضي الايرانية من قبل الانجليز والروس القياصرة؛ إلى ايجاد ظروف صعبة وقاسية. إذ كانت سفارات الدول الاستعمارية تتدخل بشكل سافر في جميع شؤون البلاد بما في ذلك عزل وتنصيب امراء البلاط والوزراء ومسؤولي المناصب العسكرية الهامة. كما تم في هذه الفترة العصيبة التخلي عن مناطق شاسعة من ارضنا الإسلامية إلى الاجانب عبر اتفاقيات مشينة، في وقت كانت البلاد تشكو من انعدام الأمن والعدالة وتفشي الفساد الاداري.
وخلال هذه الاحداث كشفت كل من فتوى العالم المجاهد الكبير آية الله العظمى الشيرازي بشأن نهضة تحريم البتغ والتي عرفت بـ "حركة التنباكو"؛ ودعوات الاصلاح التي اطلقها السيد جمال الدين الأسد آبادي؛ وقيام علماء الدين في ايران والنجف الاشرف بوجه الاستعمار البريطاني؛ كشفت عن مكانة علماء الإسلام واقتدار المؤسسة العلمائية الإسلامية في التأثير على مجرى الاحداث، الأمر الذي جعل الانجليز يدركون مكامن الخطر، مما دفعهم إلى ممارسة مختلف انواع الحيل والدسائس للتصدي لعلماء الدين، واشاعة سياسة الفصل بين الدين والسياسة؛ فظهرت حينها الماسونية، والمتغربون الجدد المتلبسون بلباس الثقافة، الذي أضرم وجودهم النيران في المعركة المشتعلة داخل البلاد. هذا من جهة. ومن جهة اخرى كان الملك مظفر الدين القاجاري يفتقد إلى أيّة قاعدة شعبية بين ابناء شعبه، لذا كان يتطلع إلى البلاطين الروسي والانجليزي. وبطبيعة الحال، كانت سائر البلاد الإسلامية تعيش حالاً مشابهة مؤسفة ايضاً.
الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة قم
في مثل هذه الظروف ولد روح الله الموسوي الخميني في العشرين من جمادى الثانية سنة 1320هـ، الموافق 24 أيلول 1902م؛ في مدينة خمين احدى مدن المحافظة المركزية، في بيت عُرف بالعلم والتقوى والجهاد والهجرة، ومن اسرة تنتسب إلى الصديقة فاطمة الزهراء؛ ورث منها سجايا آباء واجداد سعوا جاهدين جيلاً بعد جيل لهداية الناس، والنهل من المعارف الالهيّة.
عاصر المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي ـ والد الإمام الخميني ـ المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض). ودرس العلوم والمعارف الإسلامية في النجف الاشرف لعدة سنوات، وبعد ان بلغ مرتبة الاجتهاد عاد إلى ايران ليُقيم في خمين ويصبح ملجأً وملاذاً وموجِّهاً للناس في امور دينهم.
لم يُتم "روح الله" الخمسة اشهر، حتى استشهد والده في طريقه من خمين إلى اراك، على يد قطاع الطريق والخوانين المدعومين من قبل عملاء السلطة، انتقاماً من مساعيه في احقاق الحق والوقوف في وجه الطغاة والظلمة. ويومها توجهت اسرة الشهيد إلى طهران ـ دار الحكومة آنذاك ـ واصرّت على تنفيذ العدالة وانزال القصاص بحق قاتليه.
وبذا يكون الإمام الخميني قد واجه منذ طفولته قسوة اليتم وادرك مفهوم الشهادة.
بعد استشهاد والده امضى الإمام الخميني طفولته في احضان والدته (السيدة هاجر)، سليلة العلم والتقوى، فهي من احفاد المرحوم آية الله الخوانساري ـ صاحب زبدة التصانيف ـ ورعاية عمته المكرمة (صاحبة خانم)، المرأة الشجاعة التقيّة. حتى إذا ما بلغ الخامسة عشر من عمره حرم من نعمة هاتين العزيزتين.
درس الإمام منذ نعومة أظفاره ـ مستفيداً مما حباه الله من ذكاء متّقد ـ جانباً من المعارف الشائعة في عصره ومقدمات العلوم والسطوح المعروفة في الحوزات الدينية مثل آداب اللغة العربية والمنطق والفقه والاصول؛ على ايدي اساتذة وعلماء منطقته (كالميرزا محمود افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد البروجردي، والمرحوم الشيخ محمد الكلبايكاني والمرحوم عباس الاراكي؛ وقبل هؤلاء اخيه الاكبر آية الله السيد مرتضى بسنديده ـ الذي امضى عنده اكثر وقته الدراسي ـ، سافر بعد ذلك ـ عام 1919م ـ إلى اراك ليواصل دراسته الدينية في حوزتها.
الهجرة إلى قم: تحصيل الدروس التكميلية وتدريس العلوم الإسلامية
بُعيد انتقال آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (ره) إلى مدينة قم، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها. فقد اكمل كتاب "المطوّل" (في علم المعاني والبيان) على يد المرحوم الميرزا محمد علي الاديب الطهراني، كما اكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. كذلك اتمَّ دروس خارج الفقه والاصول على يد زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رضوان الله عليهم اجمعين.
إنَّ الروح المرهفة الوثابة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها دفعته إلى عدم الاكتفاء باتقان آداب اللغة العربية والدروس الفقهية والاصولية، بل ان يتعداها إلى الفروع العلمية الاخرى. ومن هنا وتزامناً مع دراسته للفقه والاصول على ايدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيات والهيئة والفلسفة يد على المرحوم الحاج السيد ابي الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية لدى المرحوم الميرزا علي اكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم الشيخ محمد رضا مسجد شاهي الاصفهاني، كما درس الاخلاق والعرفان لدى المرحوم آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، ثم درس اعلى مستويات العرفان النظري والعملي، ولمدة ستة اعوام عند المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي اعلى الله مقاماتهم اجمعين.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزيدي، اثمرت الجهود التي بذلها الإمام الخميني برفقه عدة من المجتهدين في الحوزة العلمية بقم في اقناع آية الله العظمى البروجردي للمجيء إلى قم وتسلم زعامة الحوزة العلمية فيها. وخلال هذه الفترة عُرف الإمام الخميني بصفة احد المدرسين والمجتهدين واولي الرأي في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق. وان زهده وورعه وتعبده وتقواه كان يتردد على لسان الخاصة والعامة.
ان هذه الخصال والسجايا الرفيعة التي كانت حصيلة سنوات طويلة من المجاهدة والترويض الشرعي وامتحان المفاهيم والاسس العرفانية في حياته العملية الشخصية والاجتماعية، ونهجه السياسي الذي جسد من خلاله اعتقاده الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلمية وقوة الزعامة الدينية والعلماء باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الايام المضطربة الخطيرة، جعلته يوظف دائماً علمه وفضله وجهوده في ترسيخ اسس الحوزة العلمية الفتية في قم. فوقف رغم كل ما لديه من جداره واختلاف في وجهات النظر، يدعم مرجعية آية الله العظمى الحائري ثم آية الله البروجردي اعلى الله مقامهما، وحتى بعد وفاة آية الله البروجردي. ورغم الاقبال الواسع عليه من قبل الطلاب والفضلاء والمجتمع الإسلامي كأحد مراجع التقليد إلا انه يخطُ أيّة خطوة يشمُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائماً يحث محبيه ومريديه على عدم الاهتمام بمثل هذه الامور. بل انّه أصرّ على نهجه هذا حتى في الوقت الذي التف حوله وعاة المجتمع باعتباره المنادي بالإسلام الحق وانه يمثل ضالتهم المنشودة لتحقيق آمالهم لما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغير من سيرته ومنهجه قيد انملة متمثلاً قوله الذي كان يكرره دائماً "إنّني اعتبر نفسي خادماً وحارساً للإسلام والشعب".
انه الرجل العظيم ذاته الذي عاد في (1 شباط 1979م) إلى إيران ليجد الملايين من ابناء الشعب وقد اجتمعوا في اكبر مراسم استقبال في التاريخ احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله احد الصحفيين بلا مقدمة: ما هو شعوركم وانتم تعودون إلى بلادكم بعد خمسة عشر عاماً في ظل هذه الابهة؟ سمع منه جواباً غير متوقع، إذ اجابه سماحته: لا شيء!.
لقد توهم ذلك الصحفي بأن الإمام الخميني كسائر القادة السياسيين الساعين إلى السلطة ينسون انفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحاً؛ غير ان الجواب الذي سمعه اوضح له بأن الإمام الخميني من سنخ آخر.
كان الإمام الخميني يعتقد بحق ـ كما اكّد ذلك مرات ومرات ـ بأنّ المعيار في سلوكه وتحركاته هو نيل رضا الخالق تعالى والعمل بالتكليف واداء المسؤولية الشرعية. فهو يرى بأنّ الأمر سيّان بالنسبة له سواء كان في السجن والنفي، أو في ذروة القوة والاقتدار، مادام تحركه في سبيل الله. أساساً ان سماحته كان قد اعرض ـ وقبل عقود من ذلك التاريخ ـ عن الدنيا وما فيها وسلك طريق الوصول والفناء في الله. ولعلّ اجمل تفسير لرده على سؤال الصحفي يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:
اذهب إلى الخربات واعتزل الخلق جميعاً وعلِّق قلبك بالمطلق واترك الباقي
مارس الإمام التدريس ـ خلال سنوات طوال ـ في الحوزة العلمية بقم، فدرّس عدّة دورات في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق الإسلامية في كل من المدرسة الفيضية والمسجد الاعظم ومسجد محمدية ومدرسة الحاج ملا صادق ومسجد السلماسي وغيرها، كما مارس تدريس الفقه ومعارف اهل البيت (ع) ـ وعلىارفع المستويات ـ في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف، في مسجد الشيخ الانصاري (ره) لما يقارب الاربعة عشر عاماً. وفي النجف الاشرف طرح ـ ولاول مرة ـ اسس الحكومة الإسلامية عبر سلسلة دروس ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.
وعلى ما نقله طلابه، فان حوزة الإمام الخميني كانت تعدّ من اسمى المراكز الدراسية، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات ـ خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقم ـ الالف طالب، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعاً ينهلون من مدرسته في الفقه والاصول. فكان من بركات ممارسته التدريس ان تمكّن سماحته من تربية المئات بل الآلاف ـ إذ اخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة ـ من العلماء والحكماء ممن اصبحوا بعد ذلك مشاعل واعلاماً في الحوزات الدينية، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين ممن يشار إليهم بالبنان اليوم في حوزة قم العلمية وفي سائر المراكز الدينية. وان مفكرين كبار امثال العلامة الاستاذ الشهيد مرتضى المطهري والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي، كانوا يفخرون دوماً بأنهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنوات.
واليوم فإن الوجوه اللامعة من العلماء الذين يقودون مسيرة الثورة الإسلامية ويوجهون نظام الجمهورية الإسلامية هم من طلابه وخريجي مدرسته الفقهية والسياسية.
هذا وستكون لنا وقفة عند خصائص ومميزات مدرسته الإمام الخميني في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب وبشكل مختصر إلى تعريف كتب الإمام ومؤلفاته.
الإمام الخميني في خندق الجهاد والثورة
لقد كان لروحية النضال والجهاد في سبيل الله جذور تمتدُّ إلى الرؤية الاعتقادية والتربية والمحيط العائلي والظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بحياة الإمام؛ إذ بدأ جهاده منذ صباه، واخذ هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصورة مختلفة جنباً إلى جنب تكامل الجوانب الروحية والعملية في شخصيته من جهة، وتطور الاوضاع السياسية والاجتماعية في إيران والمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى. وفي عامي 1961 ـ 1962 وفّرت احداث مجالس الاقاليم والمدن الفرصة ليلعب دوراً في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحو انطلقت انتفاضة الخامس عشر من خرداد ـ الخامس من حزيران 1963 ـ التي شارك فيها العلماء وابناء الشعب معتمدة على دعامتين اساسيتين، اولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: إسلامية دوافع الانتفاضة واهدافها وشعاراتها، لتمثل فصلاً جديداً في جهاد الشعب الايراني؛ ذلك الفصل الذي عرف في العالم اجمع باسم "الثورة الإسلامية".
لقد ولد الإمام الخميني في وقت كانت ايران تمرّ فيه بأقسى ادوار تاريخها. فالحركة الدستورية تعرضت للضياع نتيجة دسائس ومعارضات عملاء الانجليز في البلاط القاجاري والصراعات الداخلية وخيانة بعض المتغربين وتعرّض العلماء ـ الذين كانوا يمثلون طليعتها ـ إلى الاقصاء من ساحة الاحداث بمختلف انواع المكائد ليعود النظام ملكياً مستبداً مرة أخرى. كذلك فإنّ الطبيعة العشائرية التي كانت تتسم بها العائلة القاجارية المالكة، وضعف الحكام وعدم صلاحيتهم أدّى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي شديدين في ايران واطلق ايدي الاقطاعيين والاشرار لسلب الامن والامان.
وفي ظروف كهذه كان العلماء يمثلون الملاذ الوحيد للناس في مختلف المدن والمناطق. وكما اشرنا سابقاً فقد شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أسرة الإمام ألفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.
يستعرض الإمام الخميني بعض ذكرياته عن الحرب العالمية الاولى ـ وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ـ فيقول:
"إنّني اتذكر كلتا الحربين العالميتين.. كنت صغيراً إلا اني كنت اذهب إلى المدرسة وقد رأيت الجنود الروس في المركز الذي كان في (خمين) رأيتهم هناك واذكر كيف تعرضت بلادنا للاجتياح في الحرب العالمية الاولى".
وفي موضع آخر يذكر سماحته اسماء بعض الاقطاعيين الظالمين الاشرار الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على اعراض الناس واموالهم مدعومين من قبل الحكومة المركزية:
"كنت في حرب منذ طفولتي… فقد كنا نتعرض لهجمات اشرار من امثال زلقي ورجب علي، وكانت عندنا بندقية، أذكر أني كنت أقارب البلوغ آنذاك فكنت اذهب مع البقية لاتخاذ موقعنا في الخنادق المعدّة للدفاع ضد هجوم اولئك الذين كانوا يقصدون الاغارة علينا. نعم كنا نذهب هناك ونتفقد الخنادق".
ويقول سماحته في موضع آخر:
"لقد كنا مضطرين إلى اعداد الخنادق في خمين ـ المنطقة التي كنا نعيش فيها ـ وكانت عندي بندقية، غير اني كنت لا ازال حينها يافعاً لم اناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت اتدرب على البندقية واحملها وبما يتناسب مع سني. نعم كنا نذهب للتحصّن في الخنادق ونواجه هؤلاء الاشرار الذين كانوا يغيرون علينا. لقد كان الوضع متسماً بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزية القدرة على السيطرة على الاوضاع،… وفجأة سيطروا على خمين فهبّ الناس لمواجهتهم وحملوا السلاح وكنت من بين من حملوا السلاح".
كان انقلاب رضا خان في 22 شباط 1912م، مخططاً ومدعوماً من قبل الانجليز، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية الثابتة والمؤكدة. ومع انه قضى على الحكم القاجاري ووضع حداً للقبلية والخوانين والاشرار، إلا انه اقام حكماً مستبداً حكمت تحت مظلته بضع مئات العوائل مصير الشعب المظلوم. وتصدت العائلة البهلوية للعب دور الخوانين والاشرار السابق.
سيطر رضا خان طوال عقدين من حكمه على نصف الاراضي الزراعية في ايران وثبّت ملكيتها له رسمياً وشكّل هيكلاً ادارياً لادارتها والمحافظة عليها يفوق في تشكيلاته هيكلية الوزرات الكبرى، وسعى في هذا السبيل ـ ما وسعه ـ لحل المشاكل القانونية المترتبة على نقل ملكية الاراضي ـ حتى الموقوفة منها ـ باسمه، فاصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوبات القانونية من المجالس البرلمانية الصورية التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك إلى درجة جعلت ما كتب عن حياته ـ من قبل مؤيديه أو معارضيه ـ يدور في اغلبه حول املاكه وما اقتناه من الحلي والمجوهرات والشركات والمراكز التجارية والصناعية.
كانت سياسة رضاخان الداخلية ترتكز إلى اسس ثلاثة هي: الحكم العسكري والبوليسي العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالة للغرب، وراح يصرّ عليها إلى أواخر عهده.
في مثل هذه الظروف هبّ علماء الدين الايرانيون ـ الذين تعرضوا للهجوم المتواصل من قبل الحكومات التي توالت على الحكم بعد الحركة الدستورية، فضلاً عما تعرضوا له من قبل عملاء الانجليز والمثقفين من عملاء الغرب الفكريين ـ للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ـ نزولاً عند رغبة علماء قم الاعلام ـ إلى مدينة قم تاركاً أراك، وبُعيد ذلك بفترة وجيزة هاجر إليها الإمام الخميني ـ الذي كان قد انهى وبسرعة دراسة المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في خمين واراك ـ وهناك ساهم عملياً بدور فعال في تحكيم وجود الحوزة الفتية، ولم يمض وقت طويل حتى عُدّ الإمام الخميني من الفضلاء الاعلام في هذه الحوزة واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والاصول.
وكما اسلفنا إن حفظ كيان العلماء والمرجعية كان من الضرورات الملحة آنذاك، وذلك لافشال المخططات التي كان يُعدّها رضا خان ومن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم اهدافهم المتوخاة. وعلى هذا الاساس نرى الإمام ـ ورغم ما كان بينه وبين آية الله العظمى الحائري ومن بعده آية الله العظمى البروجردي من اختلاف في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفية مواجهة الحوزات العلمية ومراجع التقليد للظروف المستجدة، وحول دور العلماء بهذا الشأن ـ يقف على الدوم وحزم إلى جانبهما للدفاع عن المرجعية ودورها طوال فترة زعمتهما.
كان الإمام الخميني مولعاً بمتابعة القضايا السياسية والاجتماعية. وكان رضا خان قد اقدم في تلك السنوات ـ وبعد ان فرغ من تثبيت دعائم حكمه ـ على تنفيذ مخطط واسع للقضاء على مظاهر الثقافة الإسلامية في المجتمع الايراني. ففضلاً عن ممارسة انواع الضغوط ضد العلماء، اصدر اوامره بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وروّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور على النساء الايرانيات المسلمات. وقبل أن يترجم رضاخان اهدافه عملياً على مستوى واسع، بادر علماء الدين الايرانيون الملتزمون للاعتراض على ممارساته بوحي من معرفتهم بالاهداف غير المعلنة التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء اصفهان الملتزمين بقيادة آية الله الحاج آقا نور الله اصفهاني عام (1927م) على الهجرة الجماعية إلى قم للاعتصام فيها، وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدن اخرى إلى قم ايضاً، وبالفعل فقد استمر هذا الاعتصام لمدة مائة وخمسة ايام (من 12 أيلول إلى 25 كانون الاول عام 1927م) انتهى بعدها بتراجع رضاخان ـ ولو في الظاهر ـ وتعهد رئيس الوزراء آنذاك (مخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة في كانون الاول عام 1957 على يد عملاء رضاخان انتهى الاعتصام عملياً.
اتاحت هذه الحركة الفرصة لطالب العلوم الدينية الشباب روح الله الخميني الذي كان يتحلى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدي، لان يطلع عن كثب ـ ومن خلال حضوره المباشر في صلب تلك الحركة ـ على اساليب المواجهة، وما يتعرض له العلماء من ظلم، علاوة على التعرف على ملامح شخصية رضاخان اكثر فأكثر.
من جهة اخرى كانت قد حصلت قبل اشهر من هذه الحادثة، في آذار عام 1927، مشادة كلامية بين آية الله البافقي ورضاخان، حوصرت على اثرها مدينة قم من قبل قوات الشرطة وتعرّض العالم المجاهد البافقي إلى الضرب والنفي إلى مدينة الريّ بأمر من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة وما كان يحصل في المجالس التشريعية في تلك الايام ـ خصوصاً الحركة الجهادية الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيد حسن المدرس ـ تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثابة.
وحينما اصدر رضاخان امره بفرض الامتحانات على طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بقم هادفاً القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخميني لفضح الاهداف الخفية لهذا الامر وتصدي لمعارضته وحذر بعض العلماء المشهورين ـ الذين عدوا ذلك الامر ونتيجة لسذاجتهم امراً اصلاحياً ـ من مغبّة القبول به.
وللأسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء نتيجة الاعلام المكثف الذي كانت تمارسه اجهزة النظام الدعائية، وبفعل الظروف والاختلافات التي نجمت على الحركة الدستورية. وقد وصل الامر إلى درجة ان بعض المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة القشريين راح يعارض بشدة تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفة التي تؤدي بالنتيجة إلى إثارة الوجدان والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.
وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدّاً عرّض الإمام الخميني إلى تحمل ما لا يطاق من اجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والاخلاق، الامر الذي اضطره إلى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من امثال العلامة الشهيد المطهري.
ونتيجة لمقاومة العلماء وابناء الشعب الايراني، فشل رضاخان إلى حد كبير، رغم كل ما اوتي من قوة، في تحقيق تطلعاته بالقضاء على الإسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينية، وفي الكثير من الاحيان اضطر إلى التراجع والانسحاب.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (30/ 1/ 1937م) واجهت الحوزة العلمية في قم خطر التشتت والانحلال. فبادر العلماء الملتزمون وعلى مدى ثمانية اعوام لادارة شؤونها وفي مقدمتهم أصحاب السماحة: السيد محمد الحجة، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري رضوان الله عليهم. وفي هذه الفترة وخصوصاً بعد سقوط رضاخان تهيأت الظروف للمرجعية العليا، فاقترح ان يرفع آية الله البروجردي الذي كان من ابرز الشخصيات العلمية، لتسنم مقام المرجعية والحفاظ على كيانها خلفاً لآية الله الحائري. وبسرعة تمّ متابعة هذا الاقتراح من قبل تلامذة آية الله الحائري ومن ضمنهم الإمام الخميني، فسعى سماحته شخصياً في إقناع آية الله البروجردي للهجرة إلى قم وقبول المسؤولية الخطيرة المتمثلة في تزعم الحوزة العلمية.
لقد ادرك الإمام الخميني ـ ومن خلال اطلاعه على حساسية الظروف السياسية التي يمرّ بها المجتمع، والوضع الذي تعيشه الحوزات العلمية، وطبيعة حركة التاريخ التي كان يستلهمها من مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية الصادرة وقتئذ، وما كان يقوم به من زيارات متوالية إلى طهران والمشاركة في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس ـ أدرك بأن الامل الوحيد بالتحرر والنجاة من النكسة التي اعقبت فشل الحركة الدستورية، وبالخصوص بعد تولي رضاخان للسلطة، يكمن في تسلح الحوزات العلمية بالوعي، وقبل ذلك ضمان استمرار وديمومة وجود الحوزات العلمية وتمتين عرى الارتباط بين الجماهير والمؤسسة العلمائية.
لدى هجرة آية الله السيد البروجردي إلى مدينة قم، عكف الإمام الخميني، باعتباره احد المجتهدين والمدرسين المعروفين في الحوزة العلمية بقم، على تحكيم اسس زعامة ومرجعية آية الله البروجردي، وقد بذل في هذا السبيل مساعٍ حثيثة. واستناداً لما ينقله طلابه واظب الإمام حينها على حضور درس المرحوم آية الله البروجردي في الفقه والاصول.
ورغبة منه في متابعة مسيرته في تحقيق اهدافه السامية، اعدّ الإمام الخميني برفقة آية الله مرتضى الحائري في عام (1949م) مقترحاً لإصلاح البنية العامة للحوزة العلمية، وقام بتقديمه إلى آية الله البروجردي (ره) وقد حظي هذا المقترح باستقبال ودعم تلامذة الإمام وطلبة العلوم الدينية الواعين.
ولو كان طبّق هذا المقترح عملياً في تلك الظروف، لأصبحت الحوزة العلمية مؤسسة ذات تشكيلات علميّة واسعة تسهل عليها اداء دورها المطلوب، غير أنّ الخناسين المتظاهرين بالقداسة الذين رأوا ان هذا المقترح سيؤدي إلى تعكير صفو اوضاعهم المترفة الهادئة، اصيبوا بالاضطراب فانطلقوا يعارضون ويحبطون حتى بلغ الأمر ان غيّر آية الله البروجردي نظرته الاولى ورغبته القلبية في ذلك، فاشاح اخيراً عن قبول هذا المقترح. ونتيجة لذلك تأثر آية الله مرتضى الحائري فسافر للاقامة في مشهد مدة من الزمن، غير انّ الإمام الخميني أصرّ على البقاء رغم قسوة الظروف ورغم تألمه مما حدث وما تلاه من حوادث مشابهة، آملاً في حركة الوعي المرتقبة الوقوع في الحوزة العلمية.
www.alwelayah.net
في النصف الثاني من عام 1320هـ، ولد في إيران مولود غيّر ـ فيما بعد، بثورته الالهية ـ مصير إيران والعالم الإسلامي. وفجّر ثورة اصطفت في وجهها منذ البداية القوى المهيمنة على العالم واعداء حرية الشعوب واستقلالها كافة، سعياً للقضاء عليها. غير أنهم عجزوا ـ بفضل الله ومنّه ـ عن مواجهة انجازه العظيم، وخابوا في الاساءة إلى العقيدة والفكر الذي كان ينادي به وينافح عنه.
وقتئذ لم يكن أحد يعلم ان العالم سيتعرف على هذا المولود ذات يوم باسم "الإمام الخميني"، مثلما لم يتصور أحد عندما بدأ ثورته أنه سيقف في مواجهة اعتى القوى العالمية، وسيدافع عن استقلال البلاد ومجد الأمة الإسلامية، وسيمسي محيي دين الله في عصر تمسخ فيه القيم.
الخلفية التاريخية
العشرون من جمادى الآخرة "يوم الكوثر".. لما قضى ابناء الرسول الاكرم (ص) نحبهم، فرح مشركو قريش وراحوا يشنعون برسول الله بأنه أبتر لا ذرية له. فأنزل الله تعالى: {انا اعطيناك الكوثر .. إنّ شانئك هو الابتر}.. فكان يوم العشرين من جمادى الآخرة يوم تدفق كوثر الولاية والإمامة على هذه الارض، حيث ولدت سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)، ولتصبح فيما بعد زوج وأنيس إمام العدالة الانسانية الخالد، وأُمَّاً لذرية تقف في طليعتها كواكب الإمامة الأحد عشر، الذين اضاءوا طريق هداية الانسانية، وكان كل من ابعاد حياتهم حكمة الهية. فصلحهم وحربهم، ومناجاتهم وسكوتهم، وعلمهم وحلمهم، وحياتهم الحافة بالمقاومة والعذاب والمختومة بالشهادة، وآخرها غيبة المهدي الموعود؛ كلّها الهية تدل على أن عباد الله مسدَّدون في زمن التحدي والتردي وتكالب الزمان، وانّ دعاة الحق ومنائر الهداية حاضرون دوماً يمارسون دورهم في هداية البشرية، وانّ الارض لا تخلو من حجة الله على خلقه ابداً.
ومع بداية عصر الغيبة، تواصل الصراع الدائم بين الخير والشر. وجيلاً بعد جيل وقف الطغاة وعبدة المال والمفسدون في جبهة الظلام، وفي الجهة الأخرى وقف المؤمنون والصالحون والاخيار في وادي النور، لتتواصل المواجهة فيما بينهم.
كانت انوار الوحي قد اضاءت آفاق العالم. وزاد الإسلام من دائرة انتشاره بعد أن وجد طريقه إلى قلوب عباد الله الاخيار، فضم ما حوليه من الشرق ووصل إلى قلب اوربا في الغرب، وشكّل حضارة عظمى لم يسبق لها مثيل، وشهدت البشرية تحولاً عظيماً في العلوم والآداب والثقافة والفنون وفي مختلف مظاهر الحضارة الحقيقة؛ كل ذلك على اساس محكم من الايمان والعقيدة. إذ كان تقبل الفطرة السليمة لرسالة الرسول الامين التحررية، بدرجة من العمق والسعة اعجز حكّام السوء، مع كل ما أوتوا من ظلم وجور، من الوقوف في وجه تقدم هذه الرسالة الالهية.
كانت اوربا تحترق في بربرية القرون الوسطى. وتخندق الماديون المهيمنون على عباد الله المظلومين في ذلك الجزء من العالم، خلف الصليب للحيلولة دون سطوع رسالة النبي الاكرم (ص) ـ الذي بشَّر به السيد المسيح (ع) ـ على دنياهم المظلمة، لكي لا تبور بضاعة الكنيسة التي أخذت تعرض في القرون الوسطى عقيدة خالية من الروح، وتقيم حكومة تفتيش العقائد الاوروبية، التي عدّت بحق وصمة عار في تاريخ البشرية. ومما يدعو إلى الحيرة والاسى معاً هو أنهم في ذات الوقت الذي انتبهوا لأنفسهم وعزموا على القضاء على دين الرسول الخاتم (ص)، كانت قد اندلعت في هذا الجزء من العالم نيران النفاق ونزعة التسلط وسادت الفرقة والاختلاف.
وفي غضون ذلك توفرت جملة من العوامل ساعدت في ظهور ارضية التحولات العلمية والصناعية في اوروبا، واستحواذ القوى والحكومات المعادية على التكنولوجيا ووسائل التقدم. وأضفى انتشار العلوم والفنون الحديثة ـ الذي كان للحضارة الإسلامية دور مهم ومصيري فيها ـ على المجتمع الاوروبي البدائي المتخلف رونقاً خاصاً. وبدلاً من أن يفكر قادة البلدان الإسلامية بما يصلح حالهم واحوال شعوبهم، رجّحوا الاستسلام للغفلة والتخلف بدلاً من المبادرة للعمل والاجتهاد؛ فنتج عن ذلك تنامي سطوة الاعداء يوماً بعد آخر، فانطلقوا يوسعون من مناطق نفوذهم حتى باتت ـ مع الاسف ـ مناطق مترامية الاطراف من العالم الإسلامي تحت هيمنة الدول الاستعمارية. وهكذا تواصلت القصة المؤلمة لسلطة القوة والمال والكفر وتدخُّل المستعمرين السافر والخفي في مصير البلدان الإسلامية عدّة قرون.
وتوالت في ايران سلالات الملوك والسلاطين على الحكم. ورغم الظلم والجور المتواصل الذي مارسته هذه السلالات الحاكمة، إلاّ أن الشعب الايراني المناضل، الذي لبى طواعية نداء التوحيد ورسالة الرسول الاكرم (ص)، كان حتى وقت متأخر يرفع لواء الحضارة الإسلامية وثقافتها. غير أن ظلم الملوك، ودسائس الاستعمار الحديث الذي هدف من ورائها إلى بث الفرقة والتنازع؛ كانا في تزايد مطرد، خاصة وان الاعداء دخلوا الميدان هذه المرة بواسائل جديدة، وبذريعة الاعمار والتقدم. وقد قادت خيانات السلاطين القاجار، وما اقترن بها من اجتياح للاراضي الايرانية من قبل الانجليز والروس القياصرة؛ إلى ايجاد ظروف صعبة وقاسية. إذ كانت سفارات الدول الاستعمارية تتدخل بشكل سافر في جميع شؤون البلاد بما في ذلك عزل وتنصيب امراء البلاط والوزراء ومسؤولي المناصب العسكرية الهامة. كما تم في هذه الفترة العصيبة التخلي عن مناطق شاسعة من ارضنا الإسلامية إلى الاجانب عبر اتفاقيات مشينة، في وقت كانت البلاد تشكو من انعدام الأمن والعدالة وتفشي الفساد الاداري.
وخلال هذه الاحداث كشفت كل من فتوى العالم المجاهد الكبير آية الله العظمى الشيرازي بشأن نهضة تحريم البتغ والتي عرفت بـ "حركة التنباكو"؛ ودعوات الاصلاح التي اطلقها السيد جمال الدين الأسد آبادي؛ وقيام علماء الدين في ايران والنجف الاشرف بوجه الاستعمار البريطاني؛ كشفت عن مكانة علماء الإسلام واقتدار المؤسسة العلمائية الإسلامية في التأثير على مجرى الاحداث، الأمر الذي جعل الانجليز يدركون مكامن الخطر، مما دفعهم إلى ممارسة مختلف انواع الحيل والدسائس للتصدي لعلماء الدين، واشاعة سياسة الفصل بين الدين والسياسة؛ فظهرت حينها الماسونية، والمتغربون الجدد المتلبسون بلباس الثقافة، الذي أضرم وجودهم النيران في المعركة المشتعلة داخل البلاد. هذا من جهة. ومن جهة اخرى كان الملك مظفر الدين القاجاري يفتقد إلى أيّة قاعدة شعبية بين ابناء شعبه، لذا كان يتطلع إلى البلاطين الروسي والانجليزي. وبطبيعة الحال، كانت سائر البلاد الإسلامية تعيش حالاً مشابهة مؤسفة ايضاً.
الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة قم
في مثل هذه الظروف ولد روح الله الموسوي الخميني في العشرين من جمادى الثانية سنة 1320هـ، الموافق 24 أيلول 1902م؛ في مدينة خمين احدى مدن المحافظة المركزية، في بيت عُرف بالعلم والتقوى والجهاد والهجرة، ومن اسرة تنتسب إلى الصديقة فاطمة الزهراء؛ ورث منها سجايا آباء واجداد سعوا جاهدين جيلاً بعد جيل لهداية الناس، والنهل من المعارف الالهيّة.
عاصر المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي ـ والد الإمام الخميني ـ المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض). ودرس العلوم والمعارف الإسلامية في النجف الاشرف لعدة سنوات، وبعد ان بلغ مرتبة الاجتهاد عاد إلى ايران ليُقيم في خمين ويصبح ملجأً وملاذاً وموجِّهاً للناس في امور دينهم.
لم يُتم "روح الله" الخمسة اشهر، حتى استشهد والده في طريقه من خمين إلى اراك، على يد قطاع الطريق والخوانين المدعومين من قبل عملاء السلطة، انتقاماً من مساعيه في احقاق الحق والوقوف في وجه الطغاة والظلمة. ويومها توجهت اسرة الشهيد إلى طهران ـ دار الحكومة آنذاك ـ واصرّت على تنفيذ العدالة وانزال القصاص بحق قاتليه.
وبذا يكون الإمام الخميني قد واجه منذ طفولته قسوة اليتم وادرك مفهوم الشهادة.
بعد استشهاد والده امضى الإمام الخميني طفولته في احضان والدته (السيدة هاجر)، سليلة العلم والتقوى، فهي من احفاد المرحوم آية الله الخوانساري ـ صاحب زبدة التصانيف ـ ورعاية عمته المكرمة (صاحبة خانم)، المرأة الشجاعة التقيّة. حتى إذا ما بلغ الخامسة عشر من عمره حرم من نعمة هاتين العزيزتين.
درس الإمام منذ نعومة أظفاره ـ مستفيداً مما حباه الله من ذكاء متّقد ـ جانباً من المعارف الشائعة في عصره ومقدمات العلوم والسطوح المعروفة في الحوزات الدينية مثل آداب اللغة العربية والمنطق والفقه والاصول؛ على ايدي اساتذة وعلماء منطقته (كالميرزا محمود افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد البروجردي، والمرحوم الشيخ محمد الكلبايكاني والمرحوم عباس الاراكي؛ وقبل هؤلاء اخيه الاكبر آية الله السيد مرتضى بسنديده ـ الذي امضى عنده اكثر وقته الدراسي ـ، سافر بعد ذلك ـ عام 1919م ـ إلى اراك ليواصل دراسته الدينية في حوزتها.
الهجرة إلى قم: تحصيل الدروس التكميلية وتدريس العلوم الإسلامية
بُعيد انتقال آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (ره) إلى مدينة قم، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها. فقد اكمل كتاب "المطوّل" (في علم المعاني والبيان) على يد المرحوم الميرزا محمد علي الاديب الطهراني، كما اكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. كذلك اتمَّ دروس خارج الفقه والاصول على يد زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رضوان الله عليهم اجمعين.
إنَّ الروح المرهفة الوثابة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها دفعته إلى عدم الاكتفاء باتقان آداب اللغة العربية والدروس الفقهية والاصولية، بل ان يتعداها إلى الفروع العلمية الاخرى. ومن هنا وتزامناً مع دراسته للفقه والاصول على ايدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيات والهيئة والفلسفة يد على المرحوم الحاج السيد ابي الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية لدى المرحوم الميرزا علي اكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم الشيخ محمد رضا مسجد شاهي الاصفهاني، كما درس الاخلاق والعرفان لدى المرحوم آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، ثم درس اعلى مستويات العرفان النظري والعملي، ولمدة ستة اعوام عند المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي اعلى الله مقاماتهم اجمعين.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزيدي، اثمرت الجهود التي بذلها الإمام الخميني برفقه عدة من المجتهدين في الحوزة العلمية بقم في اقناع آية الله العظمى البروجردي للمجيء إلى قم وتسلم زعامة الحوزة العلمية فيها. وخلال هذه الفترة عُرف الإمام الخميني بصفة احد المدرسين والمجتهدين واولي الرأي في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق. وان زهده وورعه وتعبده وتقواه كان يتردد على لسان الخاصة والعامة.
ان هذه الخصال والسجايا الرفيعة التي كانت حصيلة سنوات طويلة من المجاهدة والترويض الشرعي وامتحان المفاهيم والاسس العرفانية في حياته العملية الشخصية والاجتماعية، ونهجه السياسي الذي جسد من خلاله اعتقاده الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلمية وقوة الزعامة الدينية والعلماء باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الايام المضطربة الخطيرة، جعلته يوظف دائماً علمه وفضله وجهوده في ترسيخ اسس الحوزة العلمية الفتية في قم. فوقف رغم كل ما لديه من جداره واختلاف في وجهات النظر، يدعم مرجعية آية الله العظمى الحائري ثم آية الله البروجردي اعلى الله مقامهما، وحتى بعد وفاة آية الله البروجردي. ورغم الاقبال الواسع عليه من قبل الطلاب والفضلاء والمجتمع الإسلامي كأحد مراجع التقليد إلا انه يخطُ أيّة خطوة يشمُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائماً يحث محبيه ومريديه على عدم الاهتمام بمثل هذه الامور. بل انّه أصرّ على نهجه هذا حتى في الوقت الذي التف حوله وعاة المجتمع باعتباره المنادي بالإسلام الحق وانه يمثل ضالتهم المنشودة لتحقيق آمالهم لما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغير من سيرته ومنهجه قيد انملة متمثلاً قوله الذي كان يكرره دائماً "إنّني اعتبر نفسي خادماً وحارساً للإسلام والشعب".
انه الرجل العظيم ذاته الذي عاد في (1 شباط 1979م) إلى إيران ليجد الملايين من ابناء الشعب وقد اجتمعوا في اكبر مراسم استقبال في التاريخ احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله احد الصحفيين بلا مقدمة: ما هو شعوركم وانتم تعودون إلى بلادكم بعد خمسة عشر عاماً في ظل هذه الابهة؟ سمع منه جواباً غير متوقع، إذ اجابه سماحته: لا شيء!.
لقد توهم ذلك الصحفي بأن الإمام الخميني كسائر القادة السياسيين الساعين إلى السلطة ينسون انفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحاً؛ غير ان الجواب الذي سمعه اوضح له بأن الإمام الخميني من سنخ آخر.
كان الإمام الخميني يعتقد بحق ـ كما اكّد ذلك مرات ومرات ـ بأنّ المعيار في سلوكه وتحركاته هو نيل رضا الخالق تعالى والعمل بالتكليف واداء المسؤولية الشرعية. فهو يرى بأنّ الأمر سيّان بالنسبة له سواء كان في السجن والنفي، أو في ذروة القوة والاقتدار، مادام تحركه في سبيل الله. أساساً ان سماحته كان قد اعرض ـ وقبل عقود من ذلك التاريخ ـ عن الدنيا وما فيها وسلك طريق الوصول والفناء في الله. ولعلّ اجمل تفسير لرده على سؤال الصحفي يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:
اذهب إلى الخربات واعتزل الخلق جميعاً وعلِّق قلبك بالمطلق واترك الباقي
مارس الإمام التدريس ـ خلال سنوات طوال ـ في الحوزة العلمية بقم، فدرّس عدّة دورات في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق الإسلامية في كل من المدرسة الفيضية والمسجد الاعظم ومسجد محمدية ومدرسة الحاج ملا صادق ومسجد السلماسي وغيرها، كما مارس تدريس الفقه ومعارف اهل البيت (ع) ـ وعلىارفع المستويات ـ في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف، في مسجد الشيخ الانصاري (ره) لما يقارب الاربعة عشر عاماً. وفي النجف الاشرف طرح ـ ولاول مرة ـ اسس الحكومة الإسلامية عبر سلسلة دروس ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.
وعلى ما نقله طلابه، فان حوزة الإمام الخميني كانت تعدّ من اسمى المراكز الدراسية، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات ـ خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقم ـ الالف طالب، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعاً ينهلون من مدرسته في الفقه والاصول. فكان من بركات ممارسته التدريس ان تمكّن سماحته من تربية المئات بل الآلاف ـ إذ اخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة ـ من العلماء والحكماء ممن اصبحوا بعد ذلك مشاعل واعلاماً في الحوزات الدينية، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين ممن يشار إليهم بالبنان اليوم في حوزة قم العلمية وفي سائر المراكز الدينية. وان مفكرين كبار امثال العلامة الاستاذ الشهيد مرتضى المطهري والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي، كانوا يفخرون دوماً بأنهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنوات.
واليوم فإن الوجوه اللامعة من العلماء الذين يقودون مسيرة الثورة الإسلامية ويوجهون نظام الجمهورية الإسلامية هم من طلابه وخريجي مدرسته الفقهية والسياسية.
هذا وستكون لنا وقفة عند خصائص ومميزات مدرسته الإمام الخميني في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب وبشكل مختصر إلى تعريف كتب الإمام ومؤلفاته.
الإمام الخميني في خندق الجهاد والثورة
لقد كان لروحية النضال والجهاد في سبيل الله جذور تمتدُّ إلى الرؤية الاعتقادية والتربية والمحيط العائلي والظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بحياة الإمام؛ إذ بدأ جهاده منذ صباه، واخذ هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصورة مختلفة جنباً إلى جنب تكامل الجوانب الروحية والعملية في شخصيته من جهة، وتطور الاوضاع السياسية والاجتماعية في إيران والمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى. وفي عامي 1961 ـ 1962 وفّرت احداث مجالس الاقاليم والمدن الفرصة ليلعب دوراً في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحو انطلقت انتفاضة الخامس عشر من خرداد ـ الخامس من حزيران 1963 ـ التي شارك فيها العلماء وابناء الشعب معتمدة على دعامتين اساسيتين، اولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: إسلامية دوافع الانتفاضة واهدافها وشعاراتها، لتمثل فصلاً جديداً في جهاد الشعب الايراني؛ ذلك الفصل الذي عرف في العالم اجمع باسم "الثورة الإسلامية".
لقد ولد الإمام الخميني في وقت كانت ايران تمرّ فيه بأقسى ادوار تاريخها. فالحركة الدستورية تعرضت للضياع نتيجة دسائس ومعارضات عملاء الانجليز في البلاط القاجاري والصراعات الداخلية وخيانة بعض المتغربين وتعرّض العلماء ـ الذين كانوا يمثلون طليعتها ـ إلى الاقصاء من ساحة الاحداث بمختلف انواع المكائد ليعود النظام ملكياً مستبداً مرة أخرى. كذلك فإنّ الطبيعة العشائرية التي كانت تتسم بها العائلة القاجارية المالكة، وضعف الحكام وعدم صلاحيتهم أدّى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي شديدين في ايران واطلق ايدي الاقطاعيين والاشرار لسلب الامن والامان.
وفي ظروف كهذه كان العلماء يمثلون الملاذ الوحيد للناس في مختلف المدن والمناطق. وكما اشرنا سابقاً فقد شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أسرة الإمام ألفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.
يستعرض الإمام الخميني بعض ذكرياته عن الحرب العالمية الاولى ـ وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ـ فيقول:
"إنّني اتذكر كلتا الحربين العالميتين.. كنت صغيراً إلا اني كنت اذهب إلى المدرسة وقد رأيت الجنود الروس في المركز الذي كان في (خمين) رأيتهم هناك واذكر كيف تعرضت بلادنا للاجتياح في الحرب العالمية الاولى".
وفي موضع آخر يذكر سماحته اسماء بعض الاقطاعيين الظالمين الاشرار الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على اعراض الناس واموالهم مدعومين من قبل الحكومة المركزية:
"كنت في حرب منذ طفولتي… فقد كنا نتعرض لهجمات اشرار من امثال زلقي ورجب علي، وكانت عندنا بندقية، أذكر أني كنت أقارب البلوغ آنذاك فكنت اذهب مع البقية لاتخاذ موقعنا في الخنادق المعدّة للدفاع ضد هجوم اولئك الذين كانوا يقصدون الاغارة علينا. نعم كنا نذهب هناك ونتفقد الخنادق".
ويقول سماحته في موضع آخر:
"لقد كنا مضطرين إلى اعداد الخنادق في خمين ـ المنطقة التي كنا نعيش فيها ـ وكانت عندي بندقية، غير اني كنت لا ازال حينها يافعاً لم اناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت اتدرب على البندقية واحملها وبما يتناسب مع سني. نعم كنا نذهب للتحصّن في الخنادق ونواجه هؤلاء الاشرار الذين كانوا يغيرون علينا. لقد كان الوضع متسماً بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزية القدرة على السيطرة على الاوضاع،… وفجأة سيطروا على خمين فهبّ الناس لمواجهتهم وحملوا السلاح وكنت من بين من حملوا السلاح".
كان انقلاب رضا خان في 22 شباط 1912م، مخططاً ومدعوماً من قبل الانجليز، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية الثابتة والمؤكدة. ومع انه قضى على الحكم القاجاري ووضع حداً للقبلية والخوانين والاشرار، إلا انه اقام حكماً مستبداً حكمت تحت مظلته بضع مئات العوائل مصير الشعب المظلوم. وتصدت العائلة البهلوية للعب دور الخوانين والاشرار السابق.
سيطر رضا خان طوال عقدين من حكمه على نصف الاراضي الزراعية في ايران وثبّت ملكيتها له رسمياً وشكّل هيكلاً ادارياً لادارتها والمحافظة عليها يفوق في تشكيلاته هيكلية الوزرات الكبرى، وسعى في هذا السبيل ـ ما وسعه ـ لحل المشاكل القانونية المترتبة على نقل ملكية الاراضي ـ حتى الموقوفة منها ـ باسمه، فاصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوبات القانونية من المجالس البرلمانية الصورية التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك إلى درجة جعلت ما كتب عن حياته ـ من قبل مؤيديه أو معارضيه ـ يدور في اغلبه حول املاكه وما اقتناه من الحلي والمجوهرات والشركات والمراكز التجارية والصناعية.
كانت سياسة رضاخان الداخلية ترتكز إلى اسس ثلاثة هي: الحكم العسكري والبوليسي العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالة للغرب، وراح يصرّ عليها إلى أواخر عهده.
في مثل هذه الظروف هبّ علماء الدين الايرانيون ـ الذين تعرضوا للهجوم المتواصل من قبل الحكومات التي توالت على الحكم بعد الحركة الدستورية، فضلاً عما تعرضوا له من قبل عملاء الانجليز والمثقفين من عملاء الغرب الفكريين ـ للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ـ نزولاً عند رغبة علماء قم الاعلام ـ إلى مدينة قم تاركاً أراك، وبُعيد ذلك بفترة وجيزة هاجر إليها الإمام الخميني ـ الذي كان قد انهى وبسرعة دراسة المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في خمين واراك ـ وهناك ساهم عملياً بدور فعال في تحكيم وجود الحوزة الفتية، ولم يمض وقت طويل حتى عُدّ الإمام الخميني من الفضلاء الاعلام في هذه الحوزة واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والاصول.
وكما اسلفنا إن حفظ كيان العلماء والمرجعية كان من الضرورات الملحة آنذاك، وذلك لافشال المخططات التي كان يُعدّها رضا خان ومن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم اهدافهم المتوخاة. وعلى هذا الاساس نرى الإمام ـ ورغم ما كان بينه وبين آية الله العظمى الحائري ومن بعده آية الله العظمى البروجردي من اختلاف في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفية مواجهة الحوزات العلمية ومراجع التقليد للظروف المستجدة، وحول دور العلماء بهذا الشأن ـ يقف على الدوم وحزم إلى جانبهما للدفاع عن المرجعية ودورها طوال فترة زعمتهما.
كان الإمام الخميني مولعاً بمتابعة القضايا السياسية والاجتماعية. وكان رضا خان قد اقدم في تلك السنوات ـ وبعد ان فرغ من تثبيت دعائم حكمه ـ على تنفيذ مخطط واسع للقضاء على مظاهر الثقافة الإسلامية في المجتمع الايراني. ففضلاً عن ممارسة انواع الضغوط ضد العلماء، اصدر اوامره بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وروّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور على النساء الايرانيات المسلمات. وقبل أن يترجم رضاخان اهدافه عملياً على مستوى واسع، بادر علماء الدين الايرانيون الملتزمون للاعتراض على ممارساته بوحي من معرفتهم بالاهداف غير المعلنة التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء اصفهان الملتزمين بقيادة آية الله الحاج آقا نور الله اصفهاني عام (1927م) على الهجرة الجماعية إلى قم للاعتصام فيها، وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدن اخرى إلى قم ايضاً، وبالفعل فقد استمر هذا الاعتصام لمدة مائة وخمسة ايام (من 12 أيلول إلى 25 كانون الاول عام 1927م) انتهى بعدها بتراجع رضاخان ـ ولو في الظاهر ـ وتعهد رئيس الوزراء آنذاك (مخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة في كانون الاول عام 1957 على يد عملاء رضاخان انتهى الاعتصام عملياً.
اتاحت هذه الحركة الفرصة لطالب العلوم الدينية الشباب روح الله الخميني الذي كان يتحلى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدي، لان يطلع عن كثب ـ ومن خلال حضوره المباشر في صلب تلك الحركة ـ على اساليب المواجهة، وما يتعرض له العلماء من ظلم، علاوة على التعرف على ملامح شخصية رضاخان اكثر فأكثر.
من جهة اخرى كانت قد حصلت قبل اشهر من هذه الحادثة، في آذار عام 1927، مشادة كلامية بين آية الله البافقي ورضاخان، حوصرت على اثرها مدينة قم من قبل قوات الشرطة وتعرّض العالم المجاهد البافقي إلى الضرب والنفي إلى مدينة الريّ بأمر من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة وما كان يحصل في المجالس التشريعية في تلك الايام ـ خصوصاً الحركة الجهادية الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيد حسن المدرس ـ تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثابة.
وحينما اصدر رضاخان امره بفرض الامتحانات على طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بقم هادفاً القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخميني لفضح الاهداف الخفية لهذا الامر وتصدي لمعارضته وحذر بعض العلماء المشهورين ـ الذين عدوا ذلك الامر ونتيجة لسذاجتهم امراً اصلاحياً ـ من مغبّة القبول به.
وللأسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء نتيجة الاعلام المكثف الذي كانت تمارسه اجهزة النظام الدعائية، وبفعل الظروف والاختلافات التي نجمت على الحركة الدستورية. وقد وصل الامر إلى درجة ان بعض المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة القشريين راح يعارض بشدة تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفة التي تؤدي بالنتيجة إلى إثارة الوجدان والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.
وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدّاً عرّض الإمام الخميني إلى تحمل ما لا يطاق من اجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والاخلاق، الامر الذي اضطره إلى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من امثال العلامة الشهيد المطهري.
ونتيجة لمقاومة العلماء وابناء الشعب الايراني، فشل رضاخان إلى حد كبير، رغم كل ما اوتي من قوة، في تحقيق تطلعاته بالقضاء على الإسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينية، وفي الكثير من الاحيان اضطر إلى التراجع والانسحاب.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (30/ 1/ 1937م) واجهت الحوزة العلمية في قم خطر التشتت والانحلال. فبادر العلماء الملتزمون وعلى مدى ثمانية اعوام لادارة شؤونها وفي مقدمتهم أصحاب السماحة: السيد محمد الحجة، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري رضوان الله عليهم. وفي هذه الفترة وخصوصاً بعد سقوط رضاخان تهيأت الظروف للمرجعية العليا، فاقترح ان يرفع آية الله البروجردي الذي كان من ابرز الشخصيات العلمية، لتسنم مقام المرجعية والحفاظ على كيانها خلفاً لآية الله الحائري. وبسرعة تمّ متابعة هذا الاقتراح من قبل تلامذة آية الله الحائري ومن ضمنهم الإمام الخميني، فسعى سماحته شخصياً في إقناع آية الله البروجردي للهجرة إلى قم وقبول المسؤولية الخطيرة المتمثلة في تزعم الحوزة العلمية.
لقد ادرك الإمام الخميني ـ ومن خلال اطلاعه على حساسية الظروف السياسية التي يمرّ بها المجتمع، والوضع الذي تعيشه الحوزات العلمية، وطبيعة حركة التاريخ التي كان يستلهمها من مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية الصادرة وقتئذ، وما كان يقوم به من زيارات متوالية إلى طهران والمشاركة في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس ـ أدرك بأن الامل الوحيد بالتحرر والنجاة من النكسة التي اعقبت فشل الحركة الدستورية، وبالخصوص بعد تولي رضاخان للسلطة، يكمن في تسلح الحوزات العلمية بالوعي، وقبل ذلك ضمان استمرار وديمومة وجود الحوزات العلمية وتمتين عرى الارتباط بين الجماهير والمؤسسة العلمائية.
لدى هجرة آية الله السيد البروجردي إلى مدينة قم، عكف الإمام الخميني، باعتباره احد المجتهدين والمدرسين المعروفين في الحوزة العلمية بقم، على تحكيم اسس زعامة ومرجعية آية الله البروجردي، وقد بذل في هذا السبيل مساعٍ حثيثة. واستناداً لما ينقله طلابه واظب الإمام حينها على حضور درس المرحوم آية الله البروجردي في الفقه والاصول.
ورغبة منه في متابعة مسيرته في تحقيق اهدافه السامية، اعدّ الإمام الخميني برفقة آية الله مرتضى الحائري في عام (1949م) مقترحاً لإصلاح البنية العامة للحوزة العلمية، وقام بتقديمه إلى آية الله البروجردي (ره) وقد حظي هذا المقترح باستقبال ودعم تلامذة الإمام وطلبة العلوم الدينية الواعين.
ولو كان طبّق هذا المقترح عملياً في تلك الظروف، لأصبحت الحوزة العلمية مؤسسة ذات تشكيلات علميّة واسعة تسهل عليها اداء دورها المطلوب، غير أنّ الخناسين المتظاهرين بالقداسة الذين رأوا ان هذا المقترح سيؤدي إلى تعكير صفو اوضاعهم المترفة الهادئة، اصيبوا بالاضطراب فانطلقوا يعارضون ويحبطون حتى بلغ الأمر ان غيّر آية الله البروجردي نظرته الاولى ورغبته القلبية في ذلك، فاشاح اخيراً عن قبول هذا المقترح. ونتيجة لذلك تأثر آية الله مرتضى الحائري فسافر للاقامة في مشهد مدة من الزمن، غير انّ الإمام الخميني أصرّ على البقاء رغم قسوة الظروف ورغم تألمه مما حدث وما تلاه من حوادث مشابهة، آملاً في حركة الوعي المرتقبة الوقوع في الحوزة العلمية.
www.alwelayah.net
تعليق