إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

القائد الإمام روح الله الموسوي الخميني رضوان الله عليه

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القائد الإمام روح الله الموسوي الخميني رضوان الله عليه

    يوم الكوثر( يوم الولادة )

    في النصف الثاني من عام 1320هـ، ولد في إيران مولود غيّر ـ فيما بعد، بثورته الالهية ـ مصير إيران والعالم الإسلامي. وفجّر ثورة اصطفت في وجهها منذ البداية القوى المهيمنة على العالم واعداء حرية الشعوب واستقلالها كافة، سعياً للقضاء عليها. غير أنهم عجزوا ـ بفضل الله ومنّه ـ عن مواجهة انجازه العظيم، وخابوا في الاساءة إلى العقيدة والفكر الذي كان ينادي به وينافح عنه.

    وقتئذ لم يكن أحد يعلم ان العالم سيتعرف على هذا المولود ذات يوم باسم "الإمام الخميني"، مثلما لم يتصور أحد عندما بدأ ثورته أنه سيقف في مواجهة اعتى القوى العالمية، وسيدافع عن استقلال البلاد ومجد الأمة الإسلامية، وسيمسي محيي دين الله في عصر تمسخ فيه القيم.

    الخلفية التاريخية

    العشرون من جمادى الآخرة "يوم الكوثر".. لما قضى ابناء الرسول الاكرم (ص) نحبهم، فرح مشركو قريش وراحوا يشنعون برسول الله بأنه أبتر لا ذرية له. فأنزل الله تعالى: {انا اعطيناك الكوثر .. إنّ شانئك هو الابتر}.. فكان يوم العشرين من جمادى الآخرة يوم تدفق كوثر الولاية والإمامة على هذه الارض، حيث ولدت سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)، ولتصبح فيما بعد زوج وأنيس إمام العدالة الانسانية الخالد، وأُمَّاً لذرية تقف في طليعتها كواكب الإمامة الأحد عشر، الذين اضاءوا طريق هداية الانسانية، وكان كل من ابعاد حياتهم حكمة الهية. فصلحهم وحربهم، ومناجاتهم وسكوتهم، وعلمهم وحلمهم، وحياتهم الحافة بالمقاومة والعذاب والمختومة بالشهادة، وآخرها غيبة المهدي الموعود؛ كلّها الهية تدل على أن عباد الله مسدَّدون في زمن التحدي والتردي وتكالب الزمان، وانّ دعاة الحق ومنائر الهداية حاضرون دوماً يمارسون دورهم في هداية البشرية، وانّ الارض لا تخلو من حجة الله على خلقه ابداً.

    ومع بداية عصر الغيبة، تواصل الصراع الدائم بين الخير والشر. وجيلاً بعد جيل وقف الطغاة وعبدة المال والمفسدون في جبهة الظلام، وفي الجهة الأخرى وقف المؤمنون والصالحون والاخيار في وادي النور، لتتواصل المواجهة فيما بينهم.

    كانت انوار الوحي قد اضاءت آفاق العالم. وزاد الإسلام من دائرة انتشاره بعد أن وجد طريقه إلى قلوب عباد الله الاخيار، فضم ما حوليه من الشرق ووصل إلى قلب اوربا في الغرب، وشكّل حضارة عظمى لم يسبق لها مثيل، وشهدت البشرية تحولاً عظيماً في العلوم والآداب والثقافة والفنون وفي مختلف مظاهر الحضارة الحقيقة؛ كل ذلك على اساس محكم من الايمان والعقيدة. إذ كان تقبل الفطرة السليمة لرسالة الرسول الامين التحررية، بدرجة من العمق والسعة اعجز حكّام السوء، مع كل ما أوتوا من ظلم وجور، من الوقوف في وجه تقدم هذه الرسالة الالهية.

    كانت اوربا تحترق في بربرية القرون الوسطى. وتخندق الماديون المهيمنون على عباد الله المظلومين في ذلك الجزء من العالم، خلف الصليب للحيلولة دون سطوع رسالة النبي الاكرم (ص) ـ الذي بشَّر به السيد المسيح (ع) ـ على دنياهم المظلمة، لكي لا تبور بضاعة الكنيسة التي أخذت تعرض في القرون الوسطى عقيدة خالية من الروح، وتقيم حكومة تفتيش العقائد الاوروبية، التي عدّت بحق وصمة عار في تاريخ البشرية. ومما يدعو إلى الحيرة والاسى معاً هو أنهم في ذات الوقت الذي انتبهوا لأنفسهم وعزموا على القضاء على دين الرسول الخاتم (ص)، كانت قد اندلعت في هذا الجزء من العالم نيران النفاق ونزعة التسلط وسادت الفرقة والاختلاف.

    وفي غضون ذلك توفرت جملة من العوامل ساعدت في ظهور ارضية التحولات العلمية والصناعية في اوروبا، واستحواذ القوى والحكومات المعادية على التكنولوجيا ووسائل التقدم. وأضفى انتشار العلوم والفنون الحديثة ـ الذي كان للحضارة الإسلامية دور مهم ومصيري فيها ـ على المجتمع الاوروبي البدائي المتخلف رونقاً خاصاً. وبدلاً من أن يفكر قادة البلدان الإسلامية بما يصلح حالهم واحوال شعوبهم، رجّحوا الاستسلام للغفلة والتخلف بدلاً من المبادرة للعمل والاجتهاد؛ فنتج عن ذلك تنامي سطوة الاعداء يوماً بعد آخر، فانطلقوا يوسعون من مناطق نفوذهم حتى باتت ـ مع الاسف ـ مناطق مترامية الاطراف من العالم الإسلامي تحت هيمنة الدول الاستعمارية. وهكذا تواصلت القصة المؤلمة لسلطة القوة والمال والكفر وتدخُّل المستعمرين السافر والخفي في مصير البلدان الإسلامية عدّة قرون.

    وتوالت في ايران سلالات الملوك والسلاطين على الحكم. ورغم الظلم والجور المتواصل الذي مارسته هذه السلالات الحاكمة، إلاّ أن الشعب الايراني المناضل، الذي لبى طواعية نداء التوحيد ورسالة الرسول الاكرم (ص)، كان حتى وقت متأخر يرفع لواء الحضارة الإسلامية وثقافتها. غير أن ظلم الملوك، ودسائس الاستعمار الحديث الذي هدف من ورائها إلى بث الفرقة والتنازع؛ كانا في تزايد مطرد، خاصة وان الاعداء دخلوا الميدان هذه المرة بواسائل جديدة، وبذريعة الاعمار والتقدم. وقد قادت خيانات السلاطين القاجار، وما اقترن بها من اجتياح للاراضي الايرانية من قبل الانجليز والروس القياصرة؛ إلى ايجاد ظروف صعبة وقاسية. إذ كانت سفارات الدول الاستعمارية تتدخل بشكل سافر في جميع شؤون البلاد بما في ذلك عزل وتنصيب امراء البلاط والوزراء ومسؤولي المناصب العسكرية الهامة. كما تم في هذه الفترة العصيبة التخلي عن مناطق شاسعة من ارضنا الإسلامية إلى الاجانب عبر اتفاقيات مشينة، في وقت كانت البلاد تشكو من انعدام الأمن والعدالة وتفشي الفساد الاداري.

    وخلال هذه الاحداث كشفت كل من فتوى العالم المجاهد الكبير آية الله العظمى الشيرازي بشأن نهضة تحريم البتغ والتي عرفت بـ "حركة التنباكو"؛ ودعوات الاصلاح التي اطلقها السيد جمال الدين الأسد آبادي؛ وقيام علماء الدين في ايران والنجف الاشرف بوجه الاستعمار البريطاني؛ كشفت عن مكانة علماء الإسلام واقتدار المؤسسة العلمائية الإسلامية في التأثير على مجرى الاحداث، الأمر الذي جعل الانجليز يدركون مكامن الخطر، مما دفعهم إلى ممارسة مختلف انواع الحيل والدسائس للتصدي لعلماء الدين، واشاعة سياسة الفصل بين الدين والسياسة؛ فظهرت حينها الماسونية، والمتغربون الجدد المتلبسون بلباس الثقافة، الذي أضرم وجودهم النيران في المعركة المشتعلة داخل البلاد. هذا من جهة. ومن جهة اخرى كان الملك مظفر الدين القاجاري يفتقد إلى أيّة قاعدة شعبية بين ابناء شعبه، لذا كان يتطلع إلى البلاطين الروسي والانجليزي. وبطبيعة الحال، كانت سائر البلاد الإسلامية تعيش حالاً مشابهة مؤسفة ايضاً.

    الإمام الخميني من الولادة حتى الهجرة إلى مدينة قم

    في مثل هذه الظروف ولد روح الله الموسوي الخميني في العشرين من جمادى الثانية سنة 1320هـ، الموافق 24 أيلول 1902م؛ في مدينة خمين احدى مدن المحافظة المركزية، في بيت عُرف بالعلم والتقوى والجهاد والهجرة، ومن اسرة تنتسب إلى الصديقة فاطمة الزهراء؛ ورث منها سجايا آباء واجداد سعوا جاهدين جيلاً بعد جيل لهداية الناس، والنهل من المعارف الالهيّة.

    عاصر المرحوم آية الله السيد مصطفى الموسوي ـ والد الإمام الخميني ـ المرحوم آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (رض). ودرس العلوم والمعارف الإسلامية في النجف الاشرف لعدة سنوات، وبعد ان بلغ مرتبة الاجتهاد عاد إلى ايران ليُقيم في خمين ويصبح ملجأً وملاذاً وموجِّهاً للناس في امور دينهم.

    لم يُتم "روح الله" الخمسة اشهر، حتى استشهد والده في طريقه من خمين إلى اراك، على يد قطاع الطريق والخوانين المدعومين من قبل عملاء السلطة، انتقاماً من مساعيه في احقاق الحق والوقوف في وجه الطغاة والظلمة. ويومها توجهت اسرة الشهيد إلى طهران ـ دار الحكومة آنذاك ـ واصرّت على تنفيذ العدالة وانزال القصاص بحق قاتليه.

    وبذا يكون الإمام الخميني قد واجه منذ طفولته قسوة اليتم وادرك مفهوم الشهادة.

    بعد استشهاد والده امضى الإمام الخميني طفولته في احضان والدته (السيدة هاجر)، سليلة العلم والتقوى، فهي من احفاد المرحوم آية الله الخوانساري ـ صاحب زبدة التصانيف ـ ورعاية عمته المكرمة (صاحبة خانم)، المرأة الشجاعة التقيّة. حتى إذا ما بلغ الخامسة عشر من عمره حرم من نعمة هاتين العزيزتين.

    درس الإمام منذ نعومة أظفاره ـ مستفيداً مما حباه الله من ذكاء متّقد ـ جانباً من المعارف الشائعة في عصره ومقدمات العلوم والسطوح المعروفة في الحوزات الدينية مثل آداب اللغة العربية والمنطق والفقه والاصول؛ على ايدي اساتذة وعلماء منطقته (كالميرزا محمود افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفي الخميني، والمرحوم الشيخ علي محمد البروجردي، والمرحوم الشيخ محمد الكلبايكاني والمرحوم عباس الاراكي؛ وقبل هؤلاء اخيه الاكبر آية الله السيد مرتضى بسنديده ـ الذي امضى عنده اكثر وقته الدراسي ـ، سافر بعد ذلك ـ عام 1919م ـ إلى اراك ليواصل دراسته الدينية في حوزتها.

    الهجرة إلى قم: تحصيل الدروس التكميلية وتدريس العلوم الإسلامية

    بُعيد انتقال آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (ره) إلى مدينة قم، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها. فقد اكمل كتاب "المطوّل" (في علم المعاني والبيان) على يد المرحوم الميرزا محمد علي الاديب الطهراني، كما اكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. كذلك اتمَّ دروس خارج الفقه والاصول على يد زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رضوان الله عليهم اجمعين.

    إنَّ الروح المرهفة الوثابة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها دفعته إلى عدم الاكتفاء باتقان آداب اللغة العربية والدروس الفقهية والاصولية، بل ان يتعداها إلى الفروع العلمية الاخرى. ومن هنا وتزامناً مع دراسته للفقه والاصول على ايدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيات والهيئة والفلسفة يد على المرحوم الحاج السيد ابي الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية لدى المرحوم الميرزا علي اكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم الشيخ محمد رضا مسجد شاهي الاصفهاني، كما درس الاخلاق والعرفان لدى المرحوم آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، ثم درس اعلى مستويات العرفان النظري والعملي، ولمدة ستة اعوام عند المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي اعلى الله مقاماتهم اجمعين.

    بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزيدي، اثمرت الجهود التي بذلها الإمام الخميني برفقه عدة من المجتهدين في الحوزة العلمية بقم في اقناع آية الله العظمى البروجردي للمجيء إلى قم وتسلم زعامة الحوزة العلمية فيها. وخلال هذه الفترة عُرف الإمام الخميني بصفة احد المدرسين والمجتهدين واولي الرأي في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق. وان زهده وورعه وتعبده وتقواه كان يتردد على لسان الخاصة والعامة.

    ان هذه الخصال والسجايا الرفيعة التي كانت حصيلة سنوات طويلة من المجاهدة والترويض الشرعي وامتحان المفاهيم والاسس العرفانية في حياته العملية الشخصية والاجتماعية، ونهجه السياسي الذي جسد من خلاله اعتقاده الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلمية وقوة الزعامة الدينية والعلماء باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الايام المضطربة الخطيرة، جعلته يوظف دائماً علمه وفضله وجهوده في ترسيخ اسس الحوزة العلمية الفتية في قم. فوقف رغم كل ما لديه من جداره واختلاف في وجهات النظر، يدعم مرجعية آية الله العظمى الحائري ثم آية الله البروجردي اعلى الله مقامهما، وحتى بعد وفاة آية الله البروجردي. ورغم الاقبال الواسع عليه من قبل الطلاب والفضلاء والمجتمع الإسلامي كأحد مراجع التقليد إلا انه يخطُ أيّة خطوة يشمُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائماً يحث محبيه ومريديه على عدم الاهتمام بمثل هذه الامور. بل انّه أصرّ على نهجه هذا حتى في الوقت الذي التف حوله وعاة المجتمع باعتباره المنادي بالإسلام الحق وانه يمثل ضالتهم المنشودة لتحقيق آمالهم لما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغير من سيرته ومنهجه قيد انملة متمثلاً قوله الذي كان يكرره دائماً "إنّني اعتبر نفسي خادماً وحارساً للإسلام والشعب".

    انه الرجل العظيم ذاته الذي عاد في (1 شباط 1979م) إلى إيران ليجد الملايين من ابناء الشعب وقد اجتمعوا في اكبر مراسم استقبال في التاريخ احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله احد الصحفيين بلا مقدمة: ما هو شعوركم وانتم تعودون إلى بلادكم بعد خمسة عشر عاماً في ظل هذه الابهة؟ سمع منه جواباً غير متوقع، إذ اجابه سماحته: لا شيء!.

    لقد توهم ذلك الصحفي بأن الإمام الخميني كسائر القادة السياسيين الساعين إلى السلطة ينسون انفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحاً؛ غير ان الجواب الذي سمعه اوضح له بأن الإمام الخميني من سنخ آخر.

    كان الإمام الخميني يعتقد بحق ـ كما اكّد ذلك مرات ومرات ـ بأنّ المعيار في سلوكه وتحركاته هو نيل رضا الخالق تعالى والعمل بالتكليف واداء المسؤولية الشرعية. فهو يرى بأنّ الأمر سيّان بالنسبة له سواء كان في السجن والنفي، أو في ذروة القوة والاقتدار، مادام تحركه في سبيل الله. أساساً ان سماحته كان قد اعرض ـ وقبل عقود من ذلك التاريخ ـ عن الدنيا وما فيها وسلك طريق الوصول والفناء في الله. ولعلّ اجمل تفسير لرده على سؤال الصحفي يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:

    اذهب إلى الخربات واعتزل الخلق جميعاً وعلِّق قلبك بالمطلق واترك الباقي

    مارس الإمام التدريس ـ خلال سنوات طوال ـ في الحوزة العلمية بقم، فدرّس عدّة دورات في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق الإسلامية في كل من المدرسة الفيضية والمسجد الاعظم ومسجد محمدية ومدرسة الحاج ملا صادق ومسجد السلماسي وغيرها، كما مارس تدريس الفقه ومعارف اهل البيت (ع) ـ وعلىارفع المستويات ـ في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف، في مسجد الشيخ الانصاري (ره) لما يقارب الاربعة عشر عاماً. وفي النجف الاشرف طرح ـ ولاول مرة ـ اسس الحكومة الإسلامية عبر سلسلة دروس ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.

    وعلى ما نقله طلابه، فان حوزة الإمام الخميني كانت تعدّ من اسمى المراكز الدراسية، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات ـ خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقم ـ الالف طالب، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعاً ينهلون من مدرسته في الفقه والاصول. فكان من بركات ممارسته التدريس ان تمكّن سماحته من تربية المئات بل الآلاف ـ إذ اخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة ـ من العلماء والحكماء ممن اصبحوا بعد ذلك مشاعل واعلاماً في الحوزات الدينية، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين ممن يشار إليهم بالبنان اليوم في حوزة قم العلمية وفي سائر المراكز الدينية. وان مفكرين كبار امثال العلامة الاستاذ الشهيد مرتضى المطهري والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي، كانوا يفخرون دوماً بأنهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنوات.

    واليوم فإن الوجوه اللامعة من العلماء الذين يقودون مسيرة الثورة الإسلامية ويوجهون نظام الجمهورية الإسلامية هم من طلابه وخريجي مدرسته الفقهية والسياسية.

    هذا وستكون لنا وقفة عند خصائص ومميزات مدرسته الإمام الخميني في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب وبشكل مختصر إلى تعريف كتب الإمام ومؤلفاته.

    الإمام الخميني في خندق الجهاد والثورة

    لقد كان لروحية النضال والجهاد في سبيل الله جذور تمتدُّ إلى الرؤية الاعتقادية والتربية والمحيط العائلي والظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بحياة الإمام؛ إذ بدأ جهاده منذ صباه، واخذ هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصورة مختلفة جنباً إلى جنب تكامل الجوانب الروحية والعملية في شخصيته من جهة، وتطور الاوضاع السياسية والاجتماعية في إيران والمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى. وفي عامي 1961 ـ 1962 وفّرت احداث مجالس الاقاليم والمدن الفرصة ليلعب دوراً في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحو انطلقت انتفاضة الخامس عشر من خرداد ـ الخامس من حزيران 1963 ـ التي شارك فيها العلماء وابناء الشعب معتمدة على دعامتين اساسيتين، اولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: إسلامية دوافع الانتفاضة واهدافها وشعاراتها، لتمثل فصلاً جديداً في جهاد الشعب الايراني؛ ذلك الفصل الذي عرف في العالم اجمع باسم "الثورة الإسلامية".

    لقد ولد الإمام الخميني في وقت كانت ايران تمرّ فيه بأقسى ادوار تاريخها. فالحركة الدستورية تعرضت للضياع نتيجة دسائس ومعارضات عملاء الانجليز في البلاط القاجاري والصراعات الداخلية وخيانة بعض المتغربين وتعرّض العلماء ـ الذين كانوا يمثلون طليعتها ـ إلى الاقصاء من ساحة الاحداث بمختلف انواع المكائد ليعود النظام ملكياً مستبداً مرة أخرى. كذلك فإنّ الطبيعة العشائرية التي كانت تتسم بها العائلة القاجارية المالكة، وضعف الحكام وعدم صلاحيتهم أدّى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي شديدين في ايران واطلق ايدي الاقطاعيين والاشرار لسلب الامن والامان.

    وفي ظروف كهذه كان العلماء يمثلون الملاذ الوحيد للناس في مختلف المدن والمناطق. وكما اشرنا سابقاً فقد شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أسرة الإمام ألفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.

    يستعرض الإمام الخميني بعض ذكرياته عن الحرب العالمية الاولى ـ وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ـ فيقول:

    "إنّني اتذكر كلتا الحربين العالميتين.. كنت صغيراً إلا اني كنت اذهب إلى المدرسة وقد رأيت الجنود الروس في المركز الذي كان في (خمين) رأيتهم هناك واذكر كيف تعرضت بلادنا للاجتياح في الحرب العالمية الاولى".

    وفي موضع آخر يذكر سماحته اسماء بعض الاقطاعيين الظالمين الاشرار الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على اعراض الناس واموالهم مدعومين من قبل الحكومة المركزية:

    "كنت في حرب منذ طفولتي… فقد كنا نتعرض لهجمات اشرار من امثال زلقي ورجب علي، وكانت عندنا بندقية، أذكر أني كنت أقارب البلوغ آنذاك فكنت اذهب مع البقية لاتخاذ موقعنا في الخنادق المعدّة للدفاع ضد هجوم اولئك الذين كانوا يقصدون الاغارة علينا. نعم كنا نذهب هناك ونتفقد الخنادق".

    ويقول سماحته في موضع آخر:

    "لقد كنا مضطرين إلى اعداد الخنادق في خمين ـ المنطقة التي كنا نعيش فيها ـ وكانت عندي بندقية، غير اني كنت لا ازال حينها يافعاً لم اناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت اتدرب على البندقية واحملها وبما يتناسب مع سني. نعم كنا نذهب للتحصّن في الخنادق ونواجه هؤلاء الاشرار الذين كانوا يغيرون علينا. لقد كان الوضع متسماً بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزية القدرة على السيطرة على الاوضاع،… وفجأة سيطروا على خمين فهبّ الناس لمواجهتهم وحملوا السلاح وكنت من بين من حملوا السلاح".

    كان انقلاب رضا خان في 22 شباط 1912م، مخططاً ومدعوماً من قبل الانجليز، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخية الثابتة والمؤكدة. ومع انه قضى على الحكم القاجاري ووضع حداً للقبلية والخوانين والاشرار، إلا انه اقام حكماً مستبداً حكمت تحت مظلته بضع مئات العوائل مصير الشعب المظلوم. وتصدت العائلة البهلوية للعب دور الخوانين والاشرار السابق.

    سيطر رضا خان طوال عقدين من حكمه على نصف الاراضي الزراعية في ايران وثبّت ملكيتها له رسمياً وشكّل هيكلاً ادارياً لادارتها والمحافظة عليها يفوق في تشكيلاته هيكلية الوزرات الكبرى، وسعى في هذا السبيل ـ ما وسعه ـ لحل المشاكل القانونية المترتبة على نقل ملكية الاراضي ـ حتى الموقوفة منها ـ باسمه، فاصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوبات القانونية من المجالس البرلمانية الصورية التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك إلى درجة جعلت ما كتب عن حياته ـ من قبل مؤيديه أو معارضيه ـ يدور في اغلبه حول املاكه وما اقتناه من الحلي والمجوهرات والشركات والمراكز التجارية والصناعية.

    كانت سياسة رضاخان الداخلية ترتكز إلى اسس ثلاثة هي: الحكم العسكري والبوليسي العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالة للغرب، وراح يصرّ عليها إلى أواخر عهده.

    في مثل هذه الظروف هبّ علماء الدين الايرانيون ـ الذين تعرضوا للهجوم المتواصل من قبل الحكومات التي توالت على الحكم بعد الحركة الدستورية، فضلاً عما تعرضوا له من قبل عملاء الانجليز والمثقفين من عملاء الغرب الفكريين ـ للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ـ نزولاً عند رغبة علماء قم الاعلام ـ إلى مدينة قم تاركاً أراك، وبُعيد ذلك بفترة وجيزة هاجر إليها الإمام الخميني ـ الذي كان قد انهى وبسرعة دراسة المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في خمين واراك ـ وهناك ساهم عملياً بدور فعال في تحكيم وجود الحوزة الفتية، ولم يمض وقت طويل حتى عُدّ الإمام الخميني من الفضلاء الاعلام في هذه الحوزة واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والاصول.

    وكما اسلفنا إن حفظ كيان العلماء والمرجعية كان من الضرورات الملحة آنذاك، وذلك لافشال المخططات التي كان يُعدّها رضا خان ومن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم اهدافهم المتوخاة. وعلى هذا الاساس نرى الإمام ـ ورغم ما كان بينه وبين آية الله العظمى الحائري ومن بعده آية الله العظمى البروجردي من اختلاف في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفية مواجهة الحوزات العلمية ومراجع التقليد للظروف المستجدة، وحول دور العلماء بهذا الشأن ـ يقف على الدوم وحزم إلى جانبهما للدفاع عن المرجعية ودورها طوال فترة زعمتهما.

    كان الإمام الخميني مولعاً بمتابعة القضايا السياسية والاجتماعية. وكان رضا خان قد اقدم في تلك السنوات ـ وبعد ان فرغ من تثبيت دعائم حكمه ـ على تنفيذ مخطط واسع للقضاء على مظاهر الثقافة الإسلامية في المجتمع الايراني. ففضلاً عن ممارسة انواع الضغوط ضد العلماء، اصدر اوامره بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وروّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور على النساء الايرانيات المسلمات. وقبل أن يترجم رضاخان اهدافه عملياً على مستوى واسع، بادر علماء الدين الايرانيون الملتزمون للاعتراض على ممارساته بوحي من معرفتهم بالاهداف غير المعلنة التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء اصفهان الملتزمين بقيادة آية الله الحاج آقا نور الله اصفهاني عام (1927م) على الهجرة الجماعية إلى قم للاعتصام فيها، وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدن اخرى إلى قم ايضاً، وبالفعل فقد استمر هذا الاعتصام لمدة مائة وخمسة ايام (من 12 أيلول إلى 25 كانون الاول عام 1927م) انتهى بعدها بتراجع رضاخان ـ ولو في الظاهر ـ وتعهد رئيس الوزراء آنذاك (مخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة في كانون الاول عام 1957 على يد عملاء رضاخان انتهى الاعتصام عملياً.

    اتاحت هذه الحركة الفرصة لطالب العلوم الدينية الشباب روح الله الخميني الذي كان يتحلى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدي، لان يطلع عن كثب ـ ومن خلال حضوره المباشر في صلب تلك الحركة ـ على اساليب المواجهة، وما يتعرض له العلماء من ظلم، علاوة على التعرف على ملامح شخصية رضاخان اكثر فأكثر.

    من جهة اخرى كانت قد حصلت قبل اشهر من هذه الحادثة، في آذار عام 1927، مشادة كلامية بين آية الله البافقي ورضاخان، حوصرت على اثرها مدينة قم من قبل قوات الشرطة وتعرّض العالم المجاهد البافقي إلى الضرب والنفي إلى مدينة الريّ بأمر من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة وما كان يحصل في المجالس التشريعية في تلك الايام ـ خصوصاً الحركة الجهادية الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيد حسن المدرس ـ تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثابة.

    وحينما اصدر رضاخان امره بفرض الامتحانات على طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بقم هادفاً القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخميني لفضح الاهداف الخفية لهذا الامر وتصدي لمعارضته وحذر بعض العلماء المشهورين ـ الذين عدوا ذلك الامر ونتيجة لسذاجتهم امراً اصلاحياً ـ من مغبّة القبول به.

    وللأسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء نتيجة الاعلام المكثف الذي كانت تمارسه اجهزة النظام الدعائية، وبفعل الظروف والاختلافات التي نجمت على الحركة الدستورية. وقد وصل الامر إلى درجة ان بعض المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة القشريين راح يعارض بشدة تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفة التي تؤدي بالنتيجة إلى إثارة الوجدان والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.

    وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدّاً عرّض الإمام الخميني إلى تحمل ما لا يطاق من اجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والاخلاق، الامر الذي اضطره إلى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من امثال العلامة الشهيد المطهري.

    ونتيجة لمقاومة العلماء وابناء الشعب الايراني، فشل رضاخان إلى حد كبير، رغم كل ما اوتي من قوة، في تحقيق تطلعاته بالقضاء على الإسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينية، وفي الكثير من الاحيان اضطر إلى التراجع والانسحاب.

    بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (30/ 1/ 1937م) واجهت الحوزة العلمية في قم خطر التشتت والانحلال. فبادر العلماء الملتزمون وعلى مدى ثمانية اعوام لادارة شؤونها وفي مقدمتهم أصحاب السماحة: السيد محمد الحجة، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري رضوان الله عليهم. وفي هذه الفترة وخصوصاً بعد سقوط رضاخان تهيأت الظروف للمرجعية العليا، فاقترح ان يرفع آية الله البروجردي الذي كان من ابرز الشخصيات العلمية، لتسنم مقام المرجعية والحفاظ على كيانها خلفاً لآية الله الحائري. وبسرعة تمّ متابعة هذا الاقتراح من قبل تلامذة آية الله الحائري ومن ضمنهم الإمام الخميني، فسعى سماحته شخصياً في إقناع آية الله البروجردي للهجرة إلى قم وقبول المسؤولية الخطيرة المتمثلة في تزعم الحوزة العلمية.

    لقد ادرك الإمام الخميني ـ ومن خلال اطلاعه على حساسية الظروف السياسية التي يمرّ بها المجتمع، والوضع الذي تعيشه الحوزات العلمية، وطبيعة حركة التاريخ التي كان يستلهمها من مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية الصادرة وقتئذ، وما كان يقوم به من زيارات متوالية إلى طهران والمشاركة في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس ـ أدرك بأن الامل الوحيد بالتحرر والنجاة من النكسة التي اعقبت فشل الحركة الدستورية، وبالخصوص بعد تولي رضاخان للسلطة، يكمن في تسلح الحوزات العلمية بالوعي، وقبل ذلك ضمان استمرار وديمومة وجود الحوزات العلمية وتمتين عرى الارتباط بين الجماهير والمؤسسة العلمائية.

    لدى هجرة آية الله السيد البروجردي إلى مدينة قم، عكف الإمام الخميني، باعتباره احد المجتهدين والمدرسين المعروفين في الحوزة العلمية بقم، على تحكيم اسس زعامة ومرجعية آية الله البروجردي، وقد بذل في هذا السبيل مساعٍ حثيثة. واستناداً لما ينقله طلابه واظب الإمام حينها على حضور درس المرحوم آية الله البروجردي في الفقه والاصول.

    ورغبة منه في متابعة مسيرته في تحقيق اهدافه السامية، اعدّ الإمام الخميني برفقة آية الله مرتضى الحائري في عام (1949م) مقترحاً لإصلاح البنية العامة للحوزة العلمية، وقام بتقديمه إلى آية الله البروجردي (ره) وقد حظي هذا المقترح باستقبال ودعم تلامذة الإمام وطلبة العلوم الدينية الواعين.

    ولو كان طبّق هذا المقترح عملياً في تلك الظروف، لأصبحت الحوزة العلمية مؤسسة ذات تشكيلات علميّة واسعة تسهل عليها اداء دورها المطلوب، غير أنّ الخناسين المتظاهرين بالقداسة الذين رأوا ان هذا المقترح سيؤدي إلى تعكير صفو اوضاعهم المترفة الهادئة، اصيبوا بالاضطراب فانطلقوا يعارضون ويحبطون حتى بلغ الأمر ان غيّر آية الله البروجردي نظرته الاولى ورغبته القلبية في ذلك، فاشاح اخيراً عن قبول هذا المقترح. ونتيجة لذلك تأثر آية الله مرتضى الحائري فسافر للاقامة في مشهد مدة من الزمن، غير انّ الإمام الخميني أصرّ على البقاء رغم قسوة الظروف ورغم تألمه مما حدث وما تلاه من حوادث مشابهة، آملاً في حركة الوعي المرتقبة الوقوع في الحوزة العلمية.
    www.alwelayah.net
    التعديل الأخير تم بواسطة الحساس; الساعة 11-12-2004, 11:13 AM.

  • #2
    قبل ثمانية أعوام من ذلك التاريخ وفي (1941م) كانت ايران قد تعرضت للاحتلال من قبل جيوش الحلفاء، وقد استسلم المستبد ـ الذي أمضى عشرين عاماً في تجهيز قواته المسلحة منفقاً المبالغ الطائلة عسى ان يتمكن بواسطتها من حبس الانفاس في صدور ابناء شعبه ـ أمام هجمات الغزاة، ووفقاً لما اقرّ به ابنه محمد رضا فإن جنوده قد بادروا للفرار من مختلف جبهات المواجهة أمام اولى الاطلاقات التي اطلقتها قوات الحلفاء وقبل ان يتقابلوا معهم. وإثر ذلك ارغم رضاخان على التنازل عن العرش رغم كل ادعاءاته، وغادر البلاد مجبراً.

    كان رد الفعل الشعبي متناقضاً، فمن جانب كانت الجماهير تعيش الحزن والانكسار نتيجة اجتياح قوات الحلفاء لاراضي بلادهم، وفي الوقت نفسه كانت مشاعر السرور والفرح البالغ تعمّ الجميع نتيجة سقوط المستبد ـ الذي كانت امواله المنقولة التي جمعها من كدح الفقراء ومن سنين النهب للثروات الوطنية ـ تجاوز الستمائة وثمانين مليون من الريالات الايرانية (في ذلك الوقت).

    صدر الامر بتعيين الملك الجديد من السفارة الانجليزية وبموافقة عضو آخر من قوات الحلفاء وهو روسيا، وكان الاختيار قد وقع على محمد رضا البهلوي، وبذلك بدأ فصل جديد من العذاب والعناء استمر لسبعة وثلاثين عاماً تميزت ببيع استقلال البلاد وعزتها.

    امتاز العامان الأوّلان من حكومة محمد رضا بالتزلزل وعدم الاستقرار، الأمر الذي اتاح الفرصة للجميع بأن يلتقطوا انفاسهم، فبادرت الاحزاب والشخصيات السياسية إلى توضيح اهدافها ومراميها، فتوجه البعض نحو القومية التي كانت تتناغم مع اهداف الملك الشاب، في حين توجه جمع آخر من السياسيين نحو النفوذ في هيكل الدولة والتشكيلات التشريعية. وشهدت الساحة آنذاك غياب بعض العلماء المجاهدين من امثال آية الله المدرس، الذين كان وجودهم وقتئذ سيمثل دعامة اساسية لخيمة الثورة الشعبية، إذ تعرضوا للتصفية الجسدية على ايدي ازلام رضاخان، كذلك فإنّ الشيوعيين والاحزاب السياسية المرتبطة بالخارج كانت تعلن عن مواقفها بناءً على الاوامر الصادرة من موسكو وغيرها.

    اما الحوزة العلمية في تلك الايام فقد كانت عاجزة عن تحمل مسؤولياتها الاجتماعية ودخول ميدان الاحداث ـ كما اشرنا سابقاً ـ وذلك نتيجة للحملات المسعورة التي شنها رضاخان ضدها ونتيجة لنفوذ الانتهازيين والنفعيين فيها ممن ساهموا في انزوائها وعزلها عن المجتمع.

    ومن الطبيعي ان لا تكون تلك حالة عامة شاملة، فقد كان جمع من الاخيار المجاهدين من امثال نواب الصفوي وانصاره ـ ممن كانوا يعتقدون بمبدأ تشكيل الحكومة الإسلامية ـ يعدّون العدّة في تلك الظروف المضطربة استعداداً لخوض مرحلة الجهاد المسلح البطولي. وقد وصف الإمام الخميني غربة المجاهدين في سنوات الكبت والاختناق تلك التي مرت عليهم في عهد رضاخان بأبيات من الشعر قال فيها:

    أين نتوجه للشكوى من جور رضاخان وقد حبست الانفاس في الصدور

    كيف نصرخ ولم يبق من الانفاس ما يمكننا من الصراخ!

    انتهز الإمام الخميني الفرصة المتاحة فقام بتأليف ونشر كتابه "كشف الاسرار" (عام 1943م) الذي تعرّض فيه لذكر المآسي التي تميزت بها فترة العشرين عاماً من الحكم البهلوي ودافع فيه عن الإسلام والمؤسسة العلمائية، وازال الشبهات التي اثارها المنحرفون، ونوّه في كتابه هذا إلى فكرة الحكومة الإسلامية وضرورة النهوض لاقامتها.

    ثم اصدر سماحته وبعد عام من ذلك التاريخ (نيسان 1944م) ما يمكن اعتباره اول منشور سياسي له، طالب فيه ـ وبصراحة ـ علماء الإسلام والأمّة الإسلامية بالنهوض والانتفاضة العامة. ويمكن القول بأن لهجة البيان ومضمونه وطبيعة المخاطبين الذين خاطبهم تشير كلها إلى أنّ الإمام لم يكن يتوقع قياماً وشيكاً من الحوزة في مثل تلك الظروف المؤسفة التي كانت تمر بها. وان الدافع وراء اصدار هذا المنشور كان دق اجراس الخطر وتنبيه طلبة العلوم الدينية الشباب لحقيقة ما يدور حولهم. وكما كان متوقعاً لم يتلق الإمام جواباً مناسباً على دعوته للنهوض والانتفاضة، غير أنّ بصيص الامل الذي دبّ في وجدان الطلبة، دفعهم للالتفات حول الإمام، إذ وجدوا في محاضر دروسه الأنس والحقيقة.

    هذا وكانت ملامح شخصية الإمام ومواقفه السياسية قد اتضحت اكثر فأكثر بعد تحركه الاخير. وبهذا النحو كانت قد تشكلت بالتدريب نواة من تلامذة الإمام ممن يتفقون معه في الفكر والرؤية، وكان لاغلبهم ادوار هامة في احداث انتفاضة الخامس من حزيران 1963، وفي سنوات الاختناق التي تلتها.

    وباختصار فإنّهم واصلوا مسيرتهم مع الإمام حتى ما بعد الثورة، فمن تمكن منهم من العبور بسلام من مضيق ما قبل الثورة وخرج سالماً من المعتقلات وأنواع التعذيب ـ الذي كان المجاهدون يعرضون له ـ وادّى دوره في المواقع الحساسة من هيكل النظام الإسلامي في أشدّ الظروف حساسية وحرجة.

    وطبقاً للوثائق التاريخية والمذكرات المتوافرة، بذل سماحة الإمام جهده الجهيد في المجال الحوزوي خلال فترة مرجعية وزعامة آية الله البروجردي (ره) ـ فضلاً عن ممارسته دوره المعهود في التدريس والبحث وسائر المجالات المختلفة ـ للدفاع عن موقع المرجعية والحوزات العلمية من جانب، ونشر الوعي السياسي والاجتماعي وتحليلاته للمسائل السياسية الجارية والمبادرة لاطلاق التحذيرات في الأوقات المناسبة حول اغراض النظام الملكي والحيلولة دون نفوذ العناصر المنحرفة والمترفة إلى اوساط الحوزات العلمية من جانب آخر.

    وفي غضون ذلك، كان الإمام يواصل الاتصالات بالشخصيات السياسية الواعية في طهران من امثال آية الله الكاشاني ويتابع الاحداث بدقة بشتى السبل بما في ذلك متابعة جلسات مجلس الشورى الوطني والنشرات المهمة التي كانت تصدر وقتئذ.

    عندما دبّ الهمس (عام 1949م) حول تشكيل المجلس التأسيسي لتغيير الدستور واطلاق العنان للشاه، اشيع بأنّ آية الله العظمى البروجردي كان راضياً بتلك التغييرات المرتقبة وان مشاورات قد جرت بالفعل بينه وبين بعض المسؤولين بهذا الشأن، تأثر الإمام الخميني لهذه الشائعة فبادر للتحذير بصراحة ووضوح من مغبة هذا الامر، ثم بعث رسالة مفتوحة، اعدها بالتعاون مع بعض المراجع والعلماء الاعلام حينها إلى آية الله البروجردي يستطلع حقيقة الأمر. الأمر الذي دفع آية الله البروجردي إلى اصدار بيان كذّب فيه وجود أي اتفاق. وفي الوقت نفسه اصدر آية الله الكاشاني بياناً من منفاه في لبنان طالب فيه بضرورة الوقوف في وجه القرارات والخطوات التي يزمع الملك القيام بها.

    وحينما جرت انتخابات الدورة السادسة عشرة لمجلس الشورى الوطني، وتمّ انتخاب آية الله الكاشاني من قبل اهالي طهران، وقد ادى الائتلاف والتنسيق بين جناح آية الله الكاشاني والجبهة الوطنية إلى ترجيح كفة الميزان لصالح انصار نهضة تأميم النفط ولغير صالح الملك، كذلك قام فدائيو الإسلام الذين كانوا يتمتعون بدعم آية الله الكاشاني بعدة عمليات خاطفة لم يبق لها مثيل تمّ من خلالها انزال ضربات موجعة في هيكل الحكومات العميلة للملك. واعتماداً على هذا التأييد الذي توفر له استطاع الدكتور مصدق ان يتسنم قيادة البلاد، ثم انطلقت انتفاضة الثلاثين من تير 1331 (12 تموز 1952م) في طهران، فتلفعت ايران بوشاح الفرح والسرور نتيجة تحقق مطالبها القديم بتأميم النفط، غير انه لم يمض وقت طويل حتى ظهرت ملامح عدم الانسجام في جبهة الائتلاف، وتفاقمت الاختلافات بين (فدائيي الإسلام) وآية الله الكاشاني، وقادة الجبهة الوطنية إلى حد المواجهة احياناً، إذ اصرّ المرحوم الكاشاني على رفض اقتراح دفع الغرامة للانجليز في مقابل تأميم النفط، وكان يعتقد بأنّ على الإنجليز أنفسهم ان يدفعوا الغرامة لايران عن نهبهم النفط الايراني لمدة خمسين عاماً، ولهذا السبب حذر سماحته الدكتور مصدق بشدة من مغبة التنازل أو المساومة في هذا الشأن.

    من جانب آخر كان آية الله الكاشاني يعارض بشدة استبدال الانجليز بالأميركان والشركات الأميركية في مجال تعدين النفط وسائر المجالات الاقتصادية في البلاد. في حين ان الغالبية من المسؤولين في حكومة مصدق كانوا يميلون بصراحة نحو هذا الاتجاه.

    كذلك كانت مشاركة بعض العناصر غير الإسلامية في نهضة تأميم النفط والاعتماد على (حزب تودة) الشيوعي، من جملة الأمور موضع الخلاف، إذ ادى نفوذ تلك العناصر المتزايد جنباً إلى جنب تنامي صلاحيات رئيس الوزراء، إلى تنامي وتيرة الاعلام المبرمج المعادي للإسلام، وبلوغ خيانات حزب تودة ذروتها وانزواء التيار المتديّن في النهضة مما اتاح الفرصة لامريكا للقيام بانقلابها الناجح في (19 آب 1953م) واعادة الملك ليمسك بزمام السلطة المطلقة، والتخلص من معارضيه.

    ويتضح من خطابات الإمام وكلماته التي ألقاها حول أحداث الانتفاضة الوطنية بأنّ سماحته كان مدركاً هشاشة هذا الائتلاف مسبقاً.

    حققت النهضة الوطنية انتصارات باهرة على طريق تحقق اهدافها المعادية للاستعمار، إلاّ أنّ عملية تأميم صناعة النفط كانت تنطوي على ثغرات مقطعية وزمانية حالت دون تحقيقها ـ منفردة ـ ديمومة النهضة على المدى البعيد. ان عدم إيمان التيار الوطني في النهضة بالشعارات والاهداف المطروحة من قبل التيار الديني الذي كان يحظى بتأييد الجماهير، وغياب القيادة الموحدة، ونفوذ العناصر المنحرفة وغياب الاهداف السياسية والثقافية المشتركة التي باستطاعتها استقطاب الجماهير الايرانية المسلمة على المدى البعيد، ناهيك عن التحركات الأميركية والضغوط الخارجية. كل هذا كان من جملة العوامل التي حالت دون امكانية استمرار النهضة.

    لقد مثّلت نهضة تأميم النفط صورة مصغّرة للظروف السياسية والاجتماعية التي احاطت بالحركة الدستورية واتسمت بنفس نقاط قوتها وضعفها، لذلك واجهت المصير نفسه. حتى التيارات الدينية لم تكن تتصف بوحدة النظر والدعم الشعبي. إذ ان نشاط حركة فدائيي الإسلام وكذلك مساعي آية الله الكاشاني ليس فقط لم تكن تحظى بتأييد آية الله العظمى البروجردي المرجع والزعيم القوي آنذاك، بل كانت تعصف بها خلافات حادة أيضاً.

    وفي ظروف كهذه لم تتمكن ايضاً المواقف الصريحة الداعمة التي وقفتها شخصيات معروفة من امثال آية الله العظمى الخونساري في قم والمواقف الضمنية المؤيدة من امثال الإمام الخميني من التأثير في مجرى الاحداث.

    على أيّة حال قبل ان يتذوق الشعب الايراني حلاوة نهضة التأميم فوجئ بطعم المرارة الناجمة عن الاختلافات والحوادث المريرة اللاحقة التي ختمت بانقلاب (التاسع عشر من آب). ورغم أنّ فدائيي الإسلام لم يلقوا السلاح الا أنّهم وبعد عامين ـ أي في (16 تشرين الثاني 1955م)، نتيجه لفشل عملية اغتيال حسين علاء، رئيس الوزراء آنذاك الذي كان يهمّ بالسفر إلى بغداد للتوقيع على حلف بغداد (السنتو) ـ تعرضوا للاعتقال وحكم على قادتهم بالاعدام في محكمة عسكرية سرية وذلك في شهر كانون الاول من عام 1955م، ولم تثمر مساعي الإمام الخميني وسائر العلماء للحيلولة دون تنفيذ حكم الاعدام بهم.

    هذه الاحداث المريرة تركت اثرها على روح الإمام الخميني المرهفة، إلا انها مثلت تجربة قيمة للمراحل اللاحقة من حركته الجهادية.

    اما الملك وبلاطه فقد اصبحوا بعد الانقلاب ـ وفي ظروف تختلف عن المرحلة السابقة ـ تحت الهيمنة الأميركية، إذ أخلى الانجليز مواقعهم للأميركان. وبسرعة تم تأسيس دائرة الأمن (السافاك) عام (1957م) وضرب المعارضين بقسوة، وتشديد الحكم القمعي لاعداد الظروف الاجتماعية اللازمة لتنفيذ الاصلاحات الأميركية. وخلال الستينات والسبعينيات راحت الشركات الأميركية تتسابق في التوجه إلى الخليج الفارسي لاحتلال المواقع التي كان يتمتع بها الاستعمار الانجليزي. كذلك فإن اجواء الحرب البادرة والمنافسة الشديدة بين أميركا والاتحاد السوفيتي كانت قد زادت من حساسية منطقة الخليج الفارسي الستراتيجية، وكانت انظار البيت الابيض تتطلع إلى الثروات النفطية الإيرانية والاقليمية، لذا أقدم ساسة البيت الابيض على تفويض شاه ايران لعب دور شرطي المنطقة والحفاظ على مصالح الغرب فيها، وقد تمّ ترجيحه للعب هذا الدور على جميع الانظمة الاخرى في المنطقة من جميع الجهات. وكانت أميركا تسعى إلى تحقيق هدف آخر من التحالف مع الشاه، وتوفير الدعم له. فالمواجهة بين الدول الإسلامية والكيان الاسرائيلي الغاصب كانت امراً لابد منه، لذا فإن الطبيعة الخيانية للعائلة البهلوية وشخصية الشاه محمد رضا، اعتبرت في تصورهم عوامل تساعد في امكانية الاستفادة من النظام الملكي لايجاد شرخ في صفوف العالم الإسلامي. وكان للنفط الملكي لايجاد شرخ في صفوف العالم الإسلامي. وكان للنفط في هذا المخطط دور اساسي ايضاً، إذ أن ازمة الطاقة كانت الأمر الشاغل للغرب في حالة وقوع مواجهة عسكرية بين الدول النفطية الإسلامية واسرائيل، لذا فإن توسيع عمليات التنقيب عن النفط في ايران، وزيادة استثماره وتقوية النظام الملكي كانت تعدّ الضمانة الوحيدة للتقليل من الازمة المتوقعة في مثل هذه الظروف.

    غير ان الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية في ايران المعتمدة على الزراعة بشكل أساسي، كانت تعتبر عائقاً أساسياً أمام اجراء الاصلاحات الأميركية في إيران. فإيران كانت تفتقر في تلك الظروف إلى الاستعداد الكافي للتوسع في انتاج النفط وزيادة مدخولاتها النقدية من بيعه مستقبلاً ـ وهي الايرادات التي كان ينبغي ان تنفق في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الأميركية الأخرى ـ لذا فقد انهالت اللوائح والمشاريع والاقتراحات على مجلسي (الشيوخ والشورى) لتغيير الظروف وتهيئة الأرضية في إيران. واستناداً لما ورد في الاعترافات الصريحة التي أدلى بها مسؤولو النظام السابق وكذلك ما اظهرته الوثائق والمستندات التي تمت مصادرتها من وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية السابقة) في إيران، فإنّ إعداد مضامين أغلب تلك اللوائح كان يتم إما في أميركا أو في سفارتها في إيران.

    فكان مشروع الاصلاح الزراعي خطوة اختبارية اريد بها اعداد الارضية للمصادقة على اصول ثورة الملك البيضاء. اجل تمَّ اختيار المشروع كأول خطوة مدروسة، إذ رافقت طرح مشروع الاصلاح الزراعي حملة دعائية مكثّفة وشعارات طنانة كالوقوف بوجه الباشوات والاقطاعيين، وتقسيم الاراضي بين الفلاحين والمحرومين، وزيادة الانتاج.. إلى ما شابه ذلك. ومن هنا كانت المعارضة للاهداف الخفية لمشروع الاصلاح الزراعي، تعدُّ بمثابة دعم الاقطاعيين وملاكي الاراضي الكبار وكانت تقمع بشدة.

    تزامنت التحركات الاميركية والشاهنشاهية الجديدة عام (1961م) مع وقوع حادثتين مؤلمتين. ففي الثلاثين من آذار 1961م، التحق آية الله العظمى السيد البروجردي بالرفيق الاعلى، الذي اعادت خدماته الجليلة وشخصيته العلمية، للمرجعية موقعها المتميز باعتبارها اهم ملاذ ديني للجماهير في ميدان الحياة الاجتماعية في ايران. فوجود سماحته بحدّ ذاته كان يمثل عائقاً اساسياً إمام تحقيق النظام الملكي لمخططاته. ومن هنا اعتبرت وفاته خسارة لا تعوض. وبعد عام تقريباً ودع الحياة ايضاً العالم المجاهد آية الله الكاشاني، الذي كان اسمه ذات يوم يبعث الرعب في كيان الشاه.

    إمام الإمام الخميني ـ وكما هو ديدنه ـ فإنه لم يخط خطوة واحدة في سبيل المرجعية بعد وفاة آية الله البروجردي، رغم التفاف مجتمع الحوزة والجماهير حوله، بل رفض بشدة الاقتراحات والخطوات التي قام بها بعض اصحابه ومريديه في هذا الاتجاه. وكان ذلك في وقت كان الإمام الخميني قد اتمّ تعليقته على كتاب العروة الوثقى منذ خمسة اعوام قبل وفاة آية الله البروجردي، وفي تلك السنوات بالتحديد كان سماحته قد كتب حاشية على كتاب وسيلة النجاة لتكون رسالته العملية.

    ان النظرة الزاهدة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها تجاه الدنيا، وإعراضه عن المقامات والمناصب الاعتبارية الدنيوية، يمكن استشرافها من بحوثه الأخلاقية والعرفانية المعمقة التي وسمت آثاره المكتوبة، كشرح الاربعين حديث وسرّ الصلاة وآداب الصلاة التي كان قد كتبها قبل سنوات من ذلك التاريخ.

    بعد ارتحال آية الله البروجردي وتجزؤ المرجعية الكبرى، أظهر النظام الملكي نشاطاً اكبر واندفاعاً في تحقيق الاصلاحات التي كانت أميركا ترغب فيها، كما انه سعى في الوقت ذاته إلى إخراج المرجعية من ايران. غير ان النظام كان مخطئاً في حساباته.

    ففي (8 تشرين الاول 1962م) صادقت وزارة اسد الله علم على تعديل لائحة مجالس الاقاليم والمدن، وتغيير بعض مضامينها كاشتراط إسلامية المرشحين، والقسم بالقرآن الكريم، واشتراط الذكورة في المرشحين والناخبين. لقد كانت المصادقة على اشتراك النساء في الانتخابات تخفي وراءها اهدافاً اخرى. كما أن حذف وتغيير شرطي الذكورة والإسلام كان يراد منه ـ على وجه الدقة ـ ادخال العناصر البهائية في المراكز الحساسة من هيكل النظام الحاكم.

    وكما اشرنا سابقاً، ان دعم الملك للكيان الصهيوني وتوسيع العلاقات الايرانية الاسرائيلية كانت شروطاً أميركية في مقابل توفير الدعم للملك، ولتحقيق هذه الشروط كان لابد من زيادة نفوذ اتباع المسلك الاستعماري البهائي في السلطات الايرانية الثلاث.

    وبمحض انتشار خبر المصادقة على اللائحة المذكورة، بادر الإمام الخميني ومجموعة من العلماء الاعلام في قم وطهران ـ وبعد التشاور ـ إلى اعلان معارضتهم العامة والشاملة لها.

    كان للإمام الخميني دور فاعل في توضيح الاهداف الحقيقية للنظام الملكي والتنبيه إلى خطورة الرسالة الملقاة على عاتق العلماء والحوزات العلمية في تلك الظروف.

    أثارت البرقيات والرسائل المفتوحة المتعرضة التي بعث بها العلماء إلى الملك وإلى رئيس الوزراء ـ اسد الله علم ـ موجة عارمة من الدعم والتأييد لدى طبقات الشعب المختلفة. كما أنّ برقيات الإمام الخميني التي بعث بها إلى الملك ورئيس الوزراء تميزت باللهجة الحادة والحازمة المحذرة. يقول سماحته في إحدى تلك البرقيات: "إنّني انصحكم مجدداً بأن تطيعوا الله تعالى وتنصاعوا للدستور، وان تحذروا العواقب الوخيمة لمخالفتكم للقرآن واحكام العلماء الاعلام وزعماء المسلمين وانتهاك الدستور، فلا تعرّضوا البلاد عمداً وبلا مبرر للخطر، وإلا فإن علماء الإسلام سيقولون رأيهم فيكم".

    بادر النظام الملكي بادئ الأمر إلى التهديد وتكثيف الاعلام المعادي ضد المؤسسة العلمائية. وصرح اسد الله علم في مقابلة اذاعية اجريت معه بالقول "إنّ الحكومة لن تتراجع عن تنفيذ مشروعها الإصلاحي الذي بدأته".

    ولكن مع ذلك فإن الحركة الشعبية تزايدت باطراد، فعطلت الاسواق في طهران وقم وبعض المدن الاخرى، وتجمع الناس في المساجد للتعبير عن دعمهم وتأييدهم لحركة العلماء.

    لم يمض اكثر من شهر ونصف على بداية الحادثة، حتى تراجعت الحكومة عن تنفيذ مشروعها، وابرق الملك ورئيس وزرائه برسالتيهما الجوابية إلى العلماء هادفين التودد إليهم وكسب رضاهم، غير أن النظام الملكي امتنع عن مخاطبة الإمام الخميني لما عرفه عنه من قوة الشخصية وثباتها.

    رأى بعض العلماء في الحوزة العلمية بأن موقف الدولة هذا مقنع، وطالبوا بوقف الانتفاضة؛ غير أنّ الإمام الخميني عارض ذلك بشدة، فسماحته كان يعتقد بأنّ على الحكومة أن تبادر لالغاء لائحة مجالس الاقاليم والمدن بشكل رسمي وعلني. ففي رسالته الجوابية على سؤال بعض الكسبة والتجار من اهالي قم حول لائحة مجالس الاقاليم والمدن كان سماحته قد كشف النقاب عن الاهداف التي رامها النظام من وراء هذه اللائحة واشار إلى ان المقصود ادخال عناصر البهائيين والجواسيس الاسرائيليين في تركيبة النظام الايراني، إذ جاء في جانب من رسالته: "إنّ الشعب المسلم لن يسكت ما لم تتدارك هذه الاخطار، ولو رضي احد بالسكوت فسيكون مسؤولاً أمام الله القادر، وسيحكم عليه بالزوال في هذا العالم" كما حذر سماحته في ذات الرسالة نواب مجلسي الشيوخ والشورى من مغبّة التصويت لصالح هذه اللائحة قائلاً: "إنّ الشعب المسلم وعلماء الإسلام أحياء واعوان، وانهم سيقطعون أيّ يدٍ خائنةٍ تمتد للمساس باصول الإسلام واعراض المسلمين".

    واخيراً اذعن النظام الملكي للهزيمة، ففي 28 تشرين الثاني 1962م، ألغت الحكومة اللائحة السابقة، وأبرقت للعلماء والمراجع في طهران وقم تعلمهم بالأمر. غير أنّ الإمام الخميني أصرّ مجدداً على مواقفه السابقة وأعلن في اجتماع ضم العلماء الاعلام في قم بأن إلغاء اللائحة بشكل سرّي أمر غير كافٍ وأكد بأنّ الحركة ستتواصل ما لم يعلن أمر الإلغاء في أجهزة الاعلام.

    وفي اليوم التالي، أعلن خبر إلغاء لائحة مجلس الاقاليم والمدن في صحف النظام، واحتفلت الجماهير بأول نصر كبير تحقق لها بعد نهضة تأميم صناعة النفط.

    وفي حديث له ـ حيث يعيش الشعب افراحه هذه ـ قال الإمام الخميني: "الهزيمة الظاهرية ليست مهمة، المهم هو الهزيمة الروحية. وإن المرتبط بالله لا يهزم، بل الهزيمة لاولئك الذين تمثل الدنيا غاية آمالهم… فالله لا يهزم. ولا تهنوا ولا تحزنوا… خلال الشهرين الماضيين اضطرتني الاحداث إلى الاكتفاء بساعتين من النوم يومياً… ومرة أخرى إذ رأينا أنّ شيطاناً من الخارج استهدف بلادنا، فنحن كما نحن والدولة كما هي… النصيحة من الواجبات… فعلى العلماء ان ينصحوا الجميع، بدءً من الملك وحتى آخر فرد في البلاد…".

    وهكذا كانت حادثة لائحة مجالس الاقاليم والمدن تجربة ناجحة وهامة للشعب الايراني، خاصة وقد تعرف من خلالها على شخصية تؤهلها سجاياها لقيادة الامة الإسلامية.

    ورغم هزيمة الملك في حادثة مجالس الاقاليم والمدن، إلاّ ان أميركا واصل الضغط عليه لتنفيذ الاصلاحات التي كانت تخطط لها. وفي مطلع عام 1963م أعلن الملك عن مبادئه الاصلاحية الستة وطالب اجراء استفتاء عام بشأنها. فاعلنت الاحزاب القومية عن موافقتها من خلال رفعها لشعار "نعم للاصلاحات، لا للاستبداد" كما أنّ الشيوعيين أيضاً ـ وانطلاقاً من رؤيتهم بأن الاصلاحات الملكية ستسرع من مسير ديالتيكية النظام الاقطاعي نحو النظام الصناعي والرأسمالي ـ أعلنوا عن موقفهم المنسجم مع الموقف الذي اعلنته اذاعة موسكو، واعتبروا اسس الثورة البيضاء اسساً تقدمية وهم انفسهم الذين نعتوا نهضة الخامس من حزيران بأنها حركة رجعية استهدفت الدفاع عن الاقطاعيين.

    ومرة اخرى دعا الإمام الخميني المراجع والعلماء الاعلام في قم لدراسة الموقف والنهوض ثانية. لكنّ اولئك الذين كانوا يرون المرجعية الدينية منحصرة في مباشرة الامور الدينية للناس لا تحمّل المسؤولية في مواجهة المصائب والنوازل التي تحلّ بالامة الإسلامية، لم يرق لهم امر النهوض. ورغم أنّ اهداف النظام الملكي غير المعلنة من وراء ذلك الاستفتاء وتلك الاصلاحات كانت واضحة لشخص الإمام، وان المواجهة أمر لابدّ منه، إلا أنّ اجتماع العلماء قرر بالاجماع فتح باب الحوار مع الشاه واستكشاف نوياه.

    كانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين (الشاه والعلماء) ترسل بواسطة مبعوثي الطرفين للتفاوض، وفي عدة مراحل مكوكية. وفي لقاء لآية الله كمال وند، هدد الملك بأنّ الاصلاحات سيتم تنفيذها باي ثمن ولو كان بسفك الدماء وتخريب المساجد!

    في الاجتماع اللاحق للعلماء الاعلام بقم، طالب الإمام بتحريم المشاركة في الاستفتاء العام الذي طرحه الملك، لكنّ الجناح المحافظ الذي كان حاضراً في الاجتماع، عدّ المواجهة في تلك الظروف بمثابة "نطح الصخرة" واعتبرها امراً عديم الجدوى. واخيراً ونتيجة لاصرار الإمام الخميني وثباته على موقفه، تقرر ان يقوم المراجع والعلماء بمعارضة الاستفتاء علناً وتحريم المشاركة فيه. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1962م اصدر الإمام بياناً شديد اللهجة، ادى انتشاره إلى تعطيل البازار المركزي بطهران، وخروج الجماهير في تظاهرات معارضة ردّ عليها رجال الشرطة. ومع اقتراب موعد الاستفتاء المفروض، اتخذت المعارضة الشعبية ابعاداً جديدة. مما اضطر الشاه ـ ولاجل التخفيف من حدّة المعارضة ـ إلى السفر إلى قم.

    كان الإمام الخميني يعارض بشدة فكرة خروج العلماء لاستقبال الشاه، بل وحرّم الخروج من المنازل والمدارس يوم وصوله إلى قم. وكان تأثير هذا التحريم كبيراً إلى درجة جعلت المتولي لحرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (ع)، الذي يعتبر اهم منصب حكومي في المدينة، يمتنع عن الخروج لاستقبال الشاه، الامر الذي ادى إلى عزله عن منصبه.

    ولدى وصوله عبّر الشاه عن سخطه على علماء الدين والجماهير بأشد العبارات سقوطاً وفظاظة، عبر خطابه الذي ألقاه في جمع من الموظفين الحكوميين وعملاء النظام الذين اصطحبهم معه من طهران.

    وبعد يومين من زيارة الملك لمدينة قم، اجري الاستفتاء في وضع مؤسف، إذ لم يشارك فيه غير عناصر النظام وأزلامه. وقد سعى النظام من خلال وسائل اعلامه التي كانت تكرر اذاعة برقيات التهنئة التي بعث بها المسؤولون الأميركان والدول الاوروبية، إلى اخفاء فضيحته الناجمة عن اعراض الجماهير عن المشاركة في الاستفتاء.

    واصل الإمام الخميني فضح النظام واغراضه ونواياه من خلال الخطابات والبيانات، فكان ضمن ما اصدره بيان حازم ومستدل عرف فيما بعد بـ "بيان التسعة"، استعرض فيه مخالفات الملك وحكومته للدستور، وتوقع فيه ان تؤدي الاصلاحات الملكية إلى تدهور الزراعة وضياع استقلال البلاد، ورواج الفساد والفحشاء كنتائج قطعية مسلّمة.

    واستجابة لاقتراح الإمام الخميني، تم تحريم الاحتفال بعيد النوروز لعام 1342 (21 آذار 1963م) اعتراضاً على ممارسات النظام. وقد أطلق الإمام الخميني في بيانه الذي اصدره بهذا الخصوص عبارة "الثورة السوداء" على ما سُميّ بـ "الثورة البيضاء"، كما أنّه فضح انصياع الملك للمخططات الأميركية الإسرائيلية، وكان سماحته قد اعلن في هذا البيان: "وإني لا أرى حلاًّ أن يصار إلى اقالة هذه الحكومة المستبدة بجريرة مخالفة أحكام الإسلام وانتهاك الدستور، وتشكيل حكومة ترتكز إلى أحكام الإسلام وتعي معاناة الشعب الايراني. اللهم لقد أدّيت واجبي ـ اللهم قد بلّغت ـ وإذا مُدَّ في عمري فإني سأواصل أداء تكليفي باذن الله".

    ان ادراك اهمية هذا الكلام لا يتسنى إلاّ لاولئك المطلعين على السجون الرهيبة والاضطهاد الذي كان سائداً في تلك الايام، إذ كان اقل انتقاد يقود إلى السجن والتعذيب والنفي.

    من جانب آخر فإن الشاه الذي كان قد طمأن واشنطن باعداد المجتمع الإيراني لتقبل الإصلاحات الأميركية واطلق على اصلاحاته اسم "الثورة البيضاء"، رأى ان معارضة العلماء له ستكلفه ثمناً باهظاً، لذا شرعت اجهزة الاعلام بشن حملة واسعة ضد العلماء والإمام الخميني وقرر الملك سحق النهضة.

    وفي الثاني من فروردين 1342ش (22 آذار 1963م) ـ الذي صادف ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (ع) ـ هاجم ازلام النظام المسلحين، متنكرين بملابس مدنية، تجمع طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية، ثم قامت قوات الشرطة بالهجوم على المدرسة الفيضية مستخدمين اسلحتهم النارية فقتلوا وجرحوا الكثيرين من الطلاب. وفي الوقت ذاته تعرضت المدرسة الطالبية في تبريز لهجوم مماثل. وفي غضون تلك الاحداث كان منزل الإمام الخميني يستقبل كل يوم مجاميع كثيرة من الثوريين والجماهير الغاضبة التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء وللاطلاع على آثار جريمة النظام في قم.

    وكان الإمام الخميني يحمّل الملك شخصياً وبصراحة ـ اثناء خطاباته في الجماهير ـ المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثّ الجماهير على القيام. وفي خطابه الذي ألقاه في الأول من نيسان عام 1963م انتقد بشدة سكوت علماء قم والنجف وسائر البلاد الإسلامية ازاء جرائم الملك الاخيرة، قائلاً: "ان السكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر".

    وفي اليوم التالي أي في الثاني من نيسان عام 1963م اصدر الإمام بيانه المعروف تحت عنوان "محبة الملك تعني النهب". وقد وضع الإمام في بيانه هذا ـ الذي يعدّ من اشد بياناته السياسية لهجة ـ الملك في قفص الاتهام وأكّد في خاتمة بيانه ان التقية في مثل هذه الظروف حرام، وان اظهار الحقائق واجب (ولو بلغ ما بلغ). وخاطب الإمام الخميني في بيانه هذا الشاه وازلامه قائلاً: "لقد أعددت اليوم قلبي لتلقي طعنات حراب ازلامك، ولكني غير مستعد لقبول الظلم ولن ارضى بالخضوع إمام تجبر النظام".

    كان الإمام الخميني قد اختار طريقه بوعي. ولديه الآن حصيلة غنية من التجارب السياسية والمواقف الجهادية الحلوة والمرّة. ويرى أنّ بانتظاره وقائع خطيرة وان إمامه طريقاً محفوفاً بالمخاطر. غير انه لا يتحرك بوحي من الماضي أو المستقبل. انه يفكر دوماً بأداء الواجب الشرعي رافعاً شعار "العمل بالتكليف ولو بلغ ما بلغ".

    ان معنى "الهزيمة والنصر" في منطق الإمام الخميني غير ذلك الذي اعتاد عليه السياسيون المحترفون. فهو خلافاً لكثير من المناضلين المشهورين والقادة والاعلام من سياسي العالم، الذين يدخلون أولاً الميدان السياسي بأيّ وسيلة ودافع، ثم يحرصون على مظهرهم السياسي ودورهم وتتشكل شخصيتهم وسط ذلك الميدان المضطرب ـ دخل الميدان السياسي ومارس دوره القيادي للثورة الإسلامية في عام 1963م بعد أن قطع شوطاً كبيراً في مسيرة التهذيب وكسب الفضائل المعنوية والمعارف الحقيقية بسطوحها العالية، ومارس الجهاد الاكبر لسنوات طويلة. فالإمام كان يعتقد بأنّ بناء النفس والجهاد الذاتي مقدم على الجهاد الخارجي، حتى إنّه كان يقول دوماً بأنّ العلوم المختلفة ـ بما في ذلك علم التوحيد ـ إذا لم تقترن بتهذيب النفس فإنّها لن تكون سوى حجاب ولن تقود إلى الحقيقة.

    ان العبارات الحادة التي ضمنها الإمام بيانه الصادر في 2 نيسان 1963م واشباهها التي وسمت الكثير من تراثه السياسي، لم تكن مناورة سياسية لاخراج مناوئيه من الساحة، بل انها كانت عرضاً لحقائق تنبع من اعماق وجود شخصية ترى أنّ العالم محضر الله. فالإمام لم يكن يكنّ لاحد من خصومه من امثال محمد رضا أو صدام أو كارتر أو ريغان وغيرهم ممن وقفوا بوجهه خلال جهاده، حقداً أو عداءً شخصياً. كان سماحته حريصاً على إنقاذ المجتمع البشري من سلطة اتباع الشيطان وإعادة البشرية إلى هويتها الفطرية الالهية ـ الرحمانية وكان ينظر إلى الصراع من هذا المنظار، وقد حرص على الاعتقاد والعمل بهذه المبادئ قبل ان يدعو غيره إليها.

    وللوقوف على سرّ موفقية الإمام الخميني ينبغي البحث في مجاهدته الطويلة لنفسه وسعيه لبلوغ المعرفة الشهودية الحقيقية. فلا يمكن درك دوافع الإمام الخميني واهدافه من نضاله السياسي دون التأمل في مراحل تكامل شخصيته الروحية والمعنوية والعلمية.

    لقد رأى العالم الكثير من العناصر التي ميّزت جهاده وثورته، إلاّ أنّ ما يميز نضال الإمام الخميني وما يميز ثورته عن سائر الثورات، ويجعلها متصلة بثورات الأنبياء، هو أنّ الشخصية التي فجرت الثورة الإسلامية في القرن العشرين، وحسب ما يروي رفقاء دربه، لم تترك طوال فترة ما قبل النهضة حتى انطلاقاتها ومن ذلك الوقت حتى رحيله عن الدنيا، نافلة صلاة الليل والتهجد ليله واحدة، ناهيك عن الفرائض والواجبات. إنّه ذلك الرجل الذي جلس يردّ على اسئلة العشرات من الصحفيين والمصورين الذين اجتمعوا من انحاء العالم في آخر لقاء صحفي له في محل اقامته في (نوفل لوشاتو) وما ان مرت بضع دقائق وحان موعد الصلاة، حتى قام ليؤدي صلاته غير مكترث لذلك الجمع.

    وللوقوف على سرّ التأثير المميّز لبيانات الإمام وكلامه في الاستحواذ على مخاطبيه إلى الحدّ الذي يدفعه إلى التضحية بارواحهم، ينبغي البحث في أصالة فكره، والحزم في الرأي والصدق الخالص معهم.

    ان من اهم المزايا التي وسمت نهضة الإمام الخميني: للوقوف بوجه التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية والخيانات التي يرتكبها الملك.

    وفي الثالث من نيسان 1963م، أبرق آية الله العظمى الحكيم من النجف إلى العديد من العلماء والمراجع في إيران يطالبهم بالهجرة الجماعية إلى النجف الاشرف. كان هذا الاقتراح يهدف إلى الحفاظ على حياة العلماء وكيان الحوزات العلمية، وقد عبّر النظام الملكي ـ وعبر العديد من الممارسات ـ عن غضبه واستنكاره لدعم علماء النجف وكربلاء وآية الله الحكيم لنهضة العلماء في إيران. ومن اجل خلق جوٍ من الرعب والحؤول بين العلماء والاجابة على برقية آية الله الحكيم، بادر نظام الشاه إلى ارسال افواج من قوات الامن الداخلي إلى مدينة قم، كما ارسل في الوقت ذاته وفداً رسمياً أخذ على عاتقه نقل رسالة التهديد الملكية إلى مراجع التقليد.

    امتنع الإمام الخميني عن استقبال هذا الوفد. وقد اشار سماحته إلى هذه القضية في خطابه الذي القاه في 2/ 5/ 1963 مشيراً إلى الملك بكلمة "التافه" إذ قال": "إن هذا التافه، رأس هذه الحكومة الخبيثة، أرسل رئيس الشرطة إلى منازل المراجع ـ طبعاً انا لم استقبلهم، وليتني فعلت، ليتني يومها سمحت لهم بدخول المنزل ثم هشمت اسنانهم! ـ ليبلغوهم: ان الشاه قد أمرنا إذا ما نطق احدكم بشيء بأن نقوم بارسال من يهدم بيوتكم ويقتلكم ويهتك اعراضكم".

    ابرق الإمام الخميني برسالة جوابية إلى سماحة آية الله العظمى الحكيم، غير عابئ بتلك التهديدات، أكد فيها ان الهجرة الجماعية من قبل العلماء وإخلاء مواقعهم في الحوزة العلمية بقم يتعارض مع المصلحة الإسلامية. كتب الإمام في جانب من هذه البرقية يقول: "سوف نؤدي تكليفنا الالهي ان شاء الله وسوف نوفّق لإحدى الحسنيين: إما قطع ايدي الخونة عن الإسلام والقرآن الكريم، أو مجاورة رحمة الحق جل وعلا، وأنّي [لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً]".

    وفي بيانه الذي أصدره بتاريخ 2 نيسان 1963 بمناسبة اربعينية شهداء فاجعة الفيضية، أكدّ الإمام الخميني وقوف العلماء والشعب الايراني إلى جانب قادة الدول الإسلامية والعربية ضد اسرائيل الغاصبة. وادان الاتفاقيات المبرمة بين الملك محمد رضا واسرائيل. وبذا أوضح، منذ إنطلاق نهضته، بأنّ النهضة الإسلامية في ايران ليست بمعزلٍ عن مصالح الامة الإسلامية، وان نهضته انما تهدف الاصلاح في كل العالم الإسلامي غير محدودة بحدود إيران الجغرافية.

    كتب الإمام الخميني في رسالة وجهها إلى العلماء يقول: "إنّ الخطر الاسرئيلي على الإسلام وايران وشيك للغاية. فالمعاهدة مع اسرائيل في مقابل الدول الإسلامية ابرمت أو على وشك ذلك. وبالسكوت والاعتزال سنضيّع كل شيء. إنّ للإسلام علينا حقاً، ان لنبي الإسلام علينا حقاً. ينبغي لعلماء الإسلام واتباع الدين المقدس ان يؤدوا ما عليهم من دينٍ لدينهم في هذا الزمان الذي تتعرض فيه كل الجهود المضنية التي بذلها ذلك العظيم (ص) للزوال. لقد صممت على عدم التراجع حتى ألزم هذا النظام الفاسد حدّه…".

    انتفاضة الخامس من حزيران

    وفي حزيران عام 1963م اطلّ محرم الحرام. فبادر الإمام الخميني لاستثمار هذه الفرصة في تحريك الجماهير ودفعها لمواجهة النظام الملكي المستبد. وفي (عاشوراء انطلق مئات الآلاف من المتظاهرين في طهران وهم يحملون صور الإمام، وتجمعوا أمام "قصر المرمر" (محل إقامة الملك) ورددوا ـ لاول مرة في العاصمة ـ شعار "الموت للدكتاتور"، ثم تلتها مظاهرات أخرى في الايام اللاحقة، تجمع فيها المتظاهرون في الجامعة والسوق المركزي (البازار) وفي مقابل السفارة البريطانية معلنين عن دعمهم لنهضة الإمام.

    وفي عصر يوم عاشوراء لعام 1383هـ. (3 حزيران 1963م) القى الإمام في المدرسة الفيضية خطابه التاريخي، والذي كان البداية لقيام الخامس من حزيران. وقد خصص سماحته القسم الاعظم من خطابه لاستعراض المصائب التي الحقتها العائلة البهلوية بالبلاد، وفضح العلاقات السريّة بين الملك واسرائيل. وفي هذا الخطاب اطلق الإمام صرخته مخاطباً بالقول: "ايها السيد! اني انصحك! يا جناب الملك! يا حضرة الملك! اني انصحك، بأن تكف عن ممارساتك هذه! انهم يستغفلونك. ولست ارغب ان يبادر الجميع للتعبير عن شكرهم لله في اليوم الذي تنحى عن السلطة.. فإذا كانوا يلقنونك ما تقول، فاني ادعوك ان تفكر قليلاً، واستمع لنصيحتي.. فما هي العلاقة بين الملك واسرائيل حتى تطالبنا مدير الامن بعدم التعرض لاسرائيل… فهل الملك اسرائيلي؟"

    وقع خطاب الإمام كالمطرقة على روح الملك الذي كان ما اصيب به من جنون القدرة والتكبر الفرعوني على لسان الخاصة والعامة. لذا اصدر اوامره بكم صوت الثورة هذا، فبادرت قوات امنه اولاً لاعتقال جمع من انصار الإمام في ليلة الرابع من حزيران، وفي فجر يوم الخامس من حزيران داهم المئات من رجال الكوماندو الذين تمّ ارسالهم من طهران، منزل الإمام الخميني لاعتقاله، في وقت كان الإمام يؤدي نافلة الليل، ونقل على الفور إلى طهران ليودع في معتقل (نادي الضباط) ثم نقل في غروب ذلك اليوم إلى (سجن قصر).

    انتشر خبر اعتقال الإمام بسرعة في مدينة قم وضواحيها، فانطلق الرجال والنساء نحو منزل قائدهم وهم يرددون شعار "الموت أو الخميني" الذي ملأ ارجاء المدينة. وقد بلغ الغضب الشعبي حدّاً دفع رجال الشرطة في البداية إلى الفرار، إلا أنهم عادوا لمواجهة الجماهير بعد ان تسلحوا بمختلف التجهيزات العسكرية، وبعد أن تم ارسال قوات دعم من المعسكرات المحيطة بالمدينة.

    وبينما كانت جموع الجماهير تغادر حرم السيدة المعصومة (ع) فتحت قوات النظام التي استقرت خارج الحرم المطهر نيران اسلحتها الاوتوماتيكية، ولم تمض عدة ساعات على المواجهة بين الجماهير وقوات النظام، حتى دار حمام الدم في المدينة، ولم يكتف النظام بذلك، فقد ارسلت عدة طائرات مقاتلة للتحليق في سماء المدينة واختراق حاجز الصوت لادخال الرعب والهلع في قلوب الجماهير.

    تمّ مواجهة الانتفاضة بالسلام والنار للسيطرة على الاوضاع. بعدها بادرة العجلات العسكرية لجمع اجساد الشهداء والجرحى من الشوارع والازقة لنقلهم بسرعة إلى أماكن غير معلومة. وفي غروب ذلك اليوم كانت مدينة قم تعيش حالة النكبة والحزن.

    في صباح يوم الخامس من حزيران كان خبر اعتقال الإمام قد وصل إلى طهران؛ مشهد؛ شيراز وسائر المدن مما فجر اوضاعاً مشابهة في تلك المدن. انطلقت مجاميع الناس من اهالي (ورامين) والمناطق المحيطة بطهران نحو العاصمة. ولما كانت دبابات النظام وآلياته وقواته المسلحة قد احاطت بالعاصمة للحيلولة دون وصول المعارضين إليها، فقد اشتبكت قوات النظام مع تلك المجاميع في تقاطع (ورامين) مما ادى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى من الاهالي.

    كذلك اقيم تجمع جماهيري حاشد في السوق المركزي بطهران وفي مركز المدينة، راح يردد شعار "الموت أو الخميني" وهو في طريقه إلى قصر الملك. كما انطلقت سيول الجماهير من جنوب مدينة طهران متوجهة نحو مركز العاصمة يتقدمهم طيب الحاج رضائي والحاج اسماعيل رضائي ـ وهما اثنان من فتوات منطقة جنوب طهران ـ وقد اعتقل هذين الاخوين فيما بعد، وفي 2 تشرين الثاني 1963م تم اعدامهما ونفي انصارهما إلى مدينة بندر عباس.

    لقد كشف النديم الدائم للملك (الفريق الركن حسين فردوست) في مذكراته، النقاب عن استخدام افضل الخبرات الامنية والسياسية الأميركية آنذاك للقضاء على الانتفاضة، وكذلك عن الهلع الذي اصاب الملك والبلاط وقادة الجيش والسافاك في تلك الساعات، وكيف اتخذ الملك وخبراته قرار سحق الانتفاضة. يقول فردوست: "قلت لأويسي (قائد فرقة الحرس الخاص): بأنّ السبيل الوحيد هو ان تقوم بتسليح جميع الطباخين والخدام وعمال التنظيف والحراس وغيرهم الموجودين في فرقتك…".

    كتب اسد الله علم رئيس الوزراء في مذكراته يصف ما خاطب به الملك ذلك اليوم قائلاً: "لو كنا تراجعنا لكانت الفوضى عمت ايران بأسرها ولتعرض نظامها للسقوط المهين. وآنذاك كنت قد ذكرت لكم ـ الملك ـ بأننا يجب ان نصّر على مواجهة هذا الموقف حتى وإن تطلّب الامر تنحيتي عن موقع المسؤولية والاعلان عن استنكاركم لما فعلت، ثم الحكم عليّ بالاعدام والقاء تبعة ذلك على عاتقي من اجل انقاذكم".

    على أيّ حال، اعلنت الاحكام العرفية من الخامس من حزيران في كلّ من طهران وقم، وعلى الرغم من ذلك فإن تظاهرات واسعة انطلقت في الايام اللاحقة وكانت تنتهي كل مرة بالمواجهة الدامية.

    كان الخامس من حزيران 1963م يوم انطلاقة الثورة الإسلامية للشعب الايراني.

    بعد تسعة عشر يوماً من الاعتقال في سجن قصر، تمّ نقل الإمام الخميني إلى معتقله الجديد في معسكر (عِشْرَت آباد).

    بعد يومين من انتفاضة الخامس من حزيران، وصف الملك ذلك القيام الشعبي بأنه فوضى وعمل وحشي نجم عن اتحاد الرجعية السوداء والحمراء، وسعى لربط ما حدث بالخارج ونسبته إلى اشخاص امثال جمال عبد الناصر. ولم يخف على احد حينها تهافت الادعاءات التي اطلقها الملك. وعلى العكس تماماً من ادعاءات الملك تلك، فإن حزب تودة وسائر الشيوعيين الايرانيين اصرّوا في كتاباتهم ومواقفهم المعلنة على اعادة وتكرار وجهة نظر موسكو حول أحداث الخامس من حزيران والتي كانت تصرح بها من خلال الاذاعة والصحف الصادرة في الاتحاد السوفيتي والمتمثلة في اعتبار تلك الانتفاضة حركة رجعية عمياء للوقوف بوجه الاصلاحات التقدمية التي كان الملك يرغب في تنفيذها.

    كذلك فإن احداً لم يصدق الادعاء الكاذب للملك، والذي اراد من خلاله توجيه الاتهام إلى جمال عبد الناصر رغم كل محاولات السافاك ودسائسه في هذا السبيل. فالاستقلال التام لانتفاضة الخامس من حزيران، كان بدرجة من الوضوح لم تتمكن معه امثال هذه الترهات الواهية من الطعن فيه.

    وباعتقال قائد النهضة وممارسة القتل الوحشي بحق الجماهير في الخامس من حزيران عام 1963م، تكون النهضة قد اجهضت في الظاهر.

    وفي محبسه امتنع الإمام الخميني عن الردّ على اسئلة المحققين، معلناً بوضوح وشجاعة بأنّ الهيئة الحاكمة في ايران والسلطة القضائية تفتقد باجمعها إلى الشرعية القانونية والصلاحية الرسمية، وفي زنزانته الانفرادية في معسكر عشرت آباد لم يفرط الإمام الخميني بالفرصة التي سنحت له فراح يكثر من مطالعة كتب التاريخ المعاصر؛ منها: تاريخ الحركة الدستورية في ايران. وبعض مؤلفات (جواهر لعل نهرو).

    بعد اعتقال سماحته انطلقت الاصوات المعارضة الواسعة من قبل علماء الدين ومختلف طبقات الشعب ومن شتى انحاء البلاد مطالبة باطلاق سراح قائدها. فقام جمع من العلماء الاعلام بالسفر إلى طهران للاعلان عن معارضتهم لاعتقال الإمام. وكان الخوف من اقدام النظام على تصفية الإمام يثير القلق بين الجماهير ويدفعها لاظهار ردّ فعل قوي. وقد تعرض بعض العلماء الذين تجمعوا في طهران لهجوم ازلام السافاك، وتمّ اعتقالهم وايداعهم السجن لمدة من الزمن.

    وعندما رأى الشاه بأنّ انتفاضة الخامس من حزيران وجهت ضربة للاستقرار والضمانات التي اعطاها لأميركا، حاول ان يقلل من أهمية تلك الانتفاضة ويظهر بأنّ الاوضاع عادية وخاضعة لسيطرته. من جانب آخر كان الغضب الجماهيري نتيجة استمرار اعتقال الإمام في تنام مطرد. لذا اضطر النظام في الثاني من آب 1963م إلى نقل الإمام من معتقله ليوضع تحت الاقامة الجبرية في منزل تحاصره قوات الامن في منطقة (الداوديّة) بطهران. وبمجرد اطلاع اهالي طهران على انتقال القائد، اخذوا يتوافدون على منطقة الداودية. ولم تمرّ عدّة ساعات على تجمع الاهالي حتى اضطر النظام إلى تفريق الجموع ومحاصرة المنزل بشكل علني بواسطة رجال الشرطة.

    في مساء الثاني من آب نشرت صحف النظام خبراً مختلقاً مفتعلاً يشير إلى التوصل إلى اتفاق بين مراجع التقليد والمسؤولين في الحكومة، ولم يكن بمقدور الإمام الخميني الاطلاع على الخبر أو تكذيبه، غير ان العلماء الاعلام كذبوا من خلال بياناتٍ اصدروها آنئذٍ وقوع مثل هذا الاتفاق أو التفاهم. وقد تميز البيان الذي اصدره آية الله المرعشي النجفي (ره) بحدّة اللهجة والتأكيد على فضح اساليب النظام، فكان من البيانات البالغة التأثير.

    بعد هذه الاحداث تم نقل الإمام مخفوراً إلى منزل في محلة (قيطريّة) بطهران وبقي تحت الاقامة الجبرية هناك إلى يوم اطلاق سراحه 7 نيسان 1964م.

    وفي الثلث الاول من عام 1964 تصور النظام بأنّ القسوة والحزم اللذين واجه بهما الجماهير في حادثة الخامس من حزيران، قد أديا إلى تنبيه الجماهير ودفعا المجاهدين إلى اختيار جانب السكوت، لذا حاول الايحاء بأن وقائع العام الماضي قد تمّ نسيانها.

    وفي مساء السابع من نيسان 1964م تمّ ـ ومن دون اعلان مسبق ـ اطلاق سراح الإمام الخميني ونقله إلى قم. وبمحض اطلاع الجماهير على الامر عمت مظاهر الفرح مدينة قم بأسرها، وأقيمت الاحتفالات البهيجة في المدرسة الفيضية وسائر الاماكن، ودامت عدة أيام.

    ولم تمر سوى ثلاثة أيام على اطلاق سراح الإمام الخميني حتى بادر سماحته إلى ابطال كل التصورات والدعايات التي روّج لها النظام، وذلك من خلال خطابه الثوري الذي القاه بعد اطلاق سراحه مباشرة؛ إذ جاء فيه: "لا معنى للاحتفال اليوم. مادام الشعب على قيد الحياة، فانه لن ينسى مصيبة الخامس من حزيران".

    وتناول قائد الثورة في خطابه ابعاد انتفاضة 15 خرداد بالتفصيل. وفي رده على ما نشرته الصحف الاجيرة من اكاذيب قال سماحته: "كتبوا في افتتاحية احدى الصحف أن تفاهماً قد حصل مع علماء الدين، وان علماء الدين يؤيدون ثورة الملك والشعب البيضاء. أيّ ثورة هذه؟ وأيّ شعب؟… ان الخميني لن يساومهم حتى وان اعدموه… ولا يمكن تنفيذ الاصلاحات تحت اسنّة الحراب".

    ولما كان السافاك قد اقدم على مؤامرة بث الفرقة وايجاد شرخ في صفوف المجاهدين في الحوزة العلمية ـ وذلك من خلال ايجاد الخلافات بين العلماء والمراجع ـ فقد تعرض الإمام الخميني في خطابه الذي القاه في المسجد الاعظم بقم بتاريخ 15 نيسان 1964م إلى هذه المسألة هادفاً إحباط تلك المؤامرة قائلاً: "اذا وجه أحدهم إهانةً لي، أو لطمني على وجهي، أو صفع اولادي، اقسم بالله تعالى بأني لا ارضى أن يهبّ احد لمواجهته والدفاع عني، لست ارضى، انني أعلم بأن بعضهم يهدفون ـ اما عمداً أو جهلاً ـ إلى بث الفرقة في هذا المجتمع… انني ومن موقعي هذا أقبّل ايادي جميع المراجع، من كان منهم هنا أو في النجف أو في سائر البلاد، في مشهد وطهران، واينما كانوا. اني أقبّل ايادي جميع علماء الإسلام. ان هدفنا اسمى من هذه الأمور، اني أمدّ يد الاخوة إلى جميع الشعوب الإسلامية، وإلى جميع المسلمين في مشارق الارض ومغاربها".

    وفي هذا الخطاب كشف الإمام ايضاً النقاب عن العلاقات السريّة بين الملك واسرائيل وأطلق صرخته: "أيتها الجماهير! أيّها العالم! اعلموا بأنّ شعبنا يخالف أيّ اتفاق مع اسرائيل، إنّ من يقوم بذلك هو ليس شعبنا، ليس علماءنا، فإن ديننا يمنعنا من ابرام أيّ اتفاق مع اعداء الإسلام".

    وفي هذا الخطاب ايضاً عبّر سماحته عن الملك بكلمة "التافه" فقال موجهاً الخطاب إليه بالقول: "لا يلتبس عليكم الأمر فحتى لو داهنكم الخميني، فإنّ الامة الإسلامية لن تداهنكم. لا تتوهموا فاننا مازلنا في الخندق نفسه الذي كنا فيه، نعارض كل اللوائح المخالفة للإسلام، ونقف في وجه تجبركم… ان شعبنا المجيد مستاء غاية الاستياء من اسرائيل وعملائها ومن الحكومات التي تصالح إسرائيل".

    وفي الذكرى السنوية الاولى لانتفاضة الخامس من حزيران، اصدر الإمام وسائر المراجع بياناً مشتركاً، كما صدرت بيانات مستقلة عن الحوزات العلمية تم فيها تجليل ذكرى الانتفاضة واعلن يوم ذكراها يوم حداد عام.

    وفي شهر تموز عام 1964م تمّت محاكمة المجاهد الكبير آية الله الطالقاني والمهندس مهدي بازركان ـ احد قادة حركة تحرير إيران ـ والذين أعلنوا عن دعمهم لانتفاضة الخامس من حزيران، في محكمة عسكرية وحكم عليهما بالسجن لمدة طويلة. فاصدر الإمام الخميني بياناً حذّر فيه الجماهير قائلاً: "ان على المواطنين ان يتوقعوا أياماً صعبة"، كما اقترح سماحته ان يعقد علماء الدين جلستان اسبوعية منتظمة لمتابعة اهداف النهضة وتوجيه الحركة الشعبية.

    تعليق


    • #3
      مواجهة "لائحة الحصانة القضائية"

      وفي جانب آخر، كان الملك ـ وتحت الضغط الأميركي ـ مصمماً على تنفيذ الاصلاحات التي اعدت في البيت الابيض، متصوراً ان المذابح والمعتقلات والمحاكمات، قد ادت إلى ازاحة ثقل قوات المقاومة من طريقه. ولما كان ينتظر من الاصلاحات ان تقود إلى تحقيق الهيمنة الأميركية على البلاد وتمكينها من جلب خبرائها للتواجد بصورة مباشرة في سائر المجالات الاقتصادية والعسكرية وفي مختلف المواقع الحساسة في النظام الشاهنشاهي، لذا فمن الخطوات الاولى التي كان ينبغي تنفيذها هي ازالة الموانع الحقوقية والقانونية أمام وجود القوات الأميركية في ايران وضمان امنها واطلاق العنان لها. من هنا احتل موضوع احياء نظام الحصانة (الحصانة السياسية والدبلوماسية والقضائية للمواطنين الأميركان في ايران) مكانة في جدول الاعمال. فكان اقرار لائحة الحصانة من قبل مجلسي الشيوخ والشورى رصاصة الخلاص التي اطلقت على استقلال ايران المحاصرة المضطهدة.

      ان القسوة التي مورست في سحق المناضلين وسجنهم ونفيهم، والحكم البوليسي للملك، كانت قد حبست الانفاس في الصدور وحالت دون ان يرتفع صوت معارض.

      في هذا الجو المضطرب عقد الإمام الخميني العزم على اداء رسالته التاريخية والانتفاضة مرة اخرى، فاختار يوم السادس والعشرين من تشرين الاول ـ يوم مولد الملك الذي كانت تقام فيه الاحتفالات الاستعراضية وتنفق الاموال الطائلة ـ كيوم لفضح النظام. وقام بابلاغ ذلك عن طريق الرسائل والمبعوثين إلى علماء المدن الاخرى.

      وفي محاولة لاخافة الإمام الخميني وثنيه عن عزمه على القاء خطاب في ذلك اليوم، قام الملك بارسال مبعوثه الخاص إلى قم. غير ان الإمام رفض استقباله، مما اضطر المبعوث إلى ابلاغ رسالة الملك إلى السيد مصطفى نجل الإمام البكر.

      وفي اليوم الموعود، ودون الاكتراث بالتهديدات، القى الإمام الخميني واحداً من اشهر خطاباته في حشد كبير من علماء الدين واهالي مدينة قم وسائر المدن. كان ذلك الخطاب التاريخي ـ في الحقيقة ـ ادانة للحكومة الأميركية على تدخلاتها غير القانونية في شؤون البلد الإسلامي ايران، وفضحهاً لخيانات الملك. ابتدأ الإمام ـ وبصلابة لا توصف ـ خطابه بهذه الكلمات: "لقد سحقت عزتنا، لقد صودرت عظمة ايران ومجدها… لقد سحقت عظمة الجيش الايراني. لقد طرحوا على المجلس قانوناً جديداً يلحقنا بمعاهدة فينا، ويمنح المستشارين العسكريين الأميركيين وعوائلهم، وموظفيهم الفنيين والاداريين وخدمهم، حصانة تحول دون محاكمتهم إذا ارتكبوا أيّة جناية في إيران… أيها السيد! اني احذرك. ايها الجيش الايراني أني أحذركم… ايها السياسيون الايرانيون، أني احذركم… اقسم بالله: مأثوم من لا يصرخ… والله من لا يرفع صوته يرتكب كبيرةً… يا قادة الإسلام، هبوا لنجدة الإسلام. يا علماء النجف انقذوا الإسلام… يا علماء قم لبوا صرخة الإسلام".

      وفي هذا الخطاب بالذات قال الإمام الخميني مقولته المشهورة: "… أميركا اسوأ من انجلترا… انجلترا اسوأ من أميركا.. بعضهم أخبث من بعض، غير اننا اليوم مضطرون للوقوف بوجه هؤلاء الخبثاء، بوجه أميركا.. فليعلم الرئيس الأميركي بانه اشدّ الناس بغضاً لدى ابناء شعبنا… كل مصائبنا بسبب أميركا، كل مصائبنا بسبب اسرائيل، واسرائيل ربيبة أميركا".

      وفي ذات اليوم (26 تشرين الاول 1964م) اصدر الإمام الخميني بياناً ثورياً كتب فيه: "ليعلم العالم بأن كل المصائب والمشكلات التي يتعرض لها الشعب الايراني والشعوب الإسلامية، انما هي من الاجانب ومن أميركا. ان الشعوب الإسلامية مستاءة من الاجانب عموماً ومن اميركا خصوصاً… أميركا التي تدعم اسرائيل وانصارها، أميركا التي تسلّح اسرائيل لتشرّد العرب المسلمين".

      وبذا فقد اثمرت جهود الإمام الخميني لفضح مؤامرة الحصانة في دفع إيران إلى حافة الثورة من جديد في تشرين الاول عام 1964م، غير ان الملك بادر وبسرعة لمواجهة الموقف مستفيداً من تجربته في انتفاضة الخامس من حزيران. هذا من جانب، ومن جانب آخر كان العديد من العناصر الدينية والسياسية البارزة والمدافعة عن نهضة الإمام يقبعون في تلك الايام في السجن أو المنفى. كذلك فإن عدداً من مراجع التقليد والعلماء الاعلام ممن ساهموا في أحداث الخامس من حزيران كانوا قد انسحبوا من الميدان تدريجياً والتزموا الصمت يدفعهم إلى ذلك الحفاظ على مصالحهم. وقد استمر الامر بهذا النحو حتى عام 1979 عام انتصار الثورة.

      من جانب آخر بناءً على الوثائق التاريخية التي تمّ نشرها بعد انتصار الثورة الإسلامية، فإن بعضاً من امثال السيد شريعتمداري، كانوا قد سعوا وقتئذ إلى دفع بعض انصارهم ومؤيديهم لانتحاء الصمت وعدم مناصرة دعوة الإمام الخميني مستفيدين من نفوذهم ومواقعهم لتحقيق ذلك.

      ان الخطر الاساسي الذي كان يهدد النظام الملكي هو وجود الإمام الخميني، الذي لم تجد معه أيّ حيلة لاجباره على السكوت. فهو الآن قائد محبوب ومعروف لجميع المجاهدين من الشعب الايراني، وهو مرجع تقليد لكثير من المسلمين. ولما كانت التجربة السابقة قد اثبتت بأن اعتقاله داخل البلاد سيضاعف من مشاكل النظام، ولما كان الاقدام على تصفيه جسدياً سيؤدي إلى تفجير اوضاع لا يمكن التنبؤ بعواقبها، لذا اتخذ النظام قراراً بنفيه إلى خارج البلاد.

      نفي الإمام إلى تركيا

      في فجر الرابع من تشرين الثاني عام 1964م، داهم رجال الكوماندو الموفدون من طهران منزل الإمام الخميني في قم لاعتقاله. واللافت ان سماحته كان لدى اعتقاله منهمكا في المناجاة وصلاة الليل تماماً كما كان حاله لدى اعتقاله في العام الماضي. وبعد ذلك تم نقل الإمام مباشرة إلى مطار (مهر آباد) الدولي. حيث كانت طائرة عسكرية بانتظاره، فأقلته مخفوراً من قبل رجال الأمن والشرطة إلى أنقرة ـ في تركيا ـ. وفي عصر اليوم نفسه نشر السافاك في الصحف المحلية خبر نفي الإمام بتهمة التآمر على النظام!

      ورغم الجو الخانق الذي كان سائداً آنذاك، انطلقت موجات من الاحتجاجات والاعتراضات تجلت في مظاهرات عمت السوق المركزي بطهران، وفي تعطيل الحوزة العلمية دروسها لمدة طويلة، وارسال الطوامير والرسائل إلى المؤسسات الدولية وإلى مراجع التقليد.

      وكان آية الله الحاج مصطفى الخميني قد اعتقل ايضاً في نفس يوم اعتقال الإمام واودع السجن. وفي الثالث من كانون الثاني عام 1965م تم نفيه إلى تركيا ليلتحق بوالده.

      كانت ظروف منفى الإمام في تركيا عصيبة للغاية. فقد منع الإمام هناك حتى من ارتداء الزي العلمائي، غير ان أياً من تلك الضغوط الجسدية والروحية لم تفتّ في عضد الإمام وتجبره على الاستسلام.

      كان اول محلٍ لاقامة الإمام في تركيا هو فندق (بولوار بالاس) في أنقرة (الغرفة رقم 514 من الطابق الرابع.) ولأجل اخفاء محل اقامة الإمام، تمّ في اليوم التالي نقله إلى شارع اتاتورك. ثم نقله إلى مدينة (بورسا) الواقعة على بعد 46 كم غرب أنقرة في تشرين الثاني عام 1964م لأجل عزله وقطع أيّ نوع من الارتباط معه.

      وفي تلك المدّة سلب الإمام امكانية أيّ تحرك سياسي ووضع تحت مراقبة مباشرة ومشددة من قبل رجال أمن ايرانيين تم ارسالهم لهذا الغرض بالتعاون والتنسيق مع قوات الأمن التركية.

      دامت إقامة الإمام في تركيا احد عشر شهراً، قام نظام الشاه خلالها ـ بسرعة منقطعة النظير ـ بتصفية بقايا المقاومة في إيران، وبادر في غياب الإمام إلى تنفيذ الاصلاحات التي رغبت أميركا في تنفيذها.

      اضطر النظام ـ واستجابة لبعض الضغوط التي مارستها الجماهير وبعض العلماء ـ إلى السماح بسفر بعض الممثلين عن الجماهير والعلماء للاطمئنان على صحة الإمام وسلامته.

      وخلال مدة إقامته في تركيا اشار الإمام ومن خلال الرسائل التي بعث بها إلى اقاربه ومؤيديه وعلماء الحوزة، اشار ـ تلميحاً وعن طريق الرمز والدعاء ـ إلى ثباته على مواقفه الجهادية، كما طلب ارسال بعض كتب الادعية والكتب الفقهية إليه.

      كانت فترة الاقامة الاجبارية في تركيا فرصة ثمينة للإمام اغتنمها في تدوين كتابه القيم (تحرير الوسيلة). وهو الكتاب الحاوي لفتاوى الإمام الفقهية، ذكر فيها ـ ولاول مرة ـ مسائل تتعلق باحكام الجهاد والدفاع والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسائل العملية الهامة الاخرى، الامور التي كانت حتى ذلك الوقت منسيةً لا يتطرق لذكرها أحد.

      جدير بالذكر ان آراء الإمام الاجتهادية في الفقه والاصول كانت قد نشرت ـ ومنذ سنوات قبل رحيل آية الله البروجردي ـ في العديد من آثار الإمام ومؤلفاته التي سيأتي ذكرها في خاتمة هذا الكتاب.

      ومن تركيا إلى العراق

      في الخامس من تشرين الاول عام 1965م، تم نقل الإمام الخميني بمعيّة نجله آية الله الحاج مصطفى الخميني من تركيا إلى منفاه الجديد في العراق. ولا يسعنا في هذه العجالة التعرض بتفصيل إلى علل واسباب تغيير منفى الإمام الخميني. ولكن نشير باقتضاب إلى انها تمثلت في الضغوط التي مارسها المتدينون والحوزات العلمية داخل البلاد، والمساعي والتظاهرات التي قام بها المسلمون خارج البلاد من اجل اطلاق سراح الإمام، كذلك حرص النظام الملكي على اظهار الاوضاع بالمظهر العادي والتدليل على قدرة وثبات نظامه للحصول علىمزيد من الدعم الأميركي. اضافة إلى المشاكل الامنية المتفاقمة في تركيا وتزايد الضغوط الداخلية من قبل الإسلاميين على الحكومة التركية. والاهم من كل ذلك تصور نظام الشاه بان الهدوء وعدم وجود الرغبة في التدخل في الامور السياسية الذي كان يسود الحوزة العلمية في النجف الاشرف؛ ووضع النظام الحاكم في بغداد، كل ذلك سيمثل حواجز كبيرة تحدّ من فعاليات الإمام الخميني.

      بعد وصوله إلى بغداد توجه الإمام الخميني لزيارة مراقد الأئمة الاطهار في الكاظميين وسامراء وكربلاء، ثم سافر بعد اسبوع واحد إلى محل اقامته الجديد في مدينة النجف الاشرف.

      ان الاستقبال الحاشد الذي حظي به الإمام من قبل طلبة العلوم الدينية وابناء المدن المذكورة، كان يدل بحد ذاته وخلافاً لتصورات الحكومة الايرانية، بأن نداء نهضة الخامس عشر من خرداد وجد له انصاراً في العراق والنجف الاشرف أيضاً.

      وقد اثبت الإمام الخميني ـ منذ بداية وجوده في العراق وعبر لقائه المقتضب مع ممثل الرئيس العراقي آنذاك (عبد السلام عارف) ورفضه الاقتراح القاضي بعقد مؤتمر صحفي وتلفزيوني ـ بأنه ليس ذلك الشخص الذي يرضى بان يجعل من اصالة ثورته الالهية ثمناً للمصالحة بين نظامي بغداد وطهران.

      وقد بقي هذا المنحى من الاستقامة صفة ملازمة لنهج الإمام طوال فترة اقامته في العراق، وبذلك اثبت الإمام الخميني بأنه أحد أندر القادة السياسيين في العالم ممن لم يقبلوا ـ وهم في أشدّ حالات التعرض للضغط والمشكلات ـ بالدخول في المهاترات السياسية المتعارفة والمساومة على اهدافه. كان يكفي ـ بعد ظهور المناوشات السياسية بين حكومتي بغداد وطهران ـ ان يعطي الإمام الخميني مواقفته المبدئية حتى تنهال عليه انواع الامكانات لتوضيفها في نضاله ضد الشاه، غير ان الإمام لم يمتنع عن الاقدام على ذلك وحسب، وإنما كان يقف في تلك المواطن على جبهتين لممارسة دوره الجهادي، وفي احيان عديدة بلغ الموقف حدّ المواجهة والقيام ضد النظام الحاكم في بغداد ايضاً.

      ومما لا شك فيه لولا حنكة الإمام الخميني وحيطته لكادت الثورة الإسلامية أن تسير منذ ذلك الوقت في الطريق الذي طوته غالبية الحركات والجبهات والاحزاب السياسية الايرانية لأكثر من مرة، والذي لم ينته بها إلا إلى التبعية والخذلان.

      إنّ الفترة الطويلة ـ والتي ناهزت الثلاثة عشر عاماً ـ التي امضاها الإمام الخميني في منفاه في النجف الاشرف بدأت في ظروفٍ ـ وإن كانت تبدو خالية من الضغوط والقيود المباشرة التي تعرض لها في إيران وتركيا ـ إلا أنّ المعارضة والمحاولات التحبيطية والكلام الجارح الذي كان يصدر من بعض العلماء القشريين واهل الدنيا المتخفين بلباس اهل الدين، كان بدرجة من الاتساع والايذاء جعلت الإمام يتحدث ـ رغم ما عرف عنه من صبر وحلم ـ عن ظروف الجهاد العصيبة في تلك السنوات بمرارة بالغة كلما مرّ ذكرها. لكنّ أيّاً من تلك المصائب والمصاعب لم تستطع ثني الإمام عن مواصلة الطريق التي اختارها بوعي وادراك.

      كان الإمام قد ادرك مسبقاً بأن الحديث عن الجهاد والدعوة للنهوض في ذلك الجو فعل غير مجدٍ. وكان يتوجب عليه البدء من النقطة نفسها التي ابتدأ منها في سنوات ما قبل انتفاضة الخامس من حزيران، والحوزة العلمية بقم، بمعنى البدء بالاصلاح والتغيير التدريجي للظروف، وتربية وتعليم جيل بامكانه ان يتحمل مسؤوليته رسالته.

      ومن هذا المنطلق شرع الإمام بتدريس بحوث خارج الفقه في مسجد الشيخ الانصاري في تشرين الثاني عام 1965م رغم الجهود المغرضة التي بذلت من اجل ثنيه عن ذلك. واستمر في اعطاء دروسه هذه حتى فترة ما قبل سفره إلى باريس.

      وقد قادت المباني المتقنة للإمام في الفقه والاصول، وتسلطه على مختلف فنون واقسام المعارف الإسلاميّة، بعد فترة وجيزة إلى جعل درسه وحوزته من ابرز الحوزات الدراسية في النجف الاشرف كماً وكيفاً رغم ما بذله الرجعيون من جهود مثبطة محبطة. وكان يحضر درسه الطلبة الايرانيون، والباكستانيون والعراقيون والافغان والهنود والخليجيون وغيرهم لينهلوا من نبع علومه الدفّاق. وقد شجع ذلك انصار الإمام ومحبيه ممن كانوا في ايران في الهجرة الجماعية إلى النجف الاشرف. غير ان توصيات الإمام الخميني بضرورة البقاء وحفظ الحوزات العلمية في إيران منعتهم من تنفيذ رغبتهم، وان كان العديد من عاشقي الإمام الخميني قد انطلقوا نحو النجف الاشرف، وقد ساعد ذلك بالتدريج في ايجاد بؤرة لتجمع الثوريين المعتقدين بنهج الإمام، الذين حملوا على عواتقهم ـ فيما بعد ـ مسؤولية ايصال بيانات الإمام النضالية في سنوات الكبت والاضطهاد.

      ومنذ وصوله إلى النجف الاشرف لم يقطع الإمام الخميني ارتباطه بالمجاهدين في داخل ايران، فقد اتخذ من المبعوثين والرسائل وسيلة لحفظ ارتباطه ذاك. وقد حرص على تضمين رسائله، التوصيات القيّمة حول ضرورة الثبات على مواصلة النهضة لتحقيق اهداف انتفاضة الخامس من حزيران. والعجيب ان كثيراً من الرسائل التي كان يبعثها الإمام الخميني كانت تتضمن الاشارة إلى قرب وقوع انفجار عظميم على صعيد السياسي والاجتماعي في ايران، ومطالبة المجتمع العلمائي الايراني باعداد العدّة لتحمل مسؤولياته في هداية المجتمع في المستقبل، في وقت كانت ظواهر الامور تشير إلى انعدام الامل بتغيّر الظروف السياسية والاجتماعية، وفي ظروف كان النظام الملكي يبدو فيها اكثر اقتداراً نتيجة قضائه على جميع جيوب المعارضة الشعبية.

      وبنفي الإمام الخميني وممارسة القمع والاضطهاد الشديدين بحق المعارضة، ابتدأ اسوأ فصول حكومة الملك البوليسية. فقد تحول (السافاك) إلى وسيلة لممارسة القدرة الملكية المطلقة، حيث بلغ الأمر حدّاً جعل توظيف اصغر موظف في ابعد نقطة من البلاد مرتبطاً بموافقة جهاز السافاك. ولم يبق في هذا العهد من السلطات الثلاث إلا اسماؤها، فقد كان الملك وبعض افراد البلاد وازلامه من الرجال والنساء هم المسؤولون عن كل نشاطات البلاد. ولقد اكدت اعترافات الملك ـ التي سطرها في آخر كتاب أصدره واللقاءات التي اجريت معه ـ وما كتبه اقرباؤه والمنسوبون إليه من موظفي وازلام البلاط ومن امراء الجيش واقطاب النظام الآخرين والتي نشرت بعد سقوط النظام الملكي في ايران، وكذا الوثائق التي تمت مصادرتها من السفارة الاميركية في ايران، اكدت بما لا يدع مجالاً للشك ان الملك والبلاد لم يكونا سوى آلاتٍ مسلوبة الارادة لا غير، وان ما كان يصدر عن البلاط والنظام الملكي، حتى تعيين الوزراء وقادة الجيش وتنظيم اللوائح المهمة، كان يتم بواسطة السفارة الأميركية ـ والانجليزية احياناً ـ. ونكتفي هنا بالاشارة إلى مقطعين مما كتبه الشاه للتدليل على ذلك، كتب محمد رضا يقول: "كان سفيرا انجلترا واميركا يؤكدان لنا في كل لقاء: بأننا سنقف إلى جانبك. وخلال خريف وشتاء عام 1978 ـ 1979م، شجعونا على ايجاد جو سياسي مفتوح… غالباً ما كان السياسيون أو المبعوثون الأميركان الذين كنت استقبلهم، يشجعونني على الثبات والصمود. ولكن عندما سألت السفير الأميركي عن ذلك، اجابني بأنّه لم يتلق حتى الآن أمراً بذلك… وقبل ذلك بعدة اسابيع، وعندما استقبلت مسؤول الاستخبارات الأميركية الجديد في طهران دهشت لتصريحاته، تحدثنا قليلاً عن الجو السياسي المفتوح وإذا بي انظر ابتسامة عريضة ترتسم على محياه… على أيّة حال، إن اولئك الذين كانوا لسنواتٍ طويلة حلفاءنا الاوفياء، كانوا يضمرون لنا عجائب غريبة فاجأونا بها".

      الطريق ان الشاه حاول في هذا الكتاب الايحاء بأن هذه العوامل والاسباب الخارجية المفاجئة، هي التي أدّت إلى سقوط نظامه، حتى انه صرح بأن الجنرال ربيعي ـ قائد القوة الجوية ـ قال للقضاة قبل إعدامه: ان الجنرال هايزر، القى بالملك خارج البلاد كما يلقي بفأرة ميتة!" والحال ان حديثه هذا يعتبر بحدّ ذاته تحريفاً للتاريخ. فطبقاً للوثائق والمستندات التي لا تحصى ـ وأهمها واوضحها اعترافات الجنرال هايزر نفسه في كتابه ـ فإن من المؤكد أن الجنرال هايزر كان قد وفد إلى طهران من أجل الحفاظ على النظام الملكي الذي كان يتهاوى تلك الأيام، وكان بصدد تنظيم انقلاب عسكري للسيطرة على الاوضاع في تلك الفترة الحرجة.

      وعلى فرض قبول ادعائه هذا، فإن الملك وخلافاً للاسم الذي اختاره لكتابه، لم يعط أي جواب للتاريخ، وإلا فهل يمكن مع كل تلك الادعاءات التي كان يدعيها ـ من قبيل مخاطبته لكورش بالقول: "نعم، فنحن يقظون!!" وغير ذلك مما اطلقه طوال 37 عاماً من حكومته ـ أن يتعامل مع استقلال بلاده بهذه الطريقة، بحيث يتمكن جنرال أميركي من الدرجة الثالثة أو الرابعة خلال اقامته في طهران لعدّة أيام من إلقائه كالفأرة الميتة خارج البلاد!؟

      على أيّة حال، فبعد ضرب انتفاضة الخامس من حزيران، ونفي الإمام من البلاد، لم يرد الملك حينها أي عقبة إمامه تحول بينه وبين تحقيق تطلعاته. فقد وصلت الامور في البلاد إلى وضع اصبحت بعض نساء البلاد يمارسن دورهن في عزل وتنصيب الوزراء والنواب والقضاة، حتى اطلق على (اشرف بهلوي) أخت الملك لقب (الكلّ بالكل) في وقت كانت فضائحها الاخلاقية وترأسها لعدّة عصابات تمارس تهريب المخدرات تملأ الصحف والمجلات الأجنبية، وان اختيار احد البهائيين (أمير عباس هويدا) الذي كان يردد مقولته المشهورة دوماً: "روحي فداء لجلالة الملك" وبقاءه على سدة رئاسة الوزراء الشكلية لا يعني سوى انعدام استقلال السلطات الحاكمة، وانعدام أي أثر وعلى ادنى المستويات لدور الجماهير في السلطة.

      كان الملك يسعى بقوة نحو التمدن العظيم الذي كان يتوهمه وراح ينفق من قوت ابناء الشعب على الحضارة المرتكزة إلى ترويج الثقافة الغربية، وشيوع التحلل والتفسخ الأخلاقي، والإغارة على الثروات الوطنية والقومية عبر المئات من الشركات الأميركية والاوروبية في إيران، وتخريب البنية التحتية للزراعة الايرانية المستقلة نسبياً، وترحيل القوى المنتجة الايرانية، إلى القرى والأرياف وتحويلها إلى قوى معطلة ومستهلكة، وتوسيع الصناعات التجميعية الذيلية وغير الضرورية، وتجهيز ونصب محطات الانذار المبكر ومحطات التنصت والجاسوسية والقواعد العسكرية الأميركية في ايران وفي منطقة الخليج الفارسي.

      ففي الفترة من عام 1970 إلى 1977 وحدها انفق مبلغ 26.4 مليار دولار من عائدات النفط على الواردات التسليحية الايرانية من أميركا، وخلال عام 1980 وحده كان الملك قد ابرام اتفاقاً لاستيراد ما قيمته 12 مليار دولار من الاسلحة الأميركية؛ الامر الذي أريد من خلاله ـ وبناءً على سياسة البيت الأبيض ـ الحفاظ على المصالح الأميركية في منطقة الخليج الفارسي الحساسة، وهي مهمة انيطت أيضاً بالمستشارين الأميركان الذين بلغ عددهم آنذاك (60) ألف مستشار.

      كان نظام الشاه وفي أوج ثباته ودون أن يعاني من أيّ مشكلة خارجية، وكان يبيع ستة ملايين برميل من النفط يومياً، في وقت لم تكن نفوس ايران تتجاوز 33 مليون نسمة، وكان سعر البرميل الواحد من النفط قد تجاوز الثلاثين دولاراً للبرميل الواحد، وذلك لاسباب عديدة منها الحرب العربية الاسرائيلية والمساعي الغربية لتخزين كميات أكبر من النفط لاجل مواجهة التوقف المحتمل في تدفق النفط الإسلامي نحو الغرب واحتمال تعاضد الدول الإسلامية المنتجة للنفط بوجه الغرب، في حين كانت العديد من طرق البلاد الرئيسية غير معبدة، والقسم الاعظم من ابناء الشعب محروم من نعمة الكهرباء. بل من أبسط الحاجات الاساسية والوضع الصحي المطلوب.

      في ذلك الوقت وبينما كانت مناطق واسعة من البلاد تعاني من ظروفٍ كالتي ذكرنا، كان عشرات الرؤساء والقادة والوزراء من البلدان الأخرى يجتمعون في العاصمة طهران لمشاهدة الاحتفالات بمناسبة مرور ألفين وخمسمائة عام على بداية الامبراطورية الفارسية ليسعدوا برؤية تلك الاحتفالات الاسطورية. ولما كان المئات من العمال والعاطلين المشرّدين يعيشون في الاقبية وأكواح الصفيح في جنوب وشرق وغرب طهران ووسطها، في حالة يرثى لها من الفقر والتردي الصحي، ولما كان هذا الأمر من السعة والانتشار في طهران إلى درجة كبيرة، فقد أجبر النظام اثناء تلك الاحتفالات على القيام بإحاطة هذه الاحياء ـ خصوصاً الواقعة منها على جانبي الطرق التي تمر منها الوفود الأجنبية ـ باسوار جميلة ومطليّة حتىلا تظهر آثار التمدن العظيم للعيان!!

      وفي تلك الايام كانت العديد من المحلات السكنية في جنوب وغرب طهران تفتقد إلى الماء الصالح للشرب. وقد وضع لكلّ مائة عائلة ماسورة ماء واحدة ليشربوا منها. وبلغ معدل الامية في عام 1976 (52.9%) بين من تتراوح اعمارهم بين السابعة وما فوق. وحينما فرّ الملك من ايران عام 1978م كان قد مضى على ثورته البيضاء والاصلاحات المدعومة من قبل أميركا خمسة عشر عاماً. وخلال تلك المدة ورغم انتاج وبيع النفط وسائر الثروات الوطنية بشكل مسرف، ورغم دعم الدول الاجنبية للنظام، فإن ايران لم تفشل في تحقيق استقلالها وحسب، وإنما كانت التبعية الاقتصادية والزراعية والصناعية تزداد يوماً بعد آخر، وكان التدهور الاقتصادي والفقر وضياع العدالة يزداد باطراد. اما من الناحية السياسية فقد حول الملك ايران إلى اكثر بلدان العالم عمالة للغرب وخصوصاً أميركا.

      ورغم الظروف الصعبة والمعقدة التي كان الإمام الخميني يمرّ بها في منفاه، فإنه لم يكف عن الجهاد والوقوف بوجه النظام الملكي. وكان يبعث الأمل بالنصر المؤزر في النفوس من خلال خطاباته وبياناته. فقد كتب في 16 نيسان 1976 في بيان مخاطباً الحوزات العلمية: "انني اطمئنكم أيها السادة المحترمون وأطمئن الشعب الايراني بأن النظام سوف يهزم. فإن اسلاف هذا النظام كانوا قد تلقوا الصفعة من الإسلام، وهؤلاء ايضاً سينالون نصيبهم. استقيموا ولا تستسلموا للظلم، ان هؤلاء راحلون وانتم الباقون… إنّ هذه السيوف الصدئة سوف تعود إلى اغمادها…".

      وفي ذلك اليوم كتب الإمام الخميني رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء (أمير عباس هويدا) استعرض فيها ممارسات النظام المجرمة وحذّره من الوقوف إلى جانب اسرائيل في مقابل الدول الإسلامية قائلاً: "لا تعقدوا عهد الاخوة مع اسرائيل عدوة الإسلام والمسلمين، التي شردت اكثر من مليون مسلم. لا تسيئوا إلى عواطف المسلمين، لا تطلقوا يد اسرائيل وعملائها الخونة في اسواق المسلمين اكثر من هذا، لا تعرضوا اقتصاد البلاد للخطر من اجل اسائيل وعملائها. لا تضحوا بثقافتنا من أجل اسرائيل وعملائها. لا تضحوا بثقافتنا من اجل اهوائكم… خافوا غضب الجبار، واحذروا سخط الشعب… {إنّ ربَّك لبالمرصاد}".

      غير أنَّ الشاه لم يكترث لتحذيرات الإمام الخميني. ورغم أن البلدان الإسلاميّة كانت على اعتاب حرب مع اسرائيل، كانت البضائع والسلع الإسرائيلية رائجة في السوق الإيرانية وتتمتع بدعم خاصٍ من النظام، فكانت انواع الفواكه والمواد الغذائية تعرض في الأسواق الايرانية بأسعار متدنية نافست المنتجات الداخلية وعرّضتها للبوار.

      وفي 7 حزيران 1967م اصدر الإمام فتواه الثورية بتحريم أي نوع من العلاقة التجارية والسياسية للدول الإسلاميّة مع إسرائيل، وحرّم شراء البضائع الاسرائيلية، وذلك بمناسبة حرب الايام الستة بين العرب واسرائيل، وقد ألحقت الفتوى ضربة قوية بالعلاقات المتنامية بين نظام الشاه واسرائيل.

      كذلك مارس العلماء وطلبة العلوم الدينية في ايران، ضغوطاً ضد حكومة الشاه من خلال اصدار البيانات وتوزيع المنشورات، مما دفع النظام إلى ترجمة انتقامه عملياً، وذلك بالهجوم على منزل الإمام الخميني في قم ومصادرة الكثير من الوثائق والكتب الخاصة به، ثم الهجوم على المدارس الإسلاميّة في المدينة وجمع آثار وصور الإمام الخميني، وخلال هذه الهجمات ألقي القبض على نجل الإمام الخميني هجمة الإسلام السيد أحمد الخميني، وكذا حجة الإسلام الحاج الشيخ حسن الصانعي، والمرحوم آية الله الإسلامي (وكيل الإمام في الاستفتاءات الشرعية). فقد أدت جهودهم مع سائر أنصار الإمام الخميني الثوريين إلى إفشال مخططات وممارسات السافاك والنظام الملكي التي هدفت إلى قطع المرتبات الشهرية الموزعة من قبل الإمام، والحؤول دون ارسال الحقوق الشرعيّة من قبل الجماهير إلى مرجعهم.

      وكان السيد أحمد (نجل الإمام) قد تعرض قبل مدة من ذلك للاعتقال اثناء عودته من النجف، وذلك عند الحدود العراقية الإيرانيّة بعد ان كان قد سافر من قم إلى النجف لاستلام رسائل واوامر الإمام الخميني حول مواصلة النهضة وكيفية ادارة منزله في قم. وقد سيق بعد اعتقاله إلى سجن (قزل قلعة) وذلك اوائل عام 1967م.

      واستناداً إلى الوثائق التاريخية التي تمّ الحصول عليها من دوائر السافاك، فإن جهود منظمة الأمن تركزت في تلك الفترة على قطع الارتباط بين الإمام ومقلديه في ايران والحيلولة دون قيام الإمام بدفع المرتبات الشهرية إلى طلبته في الحوزة العلمية بقم. وقد تظافرت وتواصلت في غضون ذلك جهود وكلاء الإمام الشرعيين في إيران من أمثال ذوي السماحة: الإسلامي التربتي، والحاج الشيخ محمد صادق الطهراني (الكرباسچي) وآية الله البسنديدة (شقيق الإمام الخميني الاكبر) رغم التهديدات التي عرضهم النظام لها، ورغم تكرار اعتقالهم وابعادهم. كذلك ساهمت الجهود التي بذلها المسؤولون عن إدارة منزل الإمام في قم والذين اصبح مقراً لادارة النهضة ـ وكان يُدار من قبل نجل الإمام الخميني ـ في منع النظام من تحقيق اهدافه.

      لقد كان السافاك يبدي حساسية كبرى تجاه النشاطات الهادفة إلى احياء اسم الإمام الخميني وذكره وتنشيط دور منزله في قم، إلى درجة دفعته إلى وضع منزله تحت الرقابة المتواصلة عبر مجموعة من عناصر وبعض عناصر الشرطة التي كانت تراقب المنزل طوال ساعات النهار وقسماً من ساعات الليل، وتحول دون تردد المراجعين والمقلدين على المنزل. غير أنّ المراجعين والمقلدين كانوا يفدون على منزل الإمام في ساعات متأخرة من الليل وذلك بعد ذهاب المأمورين، للحصول على الاجوبة والتوجيهات اللازمة.

      في تلك الايام (حزيران 1967م) كان النظام يفكر في إعادة نفي الإمام الخميني مجدداً من النجف إلى الهند إلا انه لم يكتب لمخططه النجاح نتيجة قيام العديد من مؤيدي الإمام والتيارات السياسية بمواجهته وفضحه داخل البلاد وخارجها.

      وبمجيء حزب البعث (17 تموز 1968م) إلى السلطة في العراق تضاعفت الضغوط والعقبات إمام نهضة الإمام الخميني، وذلك للطبيعة العدائية التي يكنها حزب البعث للحركات الإسلاميّة. غير ان الإمام لم يكف عن مواصلة النهضة، إذ منحته اقامته في النجف، ونهضة العالم الإسلامي بشأن قضية الحرب بين العرب واسرائيل، الفرصة لتوسيع نطاق جهاده المتمثل في احياء الاعتقاد الديني في عصر مظلومية الدين، والعثور على الهوية، واستعادة الامجاد السابقة وتحقيق وحدة الأمة الإسلامية وعدم انحساره في مواجهة الشاه.

      ففي لقائه مع ممثل حركة فتح الفلسطينية في 11 تشرين الاول 1968م، اوضح الإمام الخميني آراءه حول مختلف المسائل التي تهمّ العالم الإسلامي، وجهاد الشعب الفلسطيني، وأكد في ذلك اللقاء وجوب تخصيص جزء من مبالغ الزكاة للمجاهدين الفلسطينيين.

      في اوائل عام 1969م اشتدت الخلافات بين النظام الايراني ونظام حزب البعث الحاكم في العراق حول الحدود المائية المشتركة بين البلدين. وقد بادر النظام العراقي آنذاك إلى ترحيل اعداد كبيرة من الايرانيين المقيمين في العراق في ظروف سيئة جداً، كما سعى جاهداً لاستغلال العداء بين الإمام الخميني والنظام الايراني. من جانب آخر كان شاه إيران يتحين الفرصة للعثور على ادنى مبرر للنيل من استقلال نهضة الإمام الخميني. لكنّ الإمام وبحنكته المعهودة وقف بوجه الدسائس التي كان كلا النظامين يحوكانها. وقد قام آية الله السيد مصطفى الخميني ممثلاً عن والده بتسليم مذكرة احتجاج على ترحيل الطلبة والكسبة الايرانيين المقيمين في العراق، إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر وسائر المسؤولين ممن حضروا اللقاء، تضمنت رفض أي نوع من المصالحة والتنسيق بين الإمام الخميني والنظام العراقي.

      في 21 آب 1969م قامت مجموعة من الصهاينة المتطرفين باحراق جانب من المسجد الاقصى. وعلى الفور أعلن الشاه الذي واجه ضغوطاً من الرأي العام، اعلن عن استعداده لتقبل نفقات تعمير المسجد، وذلك في محاولة للتخفيف من غضب المسلمين ضد اسرائيل. وفي هذه الاثناء اصدر الإمام الخميني بياناً فضح فيه مكائد الشاه واقترح في المقابل: "مادامت فلسطين محتلة، فعلى المسلمين ان لا يقوموا باعادة بناء المسجد الاقصى وترميمه، فليتركوا هذه الجريمة التي ارتكبتها الصهيونية ماثلة أمام انظار المسلمين لتكون سبباً لدفعهم نحو تحرير فلسطين".

      ان اربعة اعوام من التدريس وجهود التوعية التي مارسها الإمام الخميني استطاعت ان تغير وضع الحوزة إلى حدّ ما، ففي عام 1969م أصبح لدى الإمام مخاطبين جدد من العراقيين واللبنانيين ومن سائر بلاد المسلمين ممن اتخذوا من نهضة الإمام الخميني أسوة لهم، فضلاً عن الاعداد الكبيرة من المجاهدين داخل البلاد.

      وفي مطلع عام 1970م شرع الإمام بتدريس سلسلة بحوثه حول الحكومة الإسلامية أو (ولاية الفقيه)؛ وقد ادى نشر هذه المجموعة من الابحاث في كتاب تحت عنوان (ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية) ـ في ايران والعراق ولبنان وفي موسم الحج ـ إلى تفجير موجة جديدة من الحماس في صفوف المجاهدين. لقد عرض هذا الكتاب ـ وعلى لسان قائد الثورة ـ ابعاد الجهاد وأهداف النهضة والمباني الفقهيّة والاصولية والعقلية للحكومة الإسلامية والمباحث النظرية التي تتناول اساليب الحكومة الإسلاميّة.

      في نيسان 1970م نشرت الصحف الأميركية خبر وصول هيئة رفيعة المستوى من الرأسماليين الأميركان برئاسة روكفلر إلى ايران. وقد وصل هذا الوفد لتحري الطريقة التي يتمّ من خلالها اعادة عائدات النفط الإيراني إلى أميركا، فتلك العائدات كانت قد بدأت منذ ذلك العام بالتزايد بشكل جنوني، لذا صار لازماً معرفة سبل مشاركة الشركات الأميركية في هذه الغنيمة.

      ورغم ان السافاك كان قد منع ـ منذ عدة اشهر ـ العديد من العلماء من انصار الإمام الخميني من ارتقاء المنبر، إلا ان علماء الدين الملتزمين وبعد اطلاعهم على آراء الإمام حول مسألة الحكومة الإسلاميّة اندفعوا إلى فضح مخططات الشاه ومعارضة تزايد النفوذ الأميركي في ايران. وكان آية الله السعيدي من اشدّ مؤيدي الإمام معارضة لما كان يجري، مما عرضه إلى الاعتقال في شهر نيسان 1970م، ولم يمض على اعتقاله اكثر من عشرة أيام حتى فارق الحياة نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرض له في دهاليز سجن قزل قلعة على ايدي السافاك.

      وعلى اثر شهادته اصدر الإمام الخميني بياناً تأبينياً خلد فيه جهاد هذا الرجل مؤكداً من خلاله: "إنّ المرحوم السعيدي ليس وحده الذي سقط في سجنه معارضاً لهذا الوضع المؤسف" وقد جاء في هذا البيان ايضاً: "إنّ الخبراء واصحاب رؤوس الاموال الأميركان هجموا على ايران، باعتبارهم من اكبر المستثمرين الاجانب، وذلك لتكريس أسر الشعب الايراني المظلوم… ان أيّ اتفاق يبرم مع اصحاب رؤوس الأموال الأميركان وسائر المستعمرين يخالف ارادة الشعب واحكام الإسلام".

      تعليق


      • #4
        الاحزاب والحركات السياسية منذ انتفاضة 5 حزيران حتى انتصار الثورة الإسلامية

        من اهم الحركات السياسية التي كان لها حضور جدي في ميدان الجهاد الشعبي بعد انتفاضة الخامس من حزيران وساهمت بفاعلية في مسيرة الثورة حتى انتصارها، وكانت سبّاقة في متابعة تنفيذ اهداف النهضة، هي الحركة غير الحزبية والمستقلة التي مثلّها علماء الدين المؤمنون بنهج الإمام الخميني، ممن كانوا يقودون الحركة الجهادية بأساليب واشكال مختلفة ـ كان الإمام الخميني يحدّد اطرها في كلّ مرحلة من مراحل الجهاد ـ معتمدين في ذلك على مواقعهم الدينية المتميزة بين الجماهير، والعلاقات المباشرة التي كانت لهم مع مختلف شرائح وطبقات الناس في المدن والقرى. ان المنع من ارتقاء المنبر الخطابي، والنفي إلى المناطق النائية، والاعتقال المتكرر وما يرافق ذلك من التعذيب الوحشي الذي قد يؤدي إلى الشهادة في سجون النظام الملكي، أمور كان علماء الدين الايرانيون الملتزمون قد اعدّوا انفسهم لمواجهتها بعيد انتفاضة الخامس من حزيران دون ان تفت في عضدهم أو تمنعهم من السعي إلى تحقيق اهدافهم.

        من جانب آخر، وبعد انتفاضة الخامس من حزيران 1963، قامت مجموعة من الهيئات الدينية في طهران (تتكون في الاساس من الكسبة وجمع من الشخصيات العلمائية المؤمنة بقيادة ومرجعية الإمام الخميني) بتشكيل جمعية باسم (الهيئات الإسلامية المؤتلفة) وكان جناحها العسكري يمارس نشاطه على طريقة (فدائي الإسلام).

        كان من اهم الاعمال التي قامت بها هذه الجمعية، اغتيال رئيس الوزراء (حسن على منصور) الذي قبل تحمل عار المصادقة على "لائحة الحصانة" اثناء فترة حكومته. وقد اقدم النظام الملكي على اعتقال عدة عناصر مؤثرة من افراد هذه الجمعية عقب عملية الاغتيال، وقام باعدام بعضهم والحكم على الآخرين بالسجن لمدة طويلة. كان لاعضاء ومؤيدي هذه الجمعية دور اساسي ومؤثر طوال فترة الجهاد، إذ اشرفوا على عملية طباعة وتوزيع بيانات الإمام الخميني وتنسيق احتجاجات الكسبة والحرفيين، كما كان لهم السهم وتنسيق احتجاجات الكسبة والحرفيين، كما كان لهم السهم الوافر في تنظيم المظاهرات والاضطرابات في الاشهر الاخيرة من عمر النظام الملكي.

        كذلك اعلن عن تشكيل (حزب الشعوب الإسلاميّة) من بعض العناصر العلمائية والجامعية ومن سائر فئات الشعب بعد انتفاضة الخامس من حزيران بهدف مواجهة النظام عسكرياً، وقد عكف هذا الحزب فور تأسيسه على تسليح وتدريب عناصره، غير أن قياداته انكشفت بعد فترة من تأسيس الحزب نتيجة تحري وملاحقة السافاك، فبادر ـ اثر ذلك ـ بعض قادة واعضاء الحركة إلى الفرار واللجوء إلى الجبال الواقعة شمال مدينة طهران، لكن محاصرة قوات الشرطة لهم وبشكل منظم اوقعتهم في الأسر فسيقوا إلى السجون.

        ومن بين الحركات والاحزاب السياسية التي يمتد تاريخ تأسيسها إلى ما قبل انتفاضة حزيران 1963م، يمكن الاشارة إلى (حزب تودة) و(الجبهة الوطنية) و(حركة تحرير ايران).

        اما (حزب تودة الشيوعي) الذي كان متهماً من قبل الجماهير بالخيانة، فانه من الناحية العملية كان قد صالح النظام منذ مدة طويلة سبقت انتفاضة الخامس من حزيران ونقل تشكيلاته الحزبية إلى خارج البلاد، وكان يعيش حالة دائمة من الاختلافات الداخلية، فضلاً عن ان العديد من قادته سقطوا بعد اعتقالهم، وتفرغوا للتعاون مع النظام وإلى حدّ ما قبول بعض المناسب السياسية والادارية في النظام الملكي. كانت السياسيات التي انتهجها حزب تودة تابعة بشكل مباشر للمواقف السياسية التي تصدر عن موسكو، علماً ان سياسة الكرملين خلال الخمس والعشرين عاماً الاخيرة في العهد الملكي كانت قد تركزت على حفظ العلاقات مع النظام وعدم التفريط بالمنافع الاقتصادية السوفيتيه في ايران. ومن هنا اقتصرت نشاطات حزب تودة خلال تلك الفترة على اصدار البيانات السياسية وامتلاك اذاعة خارج البلاد، التي لم تكن في الغالب سوى اداة بيد موسكو للضغط على النظام لتحقيق اهدافها.

        الجبهة الوطنية ايضاً، ورغم الموقع الذي تسنمته في نهضة تأميم صناعة النفط إلا أنها بعد انقلاب 19 آب تعرضت للانزواء والانشقاقات والاختلافات الداخلية، وقد انحصرت النشاطات الاعلامية المتفرقة لانصار الجبهة عموماً في الاوساط الطلابية والاتحادات التي كانوا يشكلونها خارج البلاد. وقد التزم انصار الجبهة من الإسلاميين والجامعيين ـ رغم مواقف قادتهم ـ جانب التأييد والدعم لنهضة الإمام الخميني.

        اما حركة تحرير ايران، التي كانت تتمتع بدعم المجاهد آية الله الطالقاني، فقد اعربت عن دعمها لانتفاضة الإمام الخميني في الخامس من حزيران، وكانت قاعدة هذه الحركة منحصرة بالعناصر المتدينة في الجامعات وبعض الجامعيين الدارسين خارج البلاد، كما انها كانت تفتقد التشكيلات السياسية القادرة على توظيف الحركة الجهادية.

        اما منظمة (مجاهدو الشعب) فقد كانت قد تشكلت ما بين عامي 1965 ـ 1966م بهدف الكفاح المسلح ضد النظام الملكي. ونتيجة للمعرفة السطحية التي كان يتصف بها قادة هذه المنظمة تجاه الإسلام، وقعت المنظمة في فخ الالتقاطية. ومع انها قدمت تنظيمها على انه تنظيم إسلامي، إلا انها كانت تتعاطى في الخفاء بعض الافكار الماركسية في الاقتصاد، وفي اساليب النضال.

        وعلى الرغم من ان الانحرافات العقائدية لهذه المنظمة لم تكن قد اكتشفت بعد، إلا ان الإمام الخميني امتنع عن دعمها وتأييدها، حتى حينما ذهب ممثل الحركة للقاء الإمام في النجف الاشرف مطالباً اياه بدعم الحركة، امتنع سماحته موضحاً انحرافاتها الفكرية.

        منظمة (فدائيو الشعب) أيضاً كانت تمثل تنظيماً آخر تشكل من ائتلاف مجموعتين ماركسيتين صغيرتين، اعلن عن وجوده عام 1971، واتخذ الكفاح المسلح نهجاً لنضاله. جاء تشكيل هذه المنظمة اساساً بوحي الاحساس بالحقارة الذي أصاب الشيوعيين الايرانيين نتيجة وضع حزب تودة والخيانات التي ارتكبها من جهة، وتفوق وتضحيات العلماء والعناصر الإسلاميّة في انتفاضة الخامس من حزيران من جهة اخرى.

        حرص كلا الننظيمين في السنوات الاولى من تشكيلهما على كسب وتدريب عناصره، ثم بادر بعد ذلك للقيام بعمليات مسلحة محدودة ومتفرقة، استطاع السافاك بعدها من تشخيص قياداتهم مما أدّى تفكك المنظمتين. وفيما عدا اعدام بعض قادتهما، فان معظم الذين تم اعتقالهم من اتباعها اعطوا تعهداً مكتوباً للنظام بالكف عن نشاطاتهم الحزبية والاندماج في النظام. ورغم ان السافاك قصد ـ من خلال المقابلات التلفزيونية التافهة التي اعدها من بعض عناصر التنظيمين ـ تشويه صورة المجاهدين الحقيقيين في اذهان الناس، الا ان تلك المقابلات التلفزيونية والاعترافات المذهلة التي أقرّ بها اولئك كشفت النقاب عن الانحرافات الاخلاقية والعقائدية والتصفيات الدموية التي كانت تعيشها تلك التنظيمات. ومما تجدر الاشارة إليه ان بعض المعتقلين من عناصر هذين التنظيمين اخذ على عاتقه مسؤولية التجسس على المعتقلين السياسين المؤمنين بنهج الإمام الخميني، لصالح السافاك.

        على ايّ حال، ففضلاً عن (الهيئات الإسلامية المؤتلفة) و(حزب الشعوب الإسلامية) كانت هناك مجاميع إسلامية مجاهدة اخرى مارست دورها في الدفاع عن نهضة الإمام الخميني بانتهاج اسلوب الكفاح المسلّح، ويمكن على سبيل المثال ذكر المجاميع السبعة التي انصهرت فيما بعد في تشكيل واحد، وكذلك مجموعة رجل الدين المجاهد الشهيد على اندرزكو.

        في السنوات التي تلت انتفاضة حزيران 1963م، كان لمجموعة تحمل اسم "رابطة الحجتية" نشاط واضح، مع ان تاريخ تشكيل هذه المجموعة يعود إلى سنوات طويلة سابقة. وانّ محور نشاطها كان يدور حول المواجهة الفكرية للحركة البهائية في ايران. وعلى الرغم من التناقض الذي كان يبدو بين اهداف هذه المجموعة وتطلعات النظام باعتباره حامي البهائية، إلا ان الواقع كان يحكي شيئاً آخر؛ ذلك ان (رابطة الحجتية) وقادتها كانوا يشترطون للانتماء إلى الحركة، عدم التدخل في السياسة، الأمر الذي هيأ للنظام ظروفاً مناسبة استطاع من خلالها تعطيل عدد كبير من الطاقات الدينية الفعالة وصرفها عن مواجهة العلة والعامل الاساسي للفساد في ايران (السلطة الملكية العميلة) وإشغالها بمواجهة المعلول وبشكل غير مؤثر ايضاً. وبهذا النحو استطاعت رابطة الحجتية من توسيع تشكيلاتها ودائرة نشاطاتها دون ادنى مضايقة من السافاك، بل انها ـ في بعض المواطن ـ كان يتم ذلك بدعم من السافاك.

        وبعد قيام الإمام الخميني بفضح حقيقة عقائد هذه الرابطة انسحب منها العديد من اعضائها والتحقوا بصفوف مؤيدي نهضة الإمام الخميني، خصوصاً قبيل انصار الثورة الإسلامية.

        كانت رابطة الحجتية تمارس دورها في مواجهة البهائية في المجال الفكري الثقافي، في حين ان البهائية في العقود الاخيرة ـ سواء في ايران أو سائر انحاء العالم ـ كانت تعمل كحزب سياسي مرتبط باسرائيل ومدعوم من قبل الصهاينة المقيمين في أميركا، ومن الطبيعي ينبغي للمتصدين لمواجهتها ان يأخذوا هذه الامور في الحسبان.

        ومنذ عام 1969م وما بعد، اصبحت المحاضرات والخطابات التي كان يلقيها افراد من قبيل: الاستاذ مطهري، والدكتور مفتح، والدكتور باهنر، والمهندس بازركان، والدكتور علي شريعتي، في المراكز الدينية في طهران كمسجد قبا، ومسجد هدايت، ومركز التوحيد، وحسينية الارشاد (على الخصوص)، محط انظار العديد من المثقفين المتدينين والمسلمين الجامعيين. فقد كرس الاستاذ المطهري ـ بوصفه فيلسوفاً وفقيهاً متميزاً حضر لسنوات طويلة درس الإمام الخميني والعلامة الطباطبائي (ره) ـ جل اهتمامه بعد عودته إلى طهران لتبيين الاسس العقائدية الإسلامية وبلغة معاصرة، وتوعية الجيل الشباب بانحرافات المدارس الالحادية والالتقاطية. وقد عدّ الإمام الخميني جميع آثار الشهيد المطهري وبدون استثناء آثاراً مفيدةً، وجلل ذكراه والخدمات القميمة التي اسداها للإسلام والمسلمين.

        جدير بالذكر ان الرسائل التي كتبها الاستاذ مطهري وما خلّف من أوراقه المتبقية، تشير إلى ان السبب في اعتزال الاستاذ فعاليات ونشاطات حسينية الارشاد، يكمن في اعتقاده ان الثورة الثقافية والاجتماعية يجب ان تستند إلى اصالة الوحي وإلى الفكر الديني المحض، لذا فإن الاستاذ المطهري كان يعتقد بان تأثير الاتجاهات الحديثة والتفسيرات الثورية للمسائل الدينية والمذهبية ـ غير المبنية على الاساس المذكور، والتي لا تتعاطى الاساليب التخصصية في فهم استنباط الاحكام الدينية ـ سيكون مؤقتاً سريع الزوال وسيفتح الطريق أمام الالتقاط والخلط بين المقولات الدينية والافكار الوضعية، الأمر الذي سيمهد السبيل أمام نفوذ ورسوخ النظريات الفلسفية والاجتماعية الغربية.

        اما الإمام الخميني فقد أكدّ في الكثير من خطاباته وبياناته في ذلك الوقت على ضرورة الدفاع عن المواقف المقدامة لعلماء الدين المجاهدين الشيعة طوال التاريخ، والدفاع عن العلماء الاعلام، وردّ على كل الشكوك التي اثيرت حول هذه الموضوع. وقد كرر التحذير ـ في رسائله التي بعث بها إلى الاتحادات الإسلامية للجامعيين الدارسين في الخارج ـ من الاستنتاجات السطحية وغير المتخصصة عن الإسلام منبهاً في الوقت ذاته ـ وضمن تكريمه وتجليله للخدمات التي اسداها المفكرون المثقفون المسلمون ـ الى خطر المتحجرين والقشريين من علماء الدين، مؤكداً ايضاً على تجنب طرح المسائل المثيرة للخلاف والتمحور حول التكتلات الحزبية الأمر الذي يعدّ مخالفاً لمصالح الثورة.

        الإمام الخميني ومواصلة النضال (1971 ـ 1977م)

        في اواخر عام 1971م تصاعدت وتيرة الخلافات بين نظام البعث العراقي ونظام الشاه الأمر الذي اسفر عن ترحيل الآلاف من الايرانيين المقيمين في العراق إلى بلدهم. وبهذا الشأن ابرق الإمام الخميني إلى الحكومة العراقية وندد بشدة بعملية التهجير تلك، واعلن عن عزمه على مغادرة العراق استنكاراً لممارسات الحكومة العراقية. غير ان النظام الحاكم في بغداد منع الإمام من الخروج تخوفاً من النتائج التي قد تترتب على خروجه.

        من جانب آخر وتزامناً مع زيادة انتاج النفط وارتفاع اسعاره في سنة 1971م وما بعد، احس الشاه بقدرة اكبر، فضاعف من وحشيته في قمع واضطهاد المعارضين، وخاض سباقاً جنونياً في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الاستهلاكية الاميركية، وسرّع من ايجاد القواعد العسكرية الأميركية والعديدة داخل البلاد، وزاد من مستوى العلاقات التجارية والعسكرية مع اسرائيل، وحمّل الشعب الايراني نفقات هائلة لإقامة الاحتفالات الاسطورية في ذكرى مرور الفين وخمسمائة عام على نشوء الملكية في ايران والتي كان يحضرها العديد من قادة ورؤساء دول العالم. وقد جعل الشاه من هذه الاحتفالات استعراضاً للقدرة والثبات اللذين يتمتع بهما النظام الملكي.

        وقد ندد الإمام الخميني ـ وعبر بيانات عديدة ـ بهذه الاحتفالات المفروضة على الشعب، وكشف النقاب عن تخلف البلاد والحقائق المرّة التي حكمت المجتمع الايراني.

        وخلال الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة، وبينما كان الملك يمثل الحامي المقتدر لاسرائيل، طالب الإمام الخميني ـ عبر بيان اصدره في تشرين الثاني 1973م ـ الشعب الايراني بالوقوف في وجه اعتداءات الكيان الصهيوني، كما افتى في هذا البيان ايضاً بوجوب دعم الشعوب الإسلامية للمجاهدين الفلسطينيين مادياً ومعنوياً، وذلك عبر التبرع بالدم وارسال الاسلحة والذخائر والمواد الغذائية إلى المجاهدين المسلمين. كما أكدّ سماحته في بيان آخر على ان: "الأمة الإسلامية لن ترى يوماً سعيداً ما لم تجتث جرثومة الفساد هذه (اسرائيل) من جذورها، وان ايران لن تشم نسيم الحرية مادامت مبتلاة بهذه العائلة (البهلوية) الفاسدة".

        وفي اواسط شهر آذار 1974م، تجلت ديكتاتورية الملك في ذروتها، حينما اعلن عن تشكيل حزب البلاد "رستاخيز" (ويعني البعث!) واعتمد سياسة الحزب الواحد. فقد اعلن عبر حديث تلفزيوني بأن على جميع ابناء الشعب الايراني ان ينتسبوا إلى الحزب، وعلى المعارضين ان يحصلوا على جوازات سفر ويغادرون البلاد باسرع وقت.

        وعلى الفور اصدر الإمام الخميني فتواه التي جاء فيها: "نظراً لمخالفة هذا الحزب للإسلام ومصالح الشعب الايراني المسلم، يحرم على جميع ابناء الشعب الانتماء إليه، وان الانتماء اليه يعدّ أعانة للظالم ومشاركة في القضاء على المسلمين، كما ان معارضته تعدّ من ابرز مصاديق النهي عن المنكر".

        كانت فتوى الإمام الخميني وبعض علماء الإسلام فاعلة ومؤثرة. ورغم الاعلام المكثف الذي كرسه النظام للحث على تقوية الحزب، إلا ان النظام اعلن عن هزيمته رسمياً بحلّه الحزب بعد عدّة سنوات.

        كتب الإمام الخميني في جانب آخر من بيانه هذا يقول: "وانا في غربتي هذه، يعصرني الألم والحسرة على الوضع المؤسف الذي يعيشه الشعب الايراني، وكم هو جميل ان اكون في هذه الظروف الحساسة بين أبناء الشعب، اساهم معهم في هذا الجهاد المقدس من اجل انقاذ الإسلام وإيران".

        وفي عام 1975 وفي ذكرى انتفاضة حزيران، شهدت الفيضية مجدداً قيام الطلاب الثوريين وانطلقت صرخات "يعيش الخميني"، "الموت لسلالة البهلوي" لترن في أرجاء المدرسة على مدى يومين. ولما كانت الحركات والمنظمات الفدائية قد تلاشت، وكانت الشخصيات الدينية والسياسية المجاهدة ترزح في سجون النظام، فقد مثلت هذه الحركة الثورية صدمة للملك والسافاك، فانطلقت قوات الشرطة لمحاصرة المدرسة الفيضية ثم انهالت على طلبة العلوم الدينية بالضرب والشتم بصورة وحشية وألقت القبض على جميع المعترضين واقتادتهم إلى السجون.

        وفي بيان اصدره الإمام الخميني بهذه المناسبة، اعرب عن تفاؤله لهذا الحادث قائلاً: "رغم كل المصائب فإنّ صحوة الشعب تبعث على الأمل. ان نهوض الجامعيين في مختلف انحاء إيران ـ طبقاً لاعتراف الملك نفسه ـ والعلماء الاعلام وطلاب المدارس ومختلف فئات الشعب، رغم كل الضغوط والتجبر، مقدمة لنيل الحرية والانعتاق من قيد الاستعمار".

        وفي كلمة بعثها إلى المؤتمر السنوي للاتحادات الإسلامية للجامعيين الدارسين في أميركا وكندا، وفي 24 ايلول 1975م، كتب سماحته: "ان نقطة الأمل المضيئة التي اراها في اواخر عمري، هي هذا الوعي والصحوة التي يتحلى بها الجيل الشباب. ونهضة المثقفين التي تتنامى بشكل سريع والتي ستحقق أهدافها ـ باذن الله تعالى ـ في قطع ايادي الاجانب وبسط العدالة الإسلامية".

        امعاناً في سياساته بمحاربة الدين، غيّر الملك في آذار عام 1975 بكل وقاحة، التاريخ الرسمي المعتمد في البلاد، من التاريخ الهجري إلى التاريخ الملكي لملوك الهخامنشة. وفي ردّ حاسم افتى الإمام الخميني بحرمة استخدام التاريخ الملكي.

        وكما استقبلت الجماهير فتوى الإمام في تحريم الانتماء إلى حزب (رستاخيز)، حظيت فتواه في تحريم استخدام التاريخ الملكي الموهوم باستقبال جماهير كبير، وفضحت الحادثتان النظام الملكي، مما دفعتاه إلى التراجع عنه عام 1987 وإلغاء استخدام التاريخ الملكي.

        من جانب آخر، انهت اتفاقية الجزائر عام 1975م التي وقعت بين الشاه وصدام حسين (نائب رئيس الجمهورية العراقية آنذاك) الخلافات بين البلدين بشكل مؤقت، فقد رأت أميركا ان المنازعات والمناوشات بين بغداد وطهران وقتئذ أمر يعرض الاستقرار في المنطقة وفي الخليج الفارسي إلى الخطر. لذا فقد تمّ عقد تلك الاتفاقية بشكل رسمي بتدخل الرئيس الجزائري والرئيس المصري انور السادات الصديق الحميم لشاه ايران.

        أدت اجواء التآلف بين حكام بغداد وطهران إلى مضاعفة العراقيل أمام مسير جهاد الإمام الخميني، غير ان هذه الموانع لم تتمكن من ثنيه عن مواصلة جهاده الذي ابتدأه.

        وفي تلك الايام بعث السفير الايراني في العراق تقريراً وجهه إلى قادة النظام الملكي يقول فيه: "ان آية الله الخميني، لم يكف عن ممارسة نشطاته في العراق، فهو ناشط جداً في العمل على مواجهة النظام، يرجى اصدار أوامركم في هذا الخصوص لتحديد موقفنا تجاهه".

        وفي معرض جوابه على هذا التقرير كتب الملك ـ بغضب ـ: "لقد قلت مراراً لابد من خنق هذا الصوت" غافلاً عن ان التقدير الالهي اراد مصيراً آخراً لرسالة الإمام الخميني {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره}.

        في عام 1976 وصل الديمقراطيون الى البيت الابيض الأميركي، وضاعت سدىً المساهمات المالية التي قدمها شاه ايران إلى الجمهوريين، وكان كارتر قد انتصر من خلال شعارات حقوق الانسان، والحد من تصدير الاسلحة إلى الخارج. وواضح أنّ هذه الشعارات انما رفعت لاجل الحدّ من المشاعر العدائية تجاه أميركا التي كانت تسود البلدان الاخرى كايران مثلاً، والتعتيم على الازمة الاقتصادية التي كانت تعصف بأميركا، وزيادة الضغط على الاتحاد السوفيتي (السابق) للحصول على امتيازات اكثر في مفاوضات الحدّ من الاسلحة النووية التي كانت جارية آنذاك بين الطرفين.

        بعد اتضاح سياسات الديمقراطيين في أميركا، قام الملك بالاعلان عن سياسة الجو السياسي المفتوح! واقدم على اجراء تغييرات وتبديلات في بيادقه.

        وتشير الوثائق التي نشرت بعد احتلال وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية في طهران) بان السياسة الأميركية فيما يخصّ إيران ـ التي كانت تضع اطارها العام وزارة الخارجية الأميركية ووكالة المخابرات الأميركية Cia، وكانت تبلغ للسفارة في طهران ـ لم تتغير، فأميركا تدعم الملك ونظامه بالكامل، وان الديمقراطيين ايضاً يرون ـ كما هو الحال في السابق ـ بأن الملك يمثل عنصراً اساسياً لحفظ المصالح الأميركية في منطقة الخليج الفارسي، لذا استثنيت إيران من قانون حظر تصدير الاسلحة.

        وقد اوضح سفر كارتر وزوجته إلى طهران والحديث الذي أدلى به والتصريحات التي اعلن من خلالها عن الدعم المطلق الذي يوفره البيت الابيض للملك، بأنّ الجو السياسي المفتوح انما كان حركة مسرحية عابرة.

        بلوغ الثورة الإسلامية ذروتها عام 1977 ونهضة الجماهير

        تمكن الإمام الخميني ـ الذي كان يتابع التحولات والاحداث الجارية في إيران والعالم بدقة متناهية ـ من اغتنام الفرصة التي اتيحت له محققاً الاستفادة القصوى منها. فقد اعلن في بيان اصدره في آب 1977: "نظراً للاوضاع الداخلية والخارجية، وانتشار انباء الجرائم التي يرتكبها النظام الحاكم في المحافل الدولية والصحافة الاجنبية، فإن الفرصة مواتية الآن للتجمعات العلمية الثقافية والوطنيين والجامعيين الدارسين في الخارج والداخل، والاتحادات الإسلاميّة اينما كانت، للمبادرة بالانتفاضة ـ دون خوف ـ واغتنام هذه الفرصة".

        وجاء في جانب آخر من البيان ذاته: "ان التجاوز على حقوق مئات الملايين من المسلمين، وتحكيم حفنة من الاوباش على مقدراتهم، واتاحة الفرصة للنظام الايراني غير الشرعي، وللكيان الاسرائيلي الخاوي ليغتصبا حقوق المسلمين ويصادرا الحريات، ويتعاملا مع الناس معاملة وحشية، كلها جرائم ستثبت في سجل الرؤساء الأميركيين".

        تحولت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني في شهر تشرين الاول 1977م والمراسم التأبينية المهيبة التي اقيمت له في إيران، إلى نقطة انطلاقِ لتحرك الحوزات العلمية مجدداً، ونهضة المجتمع الايراني المتدين. وقد عبر الإمام الخميني عن تلك الحادثة بـ"الألطاف الإلهية الخفية" ـ الأمر الذي أثار الدهشة والاعجاب. وقد حاول النظام الملكي حينها الانتقام من الإمام بنشر مقالة موهنة في صحيفة اطلاعات. غير ان السحر انقلب على الساحر، اذ فجرت المقالة انتفاضة التاسع من كانون الثاني عام 1978م التي استشهد فيها جمع من الطلاب الثوريين. ومرة اخرى اشعلت قم فتيل النهضة، وما هي إلاّ فترة وجيزة ـ وفي ظروف اختلفت تماماً عن الظروف التي انطلقت فيها انتفاضة حزيران 1963 ـ حتى تضافرت وتكاتفت حركة الجماهير في مختلف انحاء البلاد. حيث ادت إقامة مراسم العزاء المتتالية في اليوم الثالث والسابع والاربعين من سقوط الشهداء، إلى سريان لهيب الثورة إلى مدن البلاد الاخرى كتبريز ويزد وجهرم وشيراز واصفهان وطهران. وطوال هذه الفترة كانت البيانات المتواصلة الصدور من الإمام الخميني، واشرطه تسجيل احاديثه وخطاباته ـ والتي كان يدعو فيها الجماهير إلى الثبات ومواصلة النهضة حتى القضاء على النظام الملكي وتشكيل الحكومة الإسلامية ـ تستنسخ وتكثر على ايدي مؤيديه وانصاره ويتم توزيعها في جميع انحاء البلاد.

        ومع كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام الملكي، لم يتمكن من اخماد لهيب الثورة المستعرة. وكانت احابيله ودسائسه السياسية ومناوراته العسكرية تبوء بالفشل دون أن يكون لها دور في تهدئة الغضب الجماهيري، بفعل بيانات الإمام التي كانت تكشف الخفايا وترشد الجماهير إلى اتخاذ الخطوات اللازمة في مسيرة تحركهم.

        ولمّا لم ينفع تنصيب احد التكنوقراطيين المتغربين (جمشيد آموزكار) رئيساً للوزراء بدلاً عن (هويدا) ـ الذي عمل في خدمة الملك ثلاثة عشر عاماً ـ في ايجاد حل للمعضلة التي تعصب بالنظام، استبدل الملك آموزكار بأحد اعضاء المحافل الماسونية الاستعمارية في ايران، فجاء (جعفر شريف إمامي) رافعاً شعار "حكومة المصالحة الوطنية". إلاّ أن دسائسه ومساعيه في التفاوض مع شريعتمداري ـ الذي لمع نجمه مجدداً باعتباره احد القادة الدينيين، وحرص النظام على تأييده ودعمه ـ لم تتمكن من ايقاف التحرك الجماهيري.

        وفي عهد حكومته (شريف إمامي) ـ الثامن من ايلول ـ ارتكبت المذبحة الجماعية الوحشية بحق الجماهير العزل في ميدان جالة (الشهداء حالياً) بطهران. واعلنت إثر ذلك الاحكام العرفية في كل من طهران واحدى عشرة محافظة من محافظات البلاد الكبرى لأجل غير مسمى.

        غير أنّ الجماهير لم تعبأ بالاحكام العرفية، مستلهمة شجاعتها من بيانات الإمام الخميني، واستمرت التظاهرات ليل نهار، دون انقطاع، بل كانت في اتساع مستمر. إذ كانت نداءات (الله اكبر)، (الموت للشاه)، (يعيش الخميني) تسمع على مدار الساعة ويرافقها احياناً ازيز الرصاص الذي كان ينطلق من كل جهة.

        لقد قاد الإمام الخميني نهضته منذ البدء مستلهماً قوله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} ومرجّخاً الثورة الثقافية والتحول الاجتماعي بواسطة الجماهير، على الثورة السياسية، وكان سماحته يعتقد في تلك الظروف التي كانت تمر بها ايران بعدم جدوى النضال من خلال الاحزاب أو البرلمانات، وكذا بعدم جدوى الكفاح المسلح إذا ما جرّد من مشاركة الجماهير، ودعمهم. وكان يرى التعبئة العسكرية والجهاد العام المسلح آخر السبل المتبقية إذا ما فكرت أميركا بالانقلاب العسكري.

        كانت المساجد والمراكز الدينية بمثابة المعاقل الاساسية للثورة الإسلامية والمنطلق لتحرك الجماهير وتجمعاتها. وكانت الشعارات التي ترددها الجماهير مزيجاً من التعاليم الدينية وارشادات الإمام الخميني. وخلال عامي 1977م 1978م، وعندما بلغت الثورة الإسلامية ذروتها عادت الاحزاب والفئات السياسية للظهور من جديد وباعداد كبيرة جداً، وقاعدة ضئيلة لا تذكر، مما جعلها تعيش في جدبٍ حرمها امكانية التأثير في مجرى الاحداث تماماً فاضطرها إلى مجاراة الحركة الجماهيرية الواسعة.

        ويومها نشطت الحركات والفصائل الجهادية المسلحة، التي تمّ تشكيلها بوحي من الاهداف الإسلامية واعتقادات راسخة بنهج الإمام الخميني، فكانت نشاطاتها تعبّر عن نهج جهادي مستقل، بل تمثل حركة حماية ودعم لثورة الشعب العارمة.

        وكان من الاساليب الموفقة التي اتبعها الإمام الخميني في الجهاد ضد نظام الشاه، دعوته الجماهير إلى الاضطرابات العامة وتوسيع مدارها. فقد شملت الاضرابات في الاشهر الاخيرة من الثورة مختلف اركان النظام من وزارات ودوائر ومراكز عسكرية حتى امتد الأمر إلى عمال وموظفي شركة النفط الوطنية والبنوك ومراكز الدولة الحساسة، الأمر الذي وجّه الضربة القاضية إلى جسد النظام.

        انتقال الإمام الخميني من العراق إلى باريس

        اتفق الطرفان في الاجتماع الذي عقد بين وزيري خارجية العراق وإيران في نيويورك على اخراج الإمام الخميني من العراق.

        وفي الرابع من ايلول 1978م حوصر منزل الإمام الخميني في النجف من قبل قوات أمن النظام العراقي، مما فجر غضب المسلمين في إيران والعراق وسائر البلدان. ففي لقائه الإمام أبلغه رئيس دائرة الأمن العراقية بأنّ شرط إقامته في العراق، الكف عن نشاطه الجهادي وعدم التدخل بالسياسة. وقد ردّ الإمام بحزم على هذا الاقتراح منوّهاً إلى احساسه بالمسؤولية قبال الأمة الإسلامية، الأمر الذي يمنعه من السكوت أو عقد أيّ نوع من المصالحة.

        في الرابع من تشرين الأول من العام نفسه، غادر الإمام الخميني النجف الأشرف متوجهاً إلى الكويت، غير أنّ الكويت امتنعت عن استقباله بايعاز من النظام الايراني. عندها اقترح البعض السفر إلى سوريا أو لبنان، غير ان الإمام الخميني ـ وبعد التشاور مع نجله حجة الإسلام الحاج السيد احمد الخميني ـ قرر السفر إلى باريس. وفي السادس من تشرين الاول عام 1978م وصل الإمام الخميني إلى باريس. وبعد يومين من وصوله انتقل إلى منزل احد الايرانيين المقيمين في نوفل لوشاتو (ضواحي باريس).

        بعدها قام موظفو قصر الاليزيه بابلاغ الإمام الخميني بوجهة نظر الرئيس الفرنسي (جيسكار ديستان) المتمثلة بضرورة اجتناب الإمام الخميني لاي نشاط سياسي. وقد ردّ سماحته بحزم بأن هذا يتنافى ومزاعم الديمقراطية، وانه إذا اضطر للسفر من مطار إلى مطار ومن بلد إلى بلد فإنه لن يكف عن جهاده لتحقيقي اهدافه.

        كتب الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان في مذكراته بأنه كان حينها قد اصدر الأمر باخراج الإمام الخميني من فرنسا، لكنه عدل عن قراره في آخر لحظة عندما حذره ممثلو النظام الايراني والسياسيون الذين كانوا يعيشون اقصى حالات القلق والاضطراب، من مغبة وقوع ردّ فعل جماهيري يستحيل السيطرة عليه، وانهم غير مسؤولين حينها عما سيقع في إيران وفي أوربا.

        وخلال مدة اقامة الإمام في (نوفل لوشاتو) التي دامت اربعة اشهر، تحولت تلك المدينة الصغيرة إلى اهم مركز خبري في العالم، وعرض الإمام الخميني من خلال اللقاءات الصحفية المتعددة التي اجريت معه مختلف وجهات نظره حول الحكومة الإسلامية واهداف نهضته المستقبلية أمام العالم اجمع، وبذلك تعرف الكثيرون على فكر الإمام وثورته، ومن هنا إبتدأت قيادته لاصعب المراحل في النهضة الإسلامية الايرانية.

        لم تستطع حكومة (شريف إمامي) الصمود اكثر من شهرين، وبعد سقوطها كلّف الشاه (ازهاري) بتشكيل حكومة عسكرية. فازدادت وتيرة المذابح، الا انها لم تستطع السيطرة على الجماهير. فطالب الشاه ـ بعد ان اصيب بالانهيار ـ السفيرين الأميركي والبريطاني بحل للازمة. الا انّ أيّاً من مقترحاتهما لم تجد نفعاً.

        وفي يومي تاسوعاء وعاشوراء انطلقت المظاهرات المليونية في طهران وسائر المدن الاخرى، والتي اشتهرت فيما بعد باسم (الاستفتاء غير الرسمي من قبل الجماهير ضد سلطة الملك).

        تم اقتراح شابور بختيار، احد قادة الجبهة الوطنية، وآخر بيدق من البيادق الأميركية، على الشاه لتعيينه رئيساً للوزراء. ففي اجتماعهم الرباعي في (غوادلوب) اتفق قادة الدول الصناعية على دعم وزارة بختيار.

        وبعد ذلك وصل الجنرال هايزر (معاون قيادة حلف الناتو) إلى طهران في مهمة سرية استغرقت شهرين، وقد كشف النقاب في اعترافاته فيما بعد عن أن مهمته كانت تتمثل في توفير دعم وحماية العسكريين لبختيار وتوفير الامن لوزاراته، وافشال الاضطرابات، واخيراً الاعداد لانقلاب عسكري لاعادة الملك إلى السلطة بشكل مشابه لما تمّ في انقلاب 19 آب 1935م. غير ان بيانات الإمام الخميني التي اكدت وجوب مواصلة الجهاد احبطت جميع مخططات النظام.

        في مطلع عام 1979 شكل الإمام الخميني مجلس قيادة الثورة. كذلك فإن الملك ايضاً وبعد تشكيل مجلس الوصاية على العرش وحصول وزراة بختيار على ثقة اعضاء المجلس فرّ من البلاد في 16 كانون الاول 1978. وانتشر الخبر في طهران وسائر انحاء إيران وخرجت الجماهير إلى الشوارع تحتفل وتعبر عن فرحها.

        من جانب آخر لم تستطع اجتماعات هايزر المتواصلة بالمستشارين العسكريين الأميركان وقادة الجيش الشاهنشاهي، من مساعدة بختيار في التغلب على الاضرابات وانهاء الثورة الشعبية.

        تعليق


        • #5
          عودة الإمام بعد 14 عاماً من النفي

          شاع في أواخر شهر كانون الاول خبر عزم الإمام الخميني على العودة إلى إيران. وكان كل من يسمع بالخبر تفيض عيناه بدموع الشوق. لقد عانت الجماهير اربعة عشر عاماً من الانتظار. بيد أن الجماهير والمحبين كانوا في قلق واضطراب على حياة الإمام الخميني ذلك ان الحكومة العسكرية العميلة للملك مازالت في سدة الحكم. لذلك فقد اوصى اصدقاء الإمام بتأخير السفر قليلاً لتوفير الظروف المناسبة لحمايته.

          من جانب آخر فإنّ عودة الإمام إلى إيران في تلك الظروف ولقائه بالجماهير المليونية الثائرة كان يعني ـ من وجهة نظر أميركا ـ النهاية الحتمية للنظام الملكي. لذا فقد اتخذت خطوات عديدة، بدء من التهديد بتفجير الطائرة التي تقل الإمام، وانتهاءً بالقيام بانقلاب عسكري، كل ذلك لدفع الإمام إلى تأخير سفره. حتى أن الرئيس الفرنسي وقتئذ قام بدور الوساطة، لكنّ الإمام كان قد اتخذ قراره النهائي واعلن عبر بيانات اصدرها للشعب الايراني بانه يرغب ان يكون مع شعبه في هذه الايام المصيرية الحاسمة.

          اقدمت حكومة بختيار ـ بالتنسيق مع الجنرال هايزر ـ على اغلاق المطارات بوجه الرحلات الخارجية.. وقد توجهت الملايين من مختلف انحاء البلاد، لتشارك في التظاهرات التي انطلقت في طهران مطالبة بفتح المطار. كما اجتمع جمع من العلماء والشخصيات السياسية في مسجد جامعة طهران واعلنوا عن اعتصامهم هناك حتى تفتح مدارج المطار، ولم تتمكن حكومة بختيار من الصمود اكثر من عدّة ايام ثم رضخت لمطالب الجماهير.

          اخيراً وفي مطلع شهر شباط عام 1979م وصل الإمام الخميني إلى إيران بعد اربعة عشر عاماً من فراق الوطن. وقد كان استقبال الجماهير لقائدها عظيماً ومنقطع النظير إلى درجة لم تستطع حتى الشبكات الاعلامية الغربية من انكاره، إذ قدرت وسائل الاعلام الغربية عدد المستقبلين بين (4 ـ 6) ملايين شخص.

          وما ان وصل الإمام حتى توجهت الجموع من مطار طهران إلى مقبرة "جنة الزهراء" حيث مزار الشهداء، لتصغي لحديث قائدها التاريخي. في ذلك الحديث اعلن الإمام قائلاً: "سوف اقوم بدعم من هذا الشعب، بتشكيل الحكومة".

          وفي بداية الأمر، اعتبر بختيار بأنّ الإمام يمزح! وما هي إلا ايام قلائل حتى أعلن الإمام الخميني في الخامس من شباط 1979 عن تعيين (مهدي بازركان) رئيساً للحكومة الموقتة، بعد ترشيحه من قبل مجلس الثورة.

          وفي قرار التعيين طالب الإمام الخميني المهندس بازركان بتشكيل وزارته دون الأخذ بنظر الاعتبار العلاقات الحزبية، وذلك لاعداد التمهيدات اللازمة لاجراء استفتاءٍ شعبي ثم إجراء الانتخابات، مطالباً الجماهير الايرانية التعبير عن رأيها من خلال الانتخابات المزمع اجراؤها. فبادرت الجماهير للانطلاق في مظاهرات حاشدة عمت البلاد بأسرها للاعلان عن دعمها وتأييدها لقرار الإمام الخميني.

          اما الاحزاب والفصائل السياسية الاخرى ـ والتي كان قادتها ومسؤولوها واعضاؤها القليلون يخرجون من سجنهم ومعتقلاتهم ببركة نهضة الجماهير وعلى عدة مراحل، وفيما كان الشعب يقف على اعتاب النصر ـ راحت تتطلع إلى الحصول على المكاسب والمطالبة بسهم اوفر لها في ارث الثورة. ومنذ تلك الأيام ابتدأ الاصطفاف بوجه الثورة الإسلامية بصفوف امتلأت بعملاء النظام البائد وازلام السافاك والشيوعيين ومجاهدي خلق (المنافقين).

          سقوط النظام الملكي وانتصار الثورة الإسلامية يوم الله 11 شباط

          بايع منتسبو القوة الجوية، في الثامن من شباط 1979، الإمام الخميني في محل اقامته بالمدرسة العلوية في طهران، واصبح الجيش الملكي على حافة السقوط الكامل. وقبل ذلك كان العديد من الجنود والمراتب من المؤمنين قد تركوا المعسكرات التزاماً بفتوى الإمام والتحقوا بصفوف الجماهير.

          في التاسع من شباط قام منتسبو القوى الجوية بالتمرد في اهم قاعدة لهم في طهران. وبادرت قوات الحرس الملكي للقضاء على التمرد، فهبت الجماهير لدعم القوات الثورية في القاعدة. وفي العاشر من شباط كان معظم مراكز الشرطة ومؤسسات الدولة قد سقطت الوحدة تلو الأخرى بأيدي الجماهير. وفي بيان عسكري له اعلن القائد العسكري لمدينة طهران عن تمديد ساعات منع التجوال إلى الساعة الرابعة بعد الظهر. وتزامناً مع ذلك عقد بختيار اجتماعاً طارئاً لمجلس أمن الدولة واصدر أوامره بالقيام بالانقلاب العسكري الذي اعد له سلفاً بالتنسيق مع الجنرال هايزر. من جانب آخر اصدر الإمام الخميني بياناً دعا فيه ابناء طهران ـ وبدافع احباط المؤامرة المبيّتة ـ للنزول إلى الشوارع والغاء قرار منع التجوال بشكل عملي. فاندفعت الجماهير شيباً وشباناً ونساءً واطفالاً إلى الشوارع، وشرعت باعداد الخنادق. وما ان خرجت الدبابات والقوات العسكرية المكلفة بتنفيذ الانقلاب من معسكراتها حتى سيطرت الجماهير عليها ومنعتها من مواصلة مسيرها. ففشل الانقلاب منذ ساعاته الاولى، وبذلك سقط آخر معاقل النظام الملكي. وفي صباح الحادي عشر من شباط اشرقت شمس انتصار نهضة الإمام الخميني والثورة الإسلامية، لتعلن نهاية عهد حاكمية الملوك الظالمين في ايران.

          تشكيل الحكومة الإسلامية واصطفاف الدول الاستعمارية لمعاداتها

          لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، حادثة داخلية لتغيير نظام سياسي معين، بل كان ذلك ـ وما عبر عنه الكثير من ساسة أميركا واسرائيل واوربا في مذكراتهم التي كتبوها عن تلك الايام ـ زلزالاً مدمراً للعالم الغربي.

          ففضلاً عن ان أميركا فقدت بنجاح الثورة اهم موقع جغرافي واقتصادي وعسكري لها في احدى اشدّ مناطق العالم حساسية وفي بلد كان يمتلك اطول حدود مشتركة مع منافسه الشرقي (الاتحاد السوفيتي السابق)، فإن امواج هذا الانفجار الهائل، كانت قد هزت الانظمة العميلة في البلدان الإسلامية والعربية واصابتها بالذعر الشديد.

          كانت رسالة الثورة الإسلامية الاصيلة ذات ماهية ثقافية بنيت على الفكر الديني والقيم المعنوية. ومن هنا كان انتصار الثورة يعني صدور رسالتها وقيمها لتفجير موجة من النهوض والتحرر في البلدان الإسلامية والعالم الثالث. وفي الفترة نفسها التي حققت الثورة الإسلامية نصرها في ايران سقط النظام العميل لامريكا في (نيكاراغوا). وفي افغانستان اضطر الاتحاد السوفيتي إلى القيام بانقلاب دموي دفع على اثره قواته العسكرية لاحتلال تلك الدولة للسيطرة على التحرك الإسلامي. كما ان الجماهير العربية المسلمة في لبنان وفلسطين احتفلت بانتصار الثورة الإسلامية في إيران وابتدأت مرحلة جديدة في نضالها، مستلهمةً من الثورة الإسلامية افكار واساليب جديدة. كذلك عادت الحياة إلى الحركات الإسلامية في مصر وتونس والجزائر والسودان والحجاز وتركيا.

          بعد الحرب العالمية الثانية كان قد ساد العالم نظام ظلم. فقد تمّ تقسيم مناطق العالم بين القوتين المنتصرتين (الشرقية والغربية) واوكلت مهمة الحفاظ على هذا النظام المقيت إلى حلفي (وارشو) و(الناتو). ولم تستطع اية حركة أو ثورة في العالم الثالث من تحقيق أيّ هدف لها خارج هذا الاطار ودون الارتباط باحد القطبين الحاكمين. ومع ذلك حققت الثورة الإسلامية نصرها في عالمنا المعاصر وفي منطقة كان يعدّها الغربيون منطقة أمن لهم، وكان شعارها "لا شرقية ولا غربية".

          لقد وقفت نهضة الإمام الخميني وبشكل مباشر بوجه الامبريالية الأميركية وألحقت الهزيمة بها، الأمر الذي جرّد الشيوعيين من سلاحهم الذي كانوا يلوحون به (الوقوف بوجه الامبريالية). ولاول مرة في العصر الحاضر يطرح الدين كعامل محرك في ميدان نضال الشعوب.

          وعلى الرغم من مشاعر الشك والترديد، والمساعي التي بذلت على المستوى الدولي للحفاظ على نظام الشاه وللحيلولة دون انتصار الإمام الخميني في نهضته، حققت الثورة الإسلامية النصر في المرحلة الأولى من صراعها، ولهذا فإن انتصارها كان يعد معجزة أكثر منه تحولاً عادياً. وفيما عدا الإمام الخميني والجماهير المليونية التي آمنت بوعوده بعيداً عن التحليلات العادية، فإن معظم المحللين السياسيين وجميع الذين كان لهم دور في الاحداث التي شهدتها إيران، كانوا يرون هذا الانتصار ـ حتى في أواخر ايام النظام البائد ـ امراً مستحيلاً.

          لهذا ابتدأت مشاعر الخصومة والعداء للنظام الإسلامي الفتي بالظهور والانتشار منذ صباح الحادي عشر من شباط 1979م. وقد قادت أميركا جبهة الاعداء، وكان لبريطانيا وبعض دول أوربا وجميع الأنظمة العميلة للغرب المشاركة الفعالة في تلك المواجهة. كذلك فإن الاتحاد السوفيتي ومن يدور في فلكه أيضاً، وقفوا إلى جنب الأميركان في العديد من المواقف العدائية ودعموا موقفهم بسبب عدم ارتياحهم لما وقع في إيران ومما نتح عنه من حاكمية الدين.

          ومن النماذج البارزة لهذه التحالفات، ما حصل من تحالف اليسار واليمين ضد الثورة داخل البلاد، الأمر الذي اظهرت الوثائق ـ فيما بعد ـ ارتباطهم بكل من سفارة الاتحاد السوفيتي وأميركا. والابرز من هذا، تضافر جهود الشرق والغرب في تسليح صدام ودعمه في حربه المفروضة ضد الجمهورية الإسلامية.

          غير أن الإمام الخميني مارس دوره القيادي بالمنطق نفسه الذي ابتدأه به قيادة النهضة وحيداً قبل سنوات، فقد قاد سفينة الثورة وهي تعيش في خضم الفتن والضغوط الخارجية، رافعاً شعار "انتصار الدم على السيف". وكان على اعتقاد راسخ بأن المجتمع الذي يؤمن بالشهادة كأعلى درجة من الكمال الروحي للانسان ويجاهد في سبيل الله، لابدّ وان ينتصر.

          وكان الإمام الخميني بصدد تعبئة الشعب الايراني لبناء البلاد، وتجسيد نموذج المجتمع الديني السليم والمتطور أمام العالم. وابتدأ جهاد الشعب تحت شعار (جهاد البناء) وانطلق الآلاف من المتخصصين والمؤمنين بالثورة إلى مختلف المناطق المحرومة والقرى المنتشرة على طول البلاد وعرضها، ليبدأوا حركة اعمار كبرى تشمل شق الطرق وبناء المراكز الصحية وايصال الماء والكهرباء إلى مختلف مناطق البلاد. غير انه لم يمر وقت طويل حتى اخذت امواج الفتن والضغوط الخارجية تنهال على البلاد. فقد صممت أميركا على الاستفادة من طابورها الخامس في ايران لاشغال النظام الإسلامي بمشكلات داخلية وبث الفرقة والخلاف لايجاد الفرصة المناسبة لاسقاط النظام الفتي.

          وقد عملت السفارة الأميركية بجد ـ عن طريق بعض عناصر الحكومة المؤقتة ـ لتمهيد الطريق لمشاريعها المستقبلية، وقد حققت بعض النجاح في ذلك ايضاً. فقد كانت حكومة السيد بازركان تتألف من افراد اتسم اكثرهم بالتوجهات القومية المحافظة. ولم يكن بمقدور هؤلاء هضم الظروف والضرورات الثورية ودرك الارشادات والافكار السامية للإمام الخميني. كذلك فان ضعف الحكومة المؤقتة وروح المماشاة التي كانت تتسم بها ساعد الفئات المعادية للثورة لاعادة تنظيم صفوفها بسرعة فائقة مستفيدة من المعونات الخارجية التي كانت تتلقاها، ثم المبادرة إلى خلق التشنجات في كنبد وكردستان وسائر المناطق.

          كذلك فإن النظام البعثي العراقي ـ الذي اصيب بالذعر اكثر من الانظمة العربية الاخرى من انتصار الثورة الإسلامية نتيجة خوفه من امكانية انتفاضة شعبه ـ بادر إلى تسليح العناصر المعادية للثورة في جنور البلاد وفي كردستان. كما كان للسفارتين الأميركية والسوفيتية نشاط فعال في لمّ شمل افراد السافاك وبعض عناصر النظام السابق وتحريك الفصائل الشيوعية ومجاهدي خلق (المنافقين) للقيام باعمال مؤذية ضد الثورة. فقد قامت (منظمة الفرقان) باغتيال عضو مجلس الثورة العلامة الشيخ مرتضى المطهري في 2/5/1979 وآية الله القاضي الطباطبائي في 1/11/1979، والدكتور المفتح في 19/12/1979، واللواء القرني رئيس اركان الجيش في 23/4/ 1979 وفشلت في اغتيال الشيخ الهاشمي الرفسنجاني والموسوي الاردبيلي.

          وكان الإمام الخميني يعتقد ـ نظراً لمعرفته بالأيادي الخفية ـ بضرورة القضاء، وبسرعة وبحزم، على اعداء الثورة خصوصاً الاضطرابات التي وقعت في كردستان. غير أنّ الحكومة المؤقتة ضيّعت الفرصة بانشغالها بالمفاوضات العقيمة في كردستان وتعاملها بليّن مع مثيري الاضطرابات، وهيأت عملياً الارضية لتفاقم الاوضاع.

          من جانب آخر فإنّ الاقتصاد الذي تركه النظام المباد والمعتمد كلياً على واردات النفط، دفع أميركا واوربا ـ المطلعتين على هذه الحقيقة ـ إلى دعم موقف النظام السعودي ومؤيديه في منظمة (أوبك) لتخفيض اسعار النفط إلى ادنى مستوى لها مما الحق اضراراً بسوق النفط الايراني.

          ومع وجود جميع هذه المشاكل لم يذعن الإمام الخميني ولم يرضخ لقبول المصالحة ولم يتراجع عن مواقفه حتى خطوة واحدة. فبادر إلى تشكيل المؤسسات الثورية لترميم ضعف الحكومة المؤقتة ولضمان ديمومة الثورة. وقد وقفت الجماهير الايرانية بعزم واستعداد للتضحية دفاعاً عن الثورة، ولم يمض اكثر من شهرين على انتصار الثورة حتى صوت 98.2% من ابناء الشعب في الاستفتاء الشعبي الذي أجري في الاول من نيسان 1979م لصالح الجمهورية الإسلامية، في واحدة من اكثر الانتخابات حريةً في تاريخ ايران. وبعدها اجريت الانتخابات للمصادقة على الدستور، وانتخابات نواب مجلس الشورى الإسلامي. وكان الإمام الخميني يتحدث إلى محبيه الذين كانوا يزورونه يومياً في مقر اقامته بقم، وفي المدرسة الفيضية بما يدعم ويرسخ اركان النظام الإسلامي، ويبين الاهداف والاولويات في الحكومة الإسلامية ويدفع الجماهير للحضور الدائم في ميادين الاحداث. فقد سافر سماحته من طهران إلى قم في الاول من آذار 1979 وبقي هناك حتى ألمّت به الازمة القلبية (22 كانون الثاني 1980). وبعد تسعة وثلاثين يوماً من العلاج المتواصل في مستشفى القلب بطهران، اقام سماحته في منزل يقع بمنطقة (دربند) ثم نقل في 27/5/ 1980 ـ ونزولاً عند رغبته ـ الى منزل بسيط يمتلكه احد علماء الدين (حجة الإسلام السيد مهدي إمام جماراني) في منطقة جماران، وبقي هناك حتى فارق الحياة.

          الثورة الثانية: احتلال وكر التجسس الأميركي في إيران

          أدّى نجاح الانتخابات ومشاركة الجماهير الواسعة فيها إلى تبديد الآمال الأميركية الواهية في قرب سقوط النظام الإسلامي، الذي كانت وسائل الاعلام الغربية لا تكف عن ترديده، فضلاً عن البيانات التي كانت تصدرها التيارات المعادية للثورة في الداخل. ولم تمتنع أميركا واوربا من النزول عند مطالب الشعب والحكومة الايرانية المشروعة باسترداد الاموال والارصدة الايرانية المجمدة التي تقدر بأكثر من 22 مليارد دولار فحسب، بل وضعت امكانات واسعة تحت تصرف اقطاب النظام الملكي البائد اللاجئين إليها، لتوظيفها في مواجهة النظام الإسلامي الفتي. وقد اثارت هذه النشاطات الأميركية والممارسات العدائية للبيت الابيض غضب الشعب.

          ففي عام 1979 وعلى اعتاب الذكرى السنوية لنفي الإمام الخميني إلى تركيا (4 تشرين الاول) شاع خبر اللقاء السري بين بازركان وبريجنسكي (مستشار الامن القومي الأميركي آنذاك) الذي جرى في الجزائر، مما دفع مجموعة من الجامعيين المسلمين الثوريين ـ الذين اطلقوا على انفسهم اسم (الطلبة الجامعيون السائرون على نهج الإمام الخميني) إلى احتلال السفارة الأميركية بطهران. وبعد القضاء على مقاومة حرس السفارة، قاموا بالقاء القبض على الجواسيس الأميركان. ثم عكفوا بعدها على نشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة الأميركية في خمسين كتاباً سميت "وثائق وكر التجسس الأميركي في إيران". وقد كشفت هذه الوثائق الدامغة النقاب عن اسرار الجاسوسية الأميركية والتدخلات التي قامت بها الادارة الاميركية في مختلف نقاط العالم، واعلنت اسماء العديد من الرابطين والجواسيس لأميركا ومختلف اساليب الجاسوسية والتحركات السياسية الاميركية في مناطق العالم المختلفة.

          مثل احتلال السفارة الاميركية، التي عرفت في ثقافة الثورة الإسلامية بـ"وكر التجسس"، فضيحة كبرى للحكومة الأميركية.

          بعد يوم واحد من احتلال السفارة الأميركية سقطت حكومة السيد بازركان بعد قبول الإمام استقالتها، في وقت كان بازركان يتوقع ردّ فعل آخر من الإمام يتمثل في ضغطه على الطلبة الجامعيين لاخلاء السفارة الأميركية، غير ان الإمام الخميني قبل استقالة الحكومة على الفور غير مفرط بهذه الفرصة السانحة التي ستتيح له دفع الثوريين إلى سدة السلطة وكف ايدي التيار المحافظ الذي عرض البلاد خلال فترة حكومته الوجيزة إلى خطر اعداء الثورة بسبب مواقفه الضعيفة في التعامل مع الاحداث.

          دافع الإمام الخميني عن حركة الطلبة الجامعيين الثورية، وعدّ عملهم ثورة تفوق في اهميتها الثورة الاولى. والحق انها كذلك. فقد كانت أميركا تقف إلى جانب النظام المقبور في الثورة الاولى وكانت تعلن رسمياً عن مواجهتها وعدائها للثورة الإسلامية، في حين أن الوثائق المصادرة من وكر التجسس الأميركي كشفت النقاب عن الدسائس التي حيكت ضد الثورة في الخفاء وفضحت عملاءها في الداخل.

          بعد احتلال السفارة الأميركية حاولت أميركا بمختلف السبل دفع إيران للتراجع عن موقفها، فقامت، ومن يدور في فلكها، بفرض الحصار الاقتصادي والسياسي رسمياً على إيران، وابتدأت الجماهير مرحلة مواجهة الحصار الاقتصادي والسياسي مستلهمة بيانات وتوجيهات الإمام الخميني، دون ان تفكر في الاستسلام. وفشلت عملية اطلاق سراح الرهائن الأميركان بعد تحطيم الطائرات الاميركية في صحراء طبس، في حادثة اعجازية مدهشة.

          وفي الرابع والعشرين من نيسان 1980م قامت ست طائرات سمتية من طراز C130 بالهبوط في احدى القواعد الأميركية السابقة في صحراء طبس شرقي إيرات، وقد وقعت هذه الحادثة خلال رئاسة ابو الحسن بني صدر. وكان مقرراً ان تقوم الطائرات ـ بعد التزود بالوقود والتحاق ثمانين سمتيات ميدانية ـ بالتوجه إلى طهران، لقصف منزل الإمام الخميني والمراكز الهامة الاخرى بالتعاون مع بعض العملاء، غير ان عاصفة طارئة هبت في الصحراء اجبرت بعض الطائرات الباقيات إلى الهبوط الاضطراري في الصحراء. ونتيجة لسوء الاحوال الجوية ارتطمت احداهما باخرى فانفجرت كلتاهما، وقتل على اثر ذلك ثمانية اشخاص من العسكريين الأميركان الغزاة، واضطر جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة إلى الاعلان عن ايقاف العمليات الفاشلة.

          وبوفاة الملك محمد رضا في مصر في 27 تموز 1980، انتفى بشكل عملي احد الشروط الايرانية المتمثلة في استرداد الملك باعتباره احد المجرمين الاصليين في المذابح الجماعية التي ارتكبت في إيران. وأخيراً وبعد 444 يوماً تمّ الافراج عن الجواسيس الأميركان بواسطة جزائرية بعد اعلان اعضاء مجلس الشورى موافقتهم على اتفاقية الجزائر الموقعة بين إيران وأميركا، والتي تعهدت أميركا بموجبها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لايران، وإعادة الارصدة والاموال الايرانية المجمدة في مصارفها. إلا أنها لم تلتزم بأي منها.

          ان اهم ما حققته عملية احتلال وكر التجسس الأميركي تمثل في طعن الغرور الفرعوني الأميركي، وبعث الامل في نفوس شعوب العالم الثالث بامكانية الوقوف بوجه القوى العظمى، ناهيك عن ضمانة ديمومة الثورة الإسلامية في إيران.

          بعد تلك الواقعة، انهارت الابهة الأميركية والقدرة الوهمية ـ التي انفق من اجل اظهارها المبالغ الطائلة والجهود الاعلامية المكثفة ـ وتعرضت أميركا إلى صعوبات ومشاكل عديدة للسيطرة على العالم الثالث فيما بعد.

          في أول انتخابات لرئاسة الجمهورية الإسلامية الايرانية (25/10/1980)، والتي جرت في وقت كان الإمام الخميني طريح فراش المرض في مستشفى القلب بطهران، فاز السيد أبو الحسن بني صدر على منافسيه. وكان ابو الحسن قد عاد إلى ايران قبيل انصار الثورة الإسلامية، وقدم نفسه من خلال خطاباته وكتبه على أنّه شخص متدين وخبير اقتصادي لامع. وفي مراسم اداء اليمين الدستورية لتولي مهام عمله كرئيس للجمهورية قال الإمام: "انني أوصي السيد بني صدر بوصية واحدة، وهي موجهة للجميع أيضاً، اقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة". غير ان غرور بني صدر ونزعته في التسلط حال دون التزامه بهذه النصيحة. لقد غرّته الآراء التي حصل عليها. ومنذ بداية حكومته اعتمد معارضة اتباع خط الإمام وعلماء الدين. وقد كان يعتقد ـ كما هو حال الحكومة المؤقتة ـ بضرورة مسايرة الدول الكبرى، واعتماد اسلوب المناورات السياسية معها. اما على الصعيد الداخلي فقد بادر على الفور إلى عزل الطاقات الثورية واحلال العناصر المرتبطة بالفئات المعادية للثورة محلها.

          وفي عهده احتل العراق مناطق شاسعة من الاراضي الايرانية، وعلى الاثر قامت العناصر المرتبطة برئيس الجمهورية ـ التي كانت ترى وجودها مرتهناً بزيادة المشكلات وايجاد جو من التوتر أمام النظام الإسلامي ـ بالحيلولة دون اداء المدافعين عن البلاد لدورهم بشكل مناسب، ومنع تسليح الجماهير واتاحة الفرصة للحرس الثوري باداء دوره الفاعل، مستفيدين في كل ذلك من منصب بني صدر الذي كان قائداً عاماً للقوات المسلحة. وبذلك تعرضت الوحدة الوطنية إلى الخطر نتيجة الخلافات التي اثارها بني صدر. واخيراً اصدر الإمام الخميني قراره المقتضب في 10 حزيران 1981م القاضي بعزل بني صدر عن منصب القائد العام للقوات المسلحة، وتبعاً لذلك صادق مجلس الشورى الإسلامي على عدم كفاءة بني صدر كرئيس للجمهورية.

          بسقوط بني صدر، بادر اعضاء ومؤيدو منظمة مجاهدي خلق (المنافقين) ـ الذين استغلوا ضعف الحكومة المؤقتة وما وفره لهم بني صدر من الدعم والحماية لتقوية تشكيلاتهم وتوسيعها ـ لممارسة اضطرابات دموية. إلا ان جماهير طهران تمكنوا من القضاء على مثيري الاضطرابات وتم اعتقال العديد منهم. ومنذ ذلك الوقت اقدم المنافقون رسمياً على القيام باعمال مسلحة واغتيالات، وفي الوقت نفسه بادر قادة التنظيم للاختفاء في أوكارهم، وقد تصدر حزب الجمهورية الإسلامية قائمة المستهدفين من قبل المنافقين.

          تم تأسيس حزب الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة الإسلامية بهمة المخلصين من ذوي السماحة آية الله العظمى الخامنئي، والدكتور بهشتي، والدكتور باهنر، وهاشمي رفسنجاني، والموسوي الاردبيلي بهدف احتواء الطاقات المؤمنة بنهج الإمام الخميني، ومواجهة تحركات التيارات السياسية المعادية للثورة. وقد استطاع هذا الحزب الذي حظي بدعم الإمام المعنوي، ان يكسب اعداداً كبيرة من الاتباع والمؤيدين في مختلف انحاء البلاد وبسرعة كبيرة، ويمسي سداً أمام تطلعات العناصر المعادية للثورة.

          في السابع والعشرين من حزيران 1981، جرح آية الله العظمى الخامنئي إثر انفجار قنبلة زرعها المنافقون بينما كان يخطب بالجماهير المحتشدة في مسجد ابي ذر بطهران. وفي اليوم التالي وقعت فاجعة رهيبة حيث هزّ انفجار قنبلة قوية زرعها احد عملاء منظمة المنافقين، مقر حزب الجمهورية الإسلامية، وذلك خلال اجتماع اعضاء الحزب، مما ادى الى استشهاد اثنين وسبعين من خير الطاقات الثورية من عناصر النظام الإسلامي ومن انصار الإمام الخميني، كان بينهم رئيس مجلس القضاء الاعلى الدكتور بهشتي وعدد من الوزراء ونواب مجلس الشورى الإسلامي وجمع من مسؤولي السلطة القضائية وعدد آخر من المفكرين والكتاب والطاقات الثورية الاخرى.

          بعد شهرين من هذه الفاجعة وتحديداً في الثلاثين من شهر آب 1981 استشهد السيد محمد علي رجائي ـ الوجه الثوري المحبوب لدى الجماهير، والذي انتخب لرئاسة الجمهورية بعد عزل بني صدر ـ والدكتور محمد جواد باهنر (رئيس الوزراء) على اثر انفجار قنبلة اخرى زرعت في المكان الذي كان يجتمعان فيه.

          ان قرار الإمام السريع والحازم بانتخاب وتنصيب المسؤولين لسد الفراغ الحاصل نتيجة سقوط هذا العدد من الشهداء، كان له بالغ الاثر في تهدئة الاوضاع وادخال اليأس في نفوس الاعداء، واصابة المحافل الخبرية والسياسية العالمية بالحيرة والذهول.

          لو لم يكن ايمان الإمام الخميني وصلابته المذهلة، ووعي الجماهير الايرانية المؤمنة، لتمكنت واحدة من هذه الاحداث من اسقاط النظام الإسلامي. غير أنّ بيانات الإمام الخميني وخطاباته كانت بعد كل حادث من هذه الحوادث تهدى روع الجماهير وتسهل عليها تحمل المصائب وتزيد من تصميم الجماهير على مواصلة طريقها. فبعد استشهاد الدكتور بهشتي كانت الجماهير تهتف بشعار "ماذا تريد أميركا، ان إيران مليئة بأمثال بهشتي"، والذي استلهمه من حديث الإمام الذي كشف من خلاله النقاب عن ان الايادي الخفية للعدو الاصلي (أميركا) تكمن وراء هذه الاغتيالات. من جانب آخر، كان الإمام قد أكدّ مراراً ان الثورة الإسلامية لا تقوم على الافراد مهما كانت مواقعهم واهميتهم، وان حافظ الثورة هو الله وايمان الجماهير المؤمنة.

          ان احد ابرز نجاحات الإمام الخميني تجسد في قدرته على تنمية الوعي العام لدى الجماهير وايجاد الاحساس بالمسؤولية والقدرة على التحليل السياسي لدى ابناء الشعب ازاء الوقائع والاحداث المعاصرة.

          لسنوات طوال كانت وسائل الاعلام الغربية تعد بحتمية سقوط النظام الإسلامي بعد وفاة الإمام الخميني، وقد طرح هذا الموضوع حتى في المؤتمرات التي عقدها المفكرون الغربيون لدراسة الثورة الإسلامية، والملتقيات السياسية والمفاوضات التي كان يجريها الساسة الغربيون وبشكل جدّي، واعتبر موضع قبول الجميع. وعلى هذا الاساس ايضاً قبعت الفئات المعادية للثورة في الداخل في مكانها بانتظار ذلك اليوم الموعود. غير ان الدنيا شهدت كيف ان النظام الإسلامي لم يتعرض لادنى ارباك بعد ارتحال سماحة الإمام الخميني، وبذا تبددت احلامهم وامانيهم. والسبب في ذلك ما تقدم، إذ تمكن الإمام الخميني من اعادة تربية الجيل الخامل واللامبالي ـ الذي جرّ خلال الخمسين عاماً من حكم العائلة البهلوية إلى التيه والضياع واليأس والقنوط ـ بنحو جعلته قادراً وفي زمن قياسي من نبذ عادته وعلاقاته الاجتماعية السابقة والاعتقادات الخاطئة الراسخة، واستبدالها بالقيم والمثل السامية الجديدة في مختلف مناحي الحياة. وما اندفاع الآلاف من الشبان الذين واجهوا العدو البعثي المعتدي في جبهات القتال لمدة ثمانية اعوام متواصلة متحلين بأعلى درجات المعنوية والوعي إلا دليل على هذا المعنى، وان النماذج الكثيرة على مستوى وعيهم وشعورهم ومستوى ايمانهم ومعنوياتهم تتضح في الوصايا المطبوعة للشهداء، فيما كان اكثرهم ـ إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية بقليل ـ تتهددهم انواع المفاسد، ويحركهم إعلام السوء وتتجاذبهم انواع القوى التخديرية.

          ولعلّ البعض ممن يعاصر مجتمع عصر الإمام الخميني عن قرب، يعتبر هذا الحديث نوعاً من المبالغة في عرض الحقائق، ناشيء عن فرط المحبة للإمام وللثورة الإسلامية. لكن الأمر ليس كذلك، فكثير من الشواهد لازالت حية، والوثائق والمستندات الدامغة من الكثرة بحيث ان اثبات هذا الأمر لن يحتاج إلى طويل بحث أو مناظرة.

          فإلى الآن ما زالت الثقافة الاجتماعية الايرانية الجديدة تدفع الناس إلى تهنئة من فقد ابناً على طريق تحقيق اهداف نهضة الإمام الخميني بدلاً من تعزيته ومواساته. إلى الان مازال الكثير من الآباء والأمهات في إيران ممن فقدوا اعزتهم في هذا الطريق يجيبونك حينما تسألهم عن شعورهم: بأن ذلك فخر للعائلة وانه نعمة من الله.

          ولعل من غير المعقول بالنسبة للغربيين ان يقوم بعض افراد العائلة بالابلاغ عن اماكن اختفاء العديد من العناصر المضادة للثورة والارهابيين المنافقين من ابنائهم، ومساعدة الآباء والامهات قوى الامن لإلقاء القبض على ابنائهم.

          وتتضح اهمية هذا الاحساس إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار شدّة الترابط العاطفي في العائلة الايرانية والذي لا يمكن مقارنته ـ على أي مستوى ـ مع ما هو موجود من العلاقة الباردة الخالية من الروح لدى العائلة الغربية مثلاً.

          فحتى الآن إذا سألت أيّاً من المقاتلين ـ الذين لا زالوا يتذكرون أيام الجبهة ـ عن أشدّ الايام التي قضاها في الجبهة قسوة؟ لأجابك انه يوم اعلان قبول قرار مجلس الامن والموافقة على وقف اطلاق النار. ان مشاعر الألم والحزن التي انتابت قوات التعبئة ذلك اليوم لا يمكن وصفها ولا يمكن تصورها؛ كل ذلك لاحساسهم بأنّ "باب جنة الشهداء" قد اغلق أمامهم، وانهم فقدوا الامل بالالتحاق بقافلة الشهداء.

          ان ايجاد تحول روحي كهذا في مجتمع ما، وتحريك امواج الاندفاع نحو الإسلام في روح امة من الأمم، ليس بالعمل السهل واليسير.

          ان لبنان وملحمة حزب الله، نموذج آخر على هذا التحول الذي ذكرناه. وخلافاً لما يدعيه الغرب عبر اعلامه، فإن تدخل إيران ودعمها لم يكن هو السبب في ايجاد هذا التحول، ذلك لأن لامريكا واوربا والاتحاد السوفيتي (السابق) حضور عميق وواسع ومباشر في لبنان، بيد انه لم يؤد إلى شيء. فالجامعة الأميركية في بيروت لها تاريخ طويل، كما ان أميركا واوربا انزلت قواتها في لبنان اثناء الاحداث التي وقعت في لبنان. لقد كانت لبنان وحتى وقت قريب اكبر سوق للسياسات الغربية في الشرق الاوسط، فما الذي ادى إلى ان يتمكن مجتمع صغير ـ قياساً إلى اعدائه وفي بلد محاصر من جميع الجهات، وله حدود مشتركة مع اسرائيل، ورغم قلّة امكاناته الدفاعية ـ من الوقوف بثبات وقوة بنحو يدفع القوات الغربية إلى الاعلان رسمياً عن فرارها من المنطقة، واضطرارها إلى تركها. واليوم ايضاً ورغم كل الضغوط الاقتصادية القياسية والقصف والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، ترى حزب الله يثبت وجوده أمام الغرب ويقاوم بشكل منقطع النظير.

          إن السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك كله هو ان مسلمي لبنان ـ وبناءً على علاقاتهم الثقافية والعقائدية القديمة ـ استطاعوا التعرف على الإمام ودرك رسالته اسرع من سائر البلدان الإسلامية.

          وبعد لبنان، شهدنا في فلسطين آثار هذا الفكر وهذه الرسالة، في انطلاقة (حركة حماس) والحركات الإسلامية في سائر بلدان المسلمين.. كل ذلك نتيجة التأثر المباشر أو غير المباشر لافكار الإمام الخميني ورسالته الجهادية. وان تحوّلاً كهذا لا ينحصر في الفكر السياسي للإمام الخميني ونوعية جهاده السياسي، فمدرسة الإمام الخميني التربوية وقدرته في معرفة الانسان وفي معرفة المجتمع هي التي ساهمت في ايجاد الارضية المناسبة لوقوع مثل هذه التحولات. وللاسف فان أبعاد نظرات الإمام وآرائه حول الانسان والمجتمع والتاريخ والتربية لم تزل حتى الآن متناثرة غير مدوّنة وغير معروفة كما ينبغي، فمدرسة الإمام في التربية وعلم الاجتماع تختلف كثيراً عما يدرس تحت هذه العناوين في جامعات دول العالم الثالث والبلدان الإسلامية.

          إنّ الاساس الذي ابتنيت عليه نهضة الإمام الخميني انما يمتد إلى منهج الانبياء، ذلك المنهج الذي استطاع ان يخلق من بعض العبيد المغمورين والمظلومين شخصيات من امثال ابي ذر الغفاري وسلمان المحمدي. وان يجعل من المجتمع الجاهلي قائداً للمدينة والحضارة الإسلامية. بيد ان هذا المنهج اصبح منسياً في عصرنا الحاضر، وما نعرفه اليوم تحت عنوان العلوم الانسانية المعاصرة انما يهتم بتعريف الانسان والعلاقات الانسانية من وجهة نظر المدارس الوضعية الليبرالية و"الانسانية" الغربية، التي هي ايضاً وليدة عصر النهضة الصناعية وانعكاس للضيع وفقدان الهوية الذاتية والاصالة والقبول باصالة المادة وحاكمية الآلة على الانسان.

          اعود للحديث عن كيفية قيادة الثورة في السنوات المشحونة بالاضطراب التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، فبعد فاجعة الثامن والعشرين من حزيران 1981م واستشهاد العشرات من انصار الإمام ومن مسؤولي الجمهورية الإسلامية، تمكن قادة منظمة المنافقين من الفرار من البلاد متوجهين إلى باريس برفقة رئيس الجمهورية المعزول، وذلك بارتدائهم الملابس النسائية وبالتعاون والتنسيق مع بعض العملاء المندسين في مطار طهران. فالطيار الذي قاد الطائرة كان من الطيارين المعتمدين لدى الشاه المخلوع، وهو نفسه الذي قادة طائرة الشاه حينما فرّ من البلاد قبل سنوات.

          وخلافاً لادعاءاتها في احترام حقوق الإنسان ومواجهتها للارهاب، اعطت فرنسا حق اللجوء السياسي لاولئك الذين اعترفوا في بياناتهم التي اصدروها، بضلوعهم ـ بل بمسؤوليتهم ـ عن عمليات الاغتيال والتفجير في الاماكن العامة التي وقعت في إيران.

          ومن يومها بات المنافقون الفارون الى مختلف الدول الاوروبية وأميركا، يتمتعون بدعم وحماية تلك الدول. وطوال فترة الحرب العراقية الايرانية، اتخذوا من العراق قاعدة اساسية لهم، بعد ان عقدوا صفقة مع صدام، وكانوا يمارسون دورهم كجواسيس ومرتزقة يضعون كل معلوماتهم وامكاناتهم تحت اختيار الجيش البعثي. وقد تلخصت مهمتهم الاساسية في جمع المعلومات عن جبهات القتال الايرانية بواسطة عملائهم المبثوثين في الداخل، واعطاء المعلومات حول مواضع سقوط الصواريخ العراقية التي استهدفت المناطق السكنية في إيران، والتحقيق مع الاسرى الايرانيين، والمشاركة في العمليات العسكرية العراقية.

          وفي عام 1988م وبعد اعلان نهاية الحرب العراقية الايرانية، قاد المنافقون هجومهم الذي استهدف الدخول إلى عمق الاراضي الايرانية، الا انه تم سحقهم في عمليات "المرصاد"، مخلفين وراءهم اكثر من الف قتيل على ارض المواجهة، وان الضجة المفتعلة التي تشنها في العالم المنظمات المرتبطة باميركا ضد الجمهورية الإسلامية تحت ذريعة انتهاك حقوق الانسان، غالباً ما تغذيها مزاعم هذه المنظمة للحصول على دعم وتأييد الدول الغربية.

          ان المنافقين (مجاهدي خلق) في نظر الشعب الايراني هم من اكثر الجناة اجراماً وانحطاطاً، وان جرائم اشهر مجرمي التاريخ الايراني المعاصر لم تصل إلى فضاعة جرائمهم. ففضلاً عن استشهاد 72 شخصاً من اكثر شخصيات النظام محبوبية لدى الناس في انفجار مقر حزب الجمهورية الإسلامية، واستشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، اقدم المنافقون على اغتيال العديد من الشخصيات، كآية الله الصدوقي إمام جمعة يزد بتاريخ 2/7/1982، وآية الله اشرفي الاصفهاني إمام جمعة كرمانشاه بتارخي 15/10/1982، وآية الله دستغيب إمام جمعة شيراز بتاريخ 11/12/1981، وآية الله القدوسي واللواء الدستجردي بتاريخ 5/9/1981 وحجة الإسلام هاشمي نجاد بتاريخ 29/9/1981، وعشرات الشخصيات العلمائية ممن كانت تستحوذ على قلوب الناس في كل منطقة من المناطق التي كانت تمارس نشاطها فيها وممن كان لها الحظ الوافر في نهضة الإمام الخميني.

          واضافة إلى الوجوه السياسية والدينية البارزة ومسؤولي النظام الإسلامي، فإن اعداداً كبيرة من الناس الابرياء سقطوا مخضبين بدمائهم بجرم الدفاع عن ثورتهم وحمايتهم، نتيجة لعمليات ارهابية وتفجيرات قام بها المنافقون في الاماكن العامة (وكان آخرها القتل المفجع الذي مارسه المنافقون بحق اثنين من القساوسة المسيحيين، وتفجير قنبلة في يوم العاشر من محرم الحرام جوار مرقد الإمام الرضا (ع) في مشهد عام 1994).

          ومما يجدر ذكره ان اميركا واوربا والمنظمات الدولية لم تلزم السكوت أمام كل تلك الجرائم فحسب، وانما كانت تقدم للارهابيين الملجأ والامكانات لمواصلة نشاطاتهم الإرهابية. وقد سبق لهم أن اتخذوا موقفاً مشابهاً من جرائم الشاه بما يخالف ادعاءاتهم. ولهذا السبب بالذات لم يكن الإمام الخميني يعتمد آراء ومواقف الدول الاجنبية والمنظمات الدولية اساساً للتقييم أو انطلاقة للمواقف التي يتخذها سواء قبل انتصار الثورة أو بعدها. إذ كان سماحته يعتقد ـ وقد صرح بذلك مراراً عبر خطاباته ـ بأنّ هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومنظمة الدفاع عن حقوق الانسان ليست سوى ادوات بايدي المتسلطين الدوليين، تماماً كادعاء الشيوعيين والاتحاد السوفيتي بحرية الشعوب ومناهضة الامبريالية، الذي لا يتطلعون من ورائه سوى تحقيق اهدافهم. بل واكثر من ذلك لفت الإمام الخميني ـ بناءً على هذه الحقائق ـ نظر مسؤولي النظام الإسلامي إلى معيار جديد لتقييم مستوى ادائهم بقوله: "في اليوم الذي تبادر فيه المؤسسات الدولية وأميركا والغرب إلى مدحكم والاعتراف طواعية بشرعيتكم وبثورتكم، عليكم ان تشكوا في سلامة مسيرتكم وحقانيتكم".

          تعليق


          • #6
            الحرب المفروضة: ثمانية سنوات من الدفاع المقدس

            ان الفشل الذريع الذي مني به المشروع الاميركي الذي استهدف نظام الجمهورية الإسلامية من خلال الحصار الاقتصادي والسياسي، وكذلك فشلها في عملياتها العسكرية لاطلاق سراح الجواسيس الأميركان ـ بالهبوط في صحراء طبس بعد احتلال وكر التجسس الأميركي ـ واحباط مساعيها في فصل كردستان عن الوطن الأم، كل ذلك دفع الحكومة الأميركية عام 1980 الى تجربة الهجوم العسكرية المباشر. بيد أنّ الموازنات الدولية بين الشرق والغرب الحاكمة آنذاك حالت دون قيام أميركا بالهجوم المباشر بقواتها. فالرأي العام العالمي قد تأثر نسبياً بافكار الإمام الخميني ونشاطاته السياسية التي اطلع على جزء منها في فرنسا وعبر الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، مما ساهم في كشف النقاب عن مظلومية إيران وحقانية مطالب الشعب الايراني، ثم دفع الرأي العام العالمي للتعاطف معه. كذلك لم تكن ظروف الانظمة المتزلزلة في الخليج الفارسي تسمح باستيعاب ردود الفعل الناجمة عن الهجوم الأميركي المباشر.

            لكل ذلك تمّ اختيار العراق للقيام بدور اشعال هذه الحرب، وهو اختيار محسوب من كافة النواحي. فالعراق بلد يسير في ركاب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. ودخوله في حرب مع إيران سيؤدي إلى وقوف الاتحاد السوفيتي والشيوعيين إلى جانب صدام، وبالنتيجة إلى جانب أميركا وأوربا مما سيمنع ظهور ايّة ردود فعل سلبية. كذلك فإن العراق يعدّ ثاني بلد في المنطقة من حيث الإمكانات التسليحية، وهو بلد نفطي يمكنه الصمود في حرب طويلة الأمد اعتماداً على ثرواته وعلى مساعدات دول الرجعية العربية في المنطقة دون الاحتياج إلى دعم أميركا أو أوربا مالياً أو عسكرياً، رغم ان التوقعات الاولية لكل من أميركا وصدام كانت تأمل بحرب قصيرة الأمد، تقود إلى القضاء على الثروة الإسلامية الايرانية بسرعة خاطفة.

            من جانب آخر، ساعدت النزعة التسلطية لصدام والنزاعات الحدودية السابقة بين العراق وإيران، إلى حد كبير في دفع صدام إلى الاعتداء واحتلال قسم من الاراضي الايرانية.

            ومع ان العالم امتنع عن قبول الادلة والوثائق التي قدمتها إيران خلال الحرب لاثبات مدعاها في ضلوع أميركا واوربا والاتحاد السوفيتي في اشعال شرارة الحرب، فإن الاسرار التي انكشفت بعد حرب النفط بين أميركا وصدام (حرب احتلال الكويت) والوثائق التي نشرت فيما بعد، اكدت هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.

            على أيّة حال، بدأ الهجوم العسكري العراقي (في 22 أيلول 1980م) على طول الحدود المشتركة البالغة 1280 كم، ومن اقصى نقطة في الشمال الايراني إلى ادنى نقطة ـ ميناء خرمشهر ـ في جنوبها. وتزامن الهجوم البري مع هجوم جوي طال مطار طهران ـ الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ـ ومطارات المدن الايرانية المهمة الاخرى.

            وتمكنت الماكنة العسكرية الصدامية ـ التي تمّ اعدادها بمساعدة فرنسا وشركات الاسلحة الأميركية والانجليزية والمعدات العسكرية الروسية للقيام بهذا الهجوم ـ من النفوذ بسرعة لعدة كيلومترات داخل المحافظات الحدودية الخمس. وتعرضت المقاومة الشعبية المحدودة إلى ضربة قوية من قبل الجيش العراقي نتيجة عنصر المباغتة الذي كان لصالح القوات الغازية، ونظراً لغاب التسليح والخبرة الكافيتين. وبسرعة مدهشة تم تخريب المدن والقرى المحتلة، وتحولت إلى انقاض، وشرد مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم ومدنهم.

            اما الجيش الايراني، ونتيجة لحوادث الثورة فقد كان مصاباً بالارباك والتفكك، وكان يمضي مراحله الاولى في اعادة البناء والتنظيم. فقد غادر الآلاف من الخبراء العسكريين الاجانب ـ والأميركان بالتحديد ـ إيران بعد انتصار الثورة، كما ان العديد من التجهيزات العسكرية المتطورة والطائرات الحديثة والصواريخ ـ التي كان الشعب الايراني قد دفع اثمانها من كدّه ـ تمّ نقلها في الايام الاخيرة من حكومة النظام الملكي البائد ـ بمساعي الجنرال هايزر التي استمرت على مدى شهرين ـ إلى أميركا.

            كذلك فإن الحرس الثوري ـ الحديث العهد والذي تمّ تشكيله بناءً على بيان اصدره سماحة الإمام ـ لم يكن يمتلك التجهيزات والخبرة الكافية في الأيام الأولى من الحرب، مضافاً إلى انّ صدام حسين كان يعلم بكل هذه التفاصيل بناءً على المعلومات التي زودته بها أميركا وفرنسا وعملاء الطابور الخامس، لذا كان قد اعدّ حتى خرائط "العراق الكبير" مضيفاً فيها إلى اراضي العراق الحالية مناطق شاسعة من محافظة خوزستان ومن المحافظات الغربية الايرانية. لقد كان واثقاً ان النظام الإسلامي عاجز عن مواجهة هذا الجيش الجرار وسيهزم سريعاً، كما ان الاستكبار العالمي كان يدعمه ويقف وراءه.

            لقد قوبل خبر اندلاع الحرب العراقية الايرانية ـ رغم اهميته ـ الصمت المطبق من قبل كافة المنظمات الدولية والقوى الكبرى. ان هذا السكوت المغرض والعداء المتأصل في نفوس الدول الكبرى للجمهورية الإسلامية الايرانية، والظروف التي كانت تمر بها البلاد، والقدرة العسكرية البعثية؛ كانت كلها عوامل عقّدت عملية اتخاذ القرار. ووقفت إيران أمام مفترق طريقين، اما الاصرار على المقاومة في حرب غير متكافئة يلفها ـ حسب الظاهر ـ الغموض والإبهام، أو القبول بشروط أميركا واللجوء إليها للضغط على صدام واجباره على الانسحاب، وكان الخيار الثاني يعني التخلي عن الثورة وعن الإسلام.

            غير انّ هذه الظروف رغم كل تعقيدها، لم تستطع أن تترك تأثيرها على الإمام الخميني في تشخيص مسؤوليته واتخاذ قراراته المصيرته. لقد كانت الإمام يؤمن بقوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} إيماناً شهودياً، كما أنه كان قد طوى ـ وقبل ان يتسنم مقام قيادة الامة بسنوات ـ مراتب "القناء في الله"، ودرّس "الاسفار الاربعة" ـ التي تمثل هجر الانسان الكامل ـ لعدة سنوات، ناهيك عن انه قد طوى تلك الاسفار بمنتهى الكمال عملياً. هذا فضلاً عن ان سماحته قد ضمن رسالته العملية احكام الجهاد والدفاع كونها احكام الهيّة لا يمكن تخطيها. وان بمقدور أي شخص لو كان محيطاً بابعاد شخصية الإمام الخميني وسيره التكاملي، ان يحدس نوع المسار الذي اتخذه الإمام عند المفترق الذي ذكرناه.

            ان أول ردّ فعل صدر الإمام، واول بيان اصدره واول حديث ألقاه بعد الحرب واعتداء الجيش العراقي، يثير الدهشة ويستحق التأمل من حيث التعرف على شخصية الإمام ومنهجه في القيادة؛ وهو امر لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيله. لقد اصدر الإمام امره على الفور بالمقاومة، واشار في أول تحليل له عن الهجوم الى تحميل أميركا المسؤولية الكاملة عن اشعال شرارة هذه الحرب، وطمأن الجماهير بصراحة إلى انهم منتصرون لا محالة وان العدو مهزوم قطعاً إذا كان نهوضهم لرد العدوان من اجل الله وعدّه تكليفاً شرعياً، رغم ان كل الظروف كانت تبدو خلاف ذلك.

            وفي اليوم التالي من عدوان النظام العراقي على الاراضي الايرانية، وجّه الإمام الخميني بياناً إلى الشعب الايراني المسلم اوضح فيه الخطوط العامة لكيفية ادارة الحرب وشؤون البلاد، ولخص ذلك في سبعة بنود قصيرة غاية في الايجاز والدقة. ثم اصدر بعد ذلك عدّة بيانات وجهها إلى الجيش البعثي والشعب العراقي لاتمام الحجة عليهما. ثم شرع بادارة وتوجيه الحرب لمدة ثمانية اعوام باسلوب قلّ نظيره.

            في الايام الأولى من الحرب، توجه عشرات الآلاف من ابناء الشعب إلى جبهات الحرب متطوعين ـ استجابة لبيان الإمام ـ لمساعدة القوات المسلحة. وتمّ في المرحلة الاولى ايقاف تقدم العدو وبفضل مقاومة المقاتلين المسلمين وتضحياتهم. كان القتال غير متكافئ إلى حد كبير. بيد أن الإمام الخميني اتكل كعادته على الله والمؤمنين به، فراح ـ وعبر البيانات والخطابات المتوالية ـ يهيئ الامة لحرب طويلة وعصيبة، إذ ان سماحته كان يعتقد ـ مستنداً في ذلك إلى الآيات القرآنية الواضحة ـ بوجوب الدفاع حتى ازالة العدوان ومعاقبة المعتدي.

            بعد عدّة أيام من بداية الحرب خاطب الإمام الخميني سفراء الدول الإسلامية المقيمين في طهران بالقول: "إننا ندافع عن الإسلام، والمدافعون عن الإسلام يضحون بارواحهم واموالهم واعزائهم من اجله ولن يتراجعوا عن ذلك أبداً".

            في هذا اللقاء ـ وفي مناسبات اخرى ومن خلال رسائل خطية وبيانات رسمية ـ طالب الإمام الخميني قادة الدول الإسلامية ان يعملوا ـ ان كانوا يرون في صدام الملحد رجلاً مسلماً ـ بحكم الآية القرآنية التي تنص: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

            لماذا استمرت الحرب؟

            كان صدام قد وعد قواته بانتصار خاطف لا يستغرق سوى ثلاثة ايام. لذا لم ير الجيش العراق ضرورة للاستعداد لحرب طويلة مدمرة. لكن القوات العراقية فوجئت ـ وقبل ان تتمكن من تحقيق اهدافها المرسومة ـ بصلابة مقاومة الشعب الايراني وقوة صموده. وانتهت مساعي القوات العراقية لاختراق الخطوط الدفاعية بالفشل في كل مرة بعد تحملها لخسائر فادحة. ورويداً رويداً اتضح لامريكا خطأ حساباتها ومرارة هزيمتها. فبدأت مرحلة جديدة من الضغط السياسي ضد إيران عن طريق المنظمات الدولية والبلدان العربية. فهؤلاء وبدلاً من إدانة المعتدي، بادروا إلى الضغط على إيران الإسلامية لقبول وقف اطلاق النار. والحال ان القبول بوقف اطلاق النار في تلك الظروف كان يعني مكافأة صدام المعتدي على عدوانه وتحقيق هدفه وهدف اعداء الثورة الذين عجزوا عن تحقيقه خلال جبهات الحرب.

            إن إيران لم تشن الحرب لكي تبادر إلى ايقافها، وقد وقفت بوجه المعتدي في احلك الظروف لمنع المزيد من تقدمه. كما ان العدو احتل عشرات المدن ومئات القرى ومساحات شاسعة من المناطق النفطية في غرب البلاد وجنوبها، كما ان الحرب ليست دائرة على طرفي الحدود بين البلدين حتى يصار إلى مطالبة من وقع عليه الهجوم بالقبول بوقف اطلاق النار. وعلى فرض ان صدام لا يريد من وقف اطلاق النار التقاط انفاسه واستعادة قواه لمعاودة المحاولة لتحقيق اهدافه، فإن قبول وقف اطلاق النار من قبل إيران كان يعني ان القوات العراقية المعتدية ستبقى في عمق الاراضي الايرانية، مما ستضطر الجمهورية الإسلامية إلى تقديم تنازلات كبيرة ولسنوات عديدة حتى تتمكن من استرداد كل متر مربع من اراضيها المحتلة، وستجبر على استجداء المنظمات الدولية والسماسرة السياسيين وأخيراً العامل الاصلي لاشعال الحرب (أميركا) لمساعدتها في استرداد اراضيها.

            وهذا منطق لا يرضاه أيّ حرّ غيور، ناهيك عن الإمام وجماهيره الذين خرجوا منتصرين للتوّ من معركة الثورة ضد اشدّ الملوك استبداداً في المنطقة.

            هذا فضلاً عن ان صدام لم يقدم ايّة ضمانات في كل تلك المقترحات المطروحة بشأن سرعة انسحابه من الاراضي الايرانية، بل انه ادعى رسمياً بأنّ المناطق المحتلة ـ وحتى التي لم تقع تحت الاحتلال بعد ـ يجب ان تلحق بالاراضي العراقية! وهذا الادعاء مشابه لما ادعاه عند احتلاله الكويت حينما اطلق عليها اسم المحافظة العراقية التاسعة عشرة!!

            والحقيقة أن أيّاً من الدول التي بادرت ـ بعد اتضاح حقيقة عجز صدام عن اسقاط نظام الجمهورية الإسلامية ـ إلى الحديث عن وقف اطلاق النار والضغط على إيران لقبول الصلح، لم يكونوا يرغبون في السلام حقيقة، وهم يعلمون مسبقاً بأنّ أيّ شعب واي بلدٍ لا يمكنه في ظروفه كهذه، القبول بالاستسلام. والسلام كان بالنسبة لهم عصا يسلطونها على إيران لعزلها وإزوائها. والاهم من كل ذلك أن الدول الرجعية العربية كانت تهدف من ادعاء السعي للسلام وايقاف اطلاق النار، التخفيف من حدّة الضغط الذي كانت تتعرض له من شعوبها الإسلامية لممارستها الدعم والدفاع بكل اماكاناتها عن معتدٍ معروف كصدام، والوقوف بوجه بلدٍ سخر كل وجوده وامكاناته للدفاع عن الإسلام.

            إن أميركا والدول الاوروبية والعربية لم تكن صادقة في دعوتها للسلام. وان اسطع دليل على ذلك الذي يغنينا عن عرض اية وثيقة أو مستند، هو انّ صدام وبعد أول سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة التي قامت بها إيران في العام الثاني من الحرب، لم يتمكن من الصمود حتى لفترة شهر واحد دون الاعتماد على المساعدات المالية الهائلة التي قدمها له الشيوخ العرب، ودون الاستفادة من التجهيزات العسكرية المتطورة التي قدمتها له الدول الغربية. فلو كانوا صادقين في ادعاءاتهم لكفاهم قطع الامدادات عن صدام بدلاً عن المشاركة في المقاطعة التسليحية والاقتصادية والنفطية ضد الجمهورية الإسلامية الايرانية.

            ان جرم إيران انها قاومت العدو الذي غزا ارضها وعرّض آلاف الابرياء للمذابح البشعة خلال الايام الاولى من عدوانه، وشرد مئات الآلاف عن ديارهم. ورغم أنّ الدول العربية التي وقفت مع صدام، قدمت اعتذاراتها الرسمية إلى إيران بعد احتلال صدام للكويت ـ واقرت باخطائها، إلا ان ذلك لا يقلل من جسامة مسؤوليتها وجريمتها مع الدول الغربية وصدام في استمرار الحرب وإطالة أمدها.

            وفي ضوء الاستدلالات التي تقدمت، كان الإمام الخميني يواجه الهيئات والوفود التي كانت تفد إلى إيران للتوسط من اجل وقف اطلاق النار، ويعلن صراحة بأنه وشعبه سيواصلان الدفاع حتى اخراج المعتدي واجباره على دفع خسائر هذه الحرب. غير ان الصخب الاعلامي الغربي كان شديداً بدرجة حالت دون وصول صوت مظلومية الشعب الايراني إلى اسماع العالم.

            لقد قلبت الحقائق شيئاً فشيئاً، واظهرت إيران على انها عدوانية الطبع، وان صدام راغب في السلام. بيد أن هذه الضغوط وهذا التزوير عجز عن التأثير في موقف الإمام والشعب الايراني الصلب والثابت. وبعد عزل بني صدر ورسوخ نهج الإمام في اركان الجهاز التنفيذي، اخذت سلسلة عملية تحرير الاراضي المحتلة وتيرة اسرع بجهود الحرس الثوري.

            قبل ذلك كان أمر الإمام الخميني باعلان التعبئة العامة وتشكيل جيش العشرين مليون قد لقي ترحيباً من الشبان الثوريين، وعمت انحاء ايران حركة دؤوبة تميزت باقامت الدورات التدريبية وإيفاد الافراد إلى جبهات القتال، وقادت الانتصارات المتوالية لمقالتي الحرس الثوري إلى ظهور آثار الاندحار والهزيمة في صفوف العدو البعثي بشكل جلي. وبالتدريج أخذ يظهر الوجه الحقيقي لأميركا وحلفائها، فانهالت الاسلحة المتطورة ـ التي كان يتم بيعها ضمن شروط صعبة ومفاوضات قد تستغرق عدة سنوات حتى في حالات السلم ويمثل تزويد البلدان بها نوعاً من الامتياز ـ بسرعة على صدام، بما في ذلك صواريخ (كروز) وطائرات (السوبراتندار) الفرنسية. كذلك توافدت شحنات صواريخ (سكود) المتوسطة المدى وطائرات (الميغ 29) وسائر التجهيزات العسكرية الحربية. حتى ان تقنية زيادة مدى الصواريخ وموادها الاولية وتقنية صناعة المواد الكيميائية اهديت هي الاخرى من قبل الشركات الأميركية والاوروبية الى صدام لكي يتمكن من التفوق على الجمهورية الإسلامية.

            وفي هذه الأثناء اجبرت اميركا العربية السعودية والكويت والامارات العربية المتحدة ودول الخليج الفارسي الاخرى على تأمين ميزانية الحرب الصدامية، وقد اعترفت هذه البلدان بذلك صراحة اثناء الغزو العراقي للكويت. والعراق اليوم مدين باكثر من 80 مليار دولار لتلك الدول عن المساعدات التي قدمتها له طوال سنوات الحرب الثماني. اما مصر ففضلاً عن تقديمها الطيارين والطائرات، فقد ارسلت عدة آلاف من الجنود المصريين للمشاركة في الحرب، وكان للاردن دور داعم مشابه.

            القصف المكثف للمدن والقرى والمراكز الاقتصادية، واطلاق الصواريخ المخربة على الايحياء السكنية، كانت حلقة اخرى في سلسلة جرائم صدام التي اغمض المجتمع الدولي والدول المتشدقة بالدفاع عن حقوق الإنسان عيونها عنها، وهيأت بدلاً من الشجب والاستنكار، وسائل تنفيذ تلك الجرائم لصدام. وكان ضحية تلك الاعتداءات مئات القتلى من الاطفال والنساء العزل.

            وقد قاد الإمام الخميني الدفاع المقدس للشعب الإيراني في ظروف كانت إيران تعاني رسمياً من الحصار التسليحي الذي فرضته أميركا واوروبا، وكانت مضطرة احياناً للعمل لعدة اشهر من اجل الحصول على قطعة غيار واحدة لاحدى طائراتها. ان الكثير من دول العالم اما انها اختارت السكوت في مقابل تلك الاعتداءات ومارست الضغط ضد إيران، أو أنّها وقفت رسمياً إلى جانب صدام ودافعت عنه. كما ان اكثر الدول المصنّعة للسلاح في العالم ـ سواء الشرقية والغربية ـ دعمت صدام ووقفت إلى جانبه.

            وقفت إيران وحيدة فريدة تدافع عن نفسها، ولم يكن للشعب من دعامة يستند إليها غير الإيمان بالله والإمدادات الغيبية وتوجيهات هذا العالم الرباني. والمدهش ان هذه الجبهة المظلومة الوحيدة تمكنت في النهاية من تحقيق النصر وملاحقة العدو خطوة بخطوة حتى عقر داره.

            ثماني سنوات من حياة الإمام الخميني مضت في قيادة هذا الدفاع المقدس، ومما يذكر أنه في العام الثالث للحرب، وبعد نجاح عمليات بيت المقدس الكبرى ـ حزيران عام 1982 ـ التي انتهت بتحرير ميناء خرمشهر الاستراتيجي من ايدي القوات العراقية، ابدى الإمام رغبته في ضرورة انهاء الحرب وحصر نشاط القوات الايرانية في الدفاع، إلا ان مسؤولي النظام الإسلامي الملتزمين، بما في ذلك القادة العسكريون والمسؤولون السياسيون في البلاد، اعربوا للإمام ـ بعد دراسة الظروف السياسية والعسكرية التي تمر بها البلاد واوضاع الجبهات ـ عن اعتقادهم بضرورة مواصلة القتال حتى تحقيق الظروف المناسبة لاقامة سلام دائم. وقد دافعوا عن رأيهم هذا بأن قسماً من الاراضي الايرانية ما زال تحت سيطرة القوات العراقية المعتدية، كذلك فإن صدام ورغم الهزيمة الساحقة التي مني بها بعد تحرير خرمشهر، لم يكن مستعداً بعد لقبول الامر الواقع والتراجع عن اهدافه التوسعية، فهو لم يكن يفكر بالسلام وانما كان يفكر ـ نتيجةً لاعتماده على الدعم اللامتناهي الذي وفرته له الدول الكبرى ـ بجبران هزيمته، وذلك عبر إعادة تسليح قواته ومعاودة الهجوم العسكري على إيران. لذا فإن السلام في ظروف كهذه لا يمكن الاطمئنان إليه، وان صدام لا يزال مصراً على ادعاءاته السابقة. ومن هنا فإن ايقاف الحرب من جانب ايران، سيجعل المدن المحررة والمناطق الحدودية، عرضة للهجمات العراقية المحتملة في المستقبل فتكون غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

            استناداً إلى الادلة المقدمة، ونظراً لما كانت تمارسه المنظمات الدولية من الكيل بمكيالين، وعدم قبولها بالشروط الايرانية المنصفة لانهاء الحرب، ومواصلة القوى الكبرى دعم الماكنة العسكرية العراقية وتقويتها؛ كل ذلك كان سبباً في دفع القائد والشعب الايراني إلى القبول بمواصلة الدفاع المقدس.

            لم تؤد المساعدات المختلفة التي كانت تقدم لصدام من تغيير ظروف الحرب التي كانت تتبدل بسرعة لصالح جيش الإسلام. وتزامناً مع تصعيد القصف الصاروخي للمناطق السكنية، اضطرت اميركا للتدخل في الحرب بصورة مباشرة، فتوجهت حاملات الطائرات والسفن الحربية الفرنسية والبريطانية والاميركية والروسية صوب مياه الخليج الفارسي. ولم يبق أمام أميركا من خيار سوى تدويل الحرب وتوريط دول اخرى فيها، فبدأت حرب ناقلات النفط. وقد تركزت مهمة القوات الوافدة إلى المنطقة على منع تصدير النفط الايراني وايقاف وتفتيش السفن التجارية للحيلولة دون وصول المواد والبضائع الاساسية الى الجمهورية الإسلامية. وفي هذا الاطار تعرضت العديد من السفن النفطية الايرانية إلى هجمات صاروخية وجوية، كما اضرمت النار في الآبار النفطية الايرانية في مياه الخليج الفارسي، وبلغ الأمر بأميركا ان اقدمت على ارتكاب جريمة مروّعة، وذلك باطلاقها صاروخين من حاملة الطائرات (وينسنس) نحو طائرة (ايرباس) مدنية تابعة لخطوط الجمهورية الإسلامية (الرحلة رقم 655) في شهر تموز 1988 فاسقطتها، مما ادى إلى استشهاد جميع ركابها، وراح ضحية الحادث 290 شخصاً من الاطفال والنساء والرجال. وقد لاذ العالم ـ الظالم والبعيد عن الحق ـ بالصمت ازاء هذه الجريمة البشعة لمجرد أنها وقعت بحق اناس كانوا ينادون بالإسلام، وهو في نظر الغرب جريمة لا تغتفر! وهي جريمة البوسنيين المظلومين اليوم نفسها، فهم يتعرضون للابادة بسبب ذنبهم هذا.

            اما صدام فقد ختم صحيفة جرائم الوحشية في الحرب المفروضة بجريمة قلّ نظيرها في التاريخ، إذ قام بقصف مدينة (حلبجة) العراقية بالاسلحة الكيمياوية، الامر الذي ادى إلى مقتل أكثر من خمسة آلاف مواطن اعزل كان اكثرهم من الاطفال والشيوخ. وأمام هذه الجريمة البشعة التزمت الامم المتحدة ومجلس الامن الصمت ولم تنبسا ببنت شفة.

            إنّ تجحفل قوات الغرب في الخليج الفارسي، وما حصل خلال الاشهر الثمانية الاخيرة من الحرب، لم يكن الا لأن جيش الإسلام كان في موقع متفوق تماماً على جيش العدو الصدامي الذي فرّ من اغلب المناطق المحتلة إلى ما وراء الحدود.

            إن خشية سقوط صدام المحتمل على ايدي أبطال الإسلام أو هزيمته على الاقل، هي التي دفعت القوى الكبرى إلى المبادرة لدعمه ومساعدته. وفي هذا المجال انصبت جهود أميركا وهيئة الامم المتحدة، وخلافاً لنهجهم السابق، على السعي لسد الطريق أمام تقدم المقاتلين الايرانيين والحيلولة دون سقوط صدام.

            ان مصادقة مجلس الامن على القرار (598)، الذي تضمن بعض آراء ومطالب إيران لايقاف القتال، التي كانت قد اصرت عليها منذ بدء الحرب، لكنّ المنظمات الدولية لم تقبل بها في السابق أملاً بانتصار صدام. ان المصادقة على هذا القرار من جهة، والجرائم البشعة التي ارتكبها مشعلو الحرب في الاشهر الاخيرة من الحرب من جهة اخرى، دفعت الإمام إلى اصدار اوامره إلى لجنة من الخبراء العسكريين والسياسيين والاقتصاديين الايرانيين الملتزمين بدراسة المستجدات على ساحة المواجهة. وبعد دراسة مستفيضة قدمت اللجنة تقريرها الذي تضمن الاشارة إلى ان الوقت مناسب لايران لاثبات حقها في هذا الدفاع المقدس الذي دام ثمانية اعوام، وان عليها ان تقبل بايقاف الحرب على اساس القرار (598).

            وفي 20/7/1988 اصدر الإمام بيانه المعروف باسم (بيان الموافقة على القرار)، الذي يعدّ من ابرز الادلة على كفاءة قيادته وادارته، ففي هذا البيان استعرض سماحته خلفيات الحرب المفروضة وابعادها بشكل جلي، ورسم الخطوط المستقبلية للنظام والثورة الإسلامية في مختلف المجالات، بما في ذلك المواجهة مع القوى الكبرى والاصرار على الاهداف والقيم التي جاءت بها الثورة. وان نعت الإمام الخميني قبوله بالقرار بمثابة "تجرع السم الزعاف" بحد ذاته يحمل بين طياته حقائق خفية ويتضمن دقائق كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها، لذا نكتفي بذكر مقطع من بيان الإمام الخميني هذا، الذي يقول فيه: "واما فيما يتعلق بقبول القرار الدولي، الذي يعد في الحقيقة موضوعاً شديد المرارة صعب الاستمراء للجميع، خصوصاً بالنسبة لي، هو اني ولفترة قريبة كنت أؤمن بنهج الدفاع والمواقف المعلنة سابقاً، وكنت أرى بأنّ مصلحة النظام والبلاد والثورة في تنفيذ تلك المواقف. غير ان الحوادث والعوامل التي لا ارغب الخوض في تفاصيلها الآن وآمل ان تتضح مستقبلاً؛ والآراء التي اتفق عليها الخبراء السياسيون والعسكريون من ذوي المقامات الرفيعة في البلاد ممن اثق بتدينهم واخلاصهم وصدقهم، دفعتني إلى القبول بالقرار الدولي، والموافقة على وقف اطلاق النار. واني اعتبر ذلك الآن في مصلحة الثورة والنظام، والله يعلم بأنه لو لم يكن الدافع بأن نضحي جميعاً بعزتنا وكرامتنا على طريق مصلحة الإسلام والمسلمين، فانني لم اكن لأقبل بهذا الأمر مطلقاً، ولكان الموت والشهادة احلى مذاقاً بالنسبة لي. ولكن ما العمل ونحن جميعاً مطالبون بالاذعان لما يرضي الله تعالى. ومن المؤكد ان الشعب الايراني الشجاع كان ـ وسيبقى ـ على نهجه هذا.

            وتماماً كما حذر الإمام مراراً من أن ادعاءات صدام للسلام لا تعدو كونها محاولة لتضليل الرأي العام، فقد اثبت الواقع ذلك. فبعد قبول إيران بالقرار الدولي، بادر صدام حسين إلى الهجوم مجدداً وارتكاب حماقة جديدة باندفاعه في الجبهات الجنوبية لاحتلال الاراضي الايرانية. غير ان انتشار بيان الإمام الحماسي والعاطفي ادى مرة اخرى إلى ايجاد موجة من التطوع في صفوف قوات التعبئة وتجمع الطاقات الثورية المقاتلة من اقصى نقاط البلاد للتوجه إلى المناطق الجنوبية، وقد ادت سرعة تحركهم وتنظيم قواتهم إلى تكبيد العدو خسائر فادحة ومسارعته للفرار، ولم يبق أمام صدام من طريق سوى القبول بالهزيمة.

            وبذا ـ وبمشيئة الله وكما وعد الإمام الخميني ـ فان الشعب الذي فرضت عليه الحرب، استطاع فرض السلام على عدوه ـ المغرور سابقاً والخائب حالياً ـ بفضل تضحياته وبطولاته وملاحمه التي لم نر مثيلاً لها إلا في الحروب التي خاضها المسلمون الاوائل في صدر الإسلام.

            لقد شن صدام الحرب ـ بايعاز من أميركا ـ لتقسيم إيران والقضاء على الثورة الإسلامية، الا انه اليوم مضطر ـ ومن اجل حفظ حياته ونظامه المفروض على الشعب العراقي المظلوم ـ إلى القبول بشروط الشعب الايراني الثائر.

            ومن عجائب فترة الدفاع المقدس الطويلة التي خاضها الشعب الايراني، هو أن الشعب الايراني لم يتخل طوال هذه الفترة عن نشاطه لبناء ايران واعمار الدمار الذي ورثه من النظام السابق. وخلال الفترة ذاتها وفضلاً عن ادارته وشؤون الحرب على احسن نحو، واصل تنفيذ مشاريعه الكبرى في اعادة البناء وتحديث ايران، بدءً من مشاريع بناء السدود وشق الطرق العظيمة، وانتهاءً بمشاريع توسيع الاكتشافات والاستثمارات النفطية وتوسعة محطات الطاقة وتحسين الشؤون الزراعية وزيادة عدد الجامعات ومراكز البحوث في البلاد وبقية الشؤون الاخرى المرتبطة بالتنمية الوطنية.

            وبهذا النحو انتهت حرب الثماني سنوات، دون ان ينجح مشعلو فتيلها من تحقيق أي هدف من اهدافهم. ولم يبق نظام الجمهورية الإسلامية قائماً وحسب، وانما تمكن ومن خلال الوحدة الوطنية لجماهيره المسلمة، من القضاء على الطابور الخامس داخل البلاد، وحكّم قدرته وسيادته على مختلف انحاء البلاد.

            اما على الصعيد الخارجي فقد ظهرت الجمهورية الإسلامية كقوة لا تهزم، تمكنت من ترسيخ حضورها الفاعل على الصعيد الدولي واثبات حقانيتها رغم ثمانية اعوام من الاعلام المعادي المكثف، واستطاعت ابلاغ رسالتها للعالم. وطبيعي انها دفعت من اجل نهجها هذا ثمناً باهضاً: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

            إنّ من اعظم ذنوب وخيانات صدام وجميع الحكومات العربية ـ الإسلامية الظاهر ـ التي شجعته على الاعتداء ودعمته طوال فترة الحرب، فضلاً عن خيانته في هدر الطاقات الانسانية والاقتصادية العظيمة لكلا البلدين (إيران والعراق)، هي انه بفرضه هذه الحرب المشؤومة ارجأ تحقيق الوحدة الإسلامية والثورة الإسلامية الكبرى لسنوات طويلة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق بعد سقوط النظام الملكي في إيران، وعرّض صفوف المسلمين إلى الفرقة والتشتت. وبدلاً من الضغط بقوة على يد الاخوة التي مدها الإمام الخميني بعد 11 شباط (يوم انتصار الثورة) من خلال بياناته واحاديثه، إلى الحكومات الإسلامية، وقبول دعوته للاتحاد وحل مشكلات العالم الإسلامي وتحرير القدس، تراها وقفت إلى جانب اساطين الكفر. وطبيعي أن هذا الطريق لا يقود إلا إلى التسليم المذل أمام إسرائيل، والاعتراف رسمياً بوجود هذه الغدّة السرطانية واستقبال عساكر الكفر في بلدانهم، وتسخير ثرواتهم القومية واراضيهم وكراً لأميركا ليمكنها من الاستقرار في قلب العالم الإسلامي وفي مهبط الوحي.

            ان الهجوم الصدامي المجنون على الكويت وتدميره لكيان هذه الدولة، والنتائج المرّة التي اسفرت عن الاحتلال من تخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية للشعب العراقي والحضور الدائم لاعداء الإسلام في المنطقة، ليس إلاّ جزاء لهذا الذنب الذي لا يغتفر {فاعتبروا يا اولي الأبصار}.

            بعد الاستقرار النسبي للسلام، حدد الإمام الخميني للمسؤولين في الجمهورية الإسلامية، عبر بيان اصدره في 3/10/1988 يتألف من تسعة بنود، النهج والبرامج اللازمة لاعادة اعمار البلاد. ويكفي لاستشراف عمق تفكير الإمام، والمكانة التي يؤمن بها للقيم الاصيلة، مطالعة هذا البيان بدقة.

            وبعد مرور عشرة أعوام من تجربة نظام الجمهورية الإسلامية، اصدر الإمام الخميني في 24/2/1989 ـ بدافع تعديل وتكميل ركائز نظام الجمهورية الإسلامية ـ أوامره، ضمن رسالة بعث بها إلى رئيس الجمهورية وقتئذ (آية الله العظمى الخامنئي) ـ بتشكيل هيئة تتولى تعديل الدستور على اساس ثمانية محاور حددها في الرسالة، أهمها اصلاح المواد المتعلقة بالشروط اللازمة توافرها في القائد وتوحيد السلطة المركزية في القوة التنفيذية والقضائية والاذاعة والتلفزيون، وتحديد مسؤوليات مجمع تشخيص مصلحة النظام.

            وقد تمّ طرح المواد الدستورية المعدّلة للاستفتاء الشعبي في 3/12/1989م (بعد رحيل الإمام) وصوت عليها ابناء الشعب باغلبية مطلقة

            تعليق


            • #7
              نبوءة الإمام الخميني بانهيار الماركسية

              قام غورباتشوف ـ آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي المنحل ـ باصلاحات وتغييرات في بنية القطب الشيوعي العالمي. ولم يزل المحللون السياسيون وقادة الغرب ينظرون بعين الشك والترديد إلى خطواته تلك دون ان يصدقوا بأنّ مثل هذه التحولات التي تجري في هذا النظام الالحادي ذي السبعين عاماً، ستمتد إلى جذوره العميقة، وان اقصى ما توقعوه هو ان يقوم قادة الكرملين في النهاية باهمال بعض العلاقات المباشرة بين بلدان الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي للتخفيف من المشكلات الاقتصادية الداخلية وتأسيس نظام جديد للشيوعية يقوم على قيادة اكثر محدودية للاتحاد السوفيتي ومسؤولية اكبر للبلدان التي تدور في فلكها. في حين أنّ الإمام الخميني وببصيرته التي عجز عن دركها المحللون الماديون، بعث برسالته وقتئذ (1/11/1989) إلى غورباتشوف توقع فيها انهيار الماركسية حيث كتب يقول: "من الآن فصاعداً ينبغي أن يبحث عن الماركسية في متاحف التاريخ السياسي للعالم".

              عرض الإمام الخميني في تلك الرسالة اعمق التحليلات عن التحولات الجارية في الاتحاد السوفيتي وعبّر عما يجري بـ"صوت تهشم عظام الماركسية". والمثير للدهشة ان الرسالة تضمنت نبوءة اخرى مشوبة بالحذر، مما يشير إلى احاطة الإمام الخميني بالظروف السياسية العالمية؛ إذ حذّر سماحته بوضوح من ارتماء الروس في احضان الرياض الخادعة للرأسمالية الغربيين والانخداع بما تطرحه أميركا.

              لقد طالب الإمام الخميني غورباتشوف بالايمان بالله بدل تعليق الآمال على الماديين الغربيين معتمداً في مطالبته على عرض المسائل الفلسفية والعرفانية العميقة مشيراً إلى فشل الشيوعيين في سياستهم في محاربة الأديان. يقول الإمام في رسالته: "ان المشكلة الاساسية لبلدكم لا تكمن في مسألة الملكية والاقتصاد والحرية، بل في عدم الاعتقاد الحقيقي بالله، وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها الغرب والتي جرته إلى الابتذال ووصلت أو ستصل به إلى طريق مسدود".

              إلا أن القادة السوفيت ـ للاسف ـ لم يحملوا نصائح الإمام وتحذيراته محل الجد، مما اتاح للشركات الأميركية والاوربية، ان تجعل من روسيا مضماراً لمطامعها الاقتصادية، وتعرضها لنوع جديد من الاستثمار الذي لا يحمل معه سوى الظلام والانتهاء إلى الطريق المسدود، إلا إذا افاقت الجماهير الروسية وعادت إلى رشدها.

              ويذكر ان (شيفاردنادزه) وزير خارجية الاتحاد السوفيتي آنذاك، حينما قدم يحمل ردّ الرئيس السوفيتي الى الإمام الخميني، ذهل عندما رأى هذا العملاق الصلب الذي يوجه التحذيرات بصراحة عجيبة إلى قادة ثاني قوة في العالم، يعيش في بيت صغير بسيط في جماران وفي غرفة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً، مكتفاً بوسائل واثاث في منتهى البساطة ودون وجود أي اثر للمراسم والتشريفات المعمول بها. اذهله ان يرى الإمام جالساً باطمئنان واستقامة كالطود يضع إلى جانبه نسخة من القرآن الكريم وسجادة صلاة ومسبحة وعدداً من الصحف ومذياعاً صغيراً. وقد ازداد دهشة حينما التفت إلى انه لا يوجد كرسي آخر يجلس عليه المسؤول الكبير الذي يرافقه وان على الاخير ان يجلس على الارض ـ ولو لمرة واحدة ـ! ولعل وزير الخارجية السوفيتي ظن بأن قدح الشاي مع حبتي السكر ـ الذي قدّمه له الشيخ العجوز الذي كان في خدمة الإمام ـ كان امراً متعمداً واستثنائياً. غير ان الحقيقة غير ذلك، فالإمام لم يغيّر اسلوبه في العيش ببساطة خلال جميع أدوار حياته سواء حينما كان وحيداً ومغترباً ومنفياً أو خلال عهد زعامته الدينية وقيادته السياسية وحتى آخر لحظة من عمره. ولم يقبل لنفسه ان يغير من اسلوبه أمام المقامات الدنيوية الاعتبارية مهما كبرت وعظمت.

              الدفاع عن النبي الاكرم (ص) والقيم الدينية

              بعد توقف الحرب العراقية الايرانية، بدأ القادة السياسيون الغربيون نوعاً جديداً من الهجوم على الإسلام الثوري. إذ ادرك هؤلاء الساسة ـ ومن خلال الحرب العراقية الايرانية والمواجهة التي وقعت بينهم وبين حزب الله لبنان، ومن انطلاقة المنظمات الفلسطينية الإسلامية، والجهاد الإسلامي للافغان، ومن عملية اغتيال السادات على أيدي المسلمين الثوار المصريين في 6/10/1981 ـ أدركوا بأنّ الحركة الإسلامية تتنامى بشكل مطرد، ولا يمكن القضاء عليها بالسلاح وبالاسلوب العسكري. لذا لجأوا إلى فتح جبهة جديدة يكون الصراع فيها على اساس معنوي وثقافي وايديولوجي. ولما كان بث الفرقة بين المسلمين بايحاء مذهبي وطائفي قد فقد بريقه نتيجةً لوعي الإمام الخميني ومسؤولي النظام الإسلامي، توجه هؤلاء لضرب الجذور والاسس المحركة لهذا التيار، والتي تتمثل في المباني الاعتقادية والمقدسات التي ادى عشقها إلى توحيد الاهداف والاساليب بين مختلف اتجاهات الحركة الإسلامية. فكان تنظيم ونشر الكتاب المبتذل "الآيات الشيطانية" لمؤلفه (سلمان رشدي) ودعم الدول الغربية له بشكل رسمي، بداية لفصل جديد من الهجوم الثقافي.

              ولو لم تبد الأمة الإسلامية ردة فعل ازاء المساس بشخصية الرسول الاكرم (ص) لتم الاستيلاء على الخندق الاول من خنادقها الدفاعية، ولتمّ بعد ذلك الهجوم على الاسس الدينية والمقدسات والاعتقادات بالغيب وسائر القيم المعنوية في المجتمعات الإسلامية بمختلف الاساليب. إنّ هوية الفكر الديني والهوية التي توحد الامة الإسلامية إنما تتشكل في هذه المقدسات وان التشكيك بها يؤدي إلى تضييع الهوية الذاتية للعالم الإسلامي والحركات الإسلامية ويجردها من أيّ سلاح في مقابل الهجوم الثقافي والايديولوجي الغربي.

              واستناداً إلى الحقائق والاسباب التي تقدمت، فجّر الإمام الخميني 14/2/1989 ثورة اخرى بإصداره حكماً مختصراً اعلن فيه ارتداد (سلمان رشدي) وحكم عليه وعلى من ينشر كتابه بالاعدام إذا كان مطلعاً على محتوى الكتاب الداعي للكفر.

              هبّ المسلمون للوقوف في وجه الغرب بصفوف مرصوصة بصرف النظر عن مذاهبهم وألسنتهم وبلدانهم. وقد اظهرت الاحداث التي نتجت عن هذه الواقعة، المجتمع الإسلامي على انه امة واحدة، وان المسلمين ـ رغم اختلافاتهم الداخلية والجزئية ـ متى ما توفرت لهم القيادة السليمة استطاعوا ان يلعبوا دوراً فاعلاً في حركة احياء القيم الدينية في مستقبل العالم. كذلك بدد اصدار هذا الحكم التصورات الغربية الواهمة حول تخلي إيران عن اهدافها الإسلامية الثورية بمجرد قبولها بالقرار (598).

              السنوات الاخيرة من عمر الإمام

              نقل المقربون من الإمام الخميني في مذكراتهم خواطر وذكريات عن حالات سماحته وروحيته في أواخر عمره، تشير إلى ان سماحته كان يحس قرب أجله ودنوّ موعد لقاء المحبوب. وبغض النظر عن حالات الإمام العرفانية في تلك السنوات، فإن هناك سمات وخصوصيات اتسمت بها خطاباته واحاديثه ميزتها عن سابقاتها، نشير فيما يلي إلى نماذج منها.

              وقعت في تلك السنوات حوادث عديدة ثقل اثرها على روح الإمام وقلبه، احداها استشهاد عدد كبير من الحجاج الايرانيين المظلومين إلى جوار بين الله وفي موسم الحج لعام 1987.

              كان الإمام يعتقد بشدة استناداً إلى مئات الآيات القرآنية الصريحة وسنّة النبي الاكرم (ص) وسيرة أئمة الدين وما لا يحصى من الروايات المأثورة عن المعصومين (ع)؛ بأنّ السياسة جزء من الدين، وان عملية فصل السياسة عن الدين التي عاشت خلال العقود الاخيرة من هذا القرن، انما روّج لها المستعمرون، وان النتائج المشؤومة لهذا الفصل واضحة في العالم الإسلامي وبين اتباع سائر الاديان الالهية.

              كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ الإسلام دين لهداية البشرية في جميع مراحل وابعاد وادوار الحياة الفردية والاجتماعية. ولما كانت العلاقات الاجتماعية والسياسية جزءً لا يتجزأ من حياة البشر، فإن الإمام الخميني كان يرى ان الإسلام الذي يهتم بالجوانب العبادية والاخلاقية الفردية فحسب، ويصد المسلمين عن تقدير مصيرهم وعن المسائل الاجتماية والسياسية، إسلام محرّف، وعلى حد تعبير سماحته "إسلام أميركي". كما ان سماحته كان قد انطلق بنهضته على اساس فكرة عدم الانفصال بين الدين والسياسة، وواصلها على هذا الاساس ايضاً.

              لقد بادر الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، فضلاً عن تشكيل الحكومة الإسلامية ـ باسلوب يختلف تماماً عن الانظمة السياسية المعاصرة، اوضح اركانه واصوله دستور الجمهورية الإسلامية ـ إلى احياء شعائر الإسلام الاجتماعية واعادة الروح السياسية للاحكام الإسلامية. وما احياء واقامة مراسم صلاة الجمعة، ومراسم صلاة الاعياد الإسلامية الكبرى في مختلف انحاء البلاد، على انها عقيدة عبادية سياسية وطرح المسائل والمشكلات التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي داخل البلاد وخارجها في خطب صلوات الجمعة والاعياد الدينية، وتغيير اسلوب ومحتوى مراسم العزاء والثراء إلا نماذج بارزة على ذلك.

              ان احد أبرز انجازات الإمام الخميني، احياء الحج الإبراهيمي.

              فإلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كانت مراسم الحج ـ بوحي من رؤية خاصة وتبعية حكام البلدان الإسلامية وبالاخص حكام السعودية ـ تقام سنوياً بعيدة عن روحها الواقعية. فقد كان المسلمون يؤدون مناسك الحج وهم غافلون تماماً عن فلسفة تشريع هذا التجمع الديني السنوي الكبير. ومع ان الحج، كما نصت عليه الآية القرآنية {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} يعتبر من ابرز مظاهر التلاقي واعلان البراءة من المشركين، إلا ان الناظر إلى الحج لا يرى أي اثر من طرح لمشكلات العالم الإسلامي والبراءة من المشركين، في وقت تعيش المجتمعات الإسلامية احلك الظروف وتتعرض لهجمات المستعمرين واسرائيل من كل ناحية.

              وبعد انتصار الثورة الإسلامية، أكّد الإمام الخميني ـ من خلال بياناته السنوية التي كان يوجهها إلى الحجاج في موسم الحج على وجوب اهتمام المسلمين بالامور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار اعلان البراءة من المشركين ركن من أركان الحج، وتوضيح مسؤوليات الحجيج في هذا الخصوص. وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت مسيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشرات الآلاف من الحجاج الايرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الاخرى، يرددون خلالها شعارات تطالب باعلان البراءة من أميركا والاتحاد السوفيتي واسرائيل باعتبارها مصاديق بارزة للشرط والكفر العالمي، وتدعو المسلمين إلى الاتحاد. وتزامناً مع هذه المراسم كانت تقام المؤتمرات لتبادل الآراء بين المسلمين وتحري الحلول لمشكلاتهم وتأخذ ابعاداً مختلفة. وقد أدى التأثير المذهل لهذه الخطوات إلى دفع أميركا إلى زيادة ضغطها على حكومة السعودية للحيلولة دون تنامي هذه الظاهرة أو اقامتها اساساً.

              وفي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة عام 1407هـ، وبينما كان اكثر من مئة وخمسين الف حاج مندفعين في شوارع مكة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين، اقدم رجال أمن الحكومة السعودية ـ السريين والعلنيين ـ على مهاجمة حشود الحجاج هجوماً يدلل على سبق اصرارهم وترصدهم، فوقع في هذه الحادثة المؤلمة اكثر من اربعمئة شهيد من الحجاج الايرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والباكستانيين والعراقيين وغيرهم، وجرح اكثر من خمسة آلاف آخرين. كما تم اعتقال العديد من الابرياء. وكان اكثر الشهداء والجرحى من النساء والشيوخ ممن عجزوا عن الفرار السريع من مكان المذبحة.

              لقد ضرج هؤلاء بدمائهم بمنتهى المظلومية بتهمة اعلانهم البراءة من المشركين. والاهم من ذلك انتهاك حرمة الحرم الالهي الآمن في يوم الجمعة وفي ايام الحج المباركة وفي الشهر الحرام.

              ان آثار الغضب والألم كانت تعتصر قبل الإمام الخميني لهذه الجرأة والوقاحة، إلا أن مصالح الأمة الإسلامية وظروف العالم الإسلامي منعته من القيام بأيّة خطوة عملية، مما حبس الغم في داخله وترك اثره على كلامه وبياناته حتى آخر عمره.

              بعد عام من هذه الواقعة، ونتيجة لاسباب استعرضناها فيما تقدم، قبلت الجمهورية الإسلامية وحكومة العراق القرار 598 عملياً وانهيا الحرب المفروضة. وان كلاًّ من الملاحم البطولية التي سطرها جند الإسلام والمقاومة الشعبية الإيرانية الرائعة خلال ثمانية اعوام من الدفاع المقدس، التي حالت دون تحقيق الاعداء لأيٍّ من اهدافهم ـ التي اشعلوا الحرب بسببها ـ وتمكن الشعب الايراني من طرد المعتدين من المدن والمناطق المحتلة عبر صراع غير متكافئ تماماً، وانتهاء الحرب بانتصار جند الإسلام، كلها امور تدعو إلى البهجة والفخر، غير أنّ الظروف والفجائع التي ظهرت من قبل انتهاء الحرب ومنها المجزرة الرهيبة التي وقعت في (حلبجة) نتيجة القصف الكيميائي لهذه المدينة من قبل الطائرات العراقية، والقصف الواسع للمناطق السكنية في إيران ودعوة الدول التي تدّعي الإسلام، أميركا واوربا للقدوم إلى الخليج الفارسي بناقلاتها الحربية لحماية صدام واسقاط الطائرة الايرانية المدنية في الخليج الفارسي من قبل القوات البحرية الأميركية، كلها احداث مؤلمة تعتصر قبل ايّ مسلم غيور، ناهيك عن رجل طاهر كالإمام الخميني الذي أوقف عمره لخير الأمة الإسلامية وصلاحها، ونهض من اجل استعادة مجدها الضائع.

              كان الإمام الخميني يعاني الأمرّين مما كان يراه من وقوف الكثير من الدول الإسلامية ـ خلافاً لارادة شعوبهم ـ مع أعداء الإسلام الحاقدين، ودعمهم للمعتدي، خصوصاً وأنّه كان يرى بوضوح العواقب الوخيمة لهذا الدعم، وأنّه حذّر من مغبة مواجهة النظام الإسلامي الايراني وتقوية الحكام البعثيين، مشيراً إلى هذا الأمر ـ فضلاً عن انه لن يحلّ مشكلة من مشاكل العالم الإسلامي ـ فإنّه سيؤدي في المستقبل القريب إلى اكتواء هؤلاء الحكام انفسهم بالنار الكامنة تحت الرماد. وفيما يلي نشير إلى نماذج من تلك النبوءة المدهشة التي وردت في حديث القاه الإمام قبل ثمانية اعوام من الهجوم الصدامي على الكويت ـ 16 أيار 1982 ـ وطبع في السنة نفسها في كتاب صحيفة النور (ج 16 ص 150). يقول سماحة الإمام مخاطباً الدول العربية الداعمة لصدام: "على حكومات المنطقة ان تنتبه إلى انهم انما يلقون بأنفسهم في التهلكة من أجل أميركا أو غيرها من القوى الكبرى. لقد حذرناهم مراراً لئلا يصبحوا اداة بأيدي القوى الكبرى، وقد قلنا أكثر من مرة ان صدام إذا تمكن من النجاة من ورطته هذه واستعاد قوته فانه ليس بذلك الرجل الذي يقدر مواقفكم ويحترم مساعداتكم، انه مصاب بجنون العظمة، ومن المحتم انه سيبادر للهجوم عليكم". كذلك حذر الإمام هذه الحكومات في خطابه الذي القاه بتاريخ 2/11/1981 قائلاً: "انني انصح جميع حكومات المنطقة بأن يكفوا عن دعم صدام، وان يخشوا ذلك اليوم الذي يحل فيه غضب الله عليهم".

              والطريف أنه لم يمر وقت يذكر على رحيل هذا الرجل الرباني حتى تحقق ما قال، حيث اصبح أولئك ـ الذين اتهموا إيران بانها ذات نزعة عدوانية واعتبروا المعتدي المتجاوز هو الطرف الراغب بالسلام ـ انفسهم فريسة للمتجاوز والمعتدي مع الفارق بين ما فعلوه وبين ما فعلته ايران، إذ بادروا إلى الاستنجاد بالدول التي تعدّ السبب الرئيسي لاشعال فتيل كل هذه الفتن والحروب.

              ان عدم اكتراث الدول الإسلامية للاعتداءات الاسرائيلية على جنوب لبنان والجرائم التي ارتكبها الصهاينة هناك والمواجهة القاسية للمسلمين المنتفضين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والأسوأ من ذلك كله، حرص الدول العربية على اقامة ما يسمى بالسلام مع اسرائيل، والكفّ، عن السعي لتحرير القدس، كل هذه معانات ادمت قلب شيخ جماران. لقد اطلق سماحته صيحته ـ منذ شروعه بالنهضة لتحرير الاراضي الإسلامية من قبضة الصهاينة ـ بوجه اسرائيل وحاميها الاول (أميركا) وبسبب ذلك بالذات تم نفيه إلى خارج بلاده اربعة عشر عاماً. كذلك فإنه خلال الفترة التي اعقبت انتصار الثورة الإسلامية لم يألُ جهداً ولم يدخر وسعاً في تقديم الدعم المادي والمعنوي لتحقيق ذلك الهدف.

              واليوم نرى قادة الدول الإسلامية وقادة المنظمات الفلسطينية يهيئون انفسهم للتوقيع على وثيقة الاستسلام فيه وقت تغيرت في الظروف لغير صالح أميركا واسرائيل نتيجة تنامي الصحوة الإسلامية بين الشبان الفلسطينيين وفي مختلف انحاء العالم الإسلامي. وهي امور كانت تترك اسوأ الآثار على روحية الإمام. ولا شك أنه في السنوات الأخيرة من عمره كان يخصص السهم الاوفر من مناجاته الليلية للشكوى لله من تلك الامور والدعاء من اجل اصلاحها.

              اما على الصعيد الداخلي،‍‍‍‍‍ فقد كانت الظروف التي أدت إلى إقالة آية الله المنتظري عن منصبه في تولي أمر القيادة بعد الإمام (28/3/1989) من جملة الحوادث المرّة الاخرى.

              ان احد اهم اصول دستور الجمهورية الإسلامية ـ هو تشكيل مجلس الخبراء لتعيين القائد وتحديد صلاحيات القيادة في النظام الإسلامي. والخبراء هم مجموعة من الفقهاء والمجتهدين الذين تتوفر فيهم الشروط، يتم انتخابهم من قبل الجماهير بشكل مباشر، وبذا تكون الجماهير مشاركة ومشرفة على اهم امر يرتبط بمصير المجتمع الإسلامي ـ أي القيادة ـ وذلك عن طريق رأي الخبراء.

              صوّت اول مجلس للخبراء في جلسته المنعقدة في شهر تموز 1983م على انتخاب آية الله المنتظري لمقام نائب القائد، فهو من تلامذة الإمام الخميني البارزين ومن المجتهدين الذين كان لهم حضور فاعل في الدفاع عن انتفاضة الخامس من حزيران وما تلاها من حوادث، ومن هنا كان قد تعرض ـ كما هو حال آية الله الطالقاني وسائر علماء الدين الثوريين ـ للسجن لفترات طويلة في العهد الملكي البائد.

              ففي آخر رسالة بعث بها الإمام الخميني إلى آية الله المنتظري ـ التي أدّت إلى تقديم الاخير استقالته من منصبه ـ صرّح سماحته بأنه كان معارضاً لانتخاب المنتظري قائداً للنظام الإسلامي من بعده، إذ كان يراه يفتقد إلى الطاقة اللازمة لتحمل هذه المسؤولية الجسيمة والخطيرة والمعقدة. وقد صرح الإمام في هذه الرسالة بأن عدم اتخاذه موقفاً معارضاً لمجلس الخبراء إنما كان لرغبته في عدم اختراق الحدود التي اقرها القانون لمسؤوليات ووظائف مجلس الخبراء ـ وهذا الامر بحد ذاته بالغ الاهمية في دلالته على اسلوب الإمام الخميني في الادارة ـ فهو يحترم قانون النظام الإسلامي ورأي الجماهير، ويلتزم به إلى الحدّ الذي يمنعه من ابداء رأيه ونظرته الشخصية حتى في ادق الظروف واكثرها حساسية رغم ان ابداءه لرأيه لن يؤدي إلى وقوع أيّة مشكلة نتيجة المحبوبية والمقبولية التي يحظى بها لدى الجماهير ومسؤولي النظام.

              وفي الرسالة نفسها، أكد الإمام الخميني ـ ضمن تعبيره عن محبته للمنتظري ـ على انه يرى ان من الصالح له (المنتظري) أن يكف عن تكرار اشتباهاته السابقة، وان يطهر بيته من الافراد غير الصالحين، ويحول دون تردد المعارضين للنظام الإسلامي عليه، وان يتفرغ لاثراء البحوث الفقهية واتاحة الفرصة للحوزات للاستفادة من ارائه الفقهية.

              ومما يذكر ان الإمام الخميني ليس فقط لم يصرح بمعارضته لانتخاب المنتظري من قبل مجلس الخبراء، بل وبادر إلى تقوية واصلاح نقاط ضعف المنتظري بكل جهده، واناط به من المسؤوليات والأمور المهمة الكثير لإكسابه التجربة الكافية واعداده لتحمل مسؤولية القيادة الخطيرة. غير ان آثار حقيقة (فقدانه الطاقة اللازمة لتحمل مسؤولية هذا المقام الخطير) كانت تظهر ـ وللاسف ـ تدريجياً، الأمر الذي دفع العناصر غير الصالحة التي تسللت إلى منزله إلى استغلال ذلك ـ وقد اظهرت اعترافاتهم التي ادلوا بها عبر التلفزيون عن سوء نواياهم واهدافهم المشؤومة التي كانوا يخططون لتنفيذها ـ حتى بلغ الامر حداً تجاوز عدم الالتزام بالنصائح المشفقة والحكيمة التي قدمها الإمام الخميني، والاصرار على الاسلوب الخاطئ.

              لقد نصحه الإمام الخميني مرات عديدة ـ عبر الرسائل تارة، واللقاءات المباشرة تارة اخرى ـ بضرورة تطهير منزله من تلك العناصر، والتعاون مع مسؤولي النظام المخلصين.

              ولكي ندرك المحطات الحساسة في هذه الواقعة التاريخية ومرارة الأثر الذي تركته على قلب الإمام، ولوعي مدى التزام الإمام بمصالح الأمة وعدم الاخذ بنظر الاعتبار العلاقات العاطفية والشخصية في مقابل الاهداف المهمة، نكتفي بنقل هذا المقطع من رسالة الإمام التي بعث بها إلى ممثلي مجلس الشورى واعضاء الحكومة بتاريخ 10 نيسان 1989م، وهو غني عن أي تفسير أو تعليق، سماحته: "بلغني أنكم لا تعلمون شيئاً حول قضية السيد منتظري، وانكم تجهلون تفاصيلها. ولكن ينبغي أن تعلموا ان والدكم الشيخ بذلك كل ما في وسعه منذ اكثر من عامين عبر البيانات والرسائل لتفادي وصول الامر إلى ما وصل إليه، غير أنه ـ وللاسف ـ لم يوفق في ذلك. من جانب آخر فإن المسؤولية الشرعية اقتضت اتخاذ القرار المناسب لحفظ النظام والإسلام. لذا فقد اقلت ـ بقلب يعتصره الالم ـ وضحيت بثمرة عمري (المنتظري) من اجل مصلحة النظام والإسلام".

              وبهذا النحو تم التخلص من احدى المخاوف التي كانت تهدد مستقبل النظام الإسلامي، بتدخل مباشر من يد الإمام الخميني الكفوءة المقتدرة. ولم يكن لهذا الامر المعقد ان يحل الا بواسطة شخصية كشخصية الإمام الخميني.

              والإمام الخميني لم يوجه حديثه إلى الاخرين فقط حينما يقول: "ان الثورة ليست مدينة لاية فئة" و"لقد اعلنت مراراً بأني لم اوقع عقد أخوّة مع أي احد مهما كان منصبه" و"ان الاطار لمحبتي للآخرين إنما يتحدد من خلال صحة الطريق الذي ينتهجونه"، بل انه يشمل بذلك حتى نفسه، ففي بيانه المعروف الذي وجهه للحوزات العلمية كتب يقول: "يعلم الله بأني لا اعتقد لنفسي بذرّة من المصونية والحقأنه والامتياز، واني مستعد للمؤاخذة إذا بدر مني أيّ خلاف".

              وكما اشرنا سابقاً، إن بيانات وخطابات الإمام الخميني خلال السنوات الاخيرة من عمره تختلف عما كانت عليه في السابق، الأمر الذي يعبر عن سعة افقه وعمق احساسه بالمسؤولية بالنسبة للفترة التي ستلي غيابه. فخلافاً لبياناته واحاديثه في المراحل السابقة ـ التي كانت تركز اساساً على توجيه الجماهير والمسؤولين فيما يتعلق بالاحداث الجارية والمواقف المطلوبة أمام المحن التي تتعرض لها البلاد والعالم الإسلامي ـ فإن بياناته في السنوات الاخيرة من عمره المبارك كانت تتلخص في استحضار الحوادث الماضية والحالية، وترسيم ابعاد المستقبل، وبيان تكاليف عموم المسلمين في قبال المسؤوليات المستقبلية وبنحو أشد وضوحاً من السابق.

              بتعبير آخر، كان الإمام الخميني يشعر بقرب اجله، لذا سعى في السنوات الاخيرة من عمره الشريف الى التذكير بمجموعة القيم والمثل والاهداف التي شكلت الاساس لانطلاق الثورة، وترسيم وتوضيح اولويات النظام الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية العالمية على اساس هذه القيم والاهداف.

              لقد سعى الإمام الخميني من خلال هذه البيانات ـ وبطرح تقييمه عن مجمل العناصر الموجودة في المجتمع الايراني والعالم الإسلامي، وكذلك تحليلاته عن الانظمة الحاكمة في عالمنا المعاصر ـ لتوضيح الطريق أمام انتخاب واختيار مستقبل النظام، وتبيين تكليف كل شريحه ازاء الظروف المستقبلية وفي غيابه.

              وقبل عدة سنوات من رحيله، وتحديداً في 15 شباط 1983، كتب الإمام الخميني وصيته السياسية الإلهيّة استناداً إلى هذا المبدأ، وبوحي من هذا الدافع. وتعد هذه الوصية ـ التي طبعت ونشرت حتى الآن بمختلف اللغات ـ نداء الإمام الاخير المتضمن اصول فكره واهدافه وارشاداته الخالدة لانصاره ومحبيه. ان كتابه وصية بهذا النحو وبهذا الابعاد، عمل لم يسبق له مثيل بين فقهاء الشيعة ومراجع التقليد، ودليل على عمق اطلاع الإمام على الحاجات الحالية والمستقبلية للمجتمعات الإسلامية، وعلى شدّة احساسه بالمسؤولية في هذا المجال.

              ان بيانات الإمام الخميني الاخيرة، هي في الحقيقة شرح وتفسير للقيم التي دافع عنها في وصيته والامور السياسية التي طرحها فيها.

              ومن جملة الخصائص التي تميزت بها بيانات الإمام في أواخر عمره، تأكيده على ضرورة التفات المسلمين إلى نوعين متضاربين من الفكر الديني والإسلامي. إذ ان سماحته ـ استناداً للشواهد التاريخية العديدة ـ يعتقد بأنّ الإسلام وسائر الاديان الالهيّة ـ منذ سحيق الزمان وحتى اليوم ـ عرضت بصورتين متضادتين تماماً. فمن جانب كان هناك الدين والإسلام المحرّف الذي استغله الظالمون والمستعمرون، والذي ابتدعه المتحجرون والقشريون من رجال الدين الكاذبين. ومن جانب آخر كان الدين والإسلام الحقيقي الذي حفظ وانتشل من احضان الخرافات والشعوذات بدماء المجاهدين والمساعي الحقيقية لعلماء الدين الملتزمين طوال التاريخ. وبذا فإن احد اسرار نجاح الإمام الخميني بتحريك الامة الإسلامية يتمثل في قدرته على بيان التضاد المستمر بين هذين النوعين وتوضيح سمات كل واحد منهما.

              كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ تجاهل هذه الحقيقة التاريخية وعدم محاولة التعرف عليها، هو الذي ادى إلى نفوذ الاستعمار إلى البلدان الإسلامية، وابتعاد المسلمين عن عصور التحضر والثقافة الباهرة التي كانوا عليها، ثم الابتلاء بالواقع الراهن، حيث نرى ـ للاسف ـ الحكومات الإسلامية التي رفع اسلافها شعار "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" و{لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}، تستجدي اليوم اعداء الإسلام من الكفار والمشركين لمواصلة حياتها والحفاظ على حدودها.

              كان الإمام الخميني يعبر عن الفهمين المتباينين للإسلام في عصرنا الحاضر بـ"الإسلام الاصيل" و"الإسلام الأميركي". إذ انه كان يعتقد بأنّ الإسلام الذي تتجاهل احكامه القرآنية المسلّمة وسنّة الاكرم (ص) فيما يتعلق بالمسؤوليات الاجتماعية، والإسلام الذي تترك منه ابواب الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدالة الإسلامية والاحكام المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ويحول دون مشاركة المسلمين في السياسة وفي تقرير مصيرهم، ويرى الدين يتلخص في منجموعة من الاذكار والعبادات الفردية دون الالتفات إلى فلسفتها وروحها الحقيقة، ان مثل هذا الإسلام هو الذي تدعو إليه أميركا ومن يدور في فلكها.

              يستند سماحة الإمام في تحليله هذا إلى ظواهر تاريخية وشواهد دامغة مستلة من الوضع الذي كانت عليه البلدان الإسلامية. فسماحته يعتقد بأنّ الاستعمار الحديث هو نتاج لمساعي المستعمرين السابقين. إذ انهم سعوا الى تغيير دين الجماهير المسلمة عن طريق المبشرين المسيحيين. ولمّا فشلوا في ذلك حولوا مساعيهم منذ ذلك الزمان وحتى الآن لتنصب على ابطال مفعول الاحكام الإسلامية السامية وتشويه الدين من الداخل. ونتيجة ذلك مشهودة تماماً، فجميع البلدان الإسلامية اليوم تعتمد في انظمتها وقوانينها الموضوعة واساليبها في القضاء وفي هيكل النظام الحكومي والقوانين السياسية والاجتماعية، على القوانين والاساليب الغربية المعادية للدين، والتي تتعارض في ماهيتها مع القوانين المستندة إلى الوحي.

              ان الإسلام الأميركي هو الذي يتيح للثقافة الغربية ومفاسدها وتحللها النفوذ إلى اعماق المجتمعات الإسلامية ويهلك الحرث والنسل. الإسلام الأميركي هو الذي فسح المجال للحكومة العميلة للاجانب ان تمارس سلطتها على المسلمين وتقف باسم الإسلام في مواجهة المسلمين الحقيقيين، وتمد في الوقت ذاته يد الصداقة إلى اسرائيل وأميركا، اعداء الإسلام.

              كان الإمام الخميني في بياناته الاخيرة يؤكد بوضوح اكبر هذه الحقيقة؛ وهي أن الطريق الوحيد لانقاذ البشرية من مشكلاتها الراهنة هو العودة إلى عصر الدين والاعتقاد الديني، وان السبيل اللاوحد لتحرير البلدان الإسلامية من وضعها الحالي المؤسف هو عودتها إلى الإسلام الاصيل وإلى هويتها الإسلامية المستقبلية.

              تعليق


              • #8
                نظرة على اعتقادات الإمام الخميني واهدافه وتطلعاته

                الآن وحيث وصلنا في بحثنا هذا في استعراض المراحل التاريخية لحياة الإمام الخميني، إلى الايام الاخيرة من عمره البمارك، لا يفوتنا ان نلقي نظرة ولو سريعة على اهم ابعاد فكره واهدافه (قده).

                بديهي ان تكوين صورة واضحة وكاملة عن مبادئ الإمام الخميني الاعتقادية واهدافه لا يتيسر بدون مطالعة مؤلفاته واحاديثه ودراسة سيرته الملية بدقة، الأمر الذي لا يتيسر في هذه العجالة.

                الإمام الخميني شيعي المذهب، يعتقد بشدّة بوحدة الأمة الإسلامية (بغض النظر عن توجهاتهم المذهبية) في مقابل المستعمرين واعداء الإسلام. فالدعوة إلى الوحدة تمثل جانباً مهماً من بياناته وخطاباته، وهو لا يجوز أية حركة تؤدي إلى بث الفرقة في صفوف المسلمين وتمهد الطريق أمام المستعمرين لتحقيق هيمنتهم. لقد اوضح سماحته ـ من خلال اصدار الفتاوى المتميزة، وعبر دعمه لاعلان اسبوع الوحدة بين المسلمين الذي يقام في ذكرى ولادة النبي الأكرم واصدار البيانات المتواصلة ـ السبل العملية لتحقيق الوحدة بين الشيعة والسنّة. وقد اصرّ على مواجهة كل ما يؤدي إلى التفرقة والجدال بين الشيعة والسنّة طوال مدة زعامته.

                كان سماحته يعتقد بأن الإيمان بالله الواحد، والاعتقاد برسالة خاتم الانبياء (ص) والايمان بالقرآن المجيد، بصفته صحيفة الهداية الابدية، والاعتقاد بضرورات الدين وشعائره واحكامه كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، كلها مرتكزات عملية ثابتة لتقارب جميع المذاهب الإسلامية وتوحيد صفوفها في مقابل المشركين واعداء الدين.

                ان النهضة الاصلاحية للإمام الخميني وبياناته لم تقصر على المجتمع الايراني وسائر المجتمعات الإسلامية. إذ أن سماحته كان يعتقد بأنّ الفطرة البشرية لجميع الناس إنما خلقت على اساس الالتفاف حول مبدأ التوحيد والخير والحقيقة والعدالة، ولو ان المعرفة البشرية العامة تنامت وتمت السيطرة على شيطان النفس الأمارة، وتم تضعيف شياطين الخارج، فإن آحاد المجتمع البشري سيتوجهون نحو الله والحياة في أجواء ملؤها العدالة والسلام.

                على هذا الاساس دعا الإمام الخميني ـ في اغلب بياناته ـ المستضعفين والشعوب الاسيرة في بلدان العالم الثالث إلى الانتفاضة بوجه المستكبرين. وفي الايام الأولى من انتصار الثورة الإسلامية دعا بصراحة إلى فكرة اقامة حزب عالمي للمستضعفين، ودافع عن هذه الفكرة، كما ان أول المؤتمرات العالمية التي ضمت الحركات التحريرية اقيم في إيران لأول مرة خلال زعامة الإمام الخميني.

                لقد أكد الإمام الخميني مراراً ان الثورة الإسلامية انما تعادي التطلعات السلطوية لقادة أميركا والغرب والاتحاد السوفيتي (السابق) لا شعوب تلك البلدان التي وقعت هي الاخرى ضحية الاستعمار الجديد.

                كان شعار الإمام الخميني مقارعة الظالم والدفاع عن المظلوم، وكان يقول: "لا نظلم ولا نرضخ لظلم الآخرين".

                ولعل من المناسب هنا ان ننقل الاسس الاعتقادية للإمام الخميني كما وردت على لسان سماحته وهو يجيب عن سؤال مراسل صحيفة التايمز البريطانية، يقول سماحته "ان اعتقادي واعتقاد المسلمين قاطبة يتلخص في المسائل التي أوردها القرآن الكريم، والتي أوضحها نبي الإسلام (ص) وأئمة الحق من بعده، وان اساس وأصل جميع تلك المعتقدات ـ والذي يعتبر اهم واسمى اعتقاداتنا ـ هو مبدأ التوحيد. واستناداً لهذا الاصل فإننا نعتقد بأنّ خالق العالم وجميع عوالم الوجود والانسان، هو الله تبارك وتعالى، والمطّلع على جميع الحقائق، والقادر على كل شيء، ومالك كل شيء. وهذا الاصل يعلمنا بأنّ على الانسان أن يسلّم فقط أمام ذات الله المقدسة، وأن لا يبدي الطاعة لأي انسان آخر إلا إذا كانت طاعته استمراراً لطاعة الله. على هذا الاساس فلا يحق لأيّ انسان ان يفرض على الآخرين الانصياع له. ومن هذا الاصل الاعتقادي، نتعلم مبدأ حرية الإنسان، وانه لا حق لاي انسان ان يسلب انساناً آخر أو مجتمعاً أو شعباً حقهم في الحرية، أو ان يضع لهم قانوناً ينظم سلوكهم وعلاقاتهم استناداً إلى مقدار وعيه ومعرفته القاصرين، أو استناداً إلى رغباته وميوله. وبالاستناد إلى هذا الاصل، فإننا نعتقد ايضاً بأنّ وضع القوانين لتطوير الحياة هو من اختصاص الباري جل وعلا، كما ان قوانين الوجود والخلق من اختصاصه هو تعالى، وان سعادة الانسان والمجتمعات وكمالها، تكمن فقط في طاعة القوانين الالهية التي تمّ ايصالها إلى البشر عن طريق الانبياء، وان الانحطاط والسقوط اللذين تعاني منهما البشرية انما هما بسبب مصادرة الحريات والاستسلام أمام بعض الافراد. ومن هنا فانه يتوجب على الانسان ان يثور على هذه القيود ويقارع الذين يدعونه للاستسلام والأسر؛ وان يسعى لتحرير نفسه ومجتمعه ليكون الجميع عبيداً لله ومن هذه الناحية تنطلق قوانيننا الاجتماعية ضد قوى الاستبداد والاستعمار. ومن هذا الاصل الاعتقادي (التوحيد) نستلهم المساواة بين جميع بني البشر أمام الله، فهو خالق الجميع، والجميع عباده. فالاصل هو تساوي البشر، وما يميز الفرد عن الآخر ـ كقاعدة ومعيار ـ انما هي التقوى والابتعاد عن الانحراف والخطأ ولذا ينبغي الوقوف بوجه كل ما يُراد به تخريب المساواة الاجتماعية وتحكيم الامتيازات المزيفة والفارغة على المجتمع".

                يقول الإمام الخميني: "المعيار في الإسلام هو رضا الله لا رضا الاشخاص ونحن نقيس الاشخاص على الحق، لا الحق على الاشخاص. المعيار هو الحق والحقيقة".

                كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ الفطرة الانسانية مجبولة على حب الكمال المطلق المنحصر بالحق تعالى، وانه تعالى منشأ جميع الكمالات والقدرات. كان الإمام الخميني يذكّر انصاره دوماً بأن "العالم محضر الله، فلا تعصوا الله في محضره". "لا تخشوا احداً إلا الله، ولا تعقدوا الآمال على احد غير الله".

                كان الإمام الخميني يرى بأن الهدف من بعثة الأنبياء هو هداية البشر إلى معرفة الله وتجسيد الكمال الانساني من القوة إلى الفعل، وازاحة الظلمات واصلاح المجتمعات واقامة القسط والعدالة. يقول سماحته: "ان بعثة الانبياء انما تهدف إلى انقاذ اخلاق الناس، ونفوسهم، وارواحهم، واجسامهم من الظلمات؛ وتبديد الظلمات واستبدالها بالنور" ويقول: "لا نور سوى الحق تعالى، وماعداه ظلمات".

                الإمام الخميني يرى بأن الإسلام خاتم الاديان الإلهية وانه يمثل اسمى واشمل العقائد الهادية، يقول سماحته مؤكداً: "ان الإسلام يقف على قمة هرم الحضارة" و"ان النظام الحقوقي في الإسلام ارقى واكمل واشمل الانظمة الحقوقية".. "في الإسلام يوجد قانون واحد وهو القانوني الالهي".

                ان سماحته يرى في الإسلام دين العبادة والسياسة. يقول سماحته: "كان الإسلام من واضعي اسس الحضارة الكبرى في العالم".

                كان سماحته يوصي اتباعه بالقول: "اياكم والخلط بين القرآن المقدس والدين الإسلامي الذي يبعث على التحرر، وبين العقائد الخاطئة المنحرفة التي ابتدعها الفكر البشري". ويقول (قده): "إن مشكلة المسلمين الكبرى تكمن في تخلّيهم عن القرآن الكريم والانضواء تحت لواء الآخرين". ويقول: "ان التشيع ـ المذهب الثوري والامتداد الطبيعي للإسلام المحمدي الاصيل ـ كان دائماً ـ مثلما كان الشيعة ـ هدفاً لحملات المستبدين والمستعمرين الغادرة".

                لقد اكد سماحته مراراً، حينما تحدث عن اهداف نهضته والباعث عليها، على القول: "ان اقصى ما نهدف اليه هو الإسلام".

                فالإمام الخميني يرى الثورة الإسلامية شعاعاً من الثورة الحسينية الخالدة التي انطلقت في عاشوراء لانقاذ الدين من قبضة المجرمين الظالمين إذ يعتقد سماحته: "بأن الإسلام لم يأت لقوم دون غيرهم، ولا يفرّق بين الترك والفرس والعرب والعجم. والإسلام للجميع ولا قيمة أو امتياز في نظامه للجنس أو اللون أو لقبيلة أو اللغة".. "الجميع اخوة متكافئون، فالكرامة فقط وفقط في اطار التقوى، والتمايز انما يتم على اساس الاخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة".

                ينظر الإمام الخميني إلى الشهادة في سبيل الله عزاً ابدياً، وفخر الاولياء، ومفتاح السعادة، ورمز النصر. ويرى الاندفاع إلى الشهادة ناتجاً عن حب الله. ويقول عن قمية الشهادة وماهيتها: "ما أشدّ غفلة عباد الدنيا والجهلة، الذين يبحثون عن قيمة الشهادة ومعناها في صحائف الطبيعة، وينشدون وصفها في الاناشيد والملاحم والقصائد، ويستجدون فن التخيل وكتاب التعقل لاكتشافها والحال ان حلّ اللغز لا يتيسر إلا بالعشق".

                بهذا المنطق كان سماحته يقول: "أقول لكم ايها الاخوة المؤمنون"، ان نموت على أيدي أميركا والاتحاد السوفيتي المجرمة ونلقى الله مخضبين بدمائنا مرفوعي الرأس، خير لنا من أن نعيش برفاه تحت لواء الجيش الاحمر الشرقي، والاسود الغربي".

                كان الإمام الخميني فيلسوفاً إلهياً، وعارفاً ربانياً، وفقيهاً اصولياً، ومرجعاً للجماهير، وفي الوقت ذاته، زعيم الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران. كان سماحته مطلعاً على اسس الفلسفة الغربية، ومتقناً لاسس ومباحث المنطق والفلسفة الإسلامية، في اتجاهيها المشائي والاشراقي. وربما يمكن القول أنّ الفكر الفلسفي للإمام يميل ـ إلى حدٍّ ما ـ إلى الفلسفة الشهودية والاشراقية وبالاسلوب التوفيقي الذي اتبعه الحكيم المتأله المرحوم ملاّ صدرا، طبعاً مع وجود بعض الاختلاف والفارق.

                درّس الإمام الخميني الفلسفة بمستوياتها العالية لمدة خمسة عشر عاماً. وقد عدّ سماحته الفلسفة بمنزلة السبل لمعرفة مرحلة ومرتبة من حقائق الوجود ووحدته ومراتبه، متأثرة بشدة بمشربه العرفاني.

                كان عرفان الإمام الخميني يقوم على الآيات القرآنية واحاديث أئمة الدين وتعاليم أولياء الله، وفي اطار الشرع الإسلامي المطهر. كان سماحته يعارض بشدة التصوف السلبي الذي يروّج بأن الدين والعقيدة منحصران في الذكر والاوراد، ويدعو إلى الاعتزال والتخلي عن اداء المسؤوليات السياسية والاجتماعية. وكان سماحته يرى بأنّ معرفة النفس اساس لمعرفة الله، وان تهذيب نفوس البشر من الرذائل والمفاسد الاخلاقية والسعي في اكتساب الفضائل، شرط اساس لنيل معرفة الحق. كما ان بلوغ المعرفة الحقيقية والمقامات المعنوية السامية لا يتحقق إلا بطي الطريق التي طواها وعلّمنا اياها الانبياء العظام وحجج الله في الارض.

                ولهذا كان الإمام الخميني لا يجوز الاساليب والرياضيات الخارجة عن اطار الشرع المنور والاحكام الالهية. كما إنّه يتنفر من القشرية والتظاهر بالقدسية والمراءاة بالعرفان.

                كان الإمام الخميني يعتقد بأنه ينبغي الاستعانة في ساحة الجهاد الاكبر المحفوف بالمخاطر، والسير والسلوك، وفي وادي الاسفار الاربعة بالمرشدين الحقيقيين واصحاب الكشف والكرامة الواقعيين، لا الادعياء المحترفين المزيفين. كذلك ينبغي الارتباط بالولاية العظيمة التي تمثل سفينة النجاة. فكل ما يبلغه الانسان عن غير هذا الطريق هو ضلال في ضلال. وان نفس الإمام المهذّبة، وروحه المتسامية، وطيه الموفق للمراحل العملية للسير والسلوك المعنوي، بحد ذاته هو ابلغ شاهد على حقانية نهجه.

                نال الإمام الخميني في هذا المسير مرتبة من المقامات المعنوية والادراك الشهودي، وكان فانياً في الله حتى انه كان يناله ما يناله من الاضطراب في مقابل ادعاء الحلاجين: "انا الحق"؛ ليس لأن السذج من الغرباء عن العرفان كانوا قد كفروهم، بل لأنهم كانوا يرون في الوجود غير الحق ايضاً، ويدعون "الآنيّة" ووجود الواسطة. في حين ان الإمام يرى الحق تعالى وحده هو النور، وكلّ ما عداه ظلمة؛ والظلمة تعني انعدام النور. والعدم لا يعد وجوداً، وان الوجود تجلي الحق ولا شيء سواه.

                كان الإمام الخميني ـ إضافة إلى تعمقه في الفلسفة والعرفان والتفسير والاخلاق وعلم الكلام الإسلامي ـ مجتهداً بارزاً في الفقه والاصول، وقد درّس الفقه والاصول على اعلى المستويات اكثر من ثلاثين عاماً. ويوجد الآن فضلاً عن الكتب الفقهية والاصولية التي ألفّها سماحته، العشرات من تقريرات دروسه التي كتبها طلابه.

                ومن السمات التي امتازت بها مدرسة الإمام الفقهية، هو أنه كان يؤمن بأصالة خاصة للفقه والاصول، وكان يتحاشى خلط الاستنتاجات الكلامية والفلسفية والعرفانية مع الاحكام الفقهية في مرحلة استنباط الاحكام.

                كان سماحته يرى بأنّ حركية الفقه والاصول من مستلزمات الرؤية الاجتهادية، وان لعنصري الزمان والمكان دوراً حيوياً هاماً في الاجتهاد، وان عدم اخذهما بنظر الاعتبار يقود إلى العجز عن درك المسائل المستحدثة والحاجات المعاصرة ويحاول دون تقديم الاجوبة المناسبة لها. وفي الوقت نفسه كان سماحته يعتقد بأنّ حركية الفقه ليس بمعنى تزلزل اسلوب الاستنباط والاجتهاد المتعارف. ومن هنا كان سماحته يؤكد في توصياته إلى الحوزات العلمية على ضرورة اعتماد الفقه التقليدي، بمعنى حفظ اساليب ومناهج السلف الصالح في استنباط الاحكام، وكان يعتبر تخطيها آفة وخطراً عظيماً، يمهد السبيل لظهور البدع.

                كان سماحته يرغب في اصلاح الحوزات العلمية وتطويرها في هذا الاطار، وكان سماحته يعد من الرواد في هذا المضمار. لقد مهد سماحته الطريق ـ من خلال اصداره للفتاوى الثورية ـ أمام المجتهدين لتغيير افق نظرتهم لتتسع للمسائل الحيوية والاساسية للمجتمع، واثبت ـ من خلال احيائه للابواب المنسيّة في الفقه ـ اهمية عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد.

                يقول سماحته: "إنّ الحكومة بنظر المجتهد الحقيقي، هي تعبير عن الفلسفة العملية للفقه جميعاً في مختلف زوايا الحياة البشرية. الحكومة ترجمة عملية للفقه في تعامله مع جميع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. فالفقه نظرية واقعية وكاملة لادارة حياة الانسان من المهد إلى اللحد".

                وعلى اساس هذه النظرة، طرح الإمام الخميني آراءه المتمثلة في "اقامة الحكومة الإسلامية على اساس ولاية الفقيه في زمن الغيبة" وجاهد من اجل تحقيقها سنوات طوال. ورغم ان نظرية ولاية الفقيه عموماً (بغضّ النظر عن اختلاف الآراء في حدود صلاحيات الولي الفقيه) تعتبر أمراً اتفقت عليه آراء فقهاء الشيعة، الا ان ابعادها لم تتعرض للبحث ولم تتح لها الفرصة للتحقيق العملي نتيجة عدم توفر الظروف المناسبة في الماضي. وعليه فان الإمام الخميني يعدّ أول فقيه نجح بعد قرون في تشكيل الحكومة الدينية المبنية على اساس قيادة المجتهد الجامع للشرائط، التي من جملتها: التهذيب وصيانة النفس، والتدبير، والقدرة على ادارة المجتمع، والشجاعة والعدالة والخبرة والاجتهاد في الاحكام الإلهيّة. يقول سماحته: "الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الالهي على الناس".

                في عقيدة الإمام، إن الحكومة الإسلامية ـ بغض النظر عن التباين في الاهداف والغايات ـ تختلف عن الانظمة السياسية المعاصرة من حيث تشكيلاتها واركانها ايضاً. ففي نظرية الحكومة الإسلامية تجد "الاكثرية" مشروعيتها على اساس "الحق"؛ وتبعاً لذلك فإن وجوب اعمال الولاية منوط بتوافر شروطها ـ التي من جملتها قبول الرأي العام ـ الذي يتجلى بالانتخاب المباشر المتعارف أو عن طريق اختيار الخبراء ـ وهم منتخبو الشعب ـ.

                وعلى هذا الاساس فإن من الطبيعي ان تكون العلاقة بين القائد والحكومة الإسلامية من جهة والجماهير من جهة أخرى، علاقة عميقة واعتقادية، ولهذا كانت الحكومة التي اقامها الإمام وقادها، من اكثر انواع الحكومات جماهيرية وشعبية. ففي هذه الحكومة ـ وخلافاً لجميع الانظمة السياسية الموجودة في العالم ـ لا تنتهي مسؤولية الجماهير بعد اداء دورها في تعيين القائد واجراء الانتخابات، بل ان حضورها في ميدان إدارة المجتمع الإسلامي والمساهمة في النظام الإسلامي يضمن لها بوصفه تكليفاً شرعياً. فمن وجهة نظر الإمام الخميني إن الحكومة الإسلامية انما تستند إلى العلاقة والثقة المتبادلة بين الجماهير والقائد الصالح، لذا يقول سماحته: "إذا مارس الفقيه نوعاً من الاستبداد في أمر ما، يسقط عنه مقام الولاية"، "ان القائد والقيادة ليست بالامور المهمة للفرد في حدِّ ذاتها في الاديان السماوية وفي الإسلام العظيم، حتى تدفع الانسان ـ لا سمح الله ـ إلى الغرور والعجب". من هذا المنطلق كان سماحته يقول: "أن ينعتوني بخادم الشعب افضل من ان ينادوني بالقائد، فالمسألة ليست مسألة قيادة، المهم هو الخدمة، لقد كلفنا الإسلام بالخدمة".. "اني اخ لأبناء الشعب الايراني، واعتبر نفسي خادماً وجندياً لهم".. "شيء واحد يحكم في الإسلام وهو القانون. في زمن النبي الأكرم ايضاً كان القانون هو الحاكم، وكان النبي (ص) منفذ القانون".

                يقول الإمام الخميني مخاطباً الحكومات التي ترى الحكم لها وحدها وانها افضل من الجماهير: "الحكومات اقلية ينبغي ان تكون في خدمة شعوبها، وان هؤلاء لا يعون أنه ينبغي للحكومة ان تكون خادمة للشعب، لا حاكماً عليه".. "ان وعي الجماهير ومشاركتها في نشاطات حكومتها المنتخبة، وممارسة الاشراف عليها والانسجام معها، يعد بحد ذاته اكبر ضمانة لحفاظ الامن في المجتمع".

                ان الفارق واضح بين هذه النظرية فيما يخص الحكومة والامن القومي والاجتماعي، والنظريات التي ترى ـ حتى في أكثر الانظمة السياسية ديمقراطيةً ـ بأنّ الدولة والحكومة لا تعرف المصداقية إلاّ من خلال "القوة" ووسائلها واساليبها. ومن هنا ترى ايضاً ان اهم ركن للأمن الاجتماعي انما يكمن في هذه القدرة. يقول الإمام الخميني: "ان أيّة قوة مهما عظمت معرضة للسقوط إذا ما حرمت الدعم الشعبي".

                ان سقوط النظام الشيوعي ـ الذي كان يبدو قوياً ـ من جهة، واستقرار نظام الجمهورية الإسلامية في إيران وثباته ـ رغم عداء اعتى قوى العالم لها، ورغم دخولها في حرب دامت ثمانية اعوام ـ من جهة أخرى، يعدّ بحدّ ذاته انصع دليل واقوى شاهد على صحة نظرية الإمام الخميني.

                بديهيّ أنّ نظرية الإمام الخميني بشأن الحكومة الإسلامية ودور وموقع الجماهير بشأن الحكومة الإسلامية ودور وموقع الجماهير فيها، لا ربط له بتاتاً بالقومية بالمصطلح الشائع في الثقافة السياسية للعالم. بل هي على النقيض منها تماماً.

                فالقومية التي تظهر احياناً كايديولوجية، تنتهي ـ وبغض النظر عن عجزها على الصعيد العملي ـ إلى نظام يعادي القيم والمبادئ الإنسانية. ذلك لأن رؤية كهذه، إذا ما طرحت التصورات القومية لأي شعب كحقائق ينبغي الدفاع عنها، فهذا يعني أنه لا توجد حقائق وقيم قابتة، وستكون هناك من الحقائق والقيم بعدد الشعوب والحدود الجغرافية والسياسية المتغيرة، وان مصطلحات كالعدالة والسلام والحرية ستتعدد أيضاً بتعدد الشعوب، وتتغير وتتضاد بشكل مستمر. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يرى الشعب الذي يتمتع بقدر اكبر من القدرة ـ لمختلف الاسباب ـ أن من حقه المشروع التسلط على الشعوب الاكثر ضعفاً. ذلك أن القومية المتطرفة، لا تعتقد سوى بتفوق العصر أو اللون أو اللغة أو الموقع الجغرافي والتاريخي. أما الإمام الخميني ـ واستناداً للشواهد التاريخية ـ فقد كان يعتقد بأنّ ترويج (القومية) و(الشعوبية)، وتأسيس حركاتٍ داعية للقومية العربية والتركية والفارسية وامثالها في العالم الثالث وفي البلدان الإسلامية، انما نتج عن محاولات المستعمرين ومساعيهم لتجزئة البلدان وبث الفرقة والاختلاف بينهما، وفرض تسلطهم عليها.

                يقول سماحته: "إن هدف القوى الكبرى وعملائها في البلدان الإسلامية، يتمثل في بثّ الفرقة بين المسلمين ـ الذين آخى الله بينهم وسمى المؤمنين منهم بالإخوة ـ وفصلهم عن بعضهم باسم الشعب التركي؛ الشعب الكردي؛ الشعب العربي؛ الشعب الفارسي، بل وايجاد العداوة بينهم. ومثل هذا يتناقض مع نهج الإسلام والقرآن الكريم تماماً". ولهذا حرص الإمام الخميني على القول: "ان نهضتنا إسلامية قبل ان تكون إيرانية".

                يرى الإمام الخميني أنّ استقرار السلام الواقعي في العالم مع وجود القوى المتسلطة المستكبرة، والقبول بوجودها وتسلطها، ليس اكثر من خيال محض؛ يقول سماحته: "ان الامن والسلام العالميين منوطان بزوال المستكبرين، فمادام هؤلاء المتسلطون المتوحشون على هذه الارض، لن ينال المستضعفون ارثهم الذي وعدهم الله تعالى به". "انه يوم مبارك، ذلك اليوم الذي تزول فيه سلطة الناهبين الدوليين على شعبنا المظلوم وسائر الشعوب المستضعفة، وتتمكن الشعوب من استعادة حقها في تقرير مصيرها". "ربما تلحق اميركا هزيمة بنا، ولكنها لن تتمكن من دحر ثورتنا، لذا فإني واثق من انتصارنا، ان الحكومة الأميركية لا تدرك معنى الشهادة".

                يقول الإمام الخميني عن ماهية ومنشأ الكيان الإسرائيلي الغاصب: "ان اميركا ـ الارهابية بالطبع ـ هي التي اضرمت النار في العالم بأسره. وان ربيبتها الصهيونية العالمية، هي التي ارتكبت ـ لتحقيق اهدافها ـ جرائم تأنف الاقلام والألسن عن كتابتها وذكرها". "ان اسرائيل غاصبة ومعتدية بنظر الإسلام والمسلمين، واستناداً إلى جميع الموازين الدولية". "انني اعتبر الاعتراف الرسمي باسرائيل فاجعة بالنسبة للمسلمين، وانفجاراً بالنسبة للدول الإسلامية".

                لقد اعلن الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية، آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس، وطالب جميع المسلمين بتنظيم المظاهرات والاعلان عن تضامنهم مع المجاهدين الفلسطينيين في ذلك اليوم من كل عام، ما دامت القدس رازحة في قيود أعداء الإسلام.

                يعتقد الإمام الخميني بأنّ الطريق الوحيد لتحرير القدس والقضاء التام على إسرائيل، يتمثل في الإيمان بالله واللجوء إلى الشهادة والجهاد المسلح.

                يقول الإمام الخميني عن الشيوعية: "منذ بداية ظهور الشيوعية، كان ادعياؤها من اشد الحكومات استبداداً وتسلطاً في العالم". ويقول سماحته عن التقدم الغربي: "اننا نقبل التقدم الذي حققه الغرب، ولكننا نرفض الفساد الغربي الذي يئنّون هم انفسهم من آثاره المخربة". "التربية الغربية تجرد الإنسان من انسانيته". "اننا لا نعارض الحضارة، وانما نعارض الحضارة المستوردة". "اننا نريد حضارة تقوم على اساس العزّة والإنسانية".

                لقد اكدَّ الإمام مراراً على الدور الاساسي للثقافة، وكان يقول: "الثقافة هي منطلق سعادة أي شعب أو تعاسته.. ان ما يبني الشعوب هو الثقافة الصحيحة". "إن الشعب الحيواني ليس هو الملاك، الملاك هو كرامة الإنسان". "مادام الإنسان يصر على مواصلة حياته تحت ظل السلاح، فليس بمقدوره ان يكون انساناً، ولن يتمكن من بلوغ الاهداف الإنسانية". "احرصوا من خلال البيان والقلم ان تضعوا الاسلحة جانباً. الميدان ميدان صراعٍ بالاقلام والعلوم والفكر".

                يرى الإمام الخميني أنّ الفن المسخر لخدمة الاستعمار والاستغلال، و"الفن من اجل الفن"، امر سلبي يفتقد إلى أيّة قيمة، يقول سماحته: "الفن في العرفان الإسلامي تجلٍّ للعدالة والعزّة والانصاف، وتجسيد لمرارة الجوع التي يعاني منها المغضوب عليهم من قبل اصحاب القدرة والمال".

                كان الإمام الخميني استاذاً نموذجياً في حقل التعليم والتربية سواء في المجال النظري أو العملي. لقد نجح باساليبه التربوية في دفع مجتمعه إلى الانسجام مع نهضة دينية كبرى، بعد ان كان قد جرّ بفعل جرائم العائلة البهلوية الخائنة وعملاء الفكر الغربي، نحو ثقافة وقيم منحطة، وروّض على اللاابالية وعدم الاكتراث.

                نقلوا أنه خلال احداث الخامس من حزيران عام 1963، وفي تلك الظروف الاجتماعية المؤسفة واجواء الكبت، قال بعضهم لسماحته: بأي افراد وأي أمل تتطلع لاقامة حكومة العدل؟ فأشار سماحته إلى مهد ينام فيه طفل صغير والعجيب المدهش ان الدور الاساسي في احداث الثورة بعد خمسة عشر عاماً من تاريخ تلك الحادثة، قام به الطلاب والتلاميذ المسلمون الايرانيون!

                كان الإمام يعتقد بأنّ مراقبة النفس والسعي الدؤوب في تهذيبها من الاهواء النفسانية والشيطانية في جميع مراحل الحياة يعدّ ضرورة لبلوغ الكمال الحقيقي، وكان يعتقد بأن التربية يجب أن تبدأ منذ الطفولة، حتى المراحل الثانوية منها يجب أن لا يتغيب عن نظر الأم. لذا كان يقول: "لا يوجد عمل اشرف من الامومة". "ان أول مدرسة للطفل هي حضن الام".

                كان الإمام يقول لمربي المجتمع" "انتبهوا إلى ان المرحلة المدرسية اهم من المرحلة الجامعية، ذلك لأن النمو العقلي للاطفال انما يتشكل في تلك المرحلة". "ان المعلم مؤتمن على شيء يختلف عن كل الإمانات، انه مؤتمن على الإنسان". "ان جميع اشكال السعادة والشقاء انما تبعث من المدارس ومفتاح ذلك بايدي المعلمين".

                يرى الإمام أن التعليم عمل الأنبياء، واهم مسؤولية تقع على عاتق المعلم ـ بغض النظر عن تقديمه العلوم المختلفة ـ هي هداية المجتمع نحو الله.

                الإمام يسمي الانسان "عصارة جميع موجودات العالم"، ويقول: "الانسان اعجوبة، فمنه يمكن أن يصنع موجود إلهي ملكوتي أو موجود جهنمي شيطاني".

                ويقول: "بتربية الإنسان يصلح العالم" كما انه يعتبر التربية والتزكية مقدمة على التعليم، ويرى بأنّ المتعلم إذا لم يقرن تعلمه بتزكية النفس فإنه يصبح ـ رغم سمو العلم ـ مثل الآلة في خدمة الاهداف الشيطانية. وكان يقول: "إذا دخل العلم قلباً قاسياً، أو عقلاً فاسداً من الناحية الاخلاقية، فإن ضرره أشد من الجهل".

                ان احد اهم منجزات نهضة الإمام الخميني في إيران، تمثل في استعادة المرأة لدورها الفعال في المجال الاجتماعي. ويمكن القول بجرأة أن المرأة الايرانية لم تبلغ طوال التاريخ الايراني هذا المستوى من الوعي السياسي العام، ولم يكن لها مثل دورها الآن في تقرير مصير البلاد. ففي ذروة انتفاضة الشعب ضد النظام الشاهنشاهي، كانت المرأة تتقدم جنباً إلى جنب الرجل، بل وفي طليعته. وطوال الحرب العراقية المفروضة، قامت النساء المسلمات في إيران بدور لا نظير له في الحروب المعاصرة، وذلك من خلال تهيئة الامكانات لجبهات الحرب، وتشجيع اخوانهن وازواجهن على المشاركة في الدفاع عن الإسلام والثورة، بل حتى المشاركة المباشرة في توفير ما تحتاجه الخطوط الأمامية للجبهة.

                والآن ايضاً، فإن المرأة في المجتمع الايراني تؤدي دورها جنباً إلى جنب الرجل في النشاطات الاجتماعية وفي حقل التربية والتعليم، والجامعات، والمجالات الصحية، وفي الدوائر الحكومية وسائر المجالات.

                في حين ان النساء قبل انتصار الثورة الإسلامية ـ ونتيجة للمحيط الفاسد الموبوء الذي أوجده النظام الملكي البائد ـ كن مضطرات لالتزام المنزل، وكانت الكثير من الفتيات ـ خصوصاً في القرى ـ محرومات من نعمة التعليم. أما أولئك اللاتي كانت الفرص متاحة لهن في المدن الكبيرة لممارسة دورهن في النشاطات الاجتماعية، فقد انشغلن في مواجهة هجوم الثقافة المنحطة في ظروف غاية في التعقيد، للدفاع عن شرفهن وعفتهن، في حين اضطرت الاخريات الى ترك العمل والدراسة بسبب ذلك.

                ان التحول الذي شهده المجتمع النسوي الايراني، مرهون وقبل كل شيء بنظرة الإمام الخميني الخاصة إلى شخصية ومنزلة المرأة ودفاعه عن حقوقها. يقول سماحته:

                "ان للمرأة في النظام الإسلامي الحقوق نفسها التي للرجل، بما في ذلك حق الدراسة، وحق العمل، وحق التملك، وحق التصويت، وحق الترشيح".. "لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة من ناحية الحقوق البشرية، ذلك لأن كليهما انسان، وللمرأة الحق في تقرير مصيرها كالرجل تماماً". ويقول سماحته: "ان ما يعارضه الإسلام ويعدّها حراماً هو الفساد، سواء كان من قبل المرأة أو الرجل".. "اننا نريد المرأة أن تتسنم موقعها الإنساني السامي، لا ان تكون ملعبة.. الإسلام لا يريد للمرأة ان تكون شيئاً أو دمية بيد الرجال، الإسلام يريد حفظ شخصية المرأة ويهدف أن يخلق منها انساناً جادّاً".. "ان المرأة كالرجل حرة في اختيار مصيرها ونوع نشاطها".. "ان الحرية بالنمط الغربي ـ الذي يقود الى ضياع الشبان والفتية والفتيات ـ مرفوضة بنظر الإسلام والعقل".

                أمّا على الصعيد الاقتصادي فقد كانت توصيات الإمام ومواقفه تؤكد بشكل عام على تطبيق العدالة ونمح الاولوية لحقوق المحرومين والمستضعفين في المجتمع. إذ ان سماحته كان ينعت خدمة المحرومين بأنها "اعظم العبادات" ويعتبر المحرومين أولياء نعمته ونعمته المجتمع، وان اكثر ما اوصى به الإمام مسؤولي النظام الإسلامي، هو الاهتمام بشؤون الفقراء وتجنب اخلاق المترفين، وكان سماحته يعتقد بأنّ الحكومة والمسؤولين خدام للشعب، ولا حق للخادم ان يطالب بامكانات تفوق مخدوميه. يقول سماحته: "ان شعرة من رأس أحد سكنة الاكواخ والاقبية ومنجبي الشهداء، اشرف واعزّ من جميع القصور وسكانها".. "ان من هم معنا إلى آخر الشوط هم اولئك الذين تذوقوا طعم الفقر والمحرومية والاستضعاف".. "في اليوم الذي تتوجه حكومتنا للاهتمام بالقصور الفخمة، علينا ان نقرأ الفاتحة على الحكومة والشعب معاً".

                من سمات الإمام الخميني البارزة هي ان حديثه ينبع دوماً من اعتقاده الراسخ بما يقول وصدق ما يقول، وترجمته ما يقول. إذ كانت حياة الإمام نموذجاً في الزهد والقناعة والبساطة. ومثل هذا لا يقتصر على عهد مرجعيته وقيادته فقط وانما يمتد إلى عهد حكومته، فهو يرى ان على القائد أن يعيش حياة بسيطة كحياة ابسط الطبقات والمجتمع، بل حتى دون ذلك. وقد اصرّ طوال عمره المبارك على الحياة الزاهدة. ورغم ان ذكريات وخواطر كثيرة كتبت ونشرت عن هذا الجانب من حياة الإمام، وان ذكرها يتطلب كتاباً ضخماً إلا أنه ما زال الكثير من ابعاد زهده وبساطة حياته مجهولاً حتى الآن.

                ولتوضيح بساطة حياة الإمام الخميني واعتقاده بضرورة الاحتياط الكامل في إنفاق بيت المال، يكفي ان نذكر ان المادة 142 من الدستور ـ التي اقترحت من قبل الإمام ـ تنص على ان ديوان القضاء العالي (المحكمة العليا في البلاد) مسؤول عن حصر وتشخيص ممتلكات القائد والمسؤولين الحكوميين الرفيعي المستوى قبل وبعد تصديهم للمسؤولية، لضبط أيّة زيادة تطرأ عليها دون حق. وقد بادر الإمام الخميني بتسجيل كافة ممتلكاته البسيطة في كشف رسمي بتاريخ 14/1/1981 وسلمها (لديوان القضاء العالي) ثم وبعد وفاته مباشرة، طالب نجله ـ من خلال رسالة نشرتها الصحف المحلية ـ السلطة القضائية، باعادة حصر وتشخيص ممتلكات الإمام مجدداً طبقاً للدستور.

                وفي 2/7/1989 أعلنت نتيجة الحصر في بيان اصدره رئيس المحكمة العليا صرح فيه: بأن ممتلكات الإمام الخميني البسيطة لم تبق على حالها وحسب، بل انها نقصت عما كانت عليه، فقطعة الارض التي كان قد ورثها عن ابيه في خمين. وهبها في حياته إلى الفقراء في منطقته، فخرجت من ملكيته. وامواله غير المنقولة تتمثل في المنزل القديم الذي يمتلكه في قم، والذي كان منذ عام 1964 ـ عام بدء النهضة ـ في خدمة اهداف النهضة، ومركزاً لتجمع الطلبة والمراجعين من ابناء الشعب وما زال حتى الآن يفتقد صفة كونه مسكناً.

                كما ذكر في الكشف المذكور ـ الذي تمّ تنظيمه عام 1981 واعلن عنه رسمياً بعد وفاته ـ بأن ممتلكات الإمام تشمل الآتي: عدداً من الكتب، بعض الوسائل الاولية المستعملة التي كانت في منزله وهي تخصّ زوجته، قطعتين من السجاد المستعمل (وقد أوصى باعطائها للفقراء بعد وفاته) كما اشير إلى عدم وجود اثاث شخصي، وعدم وجود اموال شخصية، وإن وجد مال فهو من الحقوق الشرعية التي يقدمها المسلمون إلى الإمام لانفاقها في مواردها الشرعية المعينة، ولا حق للورثة فيها.

                وعليه فإن ما ورّثه هذا الرجل الذي عمّر ما يناهز التسعين عاماً، وعاش يتمتع باقصى درجات المحبوبية من قبل الناس ـ يشمل ما يلي: نظارات، قراضة اظافر، مشط، مسبحة، مصحف وسجاد صلاة وعمامة وثيابه الخاصة، ومجموعة كتب في مختلف العلوم الدينية.

                ذلك كشف بممتلكات رجل لم يكن قائداً لبلدٍ نفطي غني يبلغ تعداد سكانه عشرات الملايين فحسب، بل انه كان حاكماً على قلوب الملايين من الناس، ممن وقفوا في صفوف طويلة ليتطوعوا للشهادة حينما اصدر اوامره بتشكيل قوات التعبئة للدفاع عن الإسلام. وهم انفسهم كتبوا الرسائل أو تجمعوا أمام المستشفى التي رقد فيها الإمام معلنين استعدادهم للتبرع بقلوبهم لسماحته.

                ان سرّ كل هذه المحبوبية يجب ان يبحث عنه في ذلك الإيمان الحقيقي والزهد والصدق.

                كان الإمام الخميني يعتقد بشدّة بأهمية البرمجة لجوانب حياته وبالنظم والانضباط. فهو يتوجه للعبادة وذكر الحق وقراءة القرآن والدعاء والمطالعة في ساعات محددة من الليل والنهار. كما ان ممارسة المشي والانشغال بالذكر والتفكر كانت جزءً من برنامجه اليومي. كان جدول اعماله حافلاً يفوق العديد من القادة السياسيين ـ رغم اقترابه من التسعين من العمر ـ ولم يكن يستغني عن الخدمة في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع الإسلامي، وحل مشكلاته، حتى في اشدّ الحوادث تعقيداً. وعلاوة على ممارسته للمطالعة يومياً، كان يطلع على اهم الاخبار والتقارير والصحف والمجلات الرسمية للبلاد وعشرات الملفات الخبرية، ويستمع إلى اخبار الاذاعة والتلفزيون الايرانية، وإلى التحليلات والتقارير والاخبار التي تذيعها الاذاعات الاجنبية باللغة الفارسية ليلاً، وعلى مختلف ساعات الليل، ليكوّن صورة عن الاعلام المعادي للثورة، ويفكر في طرق مواجهته.

                كذلك فإن ازدحام جدول اعماله اليومي وعقد الاجتماعات مع مسؤولي النظام الإسلامي، لم يحل ابداً دون ارتباطه بالجماهير البسطاء معين الثورة الإسلامية. وقد تمّ جمع ما يزيد على (3700) لقاء له مع الجماهير في كتاب سمي "محضر النور" وذلك في السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلامية فحسب، الأمر الذي يوضح عمق علاقة الإمام بجماهيره. لم يتخذ الإمام أيّ قرار يتعلق بمصير مجتمعه ما لم يطرحه بصدق مع ابناء الشعب. إذ كان يرى ان الجماهير تمثل اهم شريحة محترمة لمعرفة الحقائق.

                وجه ذو ملامح وسيمة عطوفة وتعابير حازمة. نظرات مفعمة بالجاذبية فياضة بالمعنوية. حينما تجلس الجماهير في محضره تغرق دون اختيارها في جاذبية معنويته، فتنطلق الدموع من عيون اكثر الحاضرين لا ارادياً. ان للجماهير الايرانية الحق في دعائها الذي تعارفت عليه بعد انتصار الثورة من التضرع إلى الله بتحويل اعمارها إلى لحظات تضاف إلى عمر الإمام. فإذا كان العالم البعيد عن المعنويات قد غاب عنه ذلك، فان هؤلاء ـ وهم الذين نشأوا مع الإمام ـ يعرفون عملياً قدر اللحظات في عمر هذا العزيز، حيث أوقف حياته لله ولخدمة خلق الله.

                ومع ان عالم الاستكبار ووسائل الاعلام الغربية قد ارتكبت ظلماً كبيراً بحق الإمام الخميني ـ وقبله بحق البشرية جمعاء ـ وشنت لسنوات حملة مكثفة من الاعلام المضلل للنيل من شخصية الإمام وثورته الإسلامية، وحتى انها مازالت تواصل نهجها هذا رغم مرور اعوام على رحيله، فان عشرات المحطات الاذاعية والتلفزيونية تبث اليوم برامجها المعادية للثورة ولاهداف الإمام باللغة الفارسية ليل نهار، ورغم ان امكانات هائلة قد وضعت في اميركا واوربا تحت تصرف الفئات المعادية للثورة بدءً من انصار الملكية وانتهاءً باليساريين ومجاهدي خلق (المنافقين)، ورغم انها سمحت ـ ولا تزال ـ سنوياً بنشر عشرات الكتب ومئات المقالات والمنشورات لقلب الحقائق المتعلقة بنهضة الإمام الخميني، إلاّ اننا واثقون تماماً ان شمس الحقيقة ستبدد سحب الخداع والتظليل.

                لقد نجح العالم الغربي ـ الذي اقام وجوده منذ عدة قرون وإلى الآن على السعي في إحكام سلطته على سائر الشعوب واستغلالها، وخداع الرأي العام العالمي ـ في ادراك الخطر الحقيق الذي يهدده. وإلا فايّ حرٍّ اطلع على حياة الإمام الخميني وبياناته ثم لم يسلم قلبه طواعية للسير على نهجه، ولم ينتفض بوجه هذا النظام الحاكم على هذا العالم؟

                حقاً لماذا يمنعون نشر ومطالعة وصية الإمام الخميني والكثير من آثاره وبياناته وخطاباته الاخرى في اغلب الدول العربية والإسلامية التي تعيش تحت سلطة الحكومات العميلة؟ ويعتبرونه جرماً يطاله القانون؟ ولماذا كل هذا الدأب والتنسيق على مستوى قادة العديد من الحكومات للسيطرة على تسرب مفاهيم وافكار الإمام الخميني؟ ألم يكن سماحته يدافع عن الحقائق والقيم التي عانت البشرية قروناً بسبب فقدانها؟

                ان كل من تعرف على حياة الإمام الكريمة الطيبة، وسمع بندائه وعرف شخصيته، يثق تماماً ان المشعل الذي حمله سماحته لن يخبو رغم كل هذا الصخب المعادي واعاصير التشويه والتحريف للحقائق {والله متم نوره ولو كره الكافرون}.

                تعليق


                • #9
                  رحيل الإمام الخميني: وصال المحبوب وفراق الاحبة

                  لقد بلّغ الإمام الخميني قولاً ـ ومارس عملياً ـ جميع الاهداف والتطلعات وكل ما كان ينبغي له قوله أو فعله، بل سخر على الصعيد العملي كل وجوده من اجل تحقيق هذه الاهداف. والآن ـ وعلى اعتبار منتصف خرداد عام 1368هـ. (اوائل حزيران 1989م) ـ اعدّ الإمام نفسه للقاء عزيز افنى عمره لكسب رضاه. ولم يحن قامته لغيره ولم تبك عيناه لسواه، وان كل اناشيده العرفانية كانت تحكى ألم فراق المحبوب وبيان تشوقه للحظة وصاله. وها قد زفت الآن لحظة الوصال المؤنسة له والعصيبة لانصاره ومحبيه، فقد كتب في وصيته يقول: "بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة وضمير يؤمل فضل الله، استودعكم ايها الاخوة والاخوات لأرحل إلى مقري الابدي. وأنا بحاجة مبرمة إلى صالح دعائكم. واسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة وفي القصور والتقصير، وارجو من ابناء الشعب أن يقبلوا عذري في كل نقص وقصور وتقصير. وأن يسيروا قدماً بعزم ومضاء".

                  وحينما تقف الجماهير المحبة للإمام جنب ضريحه، فإنها تتمتم بهذه العبادات المتواضعة لتجيب سماحته قائلة: أيّها الإمام! عن أي قصور أو تقصير تتحدث؟ فعلى حدّ علمنا وعلم آبائنا، وطبقاً لما رأينا وسمعنا، انك كنت صلاحاً ونوراً وطهراً خالصاً "اشهد أنك قد اقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في الله حق جهاده".

                  الغريب ان الإمام الخميني قال في احدى قصائده التي نظمها قبل سنوات من وفاته:

                  تمر السنون وتتوالى الحوادث وانا انتظر الفرج في منتصف خرداد

                  وتتحدث الابيات التي سبقت هذا البيت عن ألم الهجران والأمل بتحقق لحظة الوصال.

                  وها هي لحظة وصال المحبوب قد حانت في النصف من خرداد عام 1989م.

                  قبل ايام معدودة من رحيله، علمت الجماهير بمرض الإمام وما اجري له من عملية جراحية. ان الوضع الروحي للجماهير في تلك الايام يعجز الانسان حقاً عن وصفه، فمراسم الدعاء والتوسل تجري في كل حدب وصوب، في المنازل والحسينيات والتكايا والمساجد وفي مختلف انحاء البلاد، بل في كل مكان من العالم وجد فيه محب للإمام. ولعلك في تلك الايام لا تكاد ترى احداً بمقدوره اخفاء آثار الحزن والغم عن محياه. العيون باكية، والقلوب متعلقة بجماران.. الساعات تمرّ ببطء شديد، وإيران كلها تلهج بالدعاء. الفريق الطبي المشرف على علاج الإمام استنفذ ما في وسعه، غير ان ارادة الله تدفع المقادير باتجاه آخر: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.

                  في تمام الساعة العاشرة وعشرين دقيقة ليلاً، من الثالث عشر من خرداد 1368 (حزيران 1989م) حانت لحظة الوصال. وتوقف القلب الذي اضاء قلوب الملايين بنور الله والمعنوية.

                  في الأيام التي لازم فيها سماحته فراش المستشفى. وضع محبو الإمام عدسة خفية تصور الإمام في تلك الايام، واثناء العملية الجراحية، ولحظة التحاقه بالرفيق الاعلى. وحينها بثّ التلفزيون الايراني جانباً من حالات الإمام المعنوية والاطمئنان الذي كان عليه، كادت القلوب تتفجر من الشوق، بما يعجز أيّ وصف عن التعبير عنه.

                  كانت الشفتان في ذكر دائم، وفي آخر ليلة من عمره الشريف وبينما كان عدّة حقن من المواد المغذية موصولة بذراعيه، قام ليلتها يؤدي نافلة الليل ويتلو القرآن. بدت على محياه في الساعات الاخيرة طمأنينة وهدوء ملكوتيان وكان يتمتم بصورة دائمة بالشهادة بوحدانية الله ويقر بالاعتقاد برسالة النبي الأكرم(ص) حتى عرجت روحه العظيمة إلى الملكوت الاعلى. فكانت الرحلة التي خلّفت في القلوب ناراً لا تخمد.

                  ولما اذيع خبر رحيل الإمام، حدث ما يشبه الزلزال العظيم، فتفجرت الاحزان وانفجرت العيون بالدموع في إيران وفي كل مكان وجد فيه من عرف الإمام ونهل من فيض هدايته. وراح المحبون يلطمون الرؤوس والوجوه، بما تعجز الاقلام، بل يعجز أيّ بيان عن تصوير ابعاد ما حصل، وما تدفق من امواج الاحاسيس والمشاعر المتلاطمة.

                  ويحق للشعب الايراني وللمسلمين الثوريين، كل هذا النحيب والضجة التي لم يسجل التاريخ نموذجاً يضاهيها بالشدّة والعظمة، إذ انهم فقدوا عزيزاً اعاد لهم عزتهم المهدورة، وكفّ ايدي الملوك الظالمين والناهبين الأميركان والغربيين عن اراضيهم، وأحيا الإسلام وحقق للمسلمين المجد والعزّة، واقام الجمهورية الإسلامية، ووقف بوجه القوى الشيطانية بثبات ليواجه مئات المؤامرات التي استهدفت اسقاط النظام وقلب نظام الحكم وإثارة الفتن في الداخل والخارج طوال عشرة اعوام. كذلك قاد الدفاع المقدس على مدى ثمانية اعوام في جبهة واجه فيها عدواً كان يحظى بشكل صارخ بدعم القوى الشرقية والغربية الكبرى.

                  لقد فقدت الجماهير قائدها المحبوب ومرجعها الديني والمنادي بالإسلام الاصيل.. ربما يقف أولئك العاجزون عن درك واستيعاب هذه المفاهيم، حيارى وهم يشاهدون حال الجماهير ـ التي عرضتها الافلام التلفزيونية ـ اثناء مراسم توديع وتشييع ودفن الجثمان الطاهر للإمام الخميني، ولعلهم يصابون بالدهشة إذا ما سمعوا بوفاة العشرات الذين لم يتمكنوا من تحمل ثقل الصدمة، فتوقفت قلوبهم عن العمل، أو بسقوط العشرات الآخرين مغشياً عليهم من شدّة الحزن وتناقلتهم الايدي فوق رؤوس أمواج هائلة من البشر لينقلوا إلى المستشفيات.. إلى غير ذلك..

                  بيد أن أولئك الذين يعرفون معنى الحب والذين امتحنت قلوبهم لذته، يرون كل ذلك امراً طبيعياً، والحق ان الجماهير الايرانية كانت محبة للإمام الخميني، وما أجمل الشعار الذي رفع في الذكرى السنوية لوفاته "حب الخميني حب لكلّ ما هو جميل".

                  في الرابع من حزيران 1989م، عقد مجلس خبراء القيادة جلسته الرسمية، وبعد ان تليت وصية الإمام الخميني من قبل آية الله العظمى الخامنئي ـ وقد استغرق قراءتها ساعتين ونصف الساعة ـ ابتدأ البحث والتشاور حول تعيين من يحلّ محل الإمام الخميني ليكون قائداً للثورة الإسلامية، وبعد ساعات من البحث والنقاش تمّ وبالاجماع ترشيح آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (رئيس الجمهورية آنذاك) لتسنم هذا الموقع الخطير. وآية الله العظمى الخامنئي هو احد طلاب الإمام الخميني ـ سلام الله عليه ـ ومن الوجوه البارزة في الثورة الإسلامية، ومن انصار انتفاضة الخامس من حزيران، وقف جنباً إلى جنب سائر انصار الثورة حاملاً روحه في راحتيه طوال فترة نهضة الإمام وفي جميع الحوادث التي شهدتها الثورة.

                  سنوات عديدة والغربيون وعملاؤهم في الداخل كانوا يؤملون انفسهم بأيام ما بعد رحيل الإمام الخميني، بعد أن يئسوا من الحاق الهزيمة بالإمام في حياته. لكنّ وعي الشعب الإيراني وسرعة مجلس خبراء القيادة في اختيار الشخص المناسب للقيادة، ودعم انصار الإمام لذلك، بدد آمال اعداء الثورة، ولم يخب املهم في ان تكون وفاة الإمام نهاية نهجه فحسب، بل ان عصر الإمام الخميني ـ في الحقيقة ـ ابتدأ على نطاق أوسع من السابق بعد وفاته. وهل يموت الفكر والصلاح والمعنوية والحقيقة؟

                  في يوم وليلة الخامس من حزيران 1989م تجمع الملايين من ابناء طهران والمعزون من ابناء المدن والقرى، في مصلى طهران الكبير ليلقوا النظرة الأخيرة على الجثمان الطاهر لرجل اعاد بنهضته وثورته سيادة القيم والكرامة في عصر الظلم الاسود، وفجر في الدنيا نهضة التوجه إلى الله والعودة إلى الفطرة الإنسانية.

                  لم يكن ثمة ايّ مظهر من مظاهر المراسم التشريفاتية عديمة الروح. كل شيء كان جماهيرياً تعبوياً وعشقياً. وكان جثمان الإمام الموشح بالقماش الاخضر موضوعاً على دكة عالية يضيء كدرّة نفيسة ويتحلق حوله الملايين من اصحاب العزاء. وكان كل واحد من ذلك الجمع الغفير يتمتم بحزن مع إمامه الفقيد ويذرف الدموع. امتلأ المكان والطرق السريعة المؤدية إلى المصلى بالجماهير الموشحة بالسواد. ورفعت اعلام العزاء على الابواب والجدران، وانطلق صوت القرآن يدوي من مآذن المساجد والمراكز والدوائر والمنازل. وما ان هبط الليل حتى اوقتدت الشموع تذكيراً بالمشعل الذي أوقده الإمام، واضاءت منطقة المصلى وما حولها. تحلقت العوائل المفجوعة حول شموعها وهي ترنوا إلى المرتفع النوراني الذي رقد فيه إمامهم المحبوب.

                  لقد احالت صرخات "يا حسين" التي كانت تنطلق من التعبويين الذين شعروا باليتم، المكان إلى عاشوراء جديدة. هل حقاً ان هذا الصوت الرباني لم يعد ينطلق من حسينية جمران؟.. بقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدها حتى الصباح.

                  وفي الساعات الاولى من يوم السادس من حزيران، ادّت الملايين الصلاة على جثمانه الطاهر بإمامه آية الله العظمى الكلبايكاني.

                  ان عظمة الموقف الحماسي الذي جسدته الحشود المليونية التي هبت لاستقبال الإمام الخميني في الثاني عشر من بهمن عام 1357ش (الأول من شباط عام 1979م)، وتكراره ثانية وبنحو اكثر ابهة وعظمة في مراسم تشييع جثمان الإمام الطاهر؛ لهي حقاً من عجائب التاريخ. لقد قدرت وكالات الأنباء العالمية الرسمية عام 1979 عدد الذين جاءوا لاستقبال الإمام بستة ملايين شخص. اما الذين شاركوا في مراسم التشييع فقد قدروا بتسعة ملايين شخص. هذا في وقت تضافرت جهود البلدان الغربية والشرقية خلال الاحدى عشرة سنة من قيادة الإمام في تصعيد عدائها للجمهورية الإسلامية وفرض عليها حرب الثماني سنوات ومئات المؤامرات والدسائس الاخرى، وجرعوا ابناء الشعب الايراني معاناة ومعضلات كثيرة، وأفقدوه اعزة لا يحصون في هذا الطريق. ومن الطبيعي كان ينبغي ان يتعب ابناء الشعب ويفتر حماسهم تجاه ثورتهم، إلاّ ان ذلك لم يتحقق مطلقاً. ان الجيل الذي تربى في مدرسة الإمام الخميني كان قد آمن تماماً بمقولة الإمام هذه التي يقول فها: "ان القدرة على تحمل المعاناة والآلام والتضحيات والحرمان، تتناسب مع عظمة الهدف وقيمته وسموه".

                  بدأت مراسم التشييع، فانطلقت الجموع الغفيرة من مصلى طهران إلى مرقد الإمام جوار مقبرة جنة الزهراء (مزار الشهداء)، وضجّت الجموع اطفالاً ونساءً ورجالاً وكأن أرواحهم تزهق من ابدانهم. مرت ساعات دون ان يتمكن الجمع من الحركة، بسبب تدفق الاحاسيس والمشاعر التي يصعب التحكم بها. مما اضطر المسؤولين إلى حمل الجثمان الطاهر بطائرة سمتية لينقل إلى مثواه الاخير.

                  ومع انهم كانوا قد وضعوا حواجز عالية للحيلولة دون ازدحام المعزّين في محل الدفن، إلا أنّه ما ان حطت الطائرة على الارض، حتى اضطرب كل شيء. فقد تأججت نار الفراق في القلوب، وفجر الاحساس بالفراق الحزن والغضب إلى درجة جعلت كل جهود الملكفين باتمام عملية الدفن تذهب سدى. وكان التلفزيون ينقل الوقائع في بث حيّ. وبصعوبة بالغة تمّ استرداد الجثمان من ايدي الجماهير، واعيد إلى الطائرة وحمل من جديد نحو حسينية جماران.

                  إنّ اولئك القابعين في الغرب، أو في ظل رؤيتهم الغربية، ممن يرون الحياة عبارة عن نافذة تطل على المال واللذة، وقد نسوا في صخب الحياة الآلية والاصالة والحب الحقيقي والقيم، لا يمكنهم ان يدركوا ابعاد ما يشاهدونه من صور تدفين جثمان الإمام الطاهر.

                  فلو سمح التضليل والتحريف ونعيق الاعلام المسموم لاعداء الحقيقة، بأن يطلع هؤلاء على وصية الإمام فحسب، أو خطاب من خطاباته، بنحو يتجردون فيه عن الخلفيات المسبقة، وبوحي من الانصاف والفطرة والوجدان، فانهم لا شك سوف يغيرون نظرتهم.

                  بعد ان تعذر اتمام مراسم الدفن نتيجة لتدفق مشاعر المعزين، اعلنت الاذاعة وعبر بيان رسمي عن تأجيل المراسم إلى اشعار آخر. غير ان المسؤولين كانوا على يقين من ان مرور الوقت سيضاعف اعداد الوافدين من عشاق الإمام من المدن والقرى البعيدة، لذا اضطروا إلى اتمام الدفن في عصر ذلك اليوم متحملين اشد المعاناة والصعوبات البالغة. وقد نقلت بعض وكالات الانباء جانباً من تلك المراسم.

                  ان عشرات المجلدات التي ضمت القصائد الشعرية التي نظمها الايرانيون وغير الايرانيين. والتي تمّ جمعها ونشرها فيما بعد، تعدّ بحدّ ذاتها تعبيراً عن طبيعة العواطف الجماهيرية التي تفجرت في تلك الايام. وكان من بينها ما عدّ من امهات القصائد ومن أروع الملاحم الشعرية في الادب الفارسي.

                  ومن يومها اخذت تقام مراسم العزاء في الرابع من حزيران من كل عام ـ حتى تاريخ كتابة هذه السطور ـ بالعظمة والابهة نفسها التي اقيمت بها في السنة الاولى.

                  وبهمّة عشاق الإمام تمّ تشييد مبنى حوله ضريحه المقدس بسرعة لا تصدق، كتعبير عن نوع من وفاء الامة الإسلامية لهذا القائد المعنوي العظيم، وترجمة لخلوده الأبدي، وأضحى مزاره الشريف ـ خصوصاً في المناسبات الدينية ـ ملتقى احبائه وزواره من انحاء إيران ومن سائر البلدان. وراحت الراية الحمراء التي ترفرف فوق قبة ضريحه تعيد إلى الاذهان الراية الحمراء لقبة سيد الشهداء الحسين بن علي (ع) وتذكر بان النهضة العاشورائية للإمام الخميني ايضاً ـ كما هو حال الثورة الحسينية ـ ستدفق دماء العزّة والإنسانية والاستقامة على دين الله في عروق المسلمين الغيارى على مرّ التاريخ.

                  وهكذا اضحى رحيل الإمام، كما كانت حياته، منشأ للصحوة والنهضة، وخلد نهجه وذكراه. لأنه كان حقيقة، والحقيقة خالدة ما خلد الدهر.

                  لقد كان سماحته تجليّاً من تجليات "الكوثر". وان كوثر الولاية متدفق ابداً على مر العصور والازمان؛ وستبقى حكاية هذا العبد الصالح خالدة خلود الدهر.

                  والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.

                  مؤلفات الإمام الخميني

                  ترك الإمام الخميني عشرات الكتب والمصنفات القيّمة في البحوث الاخلاقية والعرفانية، والفقهية، والأصولية، والفلسفية، والسياسية، والاجتماعية، وان الكثير منها لم ير النور حتى الآن. ومما يؤسف له ان عدداً من رسائله ومؤلفاته النفيسة فقدت اثناء الانتقال من منزل مستأجر إلى آخر، وخلال مداهمات ازلام السافاك المتكررة لمنزله ومكتبته الشخصية.

                  كان الإمام يمتلك خطاً جميلاً، وكان يتبع في تأليفاته قواعد التصنيف القديمة، والنظم في الكتابة ويتجنب الاطالة.. ان اسلوبه النثري واستخدام المحسنات البديعة والابداع في التراكيب والاساليب المحببة، التي كانت تتجلى في بياناته السياسية والدينية، احدثت تحولاً في الادبيات الدينية والسياسية في إيران، وان المفردات والتركيبات الخاصة بالإمام اصبحت اليوم متداولة الاستعمال في المتون الأدبية الفارسية بل حتى في عرف المحاورات العامة لدى الشعب الايراني. ومما يذكر ان بعض مؤلفات الإمام وتناسباً مع موضوعها التخصصي (الفقه، الاصول والعرفان) كتب اساساً باللغة العربية، كما ان بعضها كتب باللغة الفارسية.

                  واضافة إلى المؤلفات العلمية، كان لدى الإمام عدد من الرسائل العلمية لبعض المفكرين تعد نسخاً خطية فريدةً، قام سماحته باعادة كتابتها بخط جميل.

                  كتب بعض مؤلفات الإمام الخميني باسلوب وبطريقة تخصصية بحتة، بحيث يتعذر فهم متونها وموضوعاتها دون الاستعانة بشرح أو تفسي راساتذة ذلك العلم. وبعضها الآخر كتب باسلوب بسيط.

                  نورد فيما يلي تعريفاً بأسماء مؤلفات الإمام الخميني وتصانيفه تبعاً لتاريخ كتابتها. وبطبيعة الحال ان التعريف بأيّ واحد من هذه المصنفات يتطلب بحثاً مستقلاً، وقد تمّ بالفعل انجاز الكثير من ذلك عبر مقالات وكتب كثير نحيل القارئ إليها إذا ما رغب في المزيد.



                  1 ـ شرح دعاء السَحَر:

                  كتاب يضم مسائل عرفانية وفلسفية وكلامية عميقة، اعتمد فيه الإمام الآيات القرآنية وروايات اهل بيت العصمة (ع) في شرح دعاء المباهلة المعروف بدعاء السحر. كتبه باللغة العربية عام 1347هـ.

                  2 ـ شرح حديث رأس الجالوت:

                  شرح لحديث رأس الجالوت (احتجاجات الإمام الرضا (ع) على اصحاب الاديان المختلفة، من جملتها احتجاجاته على اليهود في قضية رأس الجالوت. كتبه الإمام عام 1348هـ (1929م).

                  3 ـ حاشية الإمام على شرح حديث رأس الجالوت:

                  اضافة إلى الشرح الذي كتبه الإمام للحديث المذكور وطبع في كتاب مستقل؛ كتب سماحته تعليقاً على شرح المرحوم القاضي سعيد القمي (من عرفاء القرن الحادي عشر) للحديث.

                  4 ـ الحاشية على شرح الفوائد الرضوية:

                  في هذا الأثر العرفاني، كتب الإمام الخميني آراءه على شكل حاشية لكتاب شرح الفوائد الرضوية للمرحوم القاضي سعيد القمي.

                  5 ـ شرح حديث جنود العقل والجهل:

                  اثر نفيس في علم الأخلاق، يضم آراء الإمام الكلامية والاخلاقية والعرفانية باسلوب واضح، وبذلك اتاح سماحته الفرصة لقطاع أوسع من الجماهير للاستفادة منه، كما هي الحال مع كتاب شرح الاربعين حديث.

                  6 ـ مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية:

                  يعتبر هذا الكتاب من اعمق والمع تصانيف العرفان الإسلامي في عصرنا الحاضر. فرغ الإمام من تأليفه عام 1349هـ (1930م) وهو في سن الثامنة والعشرين من عمره.

                  7 ـ الحاشية على شرح فصوص الحكم:

                  كتاب فصوص الحكم، من تأليف الشيخ الاكبر محي الدين بن عربي ـ من عرفاء العالم الإسلامي الكبار ـ وقد حظي بشروح عديدة، يعدّ افضلها شرح القيصري. كتب الإمام الخميني عام 1355هـ، حاشية باللغة العربية على شرح فصوص الحكم للقيصري، وهي توضح مدى احاطة الإمام بآراء اساطين العرفان، نظير الشيخ الاكبر، والقونوي الملا عبد الرزاق الكاشاني، والفرغاني، والعراقي والقيصري.

                  8 ـ الحاشية على مصباح الانس:

                  كتاب "مصباح الانس بين المعقول والمشهود"، شرح كتبه محمد بن حمزة بن محمد الغفاري على كتاب (مفتاح الغيب) لأبي المعالي محمد بن اسحاق القونوي (من تلامذة محي الدين بن عربي البارزين) الذي تناول موضوع العرفان النظري. وقد كتب الإمام الخميني آراءه ونقده العلمي على الكتاب بشكل حاشية استوعبت ثلث الكتاب وذلك عام 1355هـ (1936م).

                  9 ـ شرح الاربعين حديثاً:

                  "الاربعين حديثاً" أو "شرح الاربعين حديثاً" احد الآثار الأخلاقية والعرفانية النفيسة للإمام الخميني، كتبه باللغة الفارسية عم 1358هـ، ضم الكتاب اربعين حديثاً من احاديث الأئمة الاطهار التي وردت في الكتاب الشريف "اصول الكافي" (الاحاديث الاربعة والثلاثين الاولى عدا الحديث 11 في المسائل الاخلاقية، والاحاديث الستة الاخيرة في المسائل الاعتقادية) تم شرحها بصورة مبسطة وباسلوب ادبي مؤثر.

                  10 ـ سرّ الصلاة (صلاة العارفين ومعراج السالكين):

                  كتاب عرفاني عميق، كتبه سماحة الإمام باللغة الفارسية في بيان الاسرار المعنوية والعرفانية للصلاة وقد اتمه عام 1358هـ (1942م). ويمكن التعرف على مدى احاطة الإمام الخميني بالعرفان النظري وطيّه مراتب العرافان العملي، من خلال بحوث هذا الكتاب العميقة والكتب التي مرّ ذكرها.

                  11 ـ آداب الصلاة:

                  صنف سماحته هذا الكتاب عام 1361هـ (1942م) بعيد تأليف كتاب سرّ الصلاة. وكتب سماحته في أول الكتاب يقول: "قبل فترة قمت بتحرير رسالة.. ولأن الرسالة لا تناسب حال العامة قررت تأليف رسالة أخرى لشرح الآداب القلبية لهذا المعراج الروحاني".

                  فهو إذن شرح مفصل لآداب الصلاة واسرارها المعنوية، والكتاب حافل بالموضوعات الاخلاقية والعرفانية، وقد كتبه الإمام باللغة الفارسية.

                  12 ـ رسالة لقاء الله:

                  رسالة موجزة كتبت باللغة الفارسية وتناولت المسائل العرفانية.

                  13 ـ الحاشية على الاسفار:

                  قام الإمام الخميني طوال سنوات عديدة في قم، بتدريس كتاب (الاسفار الاربعة) للفيلسوف الشهير صدر المتألهين، وعلق على بحوثه إلاّ أننا للأسف لم نعثر حتى الآن على نسخة من تعليقاته هذه.

                  14 ـ كشف الاسرار:

                  هو كتاب سياسي عقائدي اجتماعي، كتبه سماحته عام 1364هـ (1944م)، أي بعد عامين من عزل رضاخان عن السلطة؛ ردّ فيه على ما اثاره احد الوهابيين من شبهات وتهم باطلة ضد الدين والعلماء في كتابه "اسرار هزار ساله"، وقد برهن الإمام في كتابه هذا استناداً للحقائق التاريخية، وضمن استعراض ونقد آراء فلاسفة اليونان القديمة، على أن فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، اكدوا على احقية التشيع والدور الفاعل البناء لعلماء الإسلام.

                  وتناول الكتاب فكرة الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه في عصر الغيبة، وفضح السياسات المعادية للدين التي مارسها رضاخان ومن لف لفه في البلدان الإسلامية آنذاك.

                  15 ـ انوار الهداية في التعليقة على الكفاية:

                  كتاب يتناول المباحث العقلية في علم اصول الفقه، كتبه الإمام الخميني باللغة العربية بصورة حاشية على كتاب كفاية الاصول لآية الله العظمى الآخوند الخراساني (ره) وقد انتهى من تأليفه عام 1368هـ (1949م). يعكس الكتاب ـ مع كتاب (منهاج الوصول) والرسائل المستقلة للإمام الخميني في المسائل الاصولية ـ إلى حدٍّ كبير آراء الإمام الخميني ومدرسته الاصولية.

                  16 ـ بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر:

                  رسالة تحقيقية اجتهادية كتبها الإمام باللغة العربية حول (قاعدة لا ضرر) التي تعتبر من القواعد الفقهية المهمة. أتم تأليفها في غرّة جمادى الاولى عام 1368هـ (1950م).

                  17 ـ رسالة الاستصحاب:

                  رسالة اجتهادية مفصلة كتبها سماحته باللغة العربية حول بحث "الاستصحاب" الذي يعدّ من البحوث البالغة الاهمية في علم اصول الفقه. اتمّ تأليفها عام 1370هـ (1951م).

                  18 ـ رسالة في التعادل والتراجيح:

                  كتبت هذه الرسالة عام 1370هـ (1951م). والتعادل والتراجيح من البحوث التكميلية في علم اصول الفقه التي تدور حول الملاك في انتخاب الدليل إذا ما تعارضت الأدلة.

                  19 ـ رسالة الاجتهاد والتقليد:

                  الاجتهاد والتقليد ايضاً من البحوث التكميلية والمهمة في علم اصول الفقه. وقد استدل الإمام الخميني في هذه الرسالة الاجتهادية على آرائه. كتبت هذه الرسالة عام 1370هـ.

                  20 ـ مناهج الوصول إلى علم الاصول:

                  كتاب تحقيقي واجتهادي في مباحث الفاظ علم اصول الفقه، كتبه الإمام باللغة العربية بعد عام 1370هـ (1951م) وصدر في مجلدين لأول مرة عام 1993م مع تعليقات وفهارس ومقدمة كتبها آية الله فاضل اللنكراني.

                  21 ـ رسالة في الطلب والارادة:

                  كتاب اصولي فلسفي وعرفاني، اتم الإمام الخميني تأليفه باللغة العربية عام 1371هـ (1952م).

                  22 ـ رسالة في التقيّة:

                  رسالة فقهية واجتهادية كتبها الإمام باللغة العربية في بحث "التقية" عام 1372هـ (1953م) وبرهن فيها على ان فلسفة وجوب التقية انما تدور حول حفظ الدين لا محوه.

                  23 ـ رسالة في قاعدة من ملك:

                  رسالة اجتهادية في القاعدة الفقهية الموسومة بـ "قاعدة من ملك" وقد ذكرها مؤلف كتاب آثار الحجة (المطبوع سنة 1373هـ 1954م).

                  24 ـ رسالة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة:

                  رسالة فقهية استدلالية في بيان كيفية تعيين طلوع الفجر في "الليالي المقمرة".

                  25 ـ كتاب الطهارة:

                  كتاب يشتمل على بحوث بشأن "الطهارة" ـ وهو من ابواب الفقه ـ وقد كتبه الإمام الخميني باللغة العربية بين عامي 1373و 1377هـ (1954 و1958م) باسلوب فقهي استدلالي واجتهادي. يقع الكتاب في اربعة مجلدات.

                  26 ـ تعليقة على العروة الوثقى:

                  حاشية الإمام الخميني على مسائل كتاب " العروة الوثقى" (كتاب آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي الشهير) كتبها عام 1375هـ (1956م) ويتضمن الكتاب فتاوى الإمام الفقهية في ابواب الفقه المختلفة.

                  27 ـ المكاسب المحرّمة:

                  بحوث اجتهادية في الفقه الاستدلالي تتناول أنواع المكاسب المحرمة والمسائل المتعلقة بهذا الأمر، كتبها الإمام الخميني في الفترة ما بين عامي 1377 ـ 1380هـ (1956 و1961م) باللغة العربية، ويضم الكتاب بحوثاً طريفة حول حكم الموسيقى والغناء والرسم والنحت.

                  28 ـ تعليقة على وسيلة النجاة:

                  حاشية كتبها الإمام الخميني على كتاب وسيلة النجاة (الرسالة العملية لآية الله العظمى السيد ابي الحسن الاصفهاني)، وقد تضمنت فتاواه الفقهية على مسائل وسيلة النجاة.

                  29 ـ رسالة نجاة العباد:

                  رسالة ضمت فتاوى الإمام الخميني في الاحكام الفقهية، كتبها باللغة الفارسية. 30 ـ الحاشية على رسالة الارث:

                  حاشية كتبها الإمام الخميني على (رسالة الارث) للمرحوم الحاج ملا هاشم الخراساني (صاحب كتاب "منتخب التواريخ")، تضمنت فتاواه الفقهية في احكام الارث.

                  31 ـ تقريرات درس الاصول لآية الله العظمى البروجردي:

                  كتب الإمام الخميني في هذا الكتاب تقريراته عن دروس الاصول التي حضرها عند آية الله البروجردي، باللغة العربية.

                  32 ـ تحرير الوسيلة:

                  كتاب يضم فتاوى الإمام الخميني، كتبه باللغة العربية اثناء وجوده في منفاه الأول ـ تركيا ـ بين عامي 1964 و1965م.

                  33 ـ كتاب البيع:

                  اثر نفيس في الفقه الاستدلالي يتناول الابواب المختلفة المتعلقة بالبيع والتجارة، كتبه سماحته في الفترة ما بين عامي 1380 و1396هـ (1961 و1976م) في النجف الاشرف.

                  34 ـ الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه:

                  طبع قبل وبعد انتصار الثورة عدّة مرات باللغة العربية والفارسية. يضم الكتاب آراء الإمام الاجتهادية حول مبدأ الحكومة الإسلامية، وعدم امكانية الفصل بين الدين والسياسية، وولاية الفقيه في زمن الغيبة، وهو في الاصل دروس آلقاها الإمام على طلبته في النجف الاشرف عام 1969م.

                  35 ـ كتاب الخلل في الصلاة:

                  كتاب ضم آراء الإمام الخميني الاجتهادية والاستدلالية حول بحث الاحكام الفقهية بشأن الخلل في الصلاة. كتبه الإمام باللغة العربية في السنوات الأخيرة من اقامته في النجف الاشرف.

                  36 ـ الجهاد الاكبر أو (جهاد النفس):

                  دروس للإمام الخميني حول ضرورة واهمية تهذيب النفس، ألقاها في النجف الاشرف.

                  في ذات الوقت الذي تميزت هذه الرسالة بالاختصار، حوت من المسائل الاخلاقية والتربوية والسياسية الكثير.

                  37 ـ تقريرات دروس الإمام الخميني:

                  اضافة إلى مؤلفات الإمام الخميني في بحوث الفقه والاصول، كتبت العديد من التقريرات عن دروسه من قبل طلابه.

                  38 ـ توضيح المسائل (رسالة عملية):

                  كتاب يضم فتاوى الإمام الخميني في ابواب الفقه المختلفة، كتبه سماحته باللغة الفارسية ليكون رسالة عملية ينتفع بها مقلدوه.

                  39 ـ مناسك الحج:

                  فتاوى الإمام الخميني حول اعمال ومناسك الحج.

                  40 ـ تفسير سورة الحمد:

                  تفسير عرفاني لفاتحة الكتابة (سورة الحمد المباركة)، وهو في الاصل محاضرات ألقاها الإمام الخميني عام 1980.

                  41 ـ استفتاءات:

                  مجموعة من فتاوى الإمام الخميني ردّ بها على اسئلة المسلمين الشرعية في الابواب الفقهية المختلفة خصوصاً المسائل المستحدثة.

                  42 ـ ديوان شعر:

                  نظم الإمام الخميني منذ شبابه العديد من القصائد الشعرية العرفانية والسياسية والاجتماعية، غير ان القسم الاعظم منها فقد اثناء الانتقال من منزل إلى منزل، أو نتيجة مداهمة شرطة السافاك لمنزله ومصادرتها لبعض محتويات مكتبته الشخصية. كما فقد بعضها الآخر لأسباب أخرى. هذا وكانت للإمام قصائد عديدة نظمها بعد انتصار الثورة في قوالب شعرية مختلفة منها الغزل والرباعي، وغيره.

                  جمعت قصائد الإمام الأخيرة وبعض ما تبقى من القصائد القديمة ونشرت في كتاب مستقل اطلق عليه اسم "ديوان الإمام". وقبل نشر هذا الكتاب، كانت بعض قصائد الإمام قد نشرت في كتب مستقلة حملت عناوين "طريق العشق" و"مستودع الاسرار" و"نقطة عطف" و"كأس الحب".

                  ويجد القارئ في مقدمة الديوان معلومات وافية حول اسلوب الإمام وطريقته في نظم اشعاره وتواريخ نظم قصائده. كذلك خصص ملحق الديوان للحديث عن المعالم الفنية والادبية لتلك القائد أو الاشعار.

                  43 ـ الرسائل العرفانية:

                  كتب الإمام الخميني عدّة رسائل إلى اهل بيته وارحامه، ضمّنها بعض الاشارات الاخلاقية والعرفانية والتربوية، نجد نماذج منها في كتب "مستودع الاسرار" و"طريق العشق" و"نقطة عطف".

                  44 ـ الوصيّة السياسية الإلهيّة:

                  ان أحد اكثر بيانات الإمام الخميني خلوداً ـ والذي خاطب بها الاجيال الحاضرة واللاحقة ـ هو ما تضمنته وصيته السياسية الإلهيّة. إذ عرض الإمام فيها، ضمن توضيحه لعقائده الحقّة، أهم آرائه وارشاداته بشأن القضايا السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية والمجتمع البشري عموماً، في قالب من التحليلات الوثائقية والنصائح المشفقة.

                  45 ـ البيانات، والاحاديث، واللقاءات، والاحكام والرسائل (الاعمال الكاملة السياسية والاجتماعية للإمام الخميني):

                  فضلاً عن الكتب التي اصدرها الإمام الخميني مثل "كشف الأسرار" و"الحكومة الإسلامية" و"الوصية السياسية الإلهية"، تطرق سماحته إلى الكثير من آرائه وتوجيهاته السياسية والاجتماعية والدينية، ضمن مئات الخطب والاحاديث والكلمات والاحكام والرسائل، على مدى سنوات الجهاد والفترة التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، وقد صدرت هذه التوجيهات بصور وعناوين مختلفة.

                  وتعتبر "صحيفة النور" المؤلفة من 22 مجلداً (ومجلد آخر كمفتاح للصحيفة) اشمل كتاب تمّ نشره حتى الآن. إذ درج فيه معظم ما صدر عن الإمام طبقاً لتتابعه الزمني، وطبيعي ان هناك الكثير من الآثار والرسائل والبيانات والاحكام الصادرة عنه لم تطبع في هذه الدورة، وهي بحد ذاتها تؤلف عدّة مجلدات اخرى.

                  ويوجد في الوقت الحاضر في ارشيف مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قده) 1126 خطبة، وما ينيف عن 470 حكماً، و367 رسالة موجهة إلى شخصيات سياسية ودينية خارج البلاد و420 رسالة موجهة إلى شخصيات إيرانية دينية وسياسية. واكثر من 350 بياناً، تعمل المؤسسة على اعدادها للنشر مع شروح وتوضيحات، على مراحل في يكتاب اطلق عليه اسم "الكوثر". ضمت كل من: الكوثر "خلاصة بيانات الإمام منذ البدء وحتى الوفاة" وتقع في مجلدين. والكوثر شرح وقائع الثورة الإسلامية منذ انطلاقتها وحتى انتصارها في شباط 1979م.

                  تعليق


                  • #10
                    بفؤاد وادع وقلب مطمئن

                    ونفس مبتهجة وضمير ملؤه الامل بفضل الله استودعكم أيها

                    الاخوة والاخوات لأرحل الى مقري الابدي وانا بحاجة مبرمة الى صالح دعائكم


                    روح الله الموسوي الخميني

                    تعليق


                    • #11
                      رسالة أخلاقية من الإمام الخميني(رض) إلى ابنه السيد أحمد رحمه الله

                      بسم الله الرحمن الرحيم

                      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

                      أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله وأنّ علياً أمير المؤمنين وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم خلفاؤه وأنّ ما جاء به رسول الله(ص) حق، وأنّ القبر والنشور والجنّة والنار حق وأن الله يبعث من فيالقبور.

                      وصية من أبٍ عجوز أهدر عمره ولم يتزوّد للحياة الأبدية ولم يخطُ خطوةً خالصةً لله المنان، ولم ينجُ من الأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية، لكنه غير آيسٍ من فضل وكرم الكريم تعالى وهو يأمل بعطف وعفو الباري جلّ وعلا، ولا زاد له سوى هذا.. إلى إبنٍ يتمتّع بنعمة الشباب متاحة أمامه فرصة لتهذيب النفس وللقيام بخدمة خلق الله، والأمل أن يرضى عنه الله تعالى، كما رضي عنه أبوه، وان يوُفّقَ ما بوسعه خدمةً للمحرومين، الشريحة الأكثر استحقاقاً لتقديم الخدمة إليها من بين جماهير الشعب الأخرى، والتي أوصى بها الإسلام.

                      بُنيّ أحمد ـ رزقك الله هدايته:

                      اعلم، أنّ العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها جميعاً محتاجة، لأنّ وجودها ليس ذاتياً لها، ولو تفكّرت وأحطت عقلياً بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثل كمالاته عين ذاته، ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقلياً وسألتها: أيتّها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين احتياجاتك؟

                      فإنها ستردُّ جميعاً بلسان الفطرة: "إننا محتاجون إلى ما ليس محتاجاً بوجوده مثلنا إلى الوجود، والذي هو كمال الوجود". وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدل إلى غنيّة بذاتها، فمثل هذا التبدّل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرة بذاتها ومحتاجة، فلن يستطيع سوى الغنيّ بذاته من رفع فقرها واحتياجها، كما ان هذا الفقر، الذي يمثل أمراً لازماً ذاتياً فيها، هو صفة دائمة أيضاً، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حلَّ مشاكلها وتأمين احتياجاتها، كذلك فإن أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أيّ موجود ليس منه ذاتاً، انما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله فـ{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} حقيقة تصدق على كل أمر وكل فعل، وكلّ من يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، فلن يُعلّق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجو غيره تعالى.

                      هذه بارقة إلهية، حاول ان تفكّر فيها في خلواتك، وان تلقّن قلبك الرقيق وتكرّر عليه هذه الحقيقة إلى ان ينصاع اللسان لها، وتسطع هذه الحقيقة في ملك وملكوت وجودك. وارتبط بالغنيّ المطلق حتى تستغني عمّن سواه، واطلب التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك ومن جميع من سواه، ويأذن لك بالدخول والتشرّف بالحضور في ساحته المقدسة.

                      ولدي العزيز:

                      ان الله جلّ وعلا {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} كما "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل مدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً".

                      متى كنت غائباً فأتمنّى لُقياك ومتى كنت مستوراً عن النظر لأبحث عنك

                      فهو ظاهر، وكل ظهورٍ هو ظهور له سبحانه وتعالى، ونحن بذاتنا حجب فأنانيتنا وأنيّتنا هي التي تحجبنا "أنت حجاب نفسك، فانطلق منه يا حافظ".

                      فلْنلذ به ولنطلب منه تبارك وتعالى متضرعين مبتهلين ان ينجينا من الحجب "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقةً بعزّ قدسك. إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك".

                      بني:

                      نحن مازلنا رهن الحجب الظلمانية، وبعدها الحجب النورية، ومازلنا في منعطف زقاق ضيّق.

                      بني:

                      إسعَ أن لا تُنكر المقامات الروحانية والعرفانية، مادمت لست من أهل المقامات المعنوية، فإن من أخطر مكائد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ـ التي تصدُّ الانسان عن بلوغ جميع المدارج الانسانية والمقامات الروحانية ـ هي دفع الإنسان إلى انكار السلوك إلى الله والاستهزاء به أحياناً، ممّا يجرُّ إلى الخصومة والضدّية لهذا الأمر. وبذا فإنه سيموت أثر جميع الأنبياء العظام (صلوت الله عليهم) والأولياء الكرام (سلام الله عليهم) والكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم ـ كتاب بناء الإنسان الخالد ـ والتي جاءت لتحقيق هذا الأمر، سيموت قبل أن يولد.

                      فالقرآن الكريم ـ كتاب معرفة الله ومعرفة طريق السلوك إليه تعالى ـ تحوّل بأيدي الجاهلين من محبّيه إلى سبب جرّهم للانحراف والانزواء، فجعلوا يصدرون عنه الآراء المنحرفة، ويفسّرونه بالرأي ـ الأمر الذي نهى عنه جميع أئمة الإسلام(ع) ـ وراح كل واحد منهم يتصرف فيه بما تُمليه نفسانيته.أيض

                      لقد نزل هذا الكتاب العظيم في بلدٍ وفي محيطٍ كان يمثّل أشدّ حالة من حالات الوقوع في الظلمة، كما نزل بين قوم يمثّلون أشدّ الناس تخلّفاً في ذلك العصر، وقد أُنزل على شخص وعلى قلب إلهيٍّ لشخص كان يعيش في ذلك المحيط. كذلك فإن القرآن الكريم اشتمل على حقائق ومعارف لم تكن معروفة آنذاك في العالم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزل فيه، وإن من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانية العظيمة التي لم تكن معروفة لدى فلاسفة اليونان، فقد عجزت كتب ارسطو وافلاطون ـ أعظم فلاسفة ذلك العصر ـ عن بلوغ معانيها، بل الأشدّ من ذلك أنّ فلاسفة الاسلام الذين ترعرعوا في مهد القرآن الكريم، وانتهلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويل بعض الآيات التي صرّحت بحياة الموجودات في العالم، والحال أن عرفاء الإسلام العظماء إنما أخذوا ما قالوه منه، فكل شيءٍ أخذوه من الاسلام ومن القرآن الكريم. فالمسائل العرفانية الموجودة في القرآن الكريم ليست موجودة في أيّ كتاب آخر. وإنها لمعجزة الرسول الأكرم(ص)، إذ كان على درجةٍ عالية من المعرفة بالله تعالى بحيث ان الباري جلّ وعلا يوضح له اسرار الوجود، وكان هو(ص) بدوره يرى الحقائق بوضوح ودون أي حجاب، وذلك بعروجه وارتقائه قمة كمال الإنسانية، وفي ذات الوقت كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود، فمثّل بذلك أسمى مظهر {هو الاول والآخر والظاهر والباطن} كما سعى إلى رفع جميع الناس للوصول إلى تلك المرتبة، وكان يتحمّل الآلام والمعاناة حينما كان يراهم عاجزين عن بلوغ ذلك، ولعل قوله تعالى {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} إشارة خفيّة إلى هذا المعنى، ولعل قوله(ص): "ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت" يرتبط أيضاً بذات المعنى.

                      إنّ أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يماثله، لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء، فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالّين إلى هذه التجلّيات ـ وان كانوا لم يُوفّقوا كثيراً في ذلك ـ أمّا اولئك الذين بلغوا مرتبة ما من بعض هذه المقامات، وغابوا عن انفسهم بارتشاف جرعة ما، وظلوا بذلك في مقام الصّعق، فانهم وان كانوا قد حازوا مرتبة ومقاماً عظيماً، إلا أنهم لم يبلغوا الكمال المطلوب. فقد سقط موسى الكليم(ع) بحال الصعق نتيجة تجلّي الحق، وأفاق بعناية إلهية خاصة، ثم أمر بتحمل أمر ما، وكذا فإن خاتم النبيين، الرسول الأكرم(ص)، أمر ـ بعد بلوغه القمة من مرتبة الإنسانية وما لا تبلغه العقول من مظهرية الاسم الجامع الأعظم ـ بهداية الناس بعد أن خاطبه تعالى {يا أيّها المدثر، قم فأنذر}.

                      ولدي العزيز:

                      هدفت مما ذكرته لك ـ رغم اني لا شيء، بل أقلّ حتى من اللاشيء ـ لأن ألفت نظرك إلى أنّك إن لم تبلغ مقاماً ما، فعليك أن لا تنكر المقامات المعنوية والمعارف الإلهية، ولكي تصبح من أولئك الذين يحبّون الصالحين والعارفين، وإن لم يكونوا منهم. وحتى لا تغادر هذه الدنيا وأنت تكنّ بعض العداء لأحباب الله تعالى.

                      بني:

                      تعرّف القرآن ـ كتاب المعرفة العظيم ـ ولو بمجرد قراءته، واجعل منه طريقاً إلى المحبوب، ولا تتوهمن ان القراءة من غير معرفة لا أثر لها، فهذه وساوس الشيطان، فهذا الكتاب كتاب من المحبوب إليك وإلى الجميع ـ وكتاب المحبوب محبوب، وان كان العاشق المحب لا يدرك معنى ما كتب فيه ـ وقد جاء إليك هادفاً إلى خلق هذا الأمر لديك "حب المحبوب" الذي يمثل غاية المرام، فلعله يأخذ بيدك.

                      واعلم أننا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدة شكر واحدة على أن القرآن كتابنا؛ لما وفّينا هذه النعمة حقها من الشكر.

                      بنيّ:

                      إن الأدعية والمناجات التي وصلتنا عن الأئمة المعصومين(ع) أعظم دليل يرشد إلى معرفة الله جلّ وعلا، وأسمى وسيلة لسلوك طريق العبودية، وأرفع رابطة بين الحق والخلق. كما أنها تشتمل في طيّاتها على مختلف المعارف الإلهية، وتمثّل أيضاً وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلت عظمته، فضلاً عن أنها تمثل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك. فلا تصدنّك وساوس الغافلين الجاهلين عن التمسّك أو الأنس بها. إننا لو أمضينا أعمارنا بتماهها نقدم الشكر على أنّ هؤلاء ـ المتحررين من قيود الدنيا والواصلين إلى الحق ـ هم أئمتنا ومرشدونا؛ لما وفينا هذا الأمر حقه من الشكر.

                      بنيّ:

                      من الأمور التي أودّ أن أوصيك بها ـ وأنا على شفا الموت، أصعّد الانفاس الأخيرة ـ: أن تحرص ـ مادمت متمتعاً بنعمة الشباب ـ على دقة اختيار من تعاشرهم وتصاحبهم، فليكن انتخابك للأصحاب من بين أولئك المتحررين من قيود المادة، والمتديّنين المهتمّين بالأمور المعنوية، ممن لا تغرهم زخارف الدنيا ولا يتعلقون بها، ولا يسعون إلى جمع المال وتحقيق الآمال في هذه الدنيا أكثر مما يلزم، أو أكثر من حدّ الكفاية، ومن لا تلوّث الذنوب مجالسهم ومحافلهم، ومن ذوي الخلق الكريم. اسعَ في ذلك، فإن تأثير المعاشرة على الطرفين من إصلاح وإفساد أمر لاشك في وقوعه. اسعَ ان تتجنب المجالس التي توقع الانسان في الغفلة عن الله، فإن ارتياد مثل هذه المجالس قد يؤدّي إلى سلب الانسان التوفيق، الأمر الذي يعدّ ـ بحدّ ذاته ـ خسارة لا يمكن جبرانها.

                      اعلم أن في الانسان ـ ان لم نقل في كل موجود ـ حباً فطرياً للكمال المطلق وللوصول إلى الكمال المطلق، وهذا الحب مما يستحيل أن يفارق الإنسان تماماً، كما ان الكمال المطلق محال ان يتكرر أو أن يكون اثنين؛ فالكمال المطلق هو الحق جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم ولا يعلمون، فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور. لذا فهم يتوهّمون أنهم يطلبون شيئاً آخر غيره، ولذا تراهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أيّ جمال أو قدرة أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالّتهم المنشودة؛ فالمقتدرون ومن يمتلكون القدرة الكبرى، هم في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة، وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه، وهم يشعرون دوماً انهم لم يجدو ضالّتهم، وفي الحقيقة أنهم غافلون عنها.

                      ولو أعطي الساعون إلى القدرة والسلطة، التصرف في جميع العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرات، بل وكل ما هو فوقها، ثم قيل لهم: إن هناك قدرةً فوق هذه القدرة التي تملكونها، أو أن هناك عالماً أو عوالم أخرى فوق هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنهم من المحال أن لا يتمنون ذلك، بل انهم من المحتم أن يقولوا بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضاً!. وهكذا طالب العلم، فهو إن ظنّ ان هناك مرتبة أخرى ـ غير ما بلغه ـ فإنّ فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: ياليت لي هذه القدرة، أو ياليت لي سعةً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!

                      وعليه فإن ما يُطمئن النفس المنفلتة، ويهدّئ من لهيبها، ويحدُّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلّ وعلا؛ لأن الاستغراق في ذلك فقط، هو الذي يبعث الطمأنينة والهدوء، وكأنّ قوله تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} هو نوع من الاعلان أن: انتبه! انتبه! عليك أن تلجأ إلى ذكره حتى تحصل على الطمأنينة لقلبك الحيران الذي يواصل القفز من جانب إلى جانب، والطيران من غصنٍ إلى غصن.

                      إذن فما دام الله سيبعث في قلبك الطمأنينة بذكره، فاستمع يا ولدي العزيز لنصحية أب عانى من الحيرة والقلق، ولا تتعب نفسك بالانتقال من باب إلى باب، للوصول إلى هذا المنصب أو تلك الشهرة أو ما تشتهيه النفس، فأنت مهما بلغت من مقام، فإنك سوف تتألم وتشتد حسرتك وعذاب روحك لعدم بلوغك ما فوق ذلك، وإن سألتني: لِمَ لم تعمل أنت بهذه النصيحة؟! أجبتك بالقول: انظر إلى ما قال، لا إلى من قال… فما قلته لك صحيح، حتى وإن صدر عن مجنون أو مفتون؛ يقول تعالى في محكم كتابه العزيز {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها إن ذلك على الله يسير}، ثم يتبع ذلك بقوله {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}. فالإنسان في هذا العالم معرّض لأمورٍ شتى، فهو عرضة أحياناً لأن تنزل به المصائب، كما أنه قد يلاقي إقبالاً من الدنيا، فيبلغ فيها المقام والجاه ويحصل على المال ويحقّق آمانيه وينال القدرة والنعمة، وكلا الحالين ليس بثابتٍ؛ فلا ينبغي أن تُحزنك المصائب والحرمان فتفقدك صبرك، لأنها قد تكون أحياناً في نفعك وصلاحك {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم}، كما لا ينبغي أن تدفعك الدنيا بإقبالها عليك وتحقيقها ما يُشبع شهواتك إلى أن تتكبر وتختال على عباد الله، فما أكثر ما تعدّه أنت خيراً، وهو شر لك.

                      بنيّ:

                      إن السبب الرئيس للندم، وأساس ومنشأ جميع ألوان الشقاء والعذاب والمهالك، ورأس جميع الخطايا والذنوب إنما هو "حب الدنيا" الناشئ من "حب النفس"، بيد أنه ينبغي القول أن عالم الملك ليس مبغوضاً ولا مذموماً في حدّ ذاته، فهو تجلّي الحق ومقام ربوبيته تعالى، ومهبط ملائكته، ومسجد ومحلّ تربية الأنبياء والأولياء(ع)، ومحراب عبادة الصلحاء، وموطن تجلّي الحق على قلوب عاشقي المحبوب الحقيقي؛ فإن كان حب "عالم الملك" والتعلق به ناشئ عن حب الله ـ باعتباره محلاً لتجليات الحق جلّ وعلا ـ فهو أمر محثوث عليه ويستوجب الكمال، أما إذا كان منشؤه حب النفس، فهو رأس الخطايا جميعاً. إذن فالدينا المذمومة هي في داخلك أنت، والتعلق بغير صاحب القلب وحبه، هو الموجب للسقوط. وفي الوقت نفسه فإن أيّ قلبٍ لا يمكنه ـ فطريّاً ـ أن يتعلق بغير صاحب القلب الحقيقي، وجميع المخالفات لأوامر الله وجميع المعاصي والجرائم والجنايات التي يبتلى بها الانسان، كلها من "حب النفس" الذي يولّد "حب الدنيا" وزخارفها، وحب المقام والجاه والمال ومختلف الأماني هي التي تجعلنا نميل خطأً واشتباهاً نحو غير صاحب القلب، وهي ظلمات فوقها ظلمات.

                      نحن وأمثالنا لم نصل الحجب النورانية بعدُ، ومازلنا أسرى الحجب الظلمانية! فمن قال: "هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة" فقد اخترق الحجب الظلمانية وتعدّاها. أمّا الشيطان الذي خالف أمر الله ولم يسجد لآدم، فقد رأى نفسه عظيماً، لأنه كان في الحجب الظلمانية و{ … أنا خير منه خلقتني من نار …} جعلته يُطرد ويُبعد عن ساحة الربوبية! نحن أيضاً مازلنا في حجاب النفس والأنانية، فنحن شيطانيّون مطرودون من محضر الرحمن، وما أصعب تحطيم هذا الصنم الذي يعدّ "أمّ الأصنام"! فنحن مادمنا خاضعين له مطيعين لأوامره، فنحن غير خاضعين لله جلّ وعلا، غير طائعين لأوامره؛ وما لم يُحطّم هذا الصنم؛ فإن الحجب الظلمانية لن تتمزق ولن تُزال. لكي يتحقق ذلك، علينا أن نعرف ماهية الحجاب أولاً، فنحن إذا لم نعرفه، لن نستطيع المبادرة إلى إزالته، أو تضعيف أثره ـ أو في الأقل ـ الحدّ من تزايد رسوخه وقوته بمرور الوقت.

                      روي أنّ بعض الاصحاب كانوا يجالسون الرسول(ص) فسُمع صوت مهيب، فسألوا: ما هذا الصوت؟ فقال(ص) "انه صوت حجر كان قد ألقي إلى جهنم قبل سبعين سنة، وقد بلغ قعرها الآن". بعدها علموا أنّ كافراً كان قد مات حينها عن سبعين سنة من العمر. وإذا صح الحديث فإن من سمعوا الصوت لابد أنهم كانوا من أهل الحال، أو قد يكون الأمر قد تمّ بقدرة الرسول الأكرم(ص) قاصداً إسماع الغافلين وتنبيه الجاهلين.

                      أما إذا لم يصح الحديث ـ ولا أذكره بالنص ـ فإن الأمر في حقيقته كذلك، فنحن نسير عمراً بكامله باتجاه جهنم، فنحن نمضي العمر بتمامه نؤدي الصلاة التي تعدّ أكبر موطن لذكر الله المتعال ـ ونحن معرضون عن الحق تعالى، وعن بيته العتيق، متوجهين إلى الذات وإلى بيت النفس. وما أشدّ الألم في ذلك! فالصلاة التي ينبغي أن تكون معراجاً لنا، وتدفعنا نحوه تعالى، وتكون جنّة لقائه تعالى، نؤديّها ونحن متوجهون إلى النفس، وإلى منفى جهنم.

                      بنيّ:

                      لم أقصد من هذه الإشارات إيجاد السبيل لأمثالي وأمثالك لمعرفة الله وعبادته حق العبادة ـ مع أنه قد أُثر عن أعرف الموجودات بالحق تعالى، وأعرفها بحق العبادة له جلّ وعلا، قوله: "ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك" ـ وإنما لأجل أن نفهم عجزنا، وندرك ضآلتنا، ونهيل التراب على فرق أنانيتنا، لعلّنا بذلك نكبح جماح هذا الغول، ولعلنا نلجمه بعد ذلك ونروّضه، فنتحرر بعدها من خطر عظيم يكوي ـ مجرد تذكره ـ الروح ويحرقها.

                      وعليك أن تنتبه! فهناك خطر قد يتعرض له الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره، وهو يهمّ بمغادرة هذا العالم، والانتقال إلى مستقره الأبديّ، فإن ذلك قد يجعل المبتلى بحب النفس وما يولّده من حب الدنيا ـ بأبعادهما المختلفة ـ يرى وهو في حال الاحتضار ـ وحيث تنكشف للإنسان بعض الأمور فيراها عياناً ـ أن "مأمور الله" جلّ وعلا سبب في فصله عن محبوبه ومعشوقه! فيرحل عن هذه الدنيا وهو غاضب على الله جلّ وعلا متنفر منه! وهذه عاقبة ونتيجة حب النفس والدنيا. وقد أشارت إلى ذلك الروايات المختلفة.

                      ينقل أحد المتعبدين الثقاة فيقول: "ذهبت لزيارة أحدهم ـ وكان يحتضر ـ فقال وهو على فراش الموت: إن الظلم الذي لحقني من الله تعالى لم يلحق أحداً من العالمين، فهو يريد أن يأخذني من أطفالي الذين صرفت دم القلب في تربيتهم ورعايتهم! فقمت من عنده ثم أسلم روحه إلى بارئها". لعل هناك بعض التفاوت بين ما نقلته وما سمعته من ذلك العالم المتعبد.

                      على أيّة حال، فإن صحّ ذلك فهو أمر على درجة خطيرة من الأهمية تدفع الإنسان إلى التفكير بجدّية في أمر خاتمته وعاقبته!

                      إننا لو فكرنا ساعة في أمر موجودات العالم ـ التي نمثل نحن جزءاً منها ـ وأدركنا أن أيّ موجود ليس لديه شيء من نفسه، وان ما وصله وما وصل إلى الجميع إنما هي ألطاف إلهية ومواهب عارية، وأن الألطاف التي مَنّ الله تعالى بها علينا ـ سواء قبل أن نأتي إلى الدنيا، أو خلال حياتنا فيها، ومنذ الطفولة إلى آخر العمر، أو بعد الموت ـ بواسطة الهداة الذين كُلّفوا بهدايتنا، فلعل بارقة من حبه جلّ وعلا ستلوح في أفق وجودنا، الأمر الذي حُجبنا عنه، فندرك بعدها مدى ضآلتنا وتفاهتنا، فيفتح بذلك لنا طريق نحوه جلّ وعلا، وننجو في الأقل من "الكفر الجهوري" وإنكار المعارف الإلهية، ونمتنع عن عدّ المظاهر الرحمانية مقامات لنا، والمفاخرة بها، الأمر الذي سيبقينا أسرى الوقوع في بئر "ويل" الأنانية والغرور إلى الأبد.

                      يُروى أن "الله تعالى خاطب أحد أنبيائه، فطلب إليه أن يأتيه بمخلوق أدنى منه، فقام النبي(ع) بعد ذلك بسحب رفاة حمار يقصد عرضها على أنها مخلوق أدنى منه، إلا أنه نَدم فتركها، فلما وصل وحده إلى لقاء الله خاطبه عزّ وجلّ بالقول: لو أنك أتيتني بتلك الرفاة، لكنت سقطت عن مقام النبوة"! وإني لا أعلم مدى صحة الحديث، ولكن لعلّ الأمر بالنسبة لمقام الأولياء، يعد سقوطاً حينما يرون الأفضلية لأنفسهم على غيرهم، فتلك أنانية وغرور، وإلا فلِمَ كان النبي الأكرم(ص) يأسف ذلك الأسف المرير على المشركين ومن لم يؤمنوا، إلى الحدّ الذي جعل الله تعالى يخاطبه بالقول {فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}؟! فهذا ليس سوى أنه عشق جميع عباد الله، فالعشق لله عشق لتجلّياته ومظاهر عظمته.

                      فهو(ص) يتألم ممّا تؤدي إليه حجب الأنانية والغرور الظلمانية في المنحرفين من دفعهم إلى الشقاء ثم العذاب الأليم في جهنم ـ النتيجة الطبيعية لأعمالهم ـ، في حين أنه يريد السعادة للجميع، فهو مبعوث لتحقيق السعادة للجميع، والمشركون المنحرفون ـ عُمي القلوب ـ وقفوا بوجهه، ونصبوا له العداء رغم أنه جاء لإنقاذهم!

                      أنا وأنت إذا وفّقنا إلى إيجاد بصيصٍ من هذا العشق لتجليات الحق ـ الذي يميّز أولياء الله في أنفسنا ـ وأحببنا الخير للجميع، فقد بلغنا مرتبةً من الكمال المطلوب.

                      اللهم أفِض على قلوبنا الميّتة من فيض رحمتك، ومن فيض الرحمة المصطفاة الذي بعثته رحمة للعالمين.

                      أهل المعرفة يعلمون بأن الشدة على الكفار ـ وهي من صفات المؤمنين ـ وقتالهم أيضاً رحمة، ولطف من الألطاف الخفية للحق؛ فالعذاب ـ الذي هو من أنفسهم ـ يزداد على الكفار مع كل لحظة تمرّ عليهم، زيادة كمية وكيفية إلى ما لا نهاية له. لذا فإن قتلهم ـ مع اليأس من صلاحهم ـ رحمة في صورة غضب، ونعمة في صورة نقمة، علاوة على الرحمة التي ستنال المجتمع بقتلهم، فهم عضو كان يمكن أن يجرّ المجتمع كله إلى الفساد، والقضاء عليهم يشبه إلى حدّ كبير قطع العضو المعطوب من البدن مخافة أن يؤدي عدم قطعه بالبدن كله إلى التلف والهلاك. وهذا هو الذي جعل نوحاً يدعو الله { … ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنك أن تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً}، وهو أيضاً المراد بقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}. وعلى هذا وعلى ما سبقه، كانت الحدود والتعزيرات والقصاص رحمة من أرحم الراحمين بمرتكب الجرم أولاً، وبالمجتمع بأسره ثانياً.

                      ولنتخطَّ هذه المرحلة.

                      بنيّ:

                      إذا استطعت ـ بالتفكر والتلقين ـ فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات ـ وخصوصاً البشر ـ نظرة رحمة ومحبة. وإلاّ أليست الموجوات كافة ـ والتي لا حصر لها ـ واقعة تحت رحمة خالق العالمين من جهات عديدة؟! ثم أليس وجودها وحياتها وجميع بركاتها وآثارها من رحمات الله ومواهبه على الموجودات؟! وقيل: "كل موجود مرحوم". وإلا فهل يمكن لموجود ممكن الوجود أن يكون له شيء من نفسه؟! أو أن يستطيع موجود (ممكن الوجود) مثله أن يعطيه شيئاً ما؟! لذا فإن الرحمة الرحمانية هي الشاملة للعالم بأسره. ثم أليس الله هو ربّ العالمين ـ وتربيته تشمل العالم؟ أوليست تربيته مظهراً للرحمة؟! وهل يمكن أن تكون الرحمة والتربية شاملة للعالم دون اقترانها بالعناية والألطاف الإلهية؟! إذن لِمَ لا يكون من شملته العنايات والألطاف والمحبة الإلهية موضعاً لمحبتنا؟! وإذا لم يكن هذا الأمر منّا، أليس هو نقص فينا؟! أليس هو ضيق أفق وقصر نظر من قبلنا؟!.

                      انتبه يا ولدي! فقد بلغتُ أنا الشيخوخة دون ان أتمكن من علاج هذه النقيصة، أو سواها من النقائص التي لا تحصى، وأنت مازلت شاباً، ولاشك أنّك أقرب إلى رحمة الله وملكوته، فاسعَ في علاج هذه النقيصة. وفّقك الله ووفقنا والجميع لاختراق هذا الحجاب، والتحلّي بما تقتضيه فطرة الله.

                      تعرضت فيما سبق إلى جانب من هذا الأمر، ودعني الآن أشير بوضوح إلى ما يساعدك في اختراق هذا الحجاب:

                      نحن مفطورون على العشق للكمال المطلق، ومن هذا العشق ـ شئنا أم أبينا ـ ينشأ العشق لمطلق الكمال الذي يمثل آثار الكمال المطلق، والأمر الملازم لفطرتنا هذه هو السعي للخلاص من النقص المطلق، مما يستلزم أن تنطوي أنفسنا على الرغبة في الخلاص من مطلق النقص أيضاً.

                      إذن، نحن ـ رغم عدم علمنا وعدم فهمنا ـ عاشقون لله تعالى، لأنه الكمال المطلق. وبذا فنحن نعشق آثاره التي هي تجلّيات الكمال المطلق، وأيّ شخص أو أيّ شيء نكرهه ونبغضه، أو نحاول التخلص منه، فهو: لا كمال مطلق ولا مطلق الكمال، بل: نقص مطلق أو مطلق النقص ـ الأمر الذي يقف في الجهة المقابلة، وعلى النقيض من الأول تماماً ـ. ولاشك أن نيقض الكمال هو عدم الكمال، ولأننا محجوبون، فإننا نضلّ في التشخيص، ولو زال الحجاب لاتّضح لنا أن كلّ ما هو منه جلّ وعلا محبوب، وكل ما هو مبغوض من قبلنا فهو ليس منه تعالى؛ وهو بالتالي ليس موجوداً.

                      واعلم ان هناك تساهلاً في التعبيرات الواردة فيما يخصّ المتقابلات، والموضوع أعلاه ـ رغم موافقته للبرهان المتين وللآراء العرفانية والمعرفة ورغم ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إليه ـ إلا أن التصديق والإيمان به في غاية الصعوبة، ومنكريه في غاية الكثرة، والمؤمنين به قلة نادرة؛ فحتى أولئك الذين يعتقدون بثبوت هذه الحقيقة عن طريق البرهان لا يؤمن بها منهم إلا قلة قليلة! فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يحرز إلا بالمجاهدة والتفكر والتلقين.

                      وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الإدّعاء (بأن بعض الأمور البرهانية يمكن أن لا تكون موضعاً للتصديق والإيمان) عقدة يصعب الاقتناع بها، بل لعل البعض قد يقطع بأنه أمر لا أساس له. ولكن ينبغي أن تعلم بأن هذا الأمر أمر وجداني، وقد وردت أشارات إليه في القرآن الكريم، كالآيات الكريمة من سورة التكاثر.

                      ولإثباته عن طريق الوجدان، نورد المثال التالي: أنت تعلم بأن الموتى لا تصدر عنهم أية حركة، وأنهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بك، وأن الموتى لا يعادلون ذبابةً حية واحدة من حيث الأثر والفعالية، كما تدرك أنهم لا يمكن أن يعودوا إلى الحياة في هذا العالم بعد موتهم وقبل يوم النشور، إلا أنك قد لا تمتلك القدرة على النوم وحيداً براحة في المقابر. هذا ليس إلاّ لأن قلبك لم يصدق بما عندك من علم، وأن الإيمان بهذا الأمر لم يتحصّل لديك، في حين أنّ أولئك الذين يقومون بتغسيل وتكفين الموتى تحصّل لهم الإيمان واليقين بهذا الأمر نتيجة تكرار العمل، فهم يستطيعون الخلوة مع الموتى براحة بال واطمئنان. كذلك فإن الفلاسفة الذين أثبتوا بالبراهين العقلية أن الله حاضر في كل مكان، دون أن يصل قلوبهم ما أثبتته عقولهم بالبرهان، ولم تؤمن به قلوبهم، فإن أدب الحضور لن يتحقق لديهم، في حين أن أولئك الذين أيقنوا بحضور الله بقلوبهم، وآمنت قلوبهم بذلك، فإنهم ـ رغم أن لا علاقة لهم بالبراهين ـ فإنّهم يتحلّون بأدب الحضور، ويجتنبون كلّ ما ينافي حضور المولى. فالعلوم المتعارفة إذن ـ وإن كانت علوم فلسفة وتوحيد ـ لكنها تعدّ في حد ذاتها حجباً، وهي تزيد الحجاب غلظة وسمكاً كلّما زادت؛ فإننا نعلم جميعاً ونرى أن دعوة الأنبياء(ع) والأولياء الخلص لله لا تتّخذ الفلسفة والبرهان المتعارف لسان حالٍ لها، بل انهم يهتمون بأرواح وقلوب الناس، ويسعون إلى يصال نتائج البراهين إلى قلوب العباد، وبذل الجهد لهدايتهم من داخل الروح والقلب.

                      وإن شئت فقل: ان الفلاسفة وأهل البراهين يزيدون الحجب، في حين أن الأنبياء(ع) وأصحاب القلوب يسعون إلى رفعها، لذا ترى أن من تربّوا على أيدي الأنبياء مؤمنون وعاشقون، في حين أن طلاب علماء الفلسفة أصحاب برهانٍ وقيل وقال، لا شأن لهم بالقلب والروح.

                      وليس معنى ما أوردته أن تتجنب الفلسفة والعلوم البرهانية والعقلية، أو أن تشيح بوجهك عن العلوم الاستدلالية، فهذا خيانة للعقل والاستدلال والفلسفة، فأنا أقصد القول: بأن الفلسفة والاستدلال وسيلة للوصول إلى الهدف الأصلي، فلا ينبغي ـ والحال كذلك ـ أن تحجبك عن المقصد والمقصود والمحبوب.

                      أو فقل: إن العلوم معبر نحو الهدف وليست الهدف بحد ذاتها، فكما أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن العلوم المتعارفة مزرعة للوصول إلى المقصود، تماماً كما أن العبادات معبر نحو الله جلّ وعلا، فالصلاة ـ وهي أسمى العبادات ـ معراج المؤمن. وجميع هذه الأمور منه وإليه تعالى.

                      وإن شئت فقل: ان المعروف بجميع أنواعه درجات في سلّم الوصول إلى الله تعالى، وجميع المنكرات موانع في طريق الوصول، والعالم بأسره يبحث عنه تعالى، ويحوم كالفراش باحثاً عن جماله الجميل. وياليتنا نصحو من نومتنا ونلج أول منزل وهو اليقظة! ولعله جلّ وعلا يأخذ بأيدينا ـ بألطافه وعناياته الخفيّة ـ فيرشدنا إلى جماله الجميل، وياليت أن هذه الفرس الجموح تهدأ قليلاً، فتنزل عن مقام الإنكار، وليت أننا نلقي بهذا العبء الثقيل من على كواهلنا إلى الأرض، فننطلق مخفّين نحوه تعالى! وليت إننا نحترق كالفراش حول شمع جماله دون أن نتكلم! وياليتنا نخطو خطوة واحدة بقدم الفطرة ولا نبتعد عن طريقها بهذا القدر، و…، و…، وآلاف التمنيات والأمنيات الأخرى التي تزدحم في ذاكرتي، وأنا على شفير الموت في شيخوختي هذه، ولكن دون أن تصل يدي إلى مكان ما!.

                      وأنت يا بنيّ:

                      استفد من شبابك، وعد بذكره ومحبته جلّ وعلا إلى العيش وتمضية العمر بالفطرة، فذكر المحبوب لا يتنافى مع الفعالية السياسة والاجتماعية، أو السعي إلى خدمة شريعته وعباده جلّ وعلا، بل إنه سيعينك ـ وأنت تسلك الطريق إليه ـ، ولكن لتعلم بأن خدع النفس الأمارة بالسوء وشيطان النفس والمحيط كثيرة، فما أكثر ما يبتعد الإنسان عن الله باسم الله واسم الخدمة لخلق الله، ويساق نحو نفسه وآمالها! لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها في تشخيص طريق الأنانية عن طريق الله من جملة منازل السالكين، وفّقنا الله وإيّاكم لبلوغ ذلك.

                      وما أكثر ما يخدعنا شيطان النفس ـ نحن الشيوخ وأنتم الشبّان ـ بوسائل مختلفة، فهو دائم الجري وراءنا ـ نحن الشيوخ ـ يواجهنا بسلام اليأس من الحضور وذكر الحاضر فينادي: لقد فاتكم العمر، وتصرّم وقت الإصلاح ومضت أيّام الشباب التي كان ممكناً فيها الإستعداد والاصلاح، ولا قدر لكم في أيام ضعف الشيخوخة هذه على الإصلاح، فقد استحكمت جذور شجرة الأهواء والمعاصي في جميع أركان وجودكم وتشعّبت فروعها، فأبعدتكم عن اللياقة بمحضره جلّ وعلا، وضاع كلّ شيء! فما أحرى ان تستفيدوا من هذه الأيام الباقية من أعماركم أقصى ما يمكن من الاستفادة، وهكذا.

                      وقد يتصرف معنا احياناً بنفس الطريقة التي يتصرف بها معكم أيها الشبان، فهو يقول لكم: أنتم شبان، ووقت الشباب هذا هو وقت التمتع والحصول على اللذات، فاسعوا الآن بما يساهم في إشباع شهواتكم، ثم توبوا إن شاء الله في أواخر أعماركم، فإن باب رحمة الله مفتوحة والله أرحم الراحمين؛ وكلما زادت ذنوبكم، فإن الندم والرغبة في الرجوع إلى الحق سيزداد، وسيكون التوجه إلى الله تعالى أكبر والإتصال به جلّ وعلا أشدّ، فما أكثر أولئك الذين تمتعوا في شبابهم، ثم أمضوا آخر أيامهم بالعبادة والذكر والدعاء وزيارة مراقد الإئمة(ع) والتوسل بشفاعتهم، فرحلوا عن هذه الدنيا وهم سعداء! تماماً هكذا يتصرف معنا نحن الشيوخ، فيأتينا بأمثال هذه الوساوس فيقول لنا: ليس معلوماً أن تموتوا بهذه السرعة، فالفرصة مازالت موجودة فلْتؤجّلوا التوبة إلى آخر العمر، فضلاً عن ان باب شفاعة الرسول(ص) وأهل بيته مفتوح، وإن أمير المؤمنين(ع) لن يتخلى عن محبيه ويتركهم يتعذبون، فسوف ترونه عند الموت، وسوف يأخذ بأيديكم. وأمثال هذه الوساوس الكثيرة التي يلقي بها في سمع الإنسان.

                      بنيّ:

                      أتحدث إليك الآن لأنك مازلت شابّاً، عليك أن تنتبه إلى أن التوبة أسهل على الشبان، كما أن اصلاح النفس وتربيتها يتم بسرعة أكبر لدى الشبان، في حين أن الأهواء النفسانية والسعي للجاه وحب المال والغرور أكثر وأشدّ بكثير لدى الشيوخ منه لدى الشبان. أرواح الشبان رقيقة شفافة سلسلة القياد، وليس لدى الشبان من حب النفس وحب الدنيا بقدر ما لدى الشيوخ؛ فالشاب يستطيع بسهولة ـ نسبيّاً ـ أن يتخلص من شر النفس الأمارة بالسوء، ويتوجّه نحو المعنويات. وفي جلسات الوعظ والتربية الأخلاقية يتأثر الشبان بدرجة كبيرة لا تحصل لدى الشيوخ. فلينتبه الشبان، وليحذروا من الوقوع تحت تأثير الوساوس النفسانية والشيطانية، فالموت قريب من الشبان والشيوخ على حدّ سواء، وأيّ من الشبان يستطيع الاطمئنان إلى أنه سيبلغ مرحلة الشيخوخة؟! وأي إنسان مصون من حوادث الدهر؟! بل قد يكون الشبان أكثر تعرضاً لحوادث الدهر من غيرهم.

                      بنيّ:

                      لا تضيع الفرصة من يديك، واسع لإصلاح نفسك في مرحلة الشباب.

                      على الشيوخ أيضاً أن يعلموا أنهم ما داموا في هذا العالم، فإنهم يستطيعون جبران ما خسروا وما ضيّعوا، وان يكفّروا عن معاصيهم، فإن الأمر سيخرج من أيديهم بمجرد انتقالهم من هذا العالم، والتعويل على شفاعة أولياء الله(ع)، والتجرؤ في ارتكاب المعاصي من الخدع الشيطانية الكبرى. وتأمّل أنت، يا من تعوّل على شفاعتهم غافلاً عن الله ومتجرئاً على المعاصي، تأمّل في سيرتهم، وانظر في أنينهم وبكائهم ودعائهم وتحرّقهم وذوبانهم أمام الله، واعتبر من ذلك.

                      يروى أن الصادق(ع) جمع أهل بيته في أواخر عمره وقال لهم: "إنكم ستردون على الله بأعمالكم، فلا تظنوا أن قرابتكم لي ستنفعكم يوم القيامة". وان كان هناك احتمال بأن تنالهم الشفاعة لأن الارتباط المعنوي حاصل بينهم وبين الشافع لهم، فالرابطة الإلهية بينهم تجعلهم مؤهلين أكثر من غيرهم لنيل الشفاعة، وإن لم يحصل هذا الأمر لهم في هذا العالم، فلعله يحصل لهم بعد تنقيات وتزكيات وأنواع من العذاب البرزخي أو الجهنمي، حتى يصبحوا بعده لائقين للشفاعة، والله العالم بحدود ما سيصيبهم.

                      فضلاً عن هذا فإن الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول الشفاعة لا تبعث ـ بعد التأمل فيها ـ الاطمئنان في الإنسان، قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه}. وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}. وأمثال ذلك من الآيات التي تثبت موضوع الشفاعة، ولكنها في الوقت نفسه لا تبعث الاطمئنان لدى الإنسان ولا تسمح له بالاغترار بها؛ لأنها لم توضح من هم أولئك الذين ستكون الشفاعة من نصيبهم، أو ما هي شروطها، ومتى تكون شاملة لهم.

                      نحن نأمل الشفاعة، ولكن ينبغي أن يدفعنا هذا الأمل نحو طاعة الحق تعالى، لا نحو معصيته.

                      بنيّ:

                      أحرص على أن لا تغادر هذا العالم بحقوق الناس فما أصعب ذلك وما أقساه! واعلم ان التعامل مع أرحم الراحمين أسهل بكثير من التعامل مع الناس. نعوذ بالله تعالى أنا وأنت وجميع المؤمنين من التورط في الاعتداء على حقوق الآخرين، أو التعامل مع الناس المتورطين.

                      ولا أقصد من هذا دفعك للتساهل بحقوق الله والتجرؤ على معاصيه، فلو اننا أخذنا بنظر الاعتبار ما يستفاد من ظاهر بعض الآيات الكريمة، فإن البلية ستزداد باطّراد، ونجاة أهل المعصية بالشفاعة يتم بعد المرور بمراحل طويلةٍ ومعقدة. فتجسم الأخلاق والأعمال، وما يستتبع ذلك من ملازمتها للإنسان إلى ما بعد الموت وإلى القيامة الكبرى، ثم إلى ما بعدها حتى الوصول إلى التنزيه وقطع الروابط بنزول الشدائد والعذاب بمختلف أشكاله في البرازخ وفي جهنم، وعدم التمكن من الارتباط بالشفيع، والاشتمال بالشفاعة؛ كلها أمور يؤدي التفكير فيها إلى إثقال كاهل الإنسان، ويدفع المؤمنين نحو الجدية في الإصلاح، ولا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه يقطع بخلاف هذه الاحتمالات، إلا إذا كان شيطان نفسه قد تسلط عليه بدرجة عالية، حتى راح يتلاعب به، ويصده عن طريق الحق، فيجعله مُنكراً لا يفرق بين الضوء والظلام، وأمثال هؤلاء من عمي القلوب كثير. حفظنا الله من شرور أنفسنا.

                      وصيتي إليك يا بني أن لا تدع الفرصة تضيع من يديك ـ لا سمح الله ـ وان تسعى في إصلاح أخلاقك وتصرفاتك، إمّا بتحمل المشقة والترويض، وإمّا بالحدّ من تعلقك بالدنيا الفانية، وتختار طريق الحق أينما اعترضك مفترق للطرق، وان تجتنب طريق الباطل، وتطرد شيطان النفس عنك.

                      كذلك فإن من الأمور المهمة التي ينبغي أن أوصي بها: الحرص على إعانة عباد الله، خصوصاً المحرومين والمستضعفين المظلومين، الذين لا ملاذ لهم في المجتمعات، فابذل ما في وسعك في خدمتهم، فذلك خير زاد، وهو من أفضل الأعمال لدى الله تعالى، ومن أفضل الخدمات التي تُقدم للإسلام العظيم. اسعَ في خدمة المظلومين، وفي حمايتهم في مقابل المستكبرين الظلمة.

                      واعلم ان المشاركة في أمور السياسة والاجتماع الصحيحة، هي إحدى الوظائف المهمة في عهد الحكومة الإسلامية، كذلك فإن مساعدة المسؤولين والمتصدين لإدارة أمور الجمهورية الإسلامية ودعهم مسؤولية إسلامية وإنسانية ووطنية. أملي أن لا يغفل الشعب المجيد والواعي عن هذه المسؤولية، وعليهم أن يواصلوا ـ وكما هو شأنهم حتى الآن، إذ كانوا حاضرين في الساحة دوماً، حتى إن الحكومة الإسلامية والجمهورية ما استطاعت الاستقرار والبقاء إلا بدعمهم ـ عليهم أن يواصلوا دورهم هذا في المستقبل أيضاً، وأني مفعم بالأمل أن يواصل الجيل الحاضر والأجيال القادمة وقوفهم بوفاءٍ مع الجمهورية الإسلامية ودعمها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ليكونوا سبباً في ديمومتها واستقرارها.

                      وعلينا جميعاً أن نعلم بأننا مادمنا على عهدنا مع الله تعالى، فإنه معنا، وكما ساعدنا سبحانه وتعالى إلى الآن بالقضاء على مؤامرات المجرمين في الداخل والخارج وبشكل إعجازي، فإنه سيقضي عليها مستقبلاً أيضاً بتأييداته إن شاء الله تعالى.

                      والأمل أن يكون أبناء جيشنا وحراس ثورتنا وأبناء قوات التعبئة الشعبية وسائر القوات العسكرية والأمنية، وجماهير شعبنا قد تذوقوا حلاوة الاستقلال والخروج من أسر القوى الدولية الكبرى الناهبة، وآمل أن يرجّحوا تحررهم من أسر الاجانب على أيّ شيء وعلى أيّة حياة مرفهة، وان لا يقبلوا بتحمل عبء عار الارتباط بالقوى الشيطانية على كواهلهم؛ وان يقبلوا بالموت المشرّف ـ برجوله واختيار ـ في سبيل الاهداف السامية وفي سبيل الله؛ إذا أريدت لهم الحياة بذلةٍ؛ وان يختاروا السير على طريق الأنبياء العظام وأولياء الله(ع). وأدعوا الله، خاضعاً معرباً عن عجزي، أن يزيد من وعي وحب والتئام صفوف الرجال والنساء والأطفال والشيوخ من أبناء شعبنا العزيز، وأن يفيض عليهم برحمته، فيقفوا بثبات في طريق الله، وأن ينشروا الإسلام العزيز وأحكامه النورانية في مختلف أنحاء العالم.

                      بنيّ:

                      لا يفوتني أن أكتب لك بضع جملات حول الأمور الشخصية لأختتم بها حديثي المطنب هذا:

                      أشدّ ما أود أن اوصيك به ولدي العزيز، هو الاهتمام بوالدتك الوفيّة.

                      إن الحقوق الكثيرة للأمهات أكثر من أن تحصى أو أن يؤدى حقها من الشكر، فليلة واحدة تسهرها الأم مع وليدها تفوق سنوات من عمر الأب المتدين، فتجسّد العطف والرحمة في عينيها النورانيتين بارقة من رحمة وعطف رب العالمين، فالله تبارك وتعالى قد اشبع قلوب وأرواح الامهات بنور رحمة ربوبيته بشكل يعجز عن وصفه الواصفون، ويعجز عن إدراكه سوى الأمّهات؛ وان رحمة الباري هي التي تجعلهن يقفن ويتحملن بثبات عجيب إزاء المتاعب والآلام منذ استقرار النطف في الأرحام، وطوال فترة الحمل، وحتى ساعة الولادة؛ ثم منذ عهد الطفولة، وحتى آخر العمر، وهي المتاعب والآلام التي عجز الآباء عن تحمّلها ليلة واحدة.

                      فالتعبير الرقيق الوارد في الحديث الشريف "الجنة تحت أقدام الأمهات" حقيقة تشير إلى عظم دور الأم، وتنبه الأبناء إلى ان السعادة والجنة تحت أقدام الأمهات؛ فعليهم ان يبحثوا عن التراب المبارك لأقدامهن، ويعلموا أن حرمتهن تقارب حرمة الله تعالى، وان رضا الباري جلّت عظمته إنما هو في رضاهن.

                      إن الأمهات ـ رغم أنهن جميعاً مثال لذلك ـ إلا أن بعضهن يتمتعن بخصائص أخرى تميزهن عن الأخريات؛ وقد أدركت على مدى عمري، ومن الذكريات التي أحملها عن والدتك المحترمة، وعن الليالي التي كانت تقضيها مع اطفالها، بل وحتى الأيام، انها تحمل مثل هذه المزايا، لذا فاني أوصيكم يا ولدي ـ أنت وبقية أبنائي ـ بأن تجهدوا بعد وفاتي في خدمتها، وتحرصوا على راحتها ونيل رضاها، وكما أراها راضية عنكم في حياتي، بل ان تبذلوا مساعيكم أكثر في خدمتها بعد وفاتي.

                      وأوصيك يا ولدي أحمد: بأن تحرص على معاملة أرحامك وأقربائك وخصوصاً أخواتك وأبناء إخوانك بالعطف والمحبة والصفاء والسلام والإيثار، وبمراعاة السلوك الحسن. كما أوصي جميع أبنائي بأن يكونوا قلباً واحداً، وأن يتحركوا نحو هدفٍ واحدٍ، وأن يتعاملوا مع بعضهم بالمحبة والعطف، وان يسعوا جميعاً للعمل في سبيل الله، وفي خدمة عباد المحرومين، لأن في ذلك خير وعافية الدنيا والآخرة.

                      وأوصي نور عيني (حسين) أن لا يغفل عن الانكباب على تحصيل العلوم الشرعية،

                      وأن لا يبدد ما أنعم الله عليه من الاستعداد واللياقة سدى، وان يعامل والدته وأخته بمنتهى العطف والصفاء، وان يستصغر الدنيا، ويسلك في شبابه طريق العبودية المستقيم.

                      وآخر وصيتي إلى أحمد: أن يحسن تربية أبنائه، وان يعرفهم ـ منذ نعومة أظفارهم ـ الإسلام العزيز، وان يرعى أمّهم العطوفة، ويحرص على خدمة جميع أفراد العائلة والأقارب.

                      وسلام الله على جميع الصالحين.

                      وأستميح جميع أقاربي عذراً ـ وبالأخص أبنائي ـ وأرجوا أن يعفوا عني إن كنت قصرت معهم، أو ظهر مني قصور ما، أو أن كنت ظلمتهم، وأن يدعوا الله أن يغفر لي ويرحمني إنه أرحم الراحيمن.

                      وأدعو الله متضرعاً إليه أن يوفق أرحامي وأقاربائي إلى طريق السعادة والاستقامة، وأن يشملهم برحمته الواسعة، وأن يعز الإسلام والمسلمين، ويقطع أيدي المستكبرين والقوى الظالمة، ويكفّها عن الظلم.

                      والسلام والصلاة على رسول الله، خاتم النبيين، وعلى آله المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

                      الأربعاء 4 رجب 1402هـ

                      روح الله الموسوي الخميني

                      تعليق


                      • #12
                        لا تبطلوا اعمالكم بالمن

                        بسم الله الرحمن الرحيم

                        الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله (ص)

                        وصيّة من أب هَرم قضى عمراً بالبطالة والجهالة، وهو الآن سائر الى العالم السرمدي بكف خالية من الحسنات، وصحيفة سوّدتها السيئات، يحدوه الأمل بمغفرة الله، والرجاء بعفوه… الى ابن شاب تتجاذبه مشاكل الزمان، وهو مخير بين انتخاب الصراط الإلهي المستقيم (هداه الله إليه بلطفه المطلق) وبين اختيار الطريق الآخر ـ لا سمح الله ـ حفظه الله من مزالقه برحمته.

                        أي بنيّ، الكتاب الذي أهديه إليك هو نفحة عن صلاة العارفين، والسلوك المعنوي لأهل السلوك، على الرغم من أن قلم أمثالي عاجز عن تبيان مسيرة هذا السفر؛ وأعترف بأن ما كتبته لا يخرج عن حدّ بعض الألفاظ والعبارات، فأنا لم أحصل الى الآن على بارقة من هذه النفحة.

                        ولدي، إن ما في هذا “المعراج” هو الغاية القصوى لآمال أهل المعرفة؛ وقد قصرت أيدينا عنها.

                        “لُمّ الشباك فالعنقاء لا تُصبحُ صَيداً لأحد”.

                        ولكن!! لا ينبغي لنا اليأس من ألطاف الله الرحمان؛ فهو ـ جلّ وعلا ـ الآخذ بأيدي الضعفاء، ومعين الفقراء.

                        عزيزي... الكلام هو في السفر من الخلق إلى الله الحق تعالى ومن الكثرة الى الوحدة، ومن الناسوت الى ما فوق الجبروت، الى حدّ الفناء المطلق الذي يحصل في السجدة الأولى، والفناء عن الفناء ـ وهو الذي يقع في السجدة الثانية ـ بعد الصحو ـ وهذا هو تمام قوس الوجود (من الله والى الله)؛ وفي تلك الحال ليس هناك ساجد ومسجود له، ولا عابد ومعبود، فـ {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}.

                        ولدي، ما أوصيك به ـ بالدرجة الأولى ـ هو أن لا تنكر مقامات أهل المعرفة، فالإنكار سنة الجهال؛ وأتق معاشرة منكري مقامات الأولياء، فهم قطاع طريق الله تعالى.

                        بنيّ:

                        تحرر من حب النفس والعجب، فهما إرث الشيطان الذي تمرد ـ بالعجب وحب النفس ـ تمرد على أمر الله تعالى له بالخضوع لولي الله جلّ وعلا وصفيه.

                        واعلم!! أن جميع ما يحل ببني آدم من مصائب ناشئ من هذا الإرث الشيطاني، فهو أصل الفتنة، وربما تشير الآية الكريمة {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه}(2) في بعض مراحلها (مستوياتها) الى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده، ولهؤلاء فروع وجذور في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كل إنسان أن يجاهد من أجل “حتى لا تكون فتنة” داخل نفسه وخارجها، فإذا حقق هذا الجهادُ النصرَ؛ صلحت الأمور كافة وصلح الجميع.

                        بنيّ:

                        اسعَ لتحقيق هذا النصر أو بعض درجاته، اجتهد واعمل للحدّ من الأهواء النفسانية التي لا حدّ لها ولا حصر، واستعن بالله ـ جلّ وعلا ـ فإنه لا يصل أحد لشيء من دون عونه؛ والصلاة ـ معراج العارفين وسفر العاشقين ـ سبيل الوصول الى هذا المقصد.

                        ولو كان لك ولنا توفيق تحقق ركعة واحدة منها، ومشاهدة الأنوار المكنونة فيها، ومعرفة أسرارها الخفية ـ ولو على قدر ما نطيقه نحن ـ لحصلنا على نفحة من مقصد أولياء الله ـ ومقصودهم؛ ولشاهدنا صورة مصغرة لصلاة معراج سيد الأنبياء والعرفاء ـ عليه وعليهم وعلى آله الصلاة والسلام ـ. نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بهذه النعمة العظمى.

                        الطريق إذن طويل وخطير جداً، ويستلزم الراحلة والكثير من الزاد، وزاد أمثالي إما معدوم أو قليل جداً، فما من أمل إلا أن يشملنا لطف الحبيب ـ جلّ وعلا ـ فيأخذ بأيدينا.

                        عزيزي، استثمر ما بقي من الشباب، ففي الشيخوخة يضيع كل شيء، حتى الالتفات الى الآخرة والتوجه الى الله ـ تعالى ـ.

                        إن من كبريات مكايد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء أن تمنّي الشباب بوعود الصلاح والإصلاح عند حلول الشيخوخة، فتُخسرهم شبابهم الذي يضيع بالغفلة؛ وأما الشيبة، فتمنيهم بطول العمر حتى اللحظات الأخيرة، وتصد الإنسان ـ بوعودها الكاذبة ـ عن ذكر الله والإخلاص له، الى أن يأتي الموت، وعندها تأخذ منه الإيمان، إن لم تكن قد أخذته منه كاملاً قبل ذلك الحين.

                        إذن؛ فانهض للمجاهدة وأنت شاب تمتلك قوة كبرى، واهرب من كل شيء ما عدا الحبيب ـ جلّ وعلا ـ وعزّز بما استطعت ارتباطك به تعالى إن كان لديك ارتباط.

                        أما إذا لم يكن لديك ذلك ـ والعياذ بالله ـ فاسعَ للحصول عليه، واجتهد في تقويته، فليس هناك ما يستحق الارتباط به سواه تعالى، واذا لم يكن التعلق بأوليائه تعلقاً به تعالى، ففيه مكيدة من حبائل الشيطان الذي يصد عن كل السبل الى الحق تعالى بكل وسيلة.

                        لا تنظر أبداً الى نفسك وعملك بعين الرضا؛ فقد كان أولياء الله الخُلّص يرون أنفسهم لا شيء، وأحياناً كانوا يرون حسناتهم من السيئات.

                        بني ... كلما ارتفع مقام المعرفة، تعاظم الاحساس بحقارة ما سواه ـ جلّ وعلا ـ.

                        في الصلاة ـ مرقاة الوصول الى الله ـ هناك تكبير وارد بعد كل ثناء كما أن دخولها بالتكبير؛ وتلك اشارة الى أنه تعالى أكبر من كل ثناء، حتى من أعظم الثناء، أي الصلاة. وبعد الخروج هناك “تكبيرات” تُشير الى أنه أكبر من توصيف الذات والصفات والأفعال.

                        ماذا أقول؟!

                        من الذي يصف وبأيّ وصف؟!

                        ومن هو الموصوف؟!

                        وبأية لغة وأي بيان يصف، وكل العالم من أعلى مراتب الوجود الى أسفل سافلين هو لا شيء، إذ إن كل ما هو موجود هو تعالى لا غير؟!

                        فماذا يمكن أن يقال عن الوجود المطلق؟!

                        ولولا أمر الله وإذنه ـ جلّ وعلا ـ فربما لم يتحدث عنه بشيء أي من الأولياء، وإن كان كل ما هو موجود حديثاً عنه لا عن سواه! والكل عاجز عن التمرد عن ذكره، فكل ذكر ذكره:

                        {وقضى ربك ألا تعبد إلا إيّاه}

                        {إياك نعبد وإياك نستعين} ولعلها خطاب بلسان الحق تعالى الى جميع الموجودات:

                        {وإنْ من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}. وهذه أيضاً بلسان الكثرة، وإلا فإنه هو الحمد والحامد والمحمود “إن ربك يصلي”. و{الله نور السموات والأرض}.

                        ولدي.. مادمنا عاجزين عن شكره وشكر نعمائه التي لا نهاية لها، فما أفضل لنا من أن لا نغفل عن خدمة عباده، فخدمتهم خدمة للحق تعالى، فالجميع منه!

                        علينا أن لا نرى أنفسنا ـ أبداً ـ دائنين لخلق الله عندما نخدمهم، بل هم الذين يمنون علينا حقاً، لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا.

                        ولا تسعَ لكسب السمعة والمحبوبية من خلال هذه الخدمة، فهذه بحد ذاتها احبولة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا بها.

                        واختر في خدمة عباد الله ما هو الأكثر نفعاً لهم لا لك ولأصدقائك، فمثل هذا الاختيار هو علامة الإخلاص للّه جلّ وعلا.

                        ولدي العزيز! إن الله حاضر، والعالم محضره، ومرآة نفوسنا هي إحدى صحائف أعمالنا، فاجتهد لاختيار كل عمل يقربك إليه، ففي ذلك رضاه جلّ وعلا.

                        لا تعترض علي ـ في قلبك ـ بأن لو كنت صادقاً، فلماذا أنت نفسك على غير هذا الحال؟! فأنا نفسي على علم بأني لا أتصف بأي من صفات أهل القلوب، ولدي خوف من أن يكون هذا القلم في خدمة إبليس والنفس الخبيثة؛ فأحاسَب على ذلك غداً، ولكن أصل هذه المطالب حق، وإن كانت مكتوبة بقلم مثلي أنا غير البعيد عن الخصال الشيطانية.

                        اللّهم خُذ أنت بيد هذا العجوز العاجز، وأحمد الشاب، واجعل عواقب أمورنا خيراً...

                        واجعل لنا سبيلاً الى جلالك وجمالك، برحمتك الواسعة.

                        والسلام على من اتبع الهدى

                        ليلة 15 ربيع المولود 1407 هـ

                        روح الله الموسوي الخميني

                        تعليق


                        • #13
                          وصية الامام الخميني قدس الله نفسه الزكية


                          الوصية الإلهية السياسية
                          بسم الله الرحمن الرحيم
                          مقدمة الوصية
                          قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي … فإنّهما لن يفترِقا حتى يردا عليّ الحوض"[1] الحمد لله وسبحانك اللهم، صلِّ على محمد وآله مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتى المُستأثر منها، الذي لا يعلمهُ غيرك. واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة.

                          وبعد.. فإني أرى من المناسب التعرض باقتضابٍ قاصر لموضوع الثقلين، لا من حيث المقامات الغيبيّة والمعنويّة والعرفانيّة[2]، فقلمي لا يجسر على مرتبةٍ يستعصي عرفانها، ويصعب ـ أن لم أقل يمتنع ـ تحملها على كل دائرة الوجود من الملك[3] إلى الملكوت الأعلى[4] ومنه إلى اللاهوت[5] وإلى ما يفوق فهمي وفهمك، ولا من حيث ما مَرَّ على البشرية جرّاء عدم إدراك حقائق المقام السامي للثقل الأكبر[6] والثقل الكبير[7] الذي يكبر كل شيء عدا الثقل الأكبر الذي يمثل الأكبر المطلق، ولا ما حيث من قاساه هذان الثقلان من الطواغيت[8] والشياطين من أعداء الله، ذلك عليّ عسير لقصور الاطلاع وضيق الوقت. فجلَّ ما رأيته مناسباً للذكر، هو الإشارة باختصار بالغ إلى ما تعرض له هذان الثقلان.

                          لعلَّ قوله ( لن يَفترِقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ ) إشارة إلى أن كلّ ما يجري ـ وبعد حياة رسول الله (ص) المباركة ـ على أحد هذين الثقلين يجري على الآخر، وإلى أنّ هجران أيٍّ منهما يُعدُّ هجراناً للآخر، وحتى تلك الساعة التي يرد فيها هذان المهجوران الحوض[9] على رسول الله (ص).

                          أما هل أن هذا الحوض هو مقام اتصال الكثرة بالوحدة[10] واضمحلال القطرات في البحر، أو أنّه شيء آخر؟ فلا سبيل له إلى العقل والعرفان البشري. ولكنَّ ما تنبغي الإشارة إليه، هو أنّ ظلم الطواغيت الذي لحق وديعتي الرسول الأكرم (ص) هاتين، لحق الأمة الإسلامية، بل البشرية جمعاء، وإن القلم ليعجز عن بيان ذلك.

                          ولا يفوتني هنا التذكير بأنّ حديث الثقلين متواتر بين جميع المسلمين، فقد نقلته كتب أهل السنة، بدءاً من الصحاح الستّة[11] حتى الكتب الأخرى بألفاظ مختلفة وفي أبواب عديدة متواتراً عن رسول الله (ص)؛ وبذا فالحديث الشريف يُعدُّ حُجَّة قاطعة على البشر جميعاً، خصوصاً المسلمين على اختلاف مذاهبهم. وعليه فإنَّ على جميع المسلمين الذين تمت الحجة عليهم أن يوضحوا موقفهم إزاء ذلك، وإن كان ممكناً التماس العذر للجاهلين غير المطّلعين، فلا عذر للعلماء من كل المذاهب.

                          المستبدّون والطواغيت
                          وإننا لنرى الآن أن الأمور المؤسفة التي جرت على كتاب الله ـ هذه الوديعة الإلهية وأمانة رسول الإسلام (ص) ـ هي ممّا يبعث على البكاء بدل الدموع دماً، والتي ابتدأت بُعيد شهادة عليّ (ع)؛ فقد اتّخذ المستبدون والطواغيت من القرآن وسيلة لإقامة الحكومات المعادية للقرآن، وإقصاء المفسرين الحقيقيين للقرآن والعارفين بحقائقه ـ من أولئك الذين أخذوه عن رسول الله (ص) وسمعوه عنه وممن كان نداء "إني تارك فيكم الثقلين" يملأ أسماعهم ـ عن موقع القرار باسم القرآن وبذرائع مختلفةٍ ومؤامرات محاكةٍ سلفاً.

                          وفي الحقيقة فإن هؤلاء الطواغيت عملوا على إبعاد القرآن ـ الذي يعدُّ أعظم منهج للحياة المعنوية والمادية للبشرية حتى يوم ورودها الحوض ـ عن واقع الحياة وقضوا بذلك على حكومة العدل الإلهي التي تمثل أحد أهداف هذا الكتاب المقدّس، وأسسوا للانحراف عن دين الله وعن الكتاب والسُّنَّةِ الإلهية، حتى بلغ الأمر مبلغاً يخجل القلم عن إيضاحه.

                          القرآن منهج الحياة
                          وكلّما استطال هذا البنيان الأعوج ازداد به الانحراف والاعوجاج، حتى وصل الامر حداً أقصي فيه القرآن الكريم عن ميدان الحياة وأصبح وكأنه عديم الدور في الهداية، وهو الكتاب الذي تنزل من مقام الأحدية الشامخ إلى مقام الكشف المحمدي التام[12] لإرشاد العالمين، وليكون نقطة الجمع لكل المسلمين، بل للعائلة البشرية جمعاء، هادفاً إيصالها إلى ما يليق بها، وتحرير وليدة علم الأسماء[13] من شر الشياطين والطواغيت وإقامة القسط والعدل في العالم وتفويض أولياء الله المعصومين (عليهم صلوات الأولين والآخرين) أمر الحكومة يسلمونها بدورهم لمن يرون فيه صلاح البشرية. وإذا بالقرآن يصبح على أيدي الحكومات الجائرة والمعممين الخبثاء ـ الذين يفوقون الطواغيت سوءاً ـ وسيلة لإقامة الجور والفساد وتبرير ظلم الظالمين والمعاندين للحق تعالى.

                          ومن المؤسف أن يقتصر دور القرآن الكريم ـ وهو كتاب الخلاص ـ وبسبب المتآمرين والأصدقاء الجهلة، على المقابر والمآتم، ويصبح ـ وهو النازل لجمع المسلمين والبشرية جمعاء وليكون منهجاً لحياتهم ـ وسيلة للتفرقة والاختلاف أو أنه يُهجر كليّاً. وقد رأينا كيف كان يعامل من تلفظ بشيءٍ عن الحكومة الإسلاميّة أو تحدث عن السياسة وكأنه قد ارتكب أكبر المعاصي! مع أن الحكومة والسياسة هي المهمة الأولى للإسلام والرسول الأعظم (ص) والقرآن والسنة يفيضان بها. كما رأينا كيف أصبحت كلمة "عالم دين سياسي" مرادفة لكلمة "عالم دينٍ بلا دين" وما زال الأمر كذلك الآن.

                          الطواغيت وطباعة القرآن
                          فقد عمدت القوى الشيطانية الكبرى مؤخراً ـ وبهدف القضاء على القرآن وتحقيق المقاصد الشيطانية للقوى الكبرى، وبالإيعاز للحكومات المنحرفة، الخارجة عن تعاليم الإسلام المتلبسة زوراً بالإسلام ـ للقيام بطبع القرآن طبعات فاخرة ونشره على نطاقٍ واسعٍ لتحجيم دوره بهذه الحيلة الشيطانية؛ وكلنا نذكر قيام حمد رضا خان البلهوي[14] بطباعة القرآن، وكيف أنّ هذا الأمر انطلى على البعض، ودفع البعض الآخر من المعممين الجهلة للإطراء عليه! واليوم نرى ما ينفقه الملك فهد[15] سنوياً من مبالغ طائلة من أموال المسلمين على طبع القرآن الكريم والتبليغ بالوهابية[16] ـ هذا المذهب المشحون بالخرافات والباطل جملة وتفصيلاً ـ سعياً في تطويع المسلمين والشعوب الغافلة للقوى الكبرى، والقضاء على الإسلام العزيز والقرآن الكريم باسم الإسلام والقرآن.

                          نفخر بأئمتنا المعصومين عليهم السلام
                          أمّا نحن وشعبنا المجيد ـ المتشبع بالقرآن والإسلام ـ فنفخر أنّنا أتباع مذهب يهدف لإنقاذ الحقائق القرآنية ـ الفيّاضة بالنداء بالوحدة بين المسلمين، بل بين البشر أجمعين ـ من حالة الاقتصار على المقابر والمدافن، وتحقيق الانطلاق لها ـ باعتبارها أعظم وصفة منجية ـ لتحرير البشر من كل ما يكبل أيديهم وأرجلهم وقلوبهم وعقولهم ويجرّهم نحو الفناء والضياع والرقّ والعبودية للطواغيت.

                          ونفخر أننا أتباع مذهب أسّسه ـ بأمر الله ـ رسول الله (ص) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هذا العبد المتحرر من جميع القيود والمكلف بتحرير بني الإنسان من أشكال الأغلال وأنواع الاسترقاق.

                          نفخر أن كتاب نهج البلاغة[17] ـ الذي هو أعظم دستور بعد القرآن، للحياة المادية والمعنوية، وأسمى كتاب لتحرير البشر، والممثل بتعاليمه المعنوية والحكمية أرقى نهج للنجاة ـ هو من إمامنا المعصوم، ونفخر أن الأئمة المعصومين (عليهم آلاف التحية والسلام)[18] بدءاً بعلي بن أبي طالب وانتهاءً بمنقذ البشرية، الإمام المهدي[19] صاحب الزمان ـ الحيّ الناظر على الأمور بقدرة الله القادر ـ هم أئمتنا، ونفخر ان الأدعية الخلاّقة التي تسمى بالقرآن الصاعد، هي من أئمتنا المعصومين، نفخر بمناجاة أئمتنا الشعبانية[20] ودعاء الحسين بن علي (ع) في عرفات، والصحيفة السجادية (زبور آل محمد)[21] والصحيفة الفاطمية[22] ـ الكتاب الملهم من قبل الله تعالى للزهراء المرضية[23]، ـ ونفخر ان باقر العلوم[24] ـ أسمى علم في التاريخ، ذا المنزلة الخفية على غير الله ورسوله(ص) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) هو من أئمتنا. ونفخر أن مذهبنا جعفري[25] وان فقهنا[26] ـ وهو البحر اللامتناهي ـ واحد من آثاره (ع)؛ نحن فخورون بجميع الأئمة المعصومين (عليهم صلوات الله) ملتزمون بالسير على نهجهم، نحن فخورون أن أئمتنا المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) تحملوا ـ ومن أجل تطبيق القرآن الكريم بكل أبعاده بما في ذلك تشكيل الحكومة الإسلامية ـ السجن والنفي، حتى استشهدوا في النهاية وهم يعملون على اسقاط الحكومات الجائرة وطواغيت زمانهم.

                          واليوم .. نحن فخورون اننا نسعى لتحقيق أهداف القرآن والسنة، وان مختلف الشرائح من شعبنا منهمكة في هذا الطريق المصيري العظيم، غير مبالية بتقديم الأرواح والأموال والأعزاء في سبيل الله تعالى.

                          نفخر بالنساء الزينبيات[27]
                          نحن نفخر بحضور السيدات ـ صغاراً وكباراً ـ في الميادين الثقافية والاقتصادية والعسكرية يجاهدن جنباً الى جنب الرجال ـ بل قد يفقنهم أثراً ـ من أجل إعلاء كلمة الإسلام وأهداف القرآن الكريم.

                          تشارك المستطيعات منهن في التدريبات العسكرية للدفاع عن الإسلام والدولة الإسلامية ـ الأمر الذي يعدُّ من الواجبات المهمّة ـ متحررات من أنواع الحرمان الذي فُرض عليهنّ، بل على الإسلام والمسلمين ـ نتيجة تآمر الأعداء وجهل الأصدقاء بأحكام الإسلام والقرآن ـ وساعيات بمنتهى الشجاعة والحزم للانطلاق من قيود أسر الخرافات التي روّج لها الأعداء بواسطة بعض المغفلين والمعممين الجاهلين بمصالح المسلمين.

                          وأمّا غير المستطيعات منهن على حمل السلاح فمشغولات بتقديم أسمى الخدمات في المواقع الخلفية بنحوٍ يفجّر الحماس والاندفاع في قلوب أبناء الشعب، ويزلزل قلوب الأعداء والجهلة ـ الأشدُّ سوءاً من الأعداء ـ ويملؤها حنقاً وغضباً. وما أكثر ما رأينا من النساء الجليلات وهن يمارسن دورهن الزينبي مفاخرات بفقدهن الأبناء، ومضحيات بكل شيء في سبيل الله تعالى والإسلام العزيز، مدركات أن ما حصلن عليه يفوق جنات النعيم سمواً، ناهيك عن سموه على متاع الدنيا الرخيص.

                          نفخر بالعداء لأمريكا الارهابية
                          إن شعبنا ـ بل الشعوب الإسلامية وجميع مستضعفي العالم، يفخرون بأنّ أعداءهم ـ أعداء الله والقرآن الكريم والإسلام العزيز ـ هم وحوش لا تتورع عن ارتكاب أيّة جريمة أو جناية لتحقيق أهدافها الإجرامية المشؤومة، غير مفرّقة ـ في سبيل تحقيق تسلطها ومطامعها الدنيئة ـ بين الصديق والعدو، وعلى رأسهم أمريكا الإرهابية الطبع، التي أضرمت النار في جميع أرجاء العالم، وحليفتها الصهيونية العالمية، التي ترتكب ـ وفي سبيل تحقيق مطامعها ـ من الجنايات ما تخجل الأقلام والألسنة عن كتابته وذكره.. يجرّهم حلمهم الأبله بـ(اسرائيل الكبرى) الى عدم التورع عن ارتكاب أفظع الجرائم.

                          كذلك فإن الشعوب الإسلامية والمستضعفة تفاخر بأنّ أعداءها هم من أمثال الصعلوك حسين الأردني المجرم المحترف وحسن وحسني مبارك الذين يشاركون اسرائيل على معلف واحد والذين لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة بحق شعوبهم خدمة لأمريكا واسرائيل.

                          ونحن فخورون بأن عدونا هو صدام العفلقي[28] الذي عُرف بين الصديق والعدو بإجرامه ونقضه القوانين الدولية، وانتهاك حقوق الإنسان، ولا يخفى على الجميع أن جريمته بحق الشعب العراقي المظلوم وبحق إمارات الخليج لا تقلُّ عن جريمته بحق الشعب الإيراني.

                          اننا وكل الشعوب المظلومة في العالم فخورون بأن وسائل الإعلام وأجهزته العالمية تتهمنا، وكل المظلومين، بمختلف الجرائم، منصاعة في ذلك لما تُمليه عليها القوى الكبرى. وأي فخر أسمى وأجلُّ من وقوف أمريكا ـ رغم كل ادعاءاتها وصخبها العسكري، ورغم كل تلك الدول الخاضعة لها، وسيطرتها على الثروات الهائلة للشعوب المظلومة المتخلّفة، ورغم امتلاكها لكل وسائل الإعلام ـ أمام الشعب الإيراني الغيور، ودولة بقية الله (أرواحنا لمقدمه الفداء)[29] عاجزة ذليلة، لا تعرف بمن تستعين، وماذا تفعل، وهي تسمع جواب الرفض من كلّ من تتوجه إليه.

                          وما ذلك كلّه إلاّ ببركة الامدادات الغيبية الباري تعالى جلت عظمته، والتي أيقظت الشعوب، خصوصاً شعب ايران المسلم وأخرجتها من ظلمات الطاغوت الى نور الإسلام.

                          الى الشعوب المظلومة والشعب الإيراني
                          وهنا أوصي الشعوب الشريفة المظلومة والشعب الإيراني المجيد أن يقفوا بحزم واستقامة والتزام وثبات على هذا الصراط الإلهي المستقيم، الذي مَنّ الله به عليهم، المُصان من الارتباط بالشرق الملحد، أو الغرب الظالم الكافر، وان لا يغفلوا لحظة واحدة عن التضرّع بالشكر على هذه النعمة. كما أوصيهم بعدم السماح لعملاء القوى الكبرى القذرين ـ سواءٌ في ذلك الأجانب أو المحليين الذين يفوقون أولئك سوءاً ـ بإحداث أي تضعضع في نواياهم الرشيدة وإراداتهم الحديدية. وليعلموا ان تصاعد وتيرة الصخب الإعلامي لأجهزة الإعلام العالمية والقوى الشيطانية في الغرب والشرق إنما يشير الى قدرتهم الإلهية. جزاهم الله تعالى خيراً في الدنيا والآخرة، انه ولي النعم وبيده ملكوت كل شيء.

                          كما ألتمس من الشعوب الإسلامية، بمنتهى التواضع والإلحاح، اتّباعَ الأئمة الأطهار ـ قادة البشرية العظماء ـ والمبالغة في التزام نهجهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري وبأنسب الأشكال، باذلين النفوس والأعزاء في هذا السبيل. ومن جملة ذلك عدم الخروج ـ قيد أنملة ـ عن الفقه التقليدي[30] الذي يمثل هوية مدرسة الرسالة والإمامة، والضامن لترشيد الشعوب وإعزازها، سواءٌ في ذلك الأحكام الأولية أم الأحكام الثانوية[31]، فكلاهما مدرسة للفقه الإسلامي، مركزاً على عدم الإصغاء للوسواسين الخناسين المارقين عن الحق والدين… وليتأكدوا أنَّ أية خطوة منحرفة ستعني الإيذان بالقضاء على الدين والأحكام الإسلامية وحكومة العدل الإلهي.

                          ومن جملة ذلك أيضاً عدم التهاون في إقامة صلاة الجمعة والجماعة فهي الوجه السياسي للصلاة، فإن صلاة الجمعة تعدُّ من أسمى نعم الحق تعالى على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومنها كذلك عدم الغفلة عن مراسم عزاء الأئمة الأطهار، خصوصاً سيد المظلومين والشهداء أبي عبدالله الحسين (صلوات الله الوافرة وصلوات أنبيائه وملائكته والصالحين على روحه الوثابة العظيمة). وليعلموا أنّ أوامر الأئمة (عليهم السلام) إنما تهدف كلها لإحياء ملحمة الإسلام التاريخية هذه، كما أن كل اللعن والاستنكار لما فعله ظالمو آل البيت إنما يعبر عن الصرخة المدوية للشعوب في وجه الحكام الظالمين على مرّ التاريخ والى الأبد. ولا يخفاكم أن لعن وشجب واستنكار ظلم بني أمية (لعنة الله عليهم) ـ رغم انقراض حكومتهم وانتهائهم الى جهنم ـ إنما يمثل صرخة ضد الظالمين في العالم، وإحياءً لهذه الصرخة المبيرة للظلم.

                          ينبغي الحرص على تضمين المنائح والمراثي والمدائح المنظومة في أئمة الحق (عليهم السلام) استعراض جرائم الظالمين في كل عصر ومصر وبأسلوب حدّي، ولمّا كان هذا العصر هو عصر مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا والاتحاد السوفيتي وسائر عملائهم كآل سعود الخونة للحرم الإلهي العظيم (لعنة الله وملائكته ورسله عليهم) لزم الإشارة الى ذلك وصبّ اللعنات على أولئك الظلمة والتنديد بهم بشدة.

                          ان علينا جميعاً أن ندرك أن هذه الشعائر السياسية ـ التي تحفظ هوية المسلمين خصوصاً شيعة الأئمة الإثني عشر (عليهم صلوات الله وسلامه) ـ هي التي تؤدي الى الوحدة بين المسلمين.

                          ينبغي أن أذكّر هنا بأنّ وصيتي السياسية الإلهية ليست موجهة للشعب الإيراني المجيد فحسب، وإنما هي تذكرة لجميع الشعوب الإسلامية والمظلومين في العالم على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم.

                          أتضرّع الى الله عز وجل أن لا يكلنا ـ وشعبنا ـ الى أنفسنا طرفة عين أبداً، وأن لا يحجب ألطافه الغيبية عن أبناء الإسلام والمجاهدين الأعزاء لحظة واحدة.

                          روح الله الموسوي الخميني

                          1] ومفرده "ثقل". والثقل وإن كان مفهومه واحداً، إلا أن له عدة مصاديق جاءت في شروح الحديث وتفاسير القرآن الكريم منها: الميراث الثقيل، والشيء الكبير أو الثقيل أو الثمين، والمسؤولية العظيمة، والأمانة النفيسة النادرة.

                          والمراد من "الثقلين" في الحديث هو القرآن والعترة، لأنهما مصدران للشرع في الأحكام، والمرشدان إلى العمل الصالح.

                          وحديث الثقلين منقول بالفاظ مختلفة، إلا أن الروايات متفقة في المقصود، للمزيد من الإطلاع راجع: الترمذي 13/199 (باب مناقب أهل بيت النبي)، كنز العمال 1/48، صحيح مسلم/ باب فضائل علي بن أبي طالب، مسند أحمد 4/366، سنن الدارمي 2/431، سنن البيهقي 3/148 و 7/30، الطحاوي في مشكل الآثار 4/368، اسد الغابة 2/12، مستدرك الصحيحين 3/109، حلية الأولياء 1/355، تاريخ بغداد 8/442 ومجمع الزوائد للهيثمي 9/163 و 164.

                          [2] وهو المعرفة ومعرفة الله ـ خاصة ـ، وهو في المعارف الإلهية وحدة علمية وثقافية ذات قسمين هما: العرفان النظري والعرفان العملي. العرفان النظري: البحث في معرفة الله والعالم والإنسان. والعرفان العملي: البحث في كيفية العلاقة بين الإنسان وربّه وعالمه ومجتمعه ونفسه، وواجبه تجاههم.

                          [3] من أحدث المباحث الفلسفية المهمة مبحث معرفة عوالم الوجود، وقد أثبتت الفلسفة وجود بعض تلك العوالم، ومنها ما ثبت وجوده للإنسان بواسطة الرؤية بالعين المجرّدة، وبحس من الحواس، وهو عالم الطبيعة الذي سمّي بـ "المُلك".

                          [4] استدل الفلاسفة والمفكّرون على ضرورة وجود عالم في الحدّ الفاصل بين عالم الطبيعة "المُلك" و"عالم اللاهوت". هذا العالم المجرّد من المادة والزمان، المكان بشكل مطلق سمّي بـ"عالم الملكوت".

                          وقد قسّم الحكماء والعرفاء هذا العالم إلى مرتبتين: عليا وسفلى، وقد أيّدت النصوص الإسلامية هذا التقسيم. وقد أصطلح على تسمية المرتبة العليا بـ"الملكوت الأعلى" وهو عالم مهد العقل أي "الإنسان". واصطلح على تسمية المرتبة السفلى بـ"الملكوت السفلي" وهو عالم "المثال".

                          [5] هو ذات الخالق جلّ وعلا التي لا تدرك بالحسّ، وإنّما تثبت بالدليل والبرهان العقلي. وبما أن الذات الإلهية تشمل جميع الصفات الكمالية، لذا فإنها اعتبرت أكمل عالم.

                          [6] يستفاد من حديث الثقلين، ومن توضيحات المفسّرين وعلماء الحديث أنّ الثقل الأكبر هو "القرآن" الكريم.

                          [7] يستفاد من المصادر التي تطرقت لمفهوم الثقلين أن الثقل الكبير هم "الأئمة المعصومون" من عترة رسول الله(ص).

                          [8] "الطاغوت" مصطلح استعمله القرآن الكريم، وهو اسم صنع لقريش قبل الإسلام، ويطلق على الشيطان أيضاً، وعلى أيّ صنم أو بشر يمنع من فعل الخير، ويدعو إلى الضلال والشّر. و"الطاغوت" من "الطغيان" وهو الخروج عن الحدّ. قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".

                          [9] تستعمل كلمة "الحوض" في المعارف الإسلامية مضافة إلى كلمة "الكوثر". و"حوض الكوثر" في نظر الإمام الخميني(س) هو تعبير عن واقعية أخروية، وهو مقام اتصال الكثرة بالوحدة، فكما أن السواقي تصب في النهر لتتوحد فيه، فإنّ القرآن والعترة يتّصلان في عالم الآخرة ليصبحان واحداً.

                          [10] "الكثرة" تعني عند الفلاسفة سلسلة مراتب الموجودات، وتنوّع ظواهر الوجود المادية والمعنوية.

                          و"الوحدة" هي الذات الإلهية التي هي منشأ ومبدأ الوجود كله بجميع موجوداته وكائناته. بناءً عليه فإن "مقام اتصال الكثرة بالوحدة" هو مقام ومرتبة أخروية تشكّل الحد الأقصى والأعلى للكثرة والحدّ الأدنى للوحدة. وهي واسطة صدور الكثرة عن الوحدة في بدء الخلق، وواسطة عودة الكثرة إلى الوحدة في نهاية العالم.

                          [11] مفردها "صحيح" وهو الخبر الذي يعتبر صادقاً. والصحاح الستة هي ستة كتب انتخبها علماء السنّة من بين جميع كتب الحديث، واتخذوها أصلاً وأساساً لهم في استنباط الأحكام والعقائد وتفسير القرآن وتحليل تاريخ صدر الإسلام، وهي:

                          أ ـ "صحيح البخاري" مؤلفه محمد بن إسماعيل البخاري (812 ـ 869م)

                          ب ـ "صحيح مسلم" مؤلفه مسلم بن الحجاج النيشابوري، المعروف بالقشيري (812 ـ 876م).

                          ج ـ "سنن ابن ماجه" مؤلفه محمد بن يزيد بن ماجة المتوفى عام (886م)

                          د ـ "سنن أبي داود" مؤلفه أبو داوود السجستاني سليمان بن داوود المتوفى عام (888م).

                          هـ ـ "جامع الترمذي" مؤلفه محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى عام (892م).

                          و ـ "سنن النسائي" مؤلفه أحمد بن شعيب النسائي المتوفى عام (915م).

                          [12] هو ظهور وتجسّم جميع الحقائق القرآنية لدى النبي محمد(ص) و"الكشف التام المحمدي" وهو مرتبة من مراتب التنزّل القرآني. ففي هذه المرتبة استقر القرآن في قلب النبي بكل أبعاده، وهذه المرتبة من كشف الحقائق القرآنية ليست إدراكاً عقلياً، بل مشاهدة غيبية، لا يدركها إلا النبي(ص) والكشف خاص به، والمشاهدة التامة له خاصة.

                          [13] "علم الأسماء" هو نوع من العلم والمعرفة يختص بتعلمه الموجود الإنساني.

                          و"وليدة علم الأسماء" هو الإنسان، الذي عرض الله سبحانه عليه هذا العلم ليصبح به مؤهلاً لخلافة الأرض، ولولاه لما كان مؤهلاً لخلافة الأرض.

                          [14] هو آخر ملوك العهد البهلوي في إيران. ولد عام 1919م، أبوه: "رضاخان" الذي تسلّم الحكم في انقلاب عسكري، وجعله ابنه "محمد رضا" خليفة من بعده. أكمل "محمد رضا" دراسته الأولية في إيران، وتابع دراسته العليا في سويسرا، وعاد إلى إيران ليلتحق بأمر من أبيه بالكلية العسكرية. بعد عزل أبيه عن الحكم عام 1941م ونفيه خارج إيران، وافق الحلفاء على تعيين "محمد رضا" محله. يقسم عهد "محمد رضا" إلى قسمين:

                          الأول: (1941 ـ 1955م) وطوال هذه المدة لم يتمكن من السيطرة كاملاً محل أبيه.

                          الثاني: (1955 ـ 1979م) حكم إيران في هذه المدة كمستبد مطلق العنان.

                          وقد أشار الإمام الخميني(س) في وصيته هذه إلى وضع حكم "محمد رضا" خلال 37 عاماً.

                          [15] هو الملك الحالي لجزيرة العرب، وهو فهد بن عبد العزيز آل سعود. وللاطلاع على عمالة هذه العائلة للقوى الكبرى ـ وخاصة بريطانيا ثم أمريكا ناهبة العالم ـ ودورها العائلة في نشر مسلك الوهابية الضال المضل، وعدائهم الدفين والتاريخي لشيعة النبي وآله(ص) ونفاقهم تجاه المواجهة الشعبية الفلسطينية البطلة، وارتكابهم لمجزرة إبادة شرسة ضد الحجاج المسلمين في بيت الله الحرام، وهتكهم لحرم الأمن الإلهي، وقمعهم للمجاهدين المسلمين العرب من أهالي الجزيرة العربية وخارجها. وهدرهم لثروات المسلمين، وظلمهم واستبدادهم، وزرعهم للفتن بين المسلمين، وتكفيرهم لجميع مذاهب المسلمين معروف. للإطلاع على كل ذلك لابد من مراجعة الكتب المختصة بذلك وهي كثيرة جداً منها: "كشف الارتياب" و"تاريخ آل سعود" و"هذه هي الوهابية" وغيرها.

                          [16] هو مذهب ابتدعه في آخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الهجري ـ المدعو "محمد بن عبد الوهاب النجدي". هذا المسلك المنحرف يتهم جميع المذاهب الإسلامية على الاطلاق بالكفر والشرك، يعتبرهم عبدة أصنام ويعتبر توقير وتعظيم قبر النبي(ص) وقبور أهل بيته(ع) وصحبهم بدعة وعبادة أصنام. نشط الوهابيون ـ باستغلالهم لثروات المسلمين التي سيطروا عليها ـ في مجال الثقافة والاعلام والدعاية، وسخّروا كل ذلك من أجل تنفيذ المخططات الهدّامة للقوى الكبرى.

                          [17] وهو ما جمعه الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي (توفي سنة 404هـ) من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وشرّاحه في القديم والحديث يربون على المائة، أشهرهم من القدماء: أبو الحسن البيهقي، والإمام فخر الدين الرازي، والقطب الراوندي، وكمال الدين محمد ميثم البحراني، وعزّ الدين بن أبي الحديد المدائي. ومن المتأخرين من الشراح: محمد عبده، محمد نائل المرصفي، ومحمد جواد مغنية.

                          [18] أئمة الإسلام المقدسون المعصومون(ع) بعد النبي الأكرم(ص) هم ـ حسب النصوص الإسلامية المتفق عليها ـ اثنا عشر رجلاً، وأسماؤهم المباركة هي:

                          1 ـ الإمام علي بن أبي طالب(ع)

                          2 ـ الإمام الحسن بن علي المجتبى(ع)

                          3 ـ الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء(ع)

                          4 ـ الإمام علي بن الحسين السجّاد(ع)

                          5 ـ الإمام محمد بن علي الباقر(ع)

                          6 ـ الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)

                          7 ـ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)

                          8 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(ع)

                          9 ـ الإمام محمد بن علي التقي الجواد(ع)

                          10 ـ الإمام علي بن محمد النقي الهادي(ع)

                          11 ـ الإمام الحسن بن علي العسكري(ع)

                          12 ـ الإمام الحجة محمد بن الحسن العسكري(ع)

                          وقد نقلت جميع كتب المسلمين وبالتواتر أن النبي(ص) نصّ على خلافتهم وإمامتهم من بعده، وذكر أسماءهم حسب الترتيب المذكور. راجع: صحيح مسلم 6/3 ـ 4، صحيح البخاري 4/165، صحيح الترمذي (باب ما جاء في الخلفاء)، سنن أبي داود 3/106، مسند الطيالسي ح 767 وح 1278، مسند أحمد 5/86 ـ 90 و 92 ـ 101 و 106 ـ 108، كنز العمال 13/26 ـ 27، وحلية الأولياء 4/33 .

                          [19] هي المناجات المأثورة عن أمير المؤمنين(ع) والأئمة من ولده والتي كانوا يناجون بها ربهم في شهر شعبان المبارك، أولها: (اللهم صلّ على محمد وآل محمد واسمع دعائي إذا دعوتك …).

                          [20] وهو الإمام الثاني عشر من أئمة المسلمين وأوصياء رسول الله(ص). بدأت فترة إمامته عند بلوغه الخامسة من عمره الشريف. وبسبب الأوضاع التي كانت سائدة في زمانه، واستجابة لمشيئة الله تعالى، فقد اختار الغيبة التي قسّمت إلى قسمين هما:

                          الغيبة الصغرى ودامت (69) عاماً، كان يتصل خلالها بالناس عبر أربعة سفراء وممثلين عنه. والغيبة الكبرى، وبدأت بانتهاء الغيبة الصغرى بعد وفاة آخر سفرائه، وهي مستمرة إلى يومنا هذا، إلى أن يأذن الله بظهوره فيقيم القسط والعدل.

                          حسب المعارف الإسلامية فإن المواجهة المستمرة للإمام المهدي(عج) وظهوره يعدّ آخر حلقة من حلقات جهاد أهل الحق ضد أهل الباطل. أي ان مواجهات أهل الحق تستمر طوال التاريخ، وتهيئ شيئاً فشيئاً الأرضية المناسبة لانتصار الحق، حتى يبلغ بها قيام المهدي الموعود(عج) النتيجة النهائية، فتسطع شمس العدل والحق في سماء البشري. آنذاك يكون يوم مرحلة النضج الفكري والمعنوي والاجتماعي للإنسان.

                          [21] هي صحيفة تحوي أربعة وخمسين دعاءً من أدعية علي بن الحسين السجاد(ع) وقد سكبها في قالب الدعاء بسبب اشتداد جور حكام عصره، وهي دائرة معارف إسلامية استلهم منها المسلمون والباحثون عن الحق الكثير، وكان لها دوراً تربوياً عظيماً، وقد صدرت لها مستدركات كثيرة. و"الزبور" هم اسم كتاب سماوي نزل على داوود(ع). وكان يحوي علوماً وحكماً كثيرة. أما المقصود من تعبير الإمام الخميني(س) هنا فهو "الصحيفة السجّادية" فلأهمية مواضيعها وغنى محتواها وعمق مفاهيمها أطلق عليها المطّلعون على معارف أهل البيت النبي(ص) عدة أسماء منها: زبور آل محمد(ص) وانجيل أهل بيت الرسول(ص) وأخت القرآن. وهي لكونها مناجاة مع الخالق شبّهت بمزامير داوود(ع).

                          [22] هو ليس بمصحف قرآني، بل كتاب تضمّن علوماً أخرى، قيل انها كانت أمثالاً وحكماً، ومواعظ وعبراً وأخباراً ونوادر (المراجعات، شرف الدين، ص 327)، وقيل انه "كتاب تحديث بأسرار العالم كما يعرف ذلك من عدة روايات في أصول الكافي … وفيها قول الصادق … "وما أزعم أن فيه قرآناً" (مقدمة تفسير آلاء الرحمن، الشيخ البلاغي، مطبوعة في مقدمة تفسير شبر، ص 18). وهذه الصحيفة أو المصحف لم يصل إلينا، والروايات تذكر أنّه من مصادر علوم أهل البيت عليهم السلام، وانه من المعارف الالهية التي نزلت في بيت النبوة مما سوى القرآن الكريم.

                          [23] هي السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله(ص) وزوجة علي بن أبي طالب(ع) وأم الحسن والحسين(ع). ولدت بمكة في العام الخامس للبعثة. أما صفاتها وخصالها الحميدة وفضائلها فهي أكثر من أن تدرك هنا، كيف لا وهي سيدة نساء العالمين، أسوة نساء الإسلام، وسيدة الإسلام الكبرى، وهي الصديقة الكبرى، والحوراء الإنسية، وأحب الخلق إلى أبيها رسول الله(ص). لازمت الزهراء(س) أباها رسول(ص) وبعلها علياً(ع) في أصعب مراحل حياتها وأشدّها خطورة واكثرها أحدثاً، حتى تاقت إلى لقاء أبيها(ص) بعد وفاته، وانتقلت إلى النعيم الخالد وهي في عنفوان شبابها، بعد أن نال العناء منها، واشتدت الصعاب عليها بعد فراق رسول الله(ص)، وكان عزاؤها الوحيد بشارة النبي(ص) لها أنها ستكون أول اللاحقيق به.

                          [24] هو لقب خامس أئمة المسلمين من أحفاد رسول الله(ص) وهو محمد بن علي الباقر(ع)، شهد عصره بروز الخلاف والصراع بين الأمويين والعباسيين على السلطة، وكان قد سبق ذلك واقعة كربلاء الدامية، وهي قمة الظلم الذي لحق بآل بيت رسول الله(ص) مما حدا بالناس عامة، وشيعة آل بيت رسول الله(ص) خاصة، أن يتوجّهوا كالسيل الهادر إلى مدينة الرسول(ص) لينهلوا من مجالس الإمام الباقر(ع) شتى العلوم والحقائق والمعارف الإسلامية.

                          [25] هو المذهب الإسلامي المنسوب إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق(ص) حفيد رسول الله(ص) وسادس أئمة المسلمين، وقد نسب مذهب الشيعة الإمامية إليه لأنه استطاع أن يقوم بنشاط كبير، بسبب ضعف نظام الحكم في عصره والخلاف بين الأمويين والعباسيين، فسنحت له فرصة ذهبية فرش فيها بساط البحث وأفاض في الدرس، وتصدّى لمهمة تعليم وتربية المؤمنين المخلصين، وأسس حوزات علمية كانت أعظمها جامعة الكوفة التي كان يجتمع فيها أكثر من أربعة آلاف محدّث وراوٍ كلهم يقول: قال الصادق(ع). فقد كان يروي عن أبيه عن جده عن رسول الله(ص) عن جبرئيل عن الله جل وعلا. إضافة إلى أن معظم العلوم الحديثة وعلوم الطبيعة نقلت عن تلاميذه من أمثال جابر بن حيان وغيره.

                          [26] وهو الفهم الدقيق عن فطانة وذكاء وبحث وتدقيق. وهو علم معرفة الأحكام والبرامج العملية للدين نحتاجها في حياتنا الفردية والإجتماعية. والمقصود من هذا العلم معرفة أحكام الله والعمل بها. أما مصادر الفقه التي تستنبط منها الاحكام فهي: القرآن وسنّة رسول الله(ص) والأئمة المعصومين(ع) والعقل والاجماع (وهو ما اتفق عليه الفقهاء دون شك في صحته).

                          [27] هي زينب الكبرى بنت علي(ع) وهي سيدة الإسلام الشجاعة، وثالث أبناء فاطمة الزهراء(س) بعد الحسن والحسين(ع). ولدت في العالم السادس للهجرة، في أشرف عائلة عرفها التاريخ، فهي تربّت على يد جدّها(ص) وأبوها علي(ع) وأمّها فاطمة(س) وإلى جانب أخويها الحسن والحسين ريحانتي رسول الله(ص).

                          سارت زينب(س) في طريق صعب وطويل حتى فاجعة كربلاء، وفي فاجعة كربلاء شهدت مصرع أخوتها وبنيها وأبناء أخوتها وجميع أفراد عائلتها ثم سيرت اسيرة من العراق إلى الشام، وتولت رعاية حرم رسول الله(ص) من نساء وأطفال، طوال هذه الأحداث المروعة دون أن تفقد شيئاً من صبرها، بل حركت الغضب ضد يزيد الطاغية الأموي، ورفعت ـ بشجاعة لا نظير لها ـ راية مواجهة الجناة، وأدّت دوراً مدهشاً شكل ـ فيما بعد ـ مقدمة تخليد ملحمة عاشوراء واستمرار مواجهة الحق للباطل في جميع العصور. أفعال السيدة زينب(س) واقوالها أثبتت في سجلّ التاريخ الإسلامي بين سطور الخالدين تحت عنوان "الحالة الزينبيّة" وأصبحت قدوة للنساء المسلمات.

                          [28] العفلقية هي صفة نسبة تعود إلى "ميشال عفلق" المفكر السوري، وهو ابن تاجر حبوب مسيحي ارثذوكسي يوناني. ولد عام 1910م في دمشق، ودرس فيها، ثم تابع دراسته الجامعية في جامعة السوربون الفرنسية، وتخرج من قسم التاريخ والفلسفة ليعمل مدرساً في موضع حركات التحرر والحروب الوطنية الأوربية في القرن الأخير، وموضوع مفاخر العرب السابقة ودوره في التاريخ. وكان يطمح إلى تأسيس حزب يتمكن من خلاله جمع الشعوب العربية على أساس قومي واحد بدلاً عن العقائد المتعددة الدينية والفكرية.

                          وفي عام 1940م تحقق مشروعه ذاك بمساعدة القوى الكبرى والاستعمار، فأسس حزب البعث، بعقيدة التقاطية خاصة ـ لا مجال لتفصيلها هنا ـ وامتد هذا الحزب في سوريا والعراق، وفي عام 1963م استولى هذا الحزب على الحاكم في العراق بمظلة عبد السلام عارف، ثم بشكل علني في عام 1968م.

                          وفي عام 1979م تنحى الرئيس العراقي "أحمد حسن البكر" وتولى الحكم والأمانة العامة لحزب البعث وجه من وجوه الإجرام والمؤامرة وهو "صدام التكريتي".

                          الشواهد والقرائن الموجودة تدل على أن هناك تحرك جدّي لاجهزة التجسس الغربية واسرائيل وراء التغييرات التي حدثت داخل حزب البعث والتي تمخّضت عن تولي صدام للسلطة في العراق.

                          [29] قال تعالى {بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} ـ هود/ 86.

                          وجاء في الأحاديث الشريفة والروايات أن المهدي(عج) عندما يخرج، يسند ظهره إلى الكعبة، وأن أول عبارة ينطق بها هي: أنا بقية الله وخليفته عليكم. من هنا اعتبرت جملة "بقية الله" هي أحد أسماء الإمام المهدي الغائب(عج).

                          أما عبارة "دولة حضرة بقية الله" التي استعملها الإمام الخميني(س) في وصيته فإن مقصوده منها هو "دولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية".

                          [30] "الفقه" عرّفناه سابقاً و"التقليدي" هو الاسلوب الذي بلغنا من السابقين. و"الفقه التقليدي" هو الاسلوب المتّبع في استنباط واستخراج الأحكام العملية الشرعية من المصادر المعتبرة المحكمة، وقد اتبع هذا الأسلوب فقهاء المسلمين الشيعة منذ عهد المعصومين وحتى يومنا هذا، وتركوا ما سواه.

                          [31] الأحكام على قسمين: أولية، وثانوية إضطرارية. الأحكام الأولية هي الأصل، والأحكام الثانوية تنشأ من الإضطرار وكلها مبينة في القرآن والسنّة. إلا أن الأحكام الأولية مبينة بمصاديقها، والأحكام الثانوية مبينة بشكل عام، ولابد من تقدير الإضطرار وتطبيق الأهم ثم المهم ثم الأقل أهمية .. وحينما يعسر تطبيق الحكم الأولي في مورد ما يحلّ الحكم الثانوي محلّه، فإذا ارتفع الإضطرار عندنا إلى الحكم الأولي. وقد عيّنت الدولة الإسلامية خبراء لتحديد ذلك.



                          تابع الوصية.

                          تعليق


                          • #14
                            نص الوصية
                            بسم الله الرحمن الرحيم

                            انّ الثورة الإسلامية المجيدة، التي تمثل ثمرة جهاد الملايين من الشرفاء والآلاف من الشهداء الخالدين والمعوقين الأعزاء ـ الشهداء الأحياء ـ والأمل لملايين المسلمين والمستضعفين في العالم، تقف على درجة من الأهمية تفوق قدرة القلم والبيان.

                            وإني روح الله الموسوي الخميني، الآمل ـ رغم كل خطاياي ـ بكرم الله العظيم تعالى، والمتزود للطريق المحفوفة بالمخاطر بذلك الأمل بكرم الكريم المطلق لي، واثق الرجاء ـ بصفتي أحد طلبة العلوم الدينية البسطاء ـ وكسائر إخواني في الإيمان بهذه الثورة ودوام منجزاتها وتحقق المزيد من أهدافها، أعرض بعض الأمور كوصية للجيل الحاضر والأجيال القادمة العزيزة ـ وان كانت مكررة ـ سائلاً الله الرحمن أن يمنّ عليّ بإخلاص النيّة في ذلك.

                            الثورة الإسلامية هدية الغيب
                            1 ـ كلنا يعلم ان هذه الثورة المجيدة، إنما تمكنت من قطع أيادي المستغلين والظالمين الدوليين عن ايران العزيزة وتحقيق الانتصار بالتأييد الإلهي الغيبي، فلولا قدرة الله القادرة لما أمكن لستة وثلاثين مليوناً أن ينهضوا ومن أدنى البلاد الى أقصاها، صفاً واحداً وبنهج واحد ونداء "الله أكبر" ليقدّموا تلك التضحيات الاعجازية المحيّرة ويزيحوا كابوس جميع القوى الداخلية والخارجية ويتسلموا هم مقاليد الأمور في بلادهم. فالإعلام المعادي للإسلام وعلمائه ـ وخاصة في القرن الأخير ـ وما لا يحصى من أساليب التفرقة التي مارسها الكتّاب والخطباء من خلال الصحف والمجالس الخطابية والمحافل المضادة للإسلام وللوطنية ـ رغم لبوسها الوطني ـ وذلك السيل من الأدب المبتذل وما أُعدّ من مراكز اللهو والفحشاء والقمار والمسكرات والمخدرات بهدف جرّ الشبّان ـ الذين يمثلون الساعد الفاعل للمجتمع ـ نحو الفساد وتحييدهم أمام الممارسات الخيانية للملك الفاسد وأبيه الأهوج والحكومات والمجالس البرلمانية المسيّرة المفروضة على الشعب من قبل سفارات الدول الكبرى، بدلاً من تسخير جهودهم لتحقيق الرقي والتقدم لوطنهم العزيز. وأسوأ من ذلك كله حال الجماعات والمدارس الثانوية والمراكز التعليمية الأخرى المستأمنة على مقدرات البلاد، فهي مليئة بالمعلمين والأساتذة العملاء الفكريين للغرب أو الشرق والمعارضين تماماً للإسلام والثقافة الإسلامية ـ بل حتى الثقافة القومية الصحيحة وذلك باسم القومية والميول القومية ـ وإن كان بينهم بعض الملتزمين المخلصين، إلا انهم لم يكونوا ذوي تأثير يُذكر نتيجة قلّة عددهم وتراكم الضغوط عليهم، مما حدّ من إمكانية قيامهم بأي عمل إيجابي، مضافاً الى ما كان يجري من العمل على إزواء الروحانيين وعزلهم، ودفع العديد منهم نحو الانحراف الفكري نتيجة الإعلام؛ كلها مع عشرات الأمور الأخرى كانت تحول دون تحقيق الثورة للنصر المؤزر هذا.

                            لذا وجب أن لا يُشك أبداً في أن الثورة الإسلامية في ايران تختلف عن جميع الثورات الأخرى من حيث النشأة، ومن حيث أسلوب المواجهة، ومن حيث الدوافع التي فجرت الثورة والنهضة، ولا ريب أبداً في أنها هدية إلهية غيبية تلطف بها المنّان على هذا الشعب المنكوب المظلوم.

                            الحكومة الإسلامية وسعادة الدارين
                            2 ـ إنّ (الإسلام والحكومة الإسلامية) ظاهرة إلهيّة يؤدي العمل بها الى تحقيق السعادة للمسلمين في الدنيا والآخرة وعلى الوجه الأكمل، كما أنّ العمل بها سيؤدي الى إلغاء كافة أنواع الظلم والنهب والفساد والتعدّي وإيصال الإنسان الى الكمال المطلوب له.

                            و(الإسلام) عقيدة تشتمل ـ وخلافاً للعقائد الإلحادية الأخرى ـ على جميع ما يُصلح الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، كما أنّها تلعب دور النظارة على جميع ذلك، فهي لا تغفل أيّة قضية ـ مهما صغرت ـ مما له صلة في تربية الإنسان والمجتمع وتحقيق التقدم المادي والمعنوي لهما، كذا فإنها تُشخص العوائق والمشكلات التي تعترض طريق التكامل الاجتماعي والفردي وتعمل على رفعها.

                            والآن، وحيث أُقيمت الجمهورية الإسلامية بتوفيق الله وتأييده وبقدرة الشعب المتدين، ولمّا كان ما تطرحه هذه الحكومة الإسلامية هو الإسلام وأحكامه السامية، فإن على الشعب الإيراني المجيد أن يسعى لتحقيق محتوى الإسلام وعلى جميع الصُعُد والعمل على حفظه وحراسته، فإن حفظ الإسلام يتصدر جميع الواجبات، وجميع الأنبياء العظام ـ من آدم (ع) حتى خاتم النبيين (ص) ـ قد قدموا في هذا السبيل أجلّ المساعي وأسمى التضحيات، لم يصرفهم عن أداء هذه الفريضة الجليلة أيّ مانع. وهكذا كان الحال مع أصحابهم الملتزمين وأئمة الإسلام (عليهم السلام) بعدهم؛ فقد بذل أولئك جهوداً مضنية بلغت حد التضحية بالأنفس من أجل حفظ الإسلام.

                            واليوم وبالإعلان رسمياً عن قيام الجمهورية الإسلامية واستقرار هذه الأمانة الإلهية في إيران وتحقق النتائج العظيمة خلال مدة قصيرة، فإن من الواجب على الشعب الإيراني خصوصاً، والمسلمين عموماً، استفراغ الجهد في حفظها والسعي لإيجاد عوامل بقائها وإزالة الموانع والعوائق من طريقها. والمؤمل أن يسطع سنا نورها على جميع الدول الإسلامية ويتحقق الانسجام بين جميع الدول والشعوب على هذا الأمر المصيري فيكفّوا ـ والى الأبد ـ أيدي القوى الكبرى والمستغلين ومجرمي التاريخ عن المظلومين والمضطهدين.

                            إنّي ـ واذ أعيش اللحظات الأخيرة من عمري ـ أستعرض للجيل الحاضر هاهنا ـ وأداءً مني للتكليف ـ شطراً من الأمور التي تساهم في حفظ هذه الوديعة الإلهية واستمرار بقائها، وشرطراً من الموانع والأخطار التي تتهددها، سائلاً الله رب العالمين التوفيق والتأييد للجميع.

                            سرُ النصر يكمن في الدافع الإلهي ووحدة الكلمة
                            ألف: لاشك أن السر واحد في بقاء الثورة الإسلامية وانتصارها، والشعب يدرك والأجيال القادمة ستقرأ في التاريخ، أنّ سرّ النصر يعتمد على ركنين أساسيين هما: الدافع الإلهي والهدف السامي في إقامة الحكومة الإسلامية من جهة، واتحاد كلمة الجماهير في جميع أنحاء البلاد من أجل ذلك الدافع والهدف من جهة أخرى.

                            لذا فإني أوصي جميع الأجيال ـ الحاضرة منها والآتية ـ أن يحرصوا ـ إذا رغبوا في إقامة الإسلام وحكومة الله، وقطع أيدي المستعمرين والمستغلين المحليين منهم والأجانب عن بلدهم ـ بعدم التفريط بهذا الدافع الإلهي الذي أوصى به الله تعالى في القرآن الكريم. وليعلموا أنّ ما يقابل هذا الدافع ـ الذي يمثل سرّ النصر والبقاء ـ هو نسيان الهدف والوقوع في التفرّق والاختلاف، فليس عبثاً تركيز الأبواق الإعلامية في جميع أنحاء العالم واتباعهم المحليّين كل جهدهم على نشر الشائعات والأكاذيب بهدف زرع الشقاق، وإنفاقها مليارات الدولارات في سبيل ذلك، وليس عبثاً أيضاً تلك الحركة الدؤوبة لأعداء الجمهورية الإسلامية في المنطقة ومشاركة بعض القادة والمسؤولين في حكومات بعض الدول الإسلامية ـ وهو الأمر المؤسف ـ ممن لا يفكرون الا بمنافعهم الشخصية وممن استسلموا لأمريكا بالكامل، مع العديد من المتلبسين بلباس علماء الدين في تلك التحركات.

                            عليه فإنّ الأمر المهم الآن وفي المستقبل ـ والذي ينبغي للشعب الإيراني وسائر المسلمين في العالم أدراكه ـ هو السعي لإفشال المخططات الإعلامية الهدامة المفرقة. لذا فإني أوصي المسلمين عموماً والإيرانيين خصوصاً ـ لا سيما في عصرنا الحاضر ـ بالتصدي لهذه المؤامرات وتقوية حالة الانسجام والوحدة لديهم بكل الطرق الممكنة ليزرعوا بذلك اليأس في قلوب الكفار والمنافقين.

                            مؤامرة القرن الكبرى
                            باء ـ من المؤامرات الخطيرة التي ظهرت بوضوح في القرن الأخير ـ خصوصاً في العقود الأخيرة منه وبالأخص بعد انتصار الثورة الإسلامية ـ الحركة الإعلامية الواسعة النطاق وذات الأبعاد المختلفة الهادفة لإشاعة اليأس والقنوط من الإسلام في أوساط الشعوب، خاصة الشعب الإيراني المضحي، فتارة يصرّح هؤلاء بسذاجة بأنّ أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمائة عام لا يمكنها إدارة الدول في العصر الحاضر، أو أن الإسلام دين رجعي يعارض كل معطيات التقدم والتمدن، أو أنه لا يمكن للدول في العصر الحاضر اعتزال الحضارة العالمية القائمة ومظاهرها، الى غير ذلك من أمثال هذه الدعايات البلهاء.

                            وتارة أخرى يعمدون ـ بخبث وشيطنة ـ الى التظاهر بالدفاع عن قدسية الإسلام، فيقولون: بأنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهية تهتمُّ بالمعنويات وتهذيب النفوس، وتحذر من طلب المقامات الدنيوية، وتدعو الى ترك الدنيا والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله، وتبعده عن الدنيا، وأن الحكومة والسياسة وإدارة الأمور تتعارض كلها مع ذلك الهدف وتلك الغاية المعنوية السامية، وهي أمور يُراد بها بناء الدنيا، الأمر المغاير لسيرة جميع الأنبياء العظام.

                            ومما يؤسف له فإنّ الجهد الإعلامي المبذول بالاتجاه الثاني ترك أثره على بعض علماء الدين والمتدينين الجاهلين بالإسلام، الى حد جعلهم يعتبرون التدخل في الحكومة والسياسة معصية وفسقاً، ولعل البعض لازال الى الآن يرى الأمر كذلك، وهي الطامة الكبرى التي ابتلي بها الإسلام.

                            وللرد على الفريق الأول لابد من القول بأنهم اما أن يكونوا جاهلين بالحكومة والقانون والسياسة، أو أنهم يتجاهلون ذلك مغرضين، فتطبيق القوانين على أساس القسط والعدل، والوقوف بوجه الظالمين والحكومات الجائرة، وبسط العدالة الفردية والاجتماعية، ومحاربة الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، وتحقيق الحرية على أساس العقل والعدل، والسعي للاستقلال والاكتفاء الذاتي، وقطع الطريق على الاستعمار والاستغلال والاستبعاد، وإقامة الحدود وإيقاع القصاص والتعزيزات طبقاً لميزان العدل للحيلولة دون فساد المجتمع وانهياره، وسياسة المجتمع وهدايته بموازين العقل والعدل والإنصاف ومئات القضايا من هذا القبيل لا تصبح قديمة بمرور الزمان عليها، وهي قاعدة سارية المفعول على مدى التاريخ البشري والحياة الاجتماعية.

                            إنّ هذا الادعاء بمثابة القول بضرورة تغيير القواعد العلمية والرياضية وإحلال قواعد أخرى محلها في العصر الحاضر، فإذا كان من الواجب تطبيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم والنهب والقتل في مستهل الحياة البشرية، فهل سيصبح هذا النهج بالياً اليوم لأننا في قرن الذرة؟

                            أمّا ادعاء معارضة الإسلام للتقدم ـ كما كان يدعي محمد رضا البهلوي المخلوع حينما كان يقول: (إنّ علماء الدين يريدون استخدام الدواب للسفر في هذا العصر) ـ فإن هذا لا يعدو مجرد تهمة سخيفة لا أكثر.

                            فإذا كان المراد من مظاهر المدنية والتقدم هو الاختراعات والابتكارات والصناعات المتطورة، التي تساهم في تقدم البشر ونمو حضاراتهم، فإن الإسلام وسائر الأديان التوحيدية الأخرى لا ولن تعارض ذلك أبداً، فالإسلام والقرآن المجيد يؤكدان على ضرورة العلم والصناعة.

                            أما إذا كان المراد من التقدم والمدنية ذلك المعنى المطروح من قبل بعض ممتهني الثقافة القائلين بالاباحية في جميع المنكرات والفواحش ـ حتى الشذوذ الجنسي وما شابه ـ فإن جميع الأديان السماوية وجميع العلماء والعقلاء يعارضون ذلك، وإن كان المأسورون للغرب أو الشرق يروجون لذلك من منطلق تقليدهم الأعمى.

                            أما الفريق الثاني، والذين يؤدون دوراً مخرباً بقولهم بفصل الإسلام عن الحكومة والسياسة، فلابد من إلفات نظر هؤلاء الجهلة بأن ما ورد من الأحكام المتعلقة بالحكومة والسياسة في القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) يفوق كثيراً ما ورد من الأحكام في سائر المجالات، بل إنّ كثيراً من أحكام الإسلام العبادية هي أحكام عبادية ـ سياسية، والغفلة عن ذلك هي التي جرت كل هذه المصائب. لقد أقام رسول الله (ص) حكومة كسائر حكومات العالم، ولكن بدافع بسط العدالة الاجتماعية، وكذلك فقد حكم الخلفاء المسلمون الأوائل بلدان مترامية الأطراف، وكذا كانت حكومة علي بن أبي طالب (ع) باعتمادها على ذلك الدافع وبشكل أوسع وأشمل وهي أمور من واضحات التاريخ. ثم توالت الحكومات باسم الإسلام، واليوم أيضاً فإن ادعياء الحكومة الإسلامية سيراً على خطى الإسلام والرسول الأكرم (ص) كثيرون للغاية.

                            وأكتفي أنا في هذه الوصية بالإشارة فقط، آملاً أن يتولى الكتّاب وعلماء الاجتماع والمؤرخون إخراج المسلمين من هذه الاشتباهات.

                            حكومة الحق من أسمى العبادات
                            أما ما قيل من أن مهمة الأنبياء (عليهم السلام) تقتصر على المعنويات، وانهم والأولياء العظام كانوا يجتنبون الحكومة وكل ما يتعلق بالدنيا، وانّ علينا أن نقتفي خطاهم، فهو خطأ يبعث على الأسف حقاً ويؤدي الى تدمير الشعوب الإسلامية وفتح الطريق أمام المستعمرين والمستغلين.

                            إن المرفوض في نهج الأنبياء (عليهم السلام) والذي حذروا منه إنما هو الحكومات الشيطانية الظالمة المستبدة التي تقوم لأجل التسلط ولدوافع دنيوية منحرفة، ولجمع المال والثروة والسعي للتسلط والتجبر، وبالنتيجة الدنيا التي تسبب غفلة الإنسان عن الله تعالى.

                            أما حكومة الحق المُقامة لأجل المستضعفين والوقوف بوجه الظلم والجور، وإقامة العدالة الاجتماعية كالحكومة التي أقامها سليمان بن داود ونبيّ الإسلام العظيم (ص) وما سعى إليه أوصياؤه العظام، فإنها من أجل الواجبات، والسعي إليها من أسمى العبادات، كما إن السياسة الصحيحة التي مارستها تلك الحكومات هي من أوجب الأمور.

                            على الشعب الإيراني اليقظ الواعي السعي لإجهاض هذه المؤامرات بالرؤية الإسلامية، وعلى الخطباء والكتّاب المتدينين أن ينهضوا لمؤازرة الشعب في قطع أيدي الشياطين المتآمرين.

                            خطر الشائعات والنقد الهدام
                            جيم ـ ومن نفس سنخ هذه المؤامرات ـ بل لعله الأكثر إيذاءً ـ الشائعات التي تنطلق على نطاق واسع ليشمل كافة أنحاء البلاد ويشتدّ في غير العاصمة من المدن الأخرى، من القول بأنّ الجمهورية الإسلامية أيضاً لم تفعل للناس شيئاً، وان الناس مساكين قدموا التضحيات بشوق ولهفة من أجل التحرر من نظام طاغوتي ظالم، ثُمّ أصبحوا ضحية نظام أسوأ، فالمستكبرون أصبحوا أشدُّ استكباراً والمستضعفون أشد استضعافاً، وأن السجون مليئة بالشبّان ـ الذين يمثلون الأمل والمستقبل للبلاد ـ وأساليب التعذيب تنوعت واشتدّت عما كانت عليه في النظام السابق، وان عدداً من الناس يُعدم كل يوم باسم الإسلام. وياليت ان اسم الإسلام لم يطلق على هذه الجمهورية، فهذا العهد أسوأ من عهد رضاخان[1] وابنه، فالناس يتخبطون في العذاب والمشقة ويعانون من غلاء الأسعار المضني، وان المسؤولين يقودون البلاد نحو نظام شيوعي، فأموال الناس تُصادَر والشعب يُسلب الحرية في كل المجالات … وكثيراً من أشباه تلك الأمور التي يبدو انها تُنفذ ضمن خطة مدروسة والدليل على وجود خطة وراء الأمر، هو أن الألسن تتناقل كل مدة أمراً واحداً بالتحديد في كل زاوية وجانب وفي كل محلة ومنطقة وفي سيارات النقل الخاص والعام، بل حتى في التجمعات الصغيرة المحدودة، الحديث واحد دوماً، وإذا استهلك طُرح أمر آخر بدلاً منه.

                            ومع بالغ الأسف فإن بعض علماء الدين الجاهلين بالحيل الشيطانية يظنون أن الحق في ذلك، وما أن يتصل بهم شخص أو شخصان من أدوات المؤامرة حتى يعتقدوا أنّ أساس القضية هو هذا.

                            إنّ العديد ممن يسمعون هذه الأمور ويصدقون بها لا اطلاع لديهم على وضع الدنيا ووضع الثورات في العالم وأحداث مرحلة ما بعد الثورة ومشكلاتها الجسيمة التي لا محيص عنها. وهم لا يمتلكون الاطلاع الصحيح على التحولات التي تقع لتنتهي لصالح الإسلام، فيستمعون لأمثال هذه الأمور ثم يقتنعون بها دون تحليل ويلتحقون بأدوات المؤامرة عن غفلة أو عمد.

                            إنني أوصي بعدم المسارعة في الانتقاد اللاذع والسب والشتم قبل مطالعة الوضع العالمي الراهن، ومقارنة الثورة الإسلامية في إيران مع سائر الثورات والإطلاع على أوضاع الدول والشعوب أثناء الثورة وما بعدها، ودراسة ما كان يجري على الناس خلال تلك الفترات، والأخذ في الحسبان مشكلات هذه الدول المنكوبة بنكبة الطاغوت رضاخان وابنه ـ الأسوأ منه ـ وما تركاه من تركةٍ ثقيلة لهذه الحكومة بدءاً بالتبعية المدمرة، وانتهاءً بأوضاع الوزارات والادارات والاقتصاد والجيش، ومراكز الفساد ومحال بيع الخمور، والانحلال السائد في جميع شؤون الحياة وأوضاع التربية والتعليم وأوضاع المدارس الثانوية والجامعات، وأوضاع دور السينما ودور البغاء، ووضع الشبّان والنساء وعلماء الدين والمتدينين وطالبي الحرية الملتزمين والنساء العفيفات المظلومات والمساجد في عهد الطاغوت، والتحقيق في ملفات المحكومين بالإعدام والسجن، ودراسة أوضاع السجون وأسلوب المسؤولين في ادارة تلك المرافق، ودراسة أحوال أصحاب رؤوس الأموال والإقطاعيين الكبار والمحتكرين والمستغلين، ودراسة أوضاع المحاكم العدلية ومحاكم الثورة، ومقارنة وضعها بوضع مثيلاتها في العهد البائد، ثم التحقيق حول أوضاع نواب مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء الحكومة والمحافظين وسائر الموظفين الذين مارسوا صلاحياتهم خلال فترة ما بعد الثورة، ومقارنة ذلك بما مضى، والتحقيق في طريقة عمل جهاز الحكومة والجهاد من أجل البناء[2] في القرى المحرومة من كل الإمكانات بما في ذلك الماء الصالح للشرب أو المستوصفات ومقارنة ذلك في العهدين، مع الأخذ بنظر الاعتبار الفترة المتاحة لكل منهما، وما ترتب من نتائج على مسألة الحرب المفروضة، من قبيل الملايين من المشردين والآلاف من عوائل الشهداء والمعاقين، مضافاً الى ملايين النازحين من الأفغان والعراقيين، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الحصار الاقتصادي والمؤامرات المتوالية من قبل أمريكا وعملائها الأجانب والمحليين. هذا علاوة على فقدان الاعداد اللازمة من المبلغين العارفين بالأمور وقضاة الشرع وأمثالهم، والمحاولات المتواصلة من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين ـ بل حتى الأصدقاء الجهلة ـ لخلق الفوضى، الى عشرات الأمور الأخرى.

                            فلترحموا هذا الإسلام الغريب الذي عاد بعد مئات السنين من ظلم الجبابرة وجهل الشعوب، طفلاً حديث العهد بالمشي، ووليداً محفوفاً بالأعداء الأجانب والمحليين.

                            فلتفكروا أنتم أيها المختلقون للاشكالات، أليس من الأفضل السعي للاصلاح والمساعدة، بدلاً من السعي في التدمير؟ ثم أليس من الأفضل التصدي لنصرة المظلومين والمضطهدين والمحرومين، بدلاً من تأييد المنافقين والظالمين والرأسماليين والمحتكرين من عديمي الانصاف الغافلين عن الله؟ أليس من الأفضل النظر الى المقتولين غيلة بدءاً من علماء الدين المظلومين وانتهاءً بالقائمين بمختلف الخدمات المتدينين، بدلاً من النظر الى الفئات المشاغبة والقتلة المفسدين ودعمهم وتأييدهم بطرقٍ غير مباشرة؟

                            إنني لم أدّعِ ـ ولست مدعياً الآن ـ بأن الإسلام العظيم مطبق بكل أبعاده في هذه الجمهورية، وأنه لا يوجد مخالفين للقوانين والضوابط ـ جهلاً أو بسبب عقدةٍ ما أو لمجرد عدم الانضباط ـ لكنني أقول ان السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تبذل جهوداً جبارة لأسلمه أجهزة الدولة، وأن الشعب بملايينه يؤيدها ويدعمها. ولو أن تلك القلة المثيرة للاشكالات والتحبيطات بادرت الى المساعدة، لأصبحت إمكانية تحقق تلك الآمال أسهل وأسرع، أما إذا لم يثُب اولئك الى رشدهم ـ لا سمح الله ـ فإن الشعب المليوني اليقظ الواعي المتأهب سينطلق لتحقيق هذه الآمال الإنسانية الإسلامية بشكل مذهل ـ بحول الله ـ وحينها لن يستطيع أولو الافهام المنحرفة من المثيرين للاشكالات الصمود أمام هذا السيل الهادر.

                            مفخرة للشعب الإيراني المسلم
                            إنني أدّعي وبجرأة بأن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في عصرنا الحاضر أفضل من شعب الحجاز الذي عاصر رسول الله (ص) ومن شعب الكوفة والعراق المعاصرين لأمير المؤمنين والحسين بن علي (عليهما السلام)، فمسلمو الحجاز لم يطيعوا رسول الله (ص) وتخلفوا عن جبهات الحرب بذرائع مختلفة حتى وبخهم الله تعالى بآيات من سورة التوبة وتوعدهم العذاب… وكم رموا الرسول (ص) بالأكاذيب حتى انه لعنهم من على المنبر ـ على ما نقلت الروايات ـ.

                            أما أهل العراق والكوفة فلكثر ما أساءوا الى أمير المؤمنين (ع) وتمردوا عليه، حتى صارت كتب الأخبار والسير تضج بشكاواه منهم، كذلك فإنهم وقفوا مع سيد الشهداء (ع) بين متردد عن الاقدام على الشهادة بين يديه، وبين هارب من المعركة أو قاعد عن القتال حتى وقعت بحقه (ع) تلك الجريمة التاريخية النكراء، في حين اننا نرى اليوم ان الشعب الإيراني بكل فئاته ـ بدءاً بالقوى المسلحة النظامية وشبه النظامية وحرس الثورة وقوات التعبئة، مروراً بالقوى الشعبية من العشائر والمتطوعين والقوى المرابطة في جبهات القتال وخلفها ـ يقدمون التضحيات بكل شوق ولهفة ويسطرون أعظم الملاحم، ناهيك عما تقدمه الجماهير الكريمة من معونات قيمة في جميع أنحاء البلاد، وما يُرى من التفاؤل على وجوه المعوقين وذويهم وعوائل الشهداء مما يبعث على الحماس، وما يطلقونه من مقولات وما يفعلونه من أعمال ملؤها الشوق والاطمئنان دافعهم الى ذلك كله عشقهم وحبهم وإيمانهم المطلق بالله تعالى وبالإسلام والحياة الأبدية، والحال انهم ليسوا في محضر رسول الله (ص) المبارك ولا في محضر الإمام المعصوم (صلوات الله عليه)، ليس لهم من دافع في ذلك سوى الإيمان بالغيب والاطمئنان له، وهذا هو سر التوفيق والنصر في ابعادهما المختلفة.

                            والإسلام يفتخر انه انشأ كهؤلاء الأبناء، كما اننا فخورون بأننا في عصر كهذا العصر وفي محضر شعب كهذا الشعب.

                            نصيحة مشفقة للمعارضين
                            وإن لي هنا وصية الى معارضي الجمهورية الإسلامية ـ على اختلاف دوافعهم ـ والى الشبان ـ فتية وفتيات ـ ممن تعرضوا لاستغلال المنافقين والمنحرفين والانتهازيين والنفعيين، وهي أن يتفكروا بوضعية وحرية في دعايات أولئك الساعين لاسقاط الجمهورية الإسلامية وفي ممارساتهم وسلوكياتهم مع الجماهير المحرومة من جهة، ومن جهة أخرى في الفئات والدول التي ساندتهم ـ ولا تزال ـ والمجاميع والأشخاص المرتبطين بهم والداعمين لهم في الداخل، وفي أخلاقهم وسلوكياتهم فيما بينهم ومع مؤيديهم، وفي التبدلات التي تتعرض لها مواقفهم أثناء المستجدات المختلفة، وليبحثوا في ذلك بدقة وبعيداً عن هوى النفس. ثم ليتأملوا في أوضاع أولئك المستشهدين في الجمهورية الإسلامية على أيدي المنافقين والمنحرفين، وليقارنوا بينهم وبين أعدائهم، فأشرطة تسجيل وصايا وأحاديث هؤلاء الشهداء متوفرة نسبياً، ولعل أشرطة تسجيل أحاديث معارضيهم في متناول أيديهم … فلينظروا أي فريق يناصر المحرومين والمظلومين من أبناء المجتمع؟!

                            أيها الاخوة … إنكم لن تقرؤا هذه الوريقات قبل وفاتي، بل قد تقرؤونها بعد وفاتي وآنذاك لن أكون بينكم حتى يقال ان هدفي هو التأثير على قلوبكم الفتية واستمالتها لصالحي أو الاستحواذ عليها كسباً لموقع أو سلطة ما. فانني انما أرغب في ان تسخروا شبابكم ـ ما دمتم شباناً لائقين ـ في سبيل الله والإسلام العزيز والجمهورية الإسلامية لتفوزوا بسعادة الدارين.

                            أسأل الله الغفور أن يهديكم الى طريق الإنسانية القويم وأن يعفو عما أسلفنا واسلفتم، برحمته الواسعة، ولتسألوا الله أنتم ذلك في الخلوات فهو الهادي وهو الرحمن.

                            وصية للشعوب
                            كما إن لي وصية الى الشعب الإيراني المجيد وسائر الشعوب المبتلاة بالحكومات الفاسدة والأسيرة للقوى الكبرى.

                            أما الشعب الإيراني العزيز فأوصيه أن يعتبر النعمة ـ التي حصل عليها بجهاده العظيم ودماء شبانه الراشدين ـ كأعز ما لديه وان يسعى للمحافظة عليها وحراستها وبذل الوسع في سبيل هذه النعمة الإلهية العظيمة والأمانة الربانية الكبيرة، وعلى أبنائه أن لا يخافوا من المشكلات التي تواجههم في هذا الصراط المستقيم {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

                            كونوا أعواناً لحكومة الجمهورية الإسلامية في مواجهة المشكلات، ابذلوا غاية وسعكم لتجاوز العقبات واعتبروا الحكومة والمجلس منكم وحافظوا عليهما كما تحافظون على محبوب عزيز.

                            كما أوصي المجلس والحكومة وكل المعنيين أن يقدروا هذا الشعب حق قدره، وأن لا يقصروا في خدمته خصوصاً المستضعفين والمحرومين والمظلومين، الذين هم بمثابة النور لعيوننا والأولياء لنعمتنا، فالجمهورية الإسلامية تحققت على أيديهم ونتيجة لتضحياتهم وبقاؤها ومرهون بخدماتهم.

                            اعتبروا أنفسكم من الناس واعتبروا الناس منكم وارفضوا دوماً الحكومات الطاغوتية، التي لا عقل ولا ثقافة ولا منطق لديها سوى البطش … وطبيعي أن كل ذلك لا يكون إلا بالممارسات الإنسانية التي تليق بحكومة إسلامية.

                            أما وصيتي الى الشعوب الإسلامية، فهي أن يجعلوا حكومة الجمهورية الإسلامية وشعب إيران المجاهد قدوة لهم، وإذا لم تستجب حكوماتهم الجائرة لإرادتهم ـ المماثلة لارادة الشعب الإيراني ـ فليهبّوا بكل قوة لإيقافها عند حدّها، ذلك لأن أساس شقاء المسلمين هو الحكومات العميلة للشرق أو الغرب.

                            كما أوصيهم ـ مؤكداً ـ أن لا يستمعوا الى الأبواق الإعلامية لأعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية، فجميع أولئك جاهدون لإخراج الإسلام من الواقع حفاظاً على مصالح القوى الكبرى.

                            مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
                            دال: من المخططات الشيطانية التي عملت القوى الاستعمارية الناهبة الكبرى منذ سنوات متمادية على تنفيذها ـ والتي بلغت ذروتها في ايران إبان عهد رضاخان وتواصل العمل على تحقيقها في عهد محمد رضا وبأساليب مختلفة ـ مخطط ازواء الروحانية الذي نُفّذ في عهد رضاخان من خلال ممارسة الضغوط والتنكيل ومحاربة الزي الروحاني، والسجن والنفي والاضطهاد والإعدام وأمثال ذلك، ومن خلال إيجاد العداء بين الروحانيين والجامعيين في عهد محمد رضا، فقد شُنت في عهد حكومته الأخيرة حملات إعلامية واسعة النطاق في هذا المجال، حققت ـ وللأسف ـ نتائج ملحوظة بسبب جهل الطرفين بإبعاد هذه المؤامرة الشيطانية المدعومة من قبل الدول الكبرى.

                            فمن جهة حرص المسؤولون آنذاك على تعيين المعلمين والمدرسين والأساتذة ورؤساء الجامعات من بين المنبهرين بالغرب أو الشرق ومن المنحرفين عن الإسلام وسائر الأديان والاقلال من عدد المتدينين والمؤمنين لكي يُصار الى زيادة تأثير الشريحة الأقوى في العملية التربوية فيقومون بتربية من يُحتمل تصديهم للأمور مستقبلاً ـ ومنذ الطفولة ـ بطريقة تجعلهم يشمئزون من الأديان ومن الإسلام ومن المبلغين وعلماء الدين خصوصاً ممن كانوا يوصفون في ذلك الوقت بالعمالة للانجليز والتحالف مع التجار والاقطاعيين وبالرجعية والمخالفة للرقي والتمدن.

                            ومن جهة أخرى زرعوا ـ وعبر إعلامهم السوء ـ الخوف في نفوس الروحانيين والمبلغين والمتدينين من الجامعة والجامعيين حتى جعلوهم يتهمون جميع اولئك بالتحلل وعدم التدين، ومعارضة المظاهر الإسلامية والأديان. فكانت النتيجة أن أصبح رجال الدولة يعارضون الأديان والإسلام وعلمائه والمتدينين من جهة، وأصبحت جماهير الشعب ـ المحبة للدين ولعلمائه ـ معارضة للدولة والحكومة وكل ما يرتبط بها، مما خلق اختلافاً عميقاً بين الحكومة والشعب والجامعيين والروحانيين، فتح الطريق أمام الناهبين الى درجة صيرت جميع مقدرات البلد تحت سيطرتهم، وأفرغت جميع ثروات الشعب في جيوبهم، وقد رأيتم ما حل بهذا الشعب المظلوم، وما كان ينتظره من مصير.

                            الحوزة والجامعة هما العقل المدبّر للأمة
                            والآن وبعد أن تحطمت الأغلال وكُسر طوق سلطة القوى الكبرى وأُنقذت البلاد من أيديهم وأيدي عملائهم ـ بارادة الله وجهاد الشعب بكل فئاته من طلبة علوم دينية الى طلبة جامعات والى كسبة وعمال وفلاحين ـ فإني أُوصي هذا الجيل والأجيال القادمة باليقظة، كما أوصي الجامعيين والشبّان الراشدين الأعزاء أن يبذلوا غاية وسعهم لجعل عقد المحبة والانسجام مع علماء الدين وطلاب العلوم الإسلامية أكثر استحكاماً، وأن لا يغفلوا عن مخططات ومؤامرات العدو الغادر، وليبادروا ـ وبمجرد رؤيتهم لشخصٍ أو أشخاص ممن يهدفون من خلال أقوالهم أو ممارساتهم الى بذر بذور النفاق بينهم ـ الى إرشادهم ونصحهم، فإن لم يرعووا فليعرضوا عنهم وليفرضوا عليهم العزلة لتطويق المؤامرة ومنعها من التجذّر، فإنها ـ أن أتيحت لها الفرصة ـ سرعان ما تتمكن من العثور على نبع يسقيها.

                            ويتأكد هذا الأمر بالنسبة للأساتذة فإن وجد بينهم من يهدف الى ايجاد الانحراف فليرشدوه، وإن لم يستجب فلينبذوه وليطردوه حتى من قاعة درسه، وهذه الوصية موجهة أيضاً الى الروحانيين وطلاب العلوم الدينية وبنسبة أكبر. ولابدّ من القول هنا بأن المؤامرات التي تحاك في الجامعات تمتاز بعمقها الخاص، لذا وجب على جميع الفئات المحترمة ـ ممن تمثل عقل المجتمع المفكر ـ أن تحذر تلك المؤامرات.

                            مصيبة التبعية للشرق والغرب
                            هاء ـ من جملة المخططات التي تركت ـ وللأسف ـ أثرها الكبير في مختلف البلدان وفي بلدنا العزيز ـ والتي ما زالت بعض آثارها باقية بنسب كبيرة ـ هي جعل الدول المستعمرة تعيش حالة فقدان الهوية والانبهار بالغرب والشرق، والى درجة تجعل هذه البلدان تحتقر مواضيها وثقافاتها وقدراتها وتعتبر الغرب والشرق القطبين المقتدرين والعنصرين المتفوقين اولي الثقافة الأسمى وأنهما قبلة العالم، وتجعل من الارتباط بأحدهما أمراً مفروضاً لا يمكن الفرار منه. والحديث حول هذه المؤامرات حديث محزن وطويل والضربات التي تلقيناها ـ ومازلنا ـ من هؤلاء المستكبرين قاتلة ومدمرة.

                            والأشد إيلاماً من كل ذلك هو حرص أولئك على إبقاء الشعوب المظلومة المستعمرة متخلفة في كل شيء وجعل دولهم دولاً استهلاكية، فقد أذعرونا من تقدمهم ومن قدراتهم الشيطانية إلى حد سلبنا الجرأة على المبادرة بالقيام بأي إبداع ودفعنا للتسليم لهم في كل الأمور وتفويضهم مصائرنا والانصياع لأوامرهم انصياعاً أعمى وأصم. وهذا الخواء والفراغ العقلي المفتعل جعلنا لا نعتمد على فكرنا وابداعنا في أي أمر ونقلد الشرق والغرب تقليداً أعمى، بل أن الأمر بلغ حداً جعل الكتّاب والخطباء الجهلة المأسورين للغرب أو الشرق يتناولون بالانتقاد والسخرية ويدمرون كل ما لدينا من الثقافة والأدب والصناعة والابداع للقضاء على فكرنا وامكاناتنا الذاتية وزرع اليأس والقنوط لدينا، مروجين ـ بدلاً من ذلك ـ للعادات والتقاليد الأجنبية ـ رغم انحطاطها وابتذالها ـ وذلك بالقول والكتابة والسلوك العلمي. فقد مارسوا نشر ذلك بين الشعوب بامتداحه والثناء عليه، وعلى سبيل المثال، فانهم يستقبلون أي كتاب أو مقالة أو خطاب إذا انطوى على بضعة مفردات أجنبية بالإعجاب دون النظر في محتواه، ويعتبرون الخطيب أو الكاتب عالماً ومثقفاً. ولو القينا نظرة على جميع أمورنا من أبسطها حتى أعقدها لوجدنا ان كل ما أطلق عليه اسم غربي أو شرقي فهو مرغوب ومطلوب ويعدُّ من مظاهر التمدن، في حين انه إذا سمّي باسم داخلي أو محلي صار مرفوضاً وقديماً ومتخلفاً. فأطفالنا يصبحون مورداً للفخر والعزة بأسمائهم الغربية، في حين عليهم أن يخجلوا ويوسموا بالتخلف إذا كانت أسماؤهم محلية..

                            الشوارع، الأزقة، المحلات، الشركات، الصيدليات، المكتبات العامة، الأقمشة وسائر البضائع لابد وأن تحمل أسماءً أجنبية حتى تنال رضى الناس واقبالهم، حتى وان كانت محلية ومصنوعة في الداخل.

                            فالتفرنج من قمة الرأس الى أخمص القدمين وفي جميع المجالات من جلوس وقيام وعلاقات اجتماعية مدعاة للفخر والاعتزاز ودليل على الرقي والتمدن، في حين ان العادات والتقاليد المحلية، رجعية وتخلف.

                            عند الابتلاء بمرض أو الاصابة بوعكة صحية ـ وان كانت بسيطة ومما يمكن علاجه في الداخل ـ لابد وأن تدفع صاحبها للسفر الى الخارج وإشعار اطبائنا وعلمائنا بالاحباط والخذلان.

                            الذهاب الى إنجلترا وفرنسا وأمريكا وموسكو مفخرة عظيمة في حين أن الذهاب الى الحج وسائر الأماكن المباركة رجعية وتخلف، وعدم احترام كل ما يمتّ الى الدين والمعنويات بصلة من علائم التقدمية والتمدن والالتزام بها من علائم التخلف والرجعية.

                            ولست أقول هنا بامتلاكنا كل شيء، فمعلوم أنهم حرمونا طوال فترة التاريخ الحديث، وخصوصاً في القرون الأخيرة من كل تقدم، كما أن رجال الحكم الخونة وأسرة البهلوي على الخصوص، والمراكز الدعائية التي تطبل لإجهاض كل ما هو من إنجازنا، مضافاً الى ما نحمله من عقدة الحقارة والصغار والإحساس بالعجز كل ذلك منعنا من القيام بأية فعالية في سبيل التقدم، فاستيراد البضائع من جميع الأنواع، وإشغال النساء والرجال ـ خصوصاً الشبّان ـ بأنواع السلع المستوردة كأدوات التجميل والزينة والكماليات ولعب الأطفال، وجرّ الأسر الى التنافس فيما بينها ورفع مستوى الشراء الاستهلاكي .. وغير ذلك مما ينطوي على حكايات محزنة وإلهاء الشبّان وإفسادهم ـ وهم القوة الفاعلة في الجميع ـ عبر تكثير مراكز الفحشاء ودور البغاء وعشرات من هذه المصائب المدروسة ساهمت في إبقاء دولنا متخلفة.

                            الاعتماد على الخبرات المحلية
                            وهنا أوصي الشعب العزيز بتواضع وإخلاص بأن ينهض ـ وبارادة صلبة وبفعالية ومثابرة على العمل ـ في سبيل رفع أنواع التبعية، فأنتم ترون كيف تم التخلص ـ والى مدى بعيد ـ من كثير من هذه المصائد، وكيف أن الجيل الحاضر المحروم قد هبّ للعمل والابداع، فاستطاع تشغيل وإدارة الكثير من المصانع والأجهزة المتطورة كالطائرات وغيرها مما لم يكن متصوراً قدرة المتخصصين الإيرانيين على تشغيلها، ومما كان يدفعنا الى مد أيدينا الى الشرق أو الغرب للاستعانة بخبرائهم. كذلك ونتيجة للحصار الاقتصادي والحرب المفروضة رأينا كيف تمكن أبناؤنا من تصنيع قطع الغيار اللازمة وعرضها بأسعار زهيدة مما ساهم في سد الحاجة المحلية وأثبت قدرتنا على أي عمل بمجرد إرادته.

                            لذا عليكم أن تكونوا يقظين واعين حذرين من ممتهني السياسة من عملاء الغرب والشرق خشية أن تؤدي وسوساتهم الشيطانية لدفعكم نحو الناهبين الدوليين. ولتعلموا بأن الإيرانيين والعرب، لا يقلون كفاءة عن الأوربيين والأمريكان والسوفيت، فإنهم ان استطاعوا العثور على هويتهم وتخلصوا من شعور اليأس واعتمدوا على أنفسهم فقط، فإنهم قادرون على القيام بأي عمل، وعلى صناعة ما يشاؤون، وما تمكن أولئك من تحقيقه فإنكم قادرون على تحقيقه شريطة الاتكال على الله، والاعتماد على النفس والتخلص من قيود التبعية للغير وتحمل الصعوبات من أجل بلوغ الحياة الشريفة والخروج من تحت سلطة الأجانب.

                            على الحكومة والمسؤولين ـ سواء في الجيل الحاضر أم في الأجيال القادمة ـ أن يقدروا متخصصيهم ويشجعوهم على مواصلة العمل، وذلك بالبذل المادي والمعنوي وأن يحولوا دون استيراد السلع الاستهلاكية المدمرة ويتكيفوا بالموجود عندهم إلى أن يتمكنوا من صنع كل ما يحتاجونه بأنفسهم. كما وأطلب من الشبّان ـ فتية وفتيات ـ أن لا يضحوا ـ وان تطلب الأمر تحمل المشقة والعناء ـ بالاستقلال والحرية والقيم الإنسانية في سبيل السلع الكمالية والاختلاط وأنواع التحلل وفي سبيل الحضور في مراكز الفحشاء التي يقيّضها لهم الغرب وعملاؤه الخونة، فقد ثبت أن أولئك لا يفكرون بغير إفسادكم وإغفالكم عن مصير بلدكم لنهب ثرواتكم وجركم بقيد الاستعمار وعار التبعية، وجعل شعبكم وبلدكم مستهلكين فقط. فهم يريدون بتلك الأساليب وأمثالها إبقاءكم متخلفين ونصف متوحشين ـ على حد تعبيرهم ـ .

                            تابع .. مؤامرة افساد الجامعات


                            --------------------------------------------------------------------------------

                            [1] هو رجل قاس متجبّر أسّس في إيران حكومة ملكية عام 1924م، التحق بالمجموعات المسلّحة الشقية المتجبرة وهو في الرابعة عشر من عمره، وسرعان ما بلغ أعلى مستويات القيادة لهذه المجموعات بسبب قساوة قلبه وتهوّره، فلفت انتباه البريطانيين واهتمامهم، وبما أنهم كانوا يسعون إلى إيجاد حكومة قوية في إيران تحفظ مصالحهم، فقد وجدوا فيه ضالتهم المنشودة. وبالفعل فقد استطاع وبمساعدة الانجليز أن ينهي حكم "القاجار" وأن يتربع على العرش الملكي مدة ستة عشر عاماً، وعندما شاهد التقدم السريع لجيش هتلر، وسقوط الدولة الأوربية واستسلامها، بهت بذلك، ومدّ يده لهتلر طمعاً في أن يكون النصر حليفه. لكن دول الحلفاء اجتاحوا إيران، وعزلوا رضاخان، ونقلوه بسفينة بريطانية إلى منفاه في جزيرة "موريس" شرق إفريقيا، ثم إلى "جوهانسبرغ" جنوبي أفريقيا، إلى أن مات فيها عام 1944م.

                            [2] قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان القليل من أبناء الشعب الإيراني المسلم ينعمون بالراحة والرفاهية، أما الأكثرية ـ وخاصة سكّان القرى والارياف ـ فقد كانوا يعيشون في عناء وتعب وفقر دائم.

                            وبعد انتصار الثورة الإسلامية التي هدفت لرفع الظلم ومساعدة المحرومين والمستضعفين ونشر سلطة العدل، لذا فقد وجّه الإمام الخميني وفي الأيام الأولى للإنتصار نداءً إلى الشعب الإيراني المسلم طلب منه المساهمة بفعالية في ثورة البناء والاعمار، وبناءً على ذلك أسست مؤسسة ثورية سمّيت "جهاد البناء" وبدأت نشاطها في المناطق المحرومة، وتوجهت من خلالها أمواج الناس ـ وخاصة الشبّان والجامعيون ـ إلى القرى والمناطق المحرومة، وقدموا هناك خدمات جليلة طلباً لرضا الله في خدمة خلقه.

                            تعليق


                            • #15
                              مؤامرة إفساد الجامعات

                              ومن مؤامراتهم الكبرى ـ كما أشرت الى ذلك مراراً ـ السعي للسيطرة على مراكز التربية والتعليم وخصوصاً الجامعات، ذلك لأن مقدرات الدول بأيدي خريجها.

                              وأسلوبهم في التعامل مع الروحانيين ومدارس العلوم الإسلامية يختلف عنه فيما يتعلق بالجامعات والاعداديات، فهم في الحالة الأولى يؤكدون على إزاحة الروحانيين عن الطريق، وعزلهم إما بالقمع والعنف والإهانة، كما حصل في عهد رضا خان ـ وإن كانت نتائجه عكسية ـ وإما بالدعايات والتهم والخطط الشيطانية للفصل بينهم وبين الطبقة المتعلمة والمثقفة ـ كما يصطلح عليها ـ كما حصل في عهد رضا خان مقترناً بالضغط والقمع، وفي عهد محمد رضا مجرداً عن العنف وبطريقة أخرى اشد إيذاءً.

                              أما في الجامعة، فإن خطتهم تقضي بحرف الشبان عن ثقافتهم وآدابهم وقيمهم المحلية، وجرّهم نحو الشرق أو الغرب، واختيار المسؤولين الحكوميين من بين هؤلاء وتحكيمهم بمصائر البلدان لينفّذوا بواسطتهم كل ما يريدون. فهم ينهبون البلدان ويجرّونها نحو الأسر للغرب دون أن يكون بمقدور الروحانيين الحيلولة دون ذلك، فهم قد ساهموا في عزلهم وتنفير الناس منهم وإحباطهم. وهذا هو الطريق الأفضل لنهب البلدان المستعمرة وإبقائها متخلفة، فهو يؤدي إلى إفراغ كل شيء في جيوب الدول الكبرى دون عناء أو كلفة، ودون إثارة أيّة ضجة في الأوساط الوطنية.

                              لذا فإن من اللازم علينا جميعاً الآن ـ وحيث تنصبُّ الجهود على إصلاح وتطهير الجامعات والمعاهد التعليمية ـ مساعدة المسؤولين في ذلك للحيلولة ـ والى الأبد ـ دون انحراف الجامعات والسعي لمعالجة أيّ انحراف يلوح بحركة سريعة، ولابدّ من تحقيق هذا الأمر الحيوي على يد شبان الجامعات والمعاهد التعليمية ابتداءً. فإن نجاة الجامعة من الانحراف يعني نجاة البلد والشعب.

                              إنني أوصي جميع الفتية والشبّان وآبائهم وأمهاتهم ومحبيهم أولاً، ثم رجال الدولة المثقفين الحريصين على مصالح البلد ثانياً، أن يبادروا جميعاً الى بذل الجهود الجهيدة في هذا المجال الذي يستتبع حفظ البلاد من الأذى، ثم تسليم أمانة حفظ الجامعات الى الجيل القادم.

                              كما أوصي الأجيال اللاحقة أن يجهدوا في حفظ الجامعات وصيانتها من الانحراف أو الميل إلى الغرب والشرق فإن في ذلك نجاتهم ونجاة بلدهم العزيز والإسلام ـ صانع الانسان ـ وليعلموا أنهم بعملهم الإنساني والإسلامي هذا إنما يقطعون أيدي القوى الكبرى عن بلادهم ويفقدونها الأمل نهائياً.. حفظكم الله وأعانكم.

                              انتخبوا نواباً متدينين
                              زاء ـ من الأمور الضرورية أيضاً، تدين نواب مجلس الشورى الاسلامي، فقد رأينا جميعاً أيٌة إضرار محزنة لحقت بالإسلام وبإيران نتيجة عدم صلاحية مجلس الشورى وانحرافه منذ الفترة التي تلت النهضة الدستورية[1] وحتى عهد النظام البهلوي المجرم، والتي كان سواها وأخطرها عهد ذلك النظام الفاسد المفروض. يالها من مصائب وخسائر مدمرة حلت بالبلاد والشعب على أيدي هؤلاء العبيد التافهين المجرمين.

                              لقد أدى وجود أكثرية مصطنعة مقابل أقلية مظلومة خلال الخمسين عاماً الأخيرة ـ من العهد البائد ـ إلى تمكن إنجلترا والاتحاد السوفيتي وأمريكا بعد ذلك من تمرير كل ما أرادوه على أيدي هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله مما جر البلاد الى حافة الدمار والانهيار. فمنذ ما تلا الحركة الدستورية لم يطبق شيء تقريباً من مواد الدستور الأساسية، وقد تم ذلك قبل عهد رضا خان عبر المأمورين للغرب وحفنة من الباشوات والإقطاعيين، وعبر النظام السفاك وحواشي البلاط وأزلامه في عهد النظام البهلوي.

                              أما الآن، وحيث أصبح مصير البلاد ـ وبلطف الله وعنايته وهمة الشعب العظيم ـ بأيد المواطنين أنفسهم، حيث اصبح النواب منبثقين من سواد الجماهير يتم انتخابهم لمجلس الشورى الإسلامي دون تدخل الحكومة أو الباشوات، فإن المؤمل أن يحول التزامهم بالاسلام وحرصهم على مصالح البلاد دون وقوع أي انحراف.

                              لذا فإني أوصي أبناء الشعب أن يصوتوا في كل دورة انتخابية ـ حاضراً ومستقبلاً ـ لصالح المرشحين الملتزمين بالإسلام والجمهورية الإسلامية انطلاقاً من إرادتهم الصلبة والتزامهم بأحكام الإسلام وحرصهم على مصالح البلاد.

                              ولا شك أن مثل هؤلاء المرشحين يكونوا غالباً من الطبقات الاجتماعية الوسطى ومن بين المحرومين غير المنحرفين عن الصراط المستقيم نحو الغرب أو الشرق، ومن غير الميالين نحو المدارس العقائدية المنحرفة، ومن المتعلمين المطلعين على مجريات الامور المعاصرة والسياسات الإسلامية.

                              على العلماء أن لا يعتزلوا المجتمع
                              وأوصي العلماء المحترمين ـ لا سيما المراجع العظام ـ أن لا يعتزلوا قضايا المجتمع، خصوصاً عند انتخاب رئيس الجمهورية أو نواب المجلس، وأن لا يكونوا غير مكترثين بهذه الأمور. فكلكم رأيتم ـ والأجيال اللاحقة ستسمع بذلك ـ كيف قام ممتهنو السياسة من عملاء الشرق والغرب بعزل الروحانيين الذين وضعوا الحجر الأساس للملكية الدستورية بعد أن تحملوا المشاق والمعاناة، وكيف أن الروحانيين أيضاً ابتلعوا الطعم الذي ألقاه لهم ممتهنو السياسة فظنوا ان التدخل في أمور البلاد والمسلمين مما لا يليق بمقامهم، فانسحبوا من الميدان تاركين إياه للمأسورين للغرب، الأمر الذي الحق بالحركة الدستورية والدستور والبلاد والإسلام ما يحتاج جبرانه إلى زمن طويل.

                              والآن وبعد أن أزيلت الموانع بحمد الله تعالى، وتوفرت الأجواء الحرة المناسبة لمشاركة جميع الشرائح الاجتماعية لم يبق من عذر، والتساهل بأي أمر من أمور المسلمين من الذنوب الكبيرة التي لا تغتفر.

                              فعلى كل امرءٍ أن يسعى ـ وبمقدار استطاعته وبماله من التأثير في خدمة الإسلام والوطن وأن يحول بجد ـ دون نفوذ عملاء القطبين المستعمرين، والمنبهرين بالغرب أو الشرق والمنحرفين عن نهج الإسلام العظيم.

                              وليعلم الجميع بأن أعداء الإسلام والدول الإسلامية المتمثلين بالقوى الناهبة الدولية الكبرى إنما يتغلغون في بلداننا والبلدان الإسلامية الأخرى بخفة ومهارة ليوقعوا تلك البلدان في شباك الاستعمار مستغلين أبناء شعوب تلك البلدان ذاتها.

                              كونوا يقظين، راقبوا بحذر، وما أن تشعروا بأول خطوة تغلغل هبوا للمواجه ولا تمهلوهم، والله معينكم وهو حافظكم.

                              النواب صيانة الدستور[2]
                              أطالب ممثلي مجلس الشورى الإسلامي ـ في هذا العصر والعصور الآتية ـ أن يصرّوا على عدم قبول أوراق اعتماد العناصرالمنحرفة التي تتمكن في وقت ما من فرض تمثيلها على الناس بالدسائس والألاعيب السياسية، وأن يحولوا دون وصول حتى عنصر مخرب عميل واحد إلى المجلس.

                              كما أوصي الأقليات الدينية المعترف بها رسمياً[3] أن يأخذوا العبرة من الدورات الانتخابية التي جرت في عهد النظام البهلوي، وأن يحرصوا على انتخاب ممثليهم الملتزمين بأديانهم وبالجمهورية الإسلامية، غير المرتبطين بالقوى الإستعمارية، وغير الميالة للمدارس الإلحادية المنحرفة والإلتقاطية.

                              واطلب من جميع النواب أن يتعاملوا فيما بينهم بحسن النية والاخوة، وليسعوا جميعاً الى أن لا تسن القوانين المنحرفة عن الإسلام ـ لا سمح الله ـ وليكونوا جميعاً أوفياء للاسلام ولأحكامه السماوية، سعياً في نيل سعادة الدنيا والآخرة.

                              كما أطالب أعضاء صيانة الدستور المحترمين وأوصيهم ـ سواء في هذا الجيل أم الاجيال القادمة ـ أن يحرصوا على أداء واجباتهم الإسلامية والوطنية بكل دقة وحزم، وان يحاذروا من الوقوع تحت تأثير أية سلطة، وأن يحولوا دون سن القوانين المخالفة للشرع المطهر والدستور، دون الأخذ بنظر الاعتبار أية اعتبارات أخرى، وأن ينتبهوا إلى مصالح البلاد التي يجب أن تتحقق عبر الأحكام الثانوية تارة، أو عبر ولاية الفقيه[4] تارة أخرى.

                              المشاركة في الانتخابات تكليف الهي
                              وأوصي الشعب المجيد بأن يسجل حضوراً فاعلاً في جميع الانتخابات، سواء انتخابات رئاسة الجمهورية أو انتخابات الخبراء[5] لتعيين شورى القيادة أو القائد،[6] وعليهم أن يحرصوا على إتمام عملية الاقتراع وفق الضوابط المعتبرة. فمثلاً في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد عليهم أن ينتبهوا جيداً، فإذا تم تجاوز الموازين الشرعية والقانون في انتخاب الخبراء وحصل تساهل ما في ذلك، فمن الممكن أن يتعرض الإسلام والبلاد إلى خسائر لا يمكن جبرانها، وحينها سنكون الجميع مسؤولين أمام الله تعالى.

                              على هذا الأساس، فإن عدم مشاركة الشعب ـ بمراجعه وعلمائه العظام وتجّاره وكسبته وفلاحيه وعماله وموظفيه ـ يحمل الجميع المسؤولية عن مصير البلاد والإسلام، سواءٌ بالنسبة لهذا الجيل أم الأجيال القادمة. وقد يكون التساهل وعدم المشاركة في بعض الظروف ذنباً من أكبر الكبائر.

                              لذا وجب علاج المسألة قبل وقوعها، وإلا فلن يكون بوسع أحد أن يفعل شيئاً، وهي حقيقة لمستموها ولمسناها بعد الحركة الدستورية. فليس من علاج أفضل من قيام أبناء الشعب وفي مختلف أنحاء البلاد بأداء تكليفهم وفق الضوابط الإسلاميّة ومواد الدستور، كذا فإن عليهم ـ في انتخابات رئاسة الجمهوريّة أو مجلس الشورى ـ مشاورة الطبقة المتعلمة المثقفة المطّلعة على مجاري الامور والمعرفة بالتقوى والالتزام بالإسلام وبنظام الجمهوريّة الإسلامية والعلماء الروحانيين المتّقين الملتزمين بالجمهورية الإسلاميّة، وامثالهم ممن لا ارتباط لهم بالدولة القوية المستعمِرة.

                              ليحرص الجميع عند اختيار رئيس الجمهوريّة ونواب المجلس على أن يكونوا ممن لمسوا حرمان المستضعفين والمجتمع ومظلوميتهم، وممن يعتزمون تحقيق الرفاهية لأبناء الشعب. اولئك التجار والإقطاعيين من الساعين للوجاهة والشهرة، المرفهين الغارقين في الملذات والشهوات غير القادرين على إدراك مرارة الحرمان ومعاناة الجائعين والحفاة.

                              وعلينا أن نعلم أنَّ رئيس الجمهوريّة وممثلي المجلس إذا كانوا لائقين ملتزمين بالإسلام متحمسين لخير البلاد والشعب، فإنّ ذلك سيمنع من ظهور الكثير من المشكلات ويحلُّ الكثير منها إن وجد. وكذا هو الأمر في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة ـ والقائد بالأخص ـ فإذا تمَّ انتخاب هؤلاء من قبل أبناء الشعب بدقة متناهية أو باستشارة مراجع العصر العظام والعلماء الأعلام في جميع أنحاء البلاد والمتدينين والمفكرين الملتزمين، فإنّ ذلك سيؤدٍي إلى تفادي الكثير من المشاكل والمعضلات أو حلها بسهولة، بناءً على ما تمَّ تحقيقه من اختيار لأكثر الأشخاص التزاماً ولياقةً للقيادة أو شورى القيادة.

                              ومع الأخذ بنظر الاعتبار المادة التاسعة بعد المائة[7] والعاشرة بعد المائة[8] من الدستور يتضح مدى جسامة مسؤولية الشعب في اختيار الخبراء، ومسؤولية الخبراء في تعيين القائد أو شورى القيادة، فأقل تساهل في الاختيار سيلحق ايّما ضررٍ بالإسلام والبلاد والجمهوريّة الإسلاميّة، وان احتمال هذا الضرر ـ وهو امر في غاية الاهمية ـ يمكن أن يرتّب عليها تكليفاً الهياً.

                              إلى القائد وشورى القيادة
                              اوصي القائد أو شورى القيادة في عصر هجمة القوى الكبرى وعملائها ـ في داخل البلاد وخارجها ـ ضد الجمهوريّة الإسلاميّة ـ وفي الحقيقة ضد الإسلام تحت ستار الهجمة على الجمهوريّة الإسلاميّة ـ وفي العصور المقبلة بأن يوقفوا أنفسهم لخدمة الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة والمحرومين والمستضعفين، وان لا يتوهموا أن القيادة ـ في ذاتها ـ هديّة ومقام سامٍ لهم، فهي واجب ثقيل وخطير، والزلّة فيها إذا كانت اتّباعاً لهوى النفس ـ لا سمح اللّه ـ فإنّها تستتبع العار الأبدي في هذه الدنيا، ونار غضب اللّه القهار في الآخرة.

                              أتضرع وأبتهل إلى اللّه المنّان الهادي أن ينجينا ويستقبلنا وإيّاكم من هذا الامتحان الخطير وقد ابيضّت وجوهنا.

                              كذلك فإنّ هذا الخطر يتهدد أيضاً ـ وبدرجة أقلّ قليلاً ـ رؤساء الجمهوريّة ـ الحالي ومن سيليه ـ والوزراء والمسؤولين بحسب مواقعهم في سلّم المسؤولية، فلينتبهوا إلى أن اللّه تعالى حاضر وناظر وأنَّهم في محضره المبارك. هداهم اللّه تعالى إلى سواء السبيل.

                              العدالة في القضاء الإسلامي
                              حاء ـ ومن الامور الهامة مسألة القضاء، فالقضاء يباشر أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم. لذا اوصي القائد أو شورى القيادة ان يتحرّوا الدقّة في مجال التشخيص لأعلى منصب قضائي ـ وهو من صلاحياتهم ـ واختيار المتدينين المحنّكين من اولي الخبرة في الامور الشرعية والإسلاميّة والسياسية. كما اوصي أعضاء مجلس القضاء الاعلى العمل بجدّ على تنظيم أمر القضاء الذي عانى في العهد البائد من وضع محزن مؤسف، وان ينافحوا عن هذا الموقع البالغ الأهمّية مخافة أن يتسنم هذا الموقع أولئك المتلاعبين بأرواح الناس واموالهم ممن لا وجود لمعنى العدالة الإسلامية عندهم. وان يسعوا بمثابرة وجد لتغيير وضع دوائر العدلية[9] ويحرصوا على تنصيب القضاء الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة ممن تعمل الحوزات العلمية ـ خصوصاً الحوزة العلمية المباركة في قم ـ على أعدادهم وتأهيلهم وترشيحهم واستبعاد من لا تتوفر فيهم الشروط الإسلاميّة اللازمة، حتى يتم بسرعة ـ إن شاء اللّه ـ سريان القضاء الإسلامي في ربوع البلاد كافة.

                              وأوصي القُضاة المحترمين في عصرنا الحاضر والعصور القادمة أن ينبروا لتحمّل مسؤولية هذا الموقع الخطير ويفوّتوا الفرصة على غير المؤهلين له. فلا يتنصّلن المؤهلون لذلك عن قبول هذه المسؤولية، وليأخذوا بنظر الاعتبار الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) حول أهميّة القضاء وخطورته وما ورد حول القضاء بغير الحق. وليعلموا بأنّ المنصب أجر وفضل وثواب عظيم، كما أن خطره عظيم، وليس يخفى عليهم بأنّ التصدّي للقضاء ممن هو أهل لذلك واجب كفائي.

                              تحصين الحوزات العلميّة أمام الإختراق
                              طاء ـ لقد عقد أعداء الإسلام والجمهوريّة في هذا الزمن العزم على القضاء على الإسلام، فهم ساعون بكلّ طريقة ممكنة لتحقيق هذا الهدف الشيطاني، وإحدى الطرق الهامّة في تحقيق هدفهم المشؤوم والخطير على الإسلام والحوزات الإسلاميّة هو زرع أفراد منحرفين فاسدين فيها، والخطر الكبير الناجم عن ذلك على المدى القريب، هو تشويه سمعة الحوزات العلمية من خلال الممارسات غير اللائقة والسلوكيات غير الأخلاقية والمنحرفة لهؤلاء المندسّين، أمّا على المدى البعيد فإنّ الخطر يكمن في وصول البعض من النصّابين إلى المواقع الحسّاسة للقيام في الوقت المناسب بتوجيه ضربة مهلكة للحوزات الإسلاميّة وإلى الإسلام العزيز وإلى البلاد وذلك من خلال اطّلاعهم على العلوم الإسلاميّة واندساسهم بين الجماهير والناس البسطاء وكسب ودّهم.

                              وليس بدعاً من الأمر أن يكون للقوى الناهبة الكبرى طابورٌ من المندسّين في المجتمعات وباشكالٍ مختلفة تشمل الوطنيين والمثقفين القشريين بين الناس أحياناً ثلاثين أو أربعين عاماً متظاهرين بالإسلام والقداسة والقوميّة والوطنية إلى سائر الحيل الأخرى بصبرٍ وأناةٍ متحيّنين الفرصة المناسبة لتنفيذ مهماتهم. وقد رأى شعبنا العزيز نماذج من قبيل مجاهدي الشعب[10] وفدائيي الشعب[11] والشيوعيين[12] وغيرهم ممن اشتهرت أسماؤهم بُعيد انتصار الثورة. لذا وجب على الحوزات العلميّة أن تحذر ذلك كلّه، كما إنّ على الجميع ان يمارسوا أدوارهم في إحباط هذه المؤامرات بيقظة، والأهمُّ من ذلك كلّه هو تصدّي المدرسين المحترمين والفضلاء من أهل الخبرة بمباركة مراجع العصر لتنظيم الحوزات العلميّة، ولعلّ المقولة المشهورة "نظمنا في عدم النظم" هي من الإيحاءات المشؤومة لهؤلاء المخططين المتآمرين.

                              تنظيم الحوزات العلميّة
                              على أيّة حال، فإنّ من المطلوب في كلّ العصور، وخصوصاً في العصر الحاضر الذي اشتدّت فيه المخططات والمؤامرات وتسارعت، التصدي لتنظيم الحوزات، فيصرف المدرسون والأفاضل الإجلاّء الوقت في ذلك لصيانة الحوزة في هذه المرحلة ومن خلال البرامج الدقيقة الصحيحة، أخصُّ بذلك الحوزة العلمية في قم[13] وسائر الحوزات الكبيرة والمهمة.

                              ومن الضروري أن لا يسمح العلماء والمدرسون المحترمون بانحراف الدراسة في مجال الفقه والأصول عن طريقة المشايخ العظام، التي تمثل الطريق الوحيد لحفظ الفقه الإسلامي، وليعملوا على زيادة التدقيق والبحث والإبداع والتحقيق كل يوم، وليحصروا على حفظ المنهج التقليدي في الفقه الذي ورّثه لنا السلف الصالح والذي يؤدي الانحراف عنه إلى إضعاف أسس التحقيق والبحث والتدقيق. ولتضاف التحقيقات إلى التحقيقات. طبيعي أن برامج في المجالات العلمية الأخرى يجب أن تُعد وبما يتناسب مع احتياجات البلاد والإسلام، كما ينبغي إعداد المتخصصين في تلك المجالات، غير أن أسمى المجالات التي ينبغي أن تُصبّ عليها جهود التعليم والتعلم وأفضلها هي العلوم المعنوية الإسلامية كعلم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله[14] ـ رزقنا الله ذلك وإياكم ـ فإنه الجهاد الأكبر.

                              أهميّة الجهاز التنفيذي وخطورته
                              ياء ـ من الأمور التي يلزم إصلاحها ومراقبتها، الجهاز التنفيذي، فقد تصدر عن المجلس أحياناً قوانين ممتازة ومفيد للوضع الحالي للمجتمع، وتقوم شورى صيانة الدستور بإمضائها وإبلاغها الوزير المختص إلا أنها عندما تقع بعد ذلك في أيدٍ غير صالحةٍ، قد تُمسخ أو يُعمل خلافاً لها، أو إنها تؤدي ـ ونتيجة لما اعتاده أولئك من الروتين والمسالك الإدارية الملتوية أو لتعمدٍ في ذلك منهم ـ إلى إثارة الاضطراب بين الناس تدريجياً حتى يبلغ الأمر حدوث فوضى اجتماعية.

                              أوصى الوزراء المسؤولين في العصر الحاضر والعصور المقبلة أن يُدركوا أنهم وموظفي وزاراتهم يرتزقون من أموال الشعب، لذا وجب عليهم جميعاً أن يكونوا خداماً للشعب وخصوصاً المستضعفين منهم، كذلك عليهم أن يدركوا بأنّ إيجاد المشقة للناس والعمل خلافاً للواجب حرام ويوجب أحياناً الغضب الإلهي ـ والعياذ بالله ـ.

                              إنكم بحاجة إلى دعم الشعب، فبدعم الشعب ـ خصوصاً طبقاته المحرومة ـ تحقق النصر وقطعت يد الظلم الملكي عن البلاد وثرواته، فإذا حُرمتم ذات يوم دعم الشعب فإنكم ستُعزلون أيضاً وسيحتلُّ الظلمة مواقعكم ويعود الأمر إلى سابقه.

                              وبناءً على هذه الحقيقة الملموسة، عليكم أن تسعوا لإرضاء الشعب وتتجنبوا السلوك اللااسلامي واللاإنساني، ومن هذا المنطلق فإنّي أوصي وزراء الداخلية في كل عصر أن يدققوا في اختيار المحافظين، ويحرصوا على انتخاب الأكفاء المتدينين المحنكين المتآلفين مع الناس، حتى يسود الهدوء البلاد إلى أبعد حدٍّ ممكن.

                              تجدر الإشارة إلى أنه ـ وإن كان على جميع الوزراء السعي في أسلمة الجهاز الذي يعمل بين أيديهم وتنظيم أموره ـ إلا أنَّ لبعض الوزارات خصوصية مميزة كوزارة الخارجية المسؤولة عن سفارات البلاد في الخارج.

                              تطهير السفارات
                              ولقد أوصيت وزراء الخارجية ـ ومنذ انتصار الثورة ـ بوصايا حول المظاهر الطاغوتية في السفارات، وحول السعي في تغيير وتنظيم السفارات وبما يتناسب مع مبادئ الجمهورية الإسلامية، إلا أن البعض منهم إما انه لم يرغب في ذلك، أو أنه لم يتمكن من القيام بمسعى إيجابي.

                              والآن مضى ما يقارب الثلاثة أعوام على انتصار الثورة ووزير الخارجية الحالي أقدم على ذلك والمؤمل أن يتحقق المطلوب بالمتابعة وبذل الوقت.

                              أوصى وزراء الخارجية ـ الحالي ومن سيليه ـ أن يُدركوا جسامة مسؤولياتهم، سواء في مجال إصلاح الوزارة والسفارات وتطويرها، أم في مجال السياسة الخارجية الهادفة لحفظ الاستقلال ومصالح البلاد وإقامة العلاقات الحسنة مع الدول التي ليس في نيّتها التدخل في شؤوننا الداخلية.

                              حاذروا وبكل حزم من أي أمرٍ تشوبه شائبة التبعيّة بكل أبعادها، ولتعلموا بأنّ التبعيّة في بعض الأمور يعرِّض البلاد ـ رغم ظاهرها الخداع أو ما تحققه من منافع مؤقتة ـ إلى كارثة مدمرة.

                              اسعوا لتحسين علاقاتكم مع الدول الإسلامية وإيقاظ قادتها وكونوا دعاة للوحدة والاتحاد فالله معكم.

                              كما أوصي شعوب العالم الإسلامي بأن لا ينتظروا مساعدة أحد من الخارج لتحقيق أهدافهم في تطبيق أحكام الإسلام، بل المبادرة للنهوض بأنفسهم وتحقيق هذا الهدف الضروري الذي سيؤمّن لهم الحريّة والاستقلال.

                              ليبادر العلماء الأعلام، والخطباء الموقرون في الدول الإسلامية إلى دعوة الحكومات لتحرير أنفسها من التبعيّة للقوى الأجنبية الكبرى، وليتفقوا مع شعوبهم فإنهم إذا فعلوا عانقوا النصر لا محالة، عليهم أيضاً أن يدعوا الشعوب إلى الوحدة ونبذ العنصرية المخافة لتعاليم الإسلام، ومد يد الاخوة إلى إخوانهم في الإيمان في أي بلد كانوا ومن أي عنصر فإن الإسلام يعدّ الجميع اخوة، ولو أن هذه الاخوة تحققت يوماً ما بهمة الحكومات والشعوب وبتأييد الله العلي، فسيظهر للعيان كيف أن المسلمين يشكلون اكبر قوة في العالم.

                              عسى أن يمن الله سبحانه وتعالى علينا بهذه الأخوّة والمساواة في يوم قريب.

                              المؤامرات الإعلامية ودور وزارة الإرشاد
                              وصيتي إلى وزارة الإرشاد في كل العصور، خصوصاً عصرنا الحاضرـ لما له من خصوصية ـ أن تسعى لنشر الحق في مقابل الباطل، وإظهار الوجه الحقيقي للجمهورية الإسلامية.

                              إننا نتعرض في هذا الزمان لهجوم إعلامي مكثف من قبل جميع وسائل الإعلام المرتبطة بالقوى الكبرى ذلك لأننا قطعنا يدها عن بلادنا. فأية أكاذيب وتهم باطلة لا يلصقها المتحدثون والكتّاب المرتبطون بالقوى الكبرى بهذه الجمهورية الإسلامية الفتيّة ؟ وللأسف فإن أكثر دول المنطقة ـ وبدلاً من أن يمدّوا لنا يد الأخوّة لما يقتضيه الإسلام ـ فإنهم هبّوا لمعاداتنا ومعاداة الإسلام، وهجموا علينا من كل صوب خدمة للناهبين الدوليين، في وقتٍ يعاني فيها إعلامنا من الضعف والعجز البالغين، وكلكم تعلمون بأن العالم يُدار اليوم بالإعلام.

                              ومما يؤسف له فإن الكتّاب المثقفين ـ كما يقال ـ يميلون إلى أحد القطبين بدلاً من أن يكون همّهم استقلال بلدهم وشعبهم وحريتهما، فالأنانيّة والانتهازيّة والفئويّة تحرمهم فرصة التفكير لحظة واحدة في مصالح بلدهم وشعبهم، ومقارنة الحرية والاستقلال في عهد هذه الجمهورية بما يماثلهما في العهد البائد، ومقايسة الحياة الشريفة العزيزة التي يعيشونها الآن مقترنة ببعض ما خسروه من الرفاهيّة والترف، وبين ما كانوا يحصلون عليه تحت ظل نظام الظلم الملكي مقترناً بالتبعية والاستبعاد والاضطرار إلى كيل المديح والثناء لجراثيم الفساد ومعدن الظلم والفحشاء. فليكفّوا عن إطلاق التهم وما لا يليق بهذه الجمهورية اليافعة وتوظيف ألسنتهم وأقلامهم لخدمة الشعب والنظام في مقابل الطواغيت والظلمة.

                              غير أن مسألة التبليغ لا تختصّ بوزارة الإرشاد فقط، فهي واجب الجميع من علماء وخطباء وكتّاب وفنانين، كذلك فإن على وزارة الخارجية أن تسعى لإصدار نشرات تبليغية من خلال سفاراتها لتعرض للناس وجه الإسلام النوراني ـ الذي إن تجلى وأزيح عنه قناع المعاندين وأولي الإفهام المنحرفة وظهر بجماله الجميل الذي عرضه القرآن وألسنّه في جميع أبعاده ـ فإنه سيعم العالم وستخفق رايته المجيدة في كل مكان.

                              ما أدهاها وما أمرّها مصيبة أن يكون لدى المسلمين بضاعة مزجاة بهذه الجودة ومما لا يُناظر منذ بدء الخليقة إلى آخرها، ثم لا يستطيعون عرض هذه الجوهرة النفيسة التي يسعى إليها كل إنسان بفطرته السليمة، بل الأمرُّ من ذلك أن يكونوا غافلين عنها جاهلين بها أو فاريّن منها أحياناً.

                              مراكز التربية والتعليم غير الإسلامية وأثرها الهدّام
                              كاف ـ من الأمور الهامة المصيرية، مسألة مراكز التربية والتعليم بدءاً من دور الحضانة وحتى الجامعات، وسوف اكرّر الحديث باختصار حول هذه المسألة لأهميتها الاستثنائية.

                              إن على شعبنا المنكوب أن يعلم بأن الضربة المهلكة التي وُجهت إلى إيران والإسلام في النصف الأخير من هذا القرن تعود في معظمها إلى الجامعات. فلو أن الجامعات ومراكز التربية والتعليم الأخرى كانت تسير وفق برامج إسلامية ووطنية في تعاملها مع الأطفال والناشئة والشبان وتهذيبهم وتربيتهم بما ينسجم مع هدفها في الحفاظ على مصالح البلاد، لما أصبح وطننا لقمة سائغة للإنجليز ثم للأمريكان والروس، ولما أمكن مطلقاً فرض الاتفاقيات الجائزة على شعبنا المحروم المنكوب، ولما فتحت الطريق أمام المستشارين الأجانب ليملئوا إيران، ولما أفرغت الثروات النفطية للشعب الإيراني المضطهد في جيوب القوى الشيطانية، ولما أمكن لأسرة البهلوي وعملائها نهب أموال الشعب وتحويلها إلى منتزهاتٍ وقصور مشادةٍ على أجساد المظلومين في الداخل والخارج، أو ملأ المصارف الخارجية بحاصل كدّ المظلومين لتُصرف بعد ذلك على المجون والفساد الذي يمارسونه مع من لفّ لفهم.

                              فلو أن أعضاء المجلس والحكومة والقضاء وسائر المؤسسات كانوا من خريجي جامعات إسلامية ووطنية لما كان شعبنا اليوم يعاني كل هذه المشاكل العصيبة. ولو أن المسؤولين الذين كانوا يتولون المراكز في السلطات الثلاث، كانوا من المتمسكين بالإسلام والوطنية بمعناها الصحيح ـ لا كما يدعونه الآن في مقابل الإسلام ـ لكان وضعنا غير هذا الوضع وحال بلادنا غير حالها هذه، ولكان المحرومون من أبناء شعبنا قد تحرروا من قيد الحرمان، ولكان قُضي منذ أمد ـ وإلى الأبد ـ على نظام الظلم الملكي ومراكز الفحشاء والإدمان ودور البغاء التي كان الواحد منها يكفي لإتلاف الجيل الشاب ذي الدور الفاعل المهم.. ولما ورِثَ الشعب هذا الإرث المدمر للبلاد والعباد.

                              ولو أن الجامعات كانت إسلامية، إنسانية ووطنية لأمكنها أن تقدم للمجتمع مئات وآلاف الأساتذة.

                              ولكن كم هو أمر محزن ومؤسف أن تدار الجامعات والثانويات من قبل المأسورين للغرب والشرق ـ إلا ما ندر من أقليّة مظلومة محرومة ـ فيتعرض شبابنا للتربية على أيديهم وعلى أساس برامج ومخططات أمليت عليهم من قبل الأساتذة الأجانب ممن كانت لهم المواقع في الجامعات، الأمر الذي جعل شباننا الأعزاء المظلومين يترعرعون في أحضان هذه الذئاب المرتبطة بالقوى الكبرى، فنشأ منهم من تسنّم مواقع المسؤولية عن تشريع القوانين والحكم والقضاء، فصاروا يحكمون طبقاً لأوامر النظام البهلوي الظالم.

                              واليوم وبعد أن خرجت الجامعات من قبضة الجناة ـ بحمد الله تعالى ـ لزم الشعب وحكومة الجمهورية الإسلامية في كل العصور، أن يحولا دون تسلل العناصر الفاسدة من اتباع المدارس الفكرية المنحرفة أو ذات الميول للغرب والشرق إلى معاهد المعلمين أو الجامعات أو سائر مراكز التعليم والتربية، وأن يحرصوا على علاج هذا الأمر قبل تفاقمه وانفلات الزمام.

                              وأوصي الشبان الأعزاء في معاهد المعلمين والثانويات والجامعات، الوقوف بحزم وشجاعة في مقابل الانحراف لكي يُصان الاستقلال والحرية لهم ولبلادهم ولشعبهم.

                              تابع.. القوات المسلحة


                              --------------------------------------------------------------------------------

                              [1] في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ساءت أوضاع ايران كثيراً، وارتفعت استغاثات الشعب الإيراني المسلم من نير الظلم والجور والاستبداد للحكم وعمّاله. وقد أدى ضعف "مظفر الدين شاه" ـ ملك إيران آنذاك ـ وعدم صلاحيته لإدارة شؤون البلاد، والوعي المتنامي للشعب، وأسباب أخرى أهمها: انتفاضة العلماء والروحانيين، إلى تهيئة الأرضية المناسبة لقيام ثورة سمّيت بانتفاضة المشروطة أو الحركة الدستورية. واستمرت هذه الثورة لعدّة سنوات، وشهدت صراعاً مريراً إلى أن انتصرت عام 1906م.

                              هذه الانتفاضة ـ رغم انها لم تسر في الطريق السليم بشكل كامل ـ لكنها استطاعت أن تغيّر البنية الاجتماعية في ايران بشكل أساسي، وحطمت الامتيازات الطبقية التي كانت سائدة، ودكّت مراكز وقصور اتباع الطاغوت والاقطاعيين الكبار، وثبتت القانون والعدالة. لكن تحييد العلماء عن الساحة السياسية والحكم، ونفوذ عناصر وعملاء الغرب إلى داخل الثورة أدى إلى منع الانتفاضة من تحقيق هدفها المنشود، وعودة نظام الحكم الملكي المستبدة، وذلك إثر نجاح مؤامرة "رضاخان".

                              [2] من أجل الحفاظ على الاحكام الإسلامية والدستور ـ الذي أعدّ في الجمهورية الإسلامية في إيران طبقاً لأحكام القرآن والإسلام ـ ولمراقبة قرارات مجلس الشورى الإسلامي، وضمان عدم مغايرتها للأحكام الإسلامية والدستور، شكّلت شورى سمّيت بشورى صيانة الدستور، وتضم هذه الشورى اثني عشر عضواً. ستة أشخاص من الفقهاء العادلين والواعين، وستة أشخاص من الحقوقيين "رجال القانون" المتخصصين في مختلف مجالات القانون، وذلك حسب "المادة الحادية والتسعون من الدستور" ويتم انتخابهم لمدة ست سنوات حسب "المادة الثانية والتسعون من الدستور". كما أن مجلس الشورى الإسلامي ليس له اعتبار قانوني دون شورى صيانة الدستور. وذلك حسب "المادة 93 من الدستور"، كما أن مقررات المجلس يجب أن ترسل إلى شورى صيانة الدستور لتصديقها، والتأكد من مطابقتها للموازين الإسلامية والدستور، وعدم مغايرتها لهما. وذلك حسب "المادة 94 من الدستور".

                              [3] تنص المادة الثالثة عشر من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران على أن "الزرداشت واليهود والمسيحيّون هم وحدهم الأقليات الدينية المعترف بها. وتتمتع هذه الأقليات بالحرية في أداء المراسم الدينية الخاصة بها ضمن حدود القانون، ويحق لها أن تعمل وفق قواعدها الخاصة بها في مجال الأحوال الشخصية والتعاليم الدينية.

                              كما تنص المادة الرابعة عشر على أنه وبحكم الآية الكريمة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتسقطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين" على أن على حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران، والمسلمين فيها معاملة غير المسلمين بالأخلاق الحسنة والقسط والعدل الإسلامي، ومراعاة حقوقهم الإنسانية. وتسري هذه المادة على الذين لا يتآمرون ولا يقومون بأي عمل معاد للإسلام والجمهورية الإسلامية في إيران.

                              [4] طبقاً للأحكام الإلهية والمصادر الأصلية للرسالة والأحاديث الشريفة المعتبرة، فإن الرسالة التاريخية للأنبياء وتشكيل الحكومة أمر يقع على عاتق النبي(ص) ثم الأئمة المعصومين(ع) من بعده، ثم ولي الفقيه الذي يتولى هذه المسؤولية في زمن الغيبة. وولي الفقيه هذا يجب أن يكون متفوقاً على رجال عصره ودينه بالوعي والصلاح ليتمكن بذلك من الإستمرار بخط الولاية وحكومة الأنبياء. وهو الفقيه العالم الذي يرث الأنبياء للحكومة عن واجباتهم الأصلية الإسلامية.

                              [5] تدار شؤون البلاد العامة في الجمهورية الإسلامية باعتماد الاستفتاء الشعبي العام والانتخابات العامة. ويشمل ذلك كلاً من: انتخاب رئيس الجمهورية، وانتخاب نواب الشعب في مجلس الشورى الإسلامي، وانتخاب أعضاء مجالس الشورى المحلية وغيرها.

                              وفي حال استحالة الحصول على رأي الأكثرية في أمر ما، أو إذا كان الأمر يستلزم البحث والتفاوض بين ذوي الاختصاص، عندئذٍ على أبناء الشعب أن ينتخبوا خبراء ومعتمدين كمندوبين عنهم ليتبادلوا الرأي والبحث والتفاوض في الأمر الذي يهمّ الشعب، كما هو الحال في خبراء الدستور، وخبراء اختيار القائد، وغيره. ويسمّى هذا المجلس الذي يضم هؤلاء الخبراء من مندوبي الشعب بمجلس الخبراء.

                              [6] يتولى قيادة الأمة، وولاية الأمر، وجميع المسؤوليات المترتبة عليهما الفقيه الجامع للشرائط والذي تُجمع الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب على قيادته. وفي حال عدم توفر ذلك فإن شورى الخبراء التي ينتخبها الناس لأمر تعيين القائد، تتولى البحث والتدقيق والمشورة في وضع وحال كل من ترى فيهم صلاحية القيادة، وتنتخب من بينهم الأصلح.

                              [7] هذه المادة من دستور الجمهورية الإسلامية تبين شروط وصفات القائد وهي:

                              الصلاحية العملية، التقوى، المعرفة والاطلاع السياسي والاجتماعي، الشجاعة، القدرة على الإدارة.

                              [8] هذه المادة من دستور الجمهورية الإسلامية تبين واجبات القائد وصلاحياته وهي:

                              1 ـ تعيين أعضاء مجلس صيانة الدستور الفقهاء.

                              2 ـ تعيين أعلى مسؤول قضائي في البلاد.

                              3 ـ تعيين وعزل قادة القوات المسلّحة.

                              4 ـ تشكيل المجلس الأعلى للدفاع.

                              5 ـ اعلان الحرب والصلح.

                              6 ـ المصادقة على حكم رئيس الجمهورية بعد انتخاب الشعب له.

                              7 ـ عزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت ذلك مصلحة البلاد.

                              8 ـ العفو عن المساجين أو تخفيض مدة أحكامهم طبقاً للموازين الإسلامية.

                              [9] حسب دستور الجمهورية الإسلامية فإن جميع المحاكم يجب أن تراجع إلى مرجع رسمي تتّبعه وهو "الدوائر العدلية". وهذه بدورها تعمل تحت إشراف رئيس السلطة القضائية.

                              أما دور وزير العدل في الجمهورية الإسلامية فإنه يختلف عن دور سائر الوزراء، ففي سائر الوزارات يتولى الوزير بنفسه مسؤولية جميع نشاطات الوزارة، بينما في القضاء فإن وزير العدل لا علاقة له بالشؤون القضائية المتعلقة بالمحاكم وصدور الأحكام الجزائية، بل أن دوره الأساسي هو تنظيم العلاقة بين السلطة القضائية وباقي الوزرات وهيئة الحكومة ومجلس الشورى الإسلامي.

                              [10] هو تنظيم سياسي إيراني يعتمد العمل المسلح، أسس عام 1965م، هدفه المعلن هو مواجهة النظام الملكي، عقيدته الفكرية إلتقاطية مستوردة بسبب عدم اطلاع قيادة هذا التنظيم على الإسلام. ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وقف هذا التنظيم ضد بناء دولة إسلامية، فقتلوا واغتالوا الكثيرين من المخلصين للثورة والشعب من علماء ملتزمين مجاهدين، وشبّان ثوريين، وفجّروا مئات القنابل، وأحرقوا المؤسسات والبيوت والحافلات المكتضة بالأبرياء، وقتلوا وسفكوا دماء الآلاف في الشوارع والأزقة، وعلى موائد الافطار في شهر رمضان، ودفنوا العديد وهم أحياء، وأحرقوا العلماء بالحوامض الكيميائية الفتاكة.

                              ولم تتوانَ هذه الجماعة عن السعي لإسقاط الجمهوررية الإسلامية لكنهم بأعمالهم الوحشية والهمجية وظهور عمالتهم للأجنبي واعتداءاتهم ضد أبناء الشعب، فضحوا أنفسهم أمام الشعب، وتمّ استئصالهم في الداخل، وتوارى كثير منهم إلى الخارج، ليعيشوا في أحضان الأمبريالية ويتسلّحون بمساعدتهم لمواجهة الإسلام والثورة الإسلامية، رغم ادعاءاتهم السابقة بعدائهم للإمبريالية، لذا فقد اطلق عليهم الناس لقب "المنافقين" وبلغ بهم الأمر إلى التحالف مع "صدام العفلقي" في حربه المفروضة على الثورة الإسلامية ومشاركتهم في العدوان على الجمهورية الإسلامية.

                              [11] هي جماعة مسلحة ماركسية إيرانية بدأت تحركها بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

                              يعود تشكيلها إلى عام 1966م عندما تحولت مجموعة من الشباب الجامعي من الماركسية السوفيتية إلى الشيوعية الصينية الماوية (مذهب ماوتسي تونغ)، ورغم العمليات المسلّحة لهذه الجماعات ضد النظام الملكي، لكن مركزها الاجتماعي بقي محدوداً بين أوساط الطلاب اليساريين قط، ولم تتمكن هذه الجماعة من إيجاد قاعدة شعبية لها. هدف هذه الجماعة المعلن هو إقامة نظام حكم اشتراكي في إيران بسرعة دون ضمان الرشد الفكري نحوه. لكن الخلافات الفكرية والسياسية بين مسؤولي هذه الجماعة أدّت إلى إيجاد عدة انشقاقات فيها، ثم أن الأزمة العالمية للإشتراكية أثرت على هذه الجماعة بشكل أساسي، ودفعتهم إلى الانفعال السياسي.

                              [12] "حزب تودة" هو أقدم وأشهر تنظيم ماركسي لينيني إيراني، وهو الحزب الشيوعي الإيراني. تأسس هذا الحزب عام 1920م، وجدد تأسيسه وتركيزه باسم حزب تودة عام 1942م، وهو حزب تابع بشكل مباشر إلى أجهزة الأمن السوفيتية (ك.ج.ب) وهذا الأمر دفعه طوال حياته السياسة إلى اتخاذ مواقف جعلته يشتهر بين الناس باسم "بائعو الوطن".

                              من أهم مواقفه تلك: دعمه لتجزئة محافظتي آذربايجاني وكردستان في إيران إبان الغزو السوفيتي لإيران، ودعمه لمشروع اعطاء امتياز نفط الشمال الإيراني للسوفيت رغم معارضة الشعب لذلك.

                              بعد حركة 1953م واستمرار حكم الملك "محمد رضا بهلوي" توقف نشاط حزب تودة داخل إيران، ولجأ جميع اعضاء قيادته إلى المانيا الشرقية، وفي عام 1979م وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران جدد هذا الحزب نشاطه كباقي الأحزاب، لكنه رغم إعلامه القوي وتاريخه الطويل لم يتمكن من إيجاد قاعدة شعبية واسعة في المجتمع الإيراني المسلم وذلك بسبب عقائده الالحادية وتبنّيه للنفاق السياسي.

                              وفي عام 1983م قام بمؤامرة فاشلة بدت فيها بوضوح ارتباطاته المباشرة بأجهزة الأمن السوفيتية (ك.ج.ب) وأجهزة الأمن العسكرية السوفيتية (ج.ز.ي) عند ذلك ثم اعتقال اعضاء اللجنة المركزية للحزب، وجميع الشبكات التابعة له.

                              [13] مدينة قم احدى أقدم المدن الشيعية الإسلامية، فمنذ عهد ما بعد رسول الله(ص) كانت هذه المدينة مركزاً قوياً ونشطاً لرسالة الإسلام الملتزم "التشيّع". الخطوات الأولى للحركة العلمية بمدينة قم خطاها "عبد الله بن سعد الأشعري" العالم المعروف. وبلغت هذه الحركة أوجها في القرن الرابع ونصف القرن الخامس الهجري. لذا فإن تاريخ الإسلام الملتزم "التشيّع والثقافة الجعفرية" يعود تاريخه في قم إلى ما قبل مجيء السيدة فاطمة بن الإمام الكاظم(ع). لكنه وبعد وفاة هذه السيدة الجليلة تحول مرقدها إلى شمعة جذبت إليها عشاق أهل بيت الرسول(ص) فازدهرت مدينة قم أكثر مما مضى كمركز علمي. وطوال أكثر من ألف عام مضت على حوزة قم العلمية شهدت هذه الحوزة مداً وجزراً متعدداً، آخر جزر شهدته بعد وفاة المحقق الميرزا القمي الشهير. فضعفت بعده الحوزة حتى تحولت مدرستي الفيضية ودار الشفاء إلى خربة تأوي المتسولين. إلى أن هاجر إليها آية الله الحائري اليزدي فأعاد الحياة إليها، وأسسها من جديد، إلى أن اضحت اليوم أكبر الحوزات العلمية الإسلامية في العالم وأكثرها تحصيلاً ودراسة وتأليفاً وتحقيقاً وتبليغاً ونشراً للثقافة الإسلامية، ومركزاً لأضخم حركة فكرية وعلمية يساهم فيها آلاف الطلاب والعلماء من مختلف البلدان.

                              [14] العرفان هو دقة علمية وثقافية تنقسم إلى قسمين هما: العرفان النظري والعرفان العملي. العرفان العملي هو علم السير والسلوك إلى الله. ويوضّح هذا العلم للسالك المبتدئ في طلب العرفان ما يجب عليه فعله ليصل إلى القمة المعنية للإنسانية أي "التوحيد الإلهي" ومن أين يجب أن يبدأ وأية منازل عليه أن يطوي، وبأي ترتيب، وماذا سيحصل له في طريقه ذاك.

                              ولابد أن يكون السير في جميع تلك المراحل والمنازل تحت أشراف ومراقبة إنسان كامل مجرب طوى هذا الطريق، واطلع على أحوال وطرق التوحيد الذي يعتبره العارف قمة منيعة للإنسانية، وآخر مقصد في السير والسلوك، فهو يختلف عن التوحيد لدى عامة الناس، بل وحتى عن التوحيد عند أهل الفلسفة. فالتوحيد العرفاني هو طي الطريق العملي التوحيدي، وبلوغ مرحلة لا يرى فيها سوى الله.

                              تعليق

                              المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                              حفظ-تلقائي
                              x

                              رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

                              صورة التسجيل تحديث الصورة

                              اقرأ في منتديات يا حسين

                              تقليص

                              لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                              يعمل...
                              X