المحافظون الجدد.. أخطر ظاهرة فكرية (الحلقة الأولى)
العدالة والحرية والديمقراطية.. أدوات تشرّع موت الإنسان
دراسة ـ خاص بموقع "إنباء" الإخباري ـ 28/11/2004
محمد أ. الحسيني
تحدث كثير من الدراسات والمقالات والكتب عن "المحافظين الجدد"، هذه الكتلة النخبوية التي تقبض بيدها على مفاصل الإدارة الأميركية الحالية، وتتحكم بالعصب الأساسي لفريق العمل الرئاسي الذي تنبثق عنه القرارات الاستراتيجية، لا سيما في ما يتعلق بمصائر الأمم والشعوب في العالم.. نقول في العالم، لأن الوجهة الأولى لهذه "النخبة" تهدف إلى ترجمة فكرة محورية تقوم على أساس أن تجعل العالم في دائرة واحدة، تحمل مواصفات محددة، تتسم بنسق واحد، تنقاد بواسطة "مشغّل" واحد، وتحقق غاية واحدة، عنوانها صهر الشعوب والثقافات والتواريخ والحضارات، وغيرها من عوامل نشوء الأنظمة، وصولاً إلى خلق بنية متكاملة واحدة، ذات نظام واحد.
هذه الخلاصة المستعجلة ليست معطى إنشائياً بقدر ما هي محاولة، أو دعوة للإطلاع عن كثب على جذور هذه الفئة الطاغية، والعودة في البحث إلى الجذور الفلسفية التي تتحكم برسالتها وأهدافها، خصوصاً إذا سلّمنا بأن أي اتجاه أو تيار نهضوي أو تعبوي، لا بد أن يمتلك بناءً فكرياً مستنداً إلى رؤية فلسفية تظهّر حقيقة القناعات، وتبلور صور الأفعال، وتقوّم المسارات والنتائج.. وإذا أخذنا ما خلصنا إليه لتحديد الغاية عند هؤلاء، وهو "خلق نظام البنية"، نرى أننا سنبدأ من حيث تنتهي الفكرة، وكأننا نسير في دائرة الزمن ليكون المستقبل- المنتهى مدخلاً لعيادة الماضي، ومنطلقاً لاستكشاف الحاضر وما يليه. وهذا التشبيه ليس استعارة فلسفية، بل انعكاساً عملياً لما ينحو إليه الروّاد النخبويون أو "المحافظون الجدد".
"البنية" في التفسير الفلسفي، باختلافه عن التفسير اللغوي، تحمل معنى "المجموع" أو "الكل" المؤلف من ظواهر متماسكة، يتوقف كل منها على ما عداه، ويتحدد من خلال علاقته بما عداه. وهي في ذلك "نسق" من التحولات وذو قوانين خاصة. ويزداد هذا النسق ثراءً وتطوراً بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحوّلات نفسها، دون أن يكون من شأن هذه التحولات الخروج عن حدود ذلك النسق، أو أن تهيب بأي عناصر أخرى تكون خارجة عنه. وتتسم البنية بثلاث خصائص، فهي أولاً: "كلّية"، بحيث أنها لا تتألف من عناصر خارجية، بل من عناصر داخلية خاضعة للقوانين المميّزة للنسق، والمهم في "البنية" هو العلاقات القائمة بين العناصر وعمليات التأليف والتكوين في ما بينها. وهي ثانياً: "متحوّلة"، بحيث أن التغيّرات الباطنية تحدث داخل النسق أو المنظومة، ولكن ضمن حدود قوانين البنية دون التأثر بأي عوامل خارجية. وهي ثالثاً: "قادرة على التنظيم الذاتي"، بحيث أن بوسع البنيات تنظيم نفسها بنفسها، مما يحفظ لها وحدتها وفرادتها، وفي الوقت نفسه يخلق هذا التنظيم نوعاً من حالة الانغلاق الذاتي، أو الدائرة المقفلة المتنامية في إطار مجموعة أنظمة أو أنسقة مترابطة وفق قوانين "الكل" الخاصة بالبنية.
إن تعريف "البنية" وتطوّر مفهومها في مسار البحث الفلسفي، يفرض استحضار آراء عدد من المنظرين والمفكرين اليهود الذين ارتادوا هذا العلم وبرعوا في بلورة مفاهيمه ومعانيه نظرياً وعملياً، ومنهم العالم اليهودي العامل في مجال الأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) كلود ليفي شتراوس، والذي يعتبره "المحافظون الجدد" الملهم الأصولي في أفكارهم واتجاهاتهم، حيث يرى أن "البنيوية ليست بأي حال من الأحوال فلسفة وإنما هي مجرد منهج للبحث العلمي.. وهي محددة بأنها تعارض النزعتين الوظيفية والتاريخية". في حين يقول عالم النفس السويسري جان بياجيه إن "البنيوية منهج لا مذهب، وهي إذا اكتست طابعاً مذهبياً، فإنها لا بد من أن تقود إلى كثرة من المذاهب". ويعتبر أن "للبنيويات جميعاً مثلاً أعلى واحداً مشتركاً في المعقولية، ألا وهو النظر إلى البنية باعتبارها نظاماً مكتفياً بذاته، لا يحتاج في إدراكه إلى الإهابة بأي عناصر أخرى تكون غريبة في طبيعتها عليه". أما المفكر الفرنسي فرنسوا شاتليه، وهو من المتحمسين للبنيوية، فيقول إن "البنيوية هي أشبه ما تكون بحالة ذهنية مشتركة لا بد من العمل على اكتشاف السمات المميزة لها". ويسوق عالم فرنسي آخر هو جان لاكروا رأياً آخر يخلص فيه إلى أن "ليس ثمة مذهب بنيوي واحد.. بل أن هناك لقاءً ذهنياً بصفة عامة، ومنهجياً بصفة خاصة، بين مفكرين متباينين يعيشون معاً عصراً بعينه، ألا وهو عصر انتهاء الأيديولوجيات، وربما أيضاً عصر انتهاء النزعة الإنسانية من حيث هي صورة من صور الأيديولوجيا..".
وتفسّر البنيوية "الظواهر" من حيث دراسة العلاقات القائمة بين الأشياء، وليس من حيث الشكل والحجم، وعليه فإن البنيويين يرون أن حقيقة "الظواهر لا تتمثل في ظاهرها على نحو ما تبدو عياناً، بل تتمثل في مستوى الدلالة التي تمثّلها". ولعل هذه الرؤية التي يتبناها البنيويون تأتي لتبرر الاتجاه الذي ينحون إليه في إنكار الإدراك التجريبي، بل وتأكيد المعادلة التي تقول إن "المبدأ الأساسي هو أن مفهوم البنية الاجتماعية لا يرتد إلى الواقع التجريبي بل يرتبط بالنماذج التي نبنيها انطلاقاً من الواقع.. ولا بد لكل نموذج أن يؤلف نظاماً من العناصر المتكاملة التي تقود إلى تحوّله إلى بنية". ولذلك، يجهد البنيويون لتظهير "البنية" وصولاً إلى إدراك العلاقات المادية الظاهرية، التي تحقق الترابط بين عناصر المجموعة الواحدة، والكشف عن "النسق" العقلي الذي يزوّدنا بتفسير للعمليات الجارية في نطاق مجموعة بعينها.
وإلى جانب الرؤى الفلسفية للبنية، واعتبارها المتعلق بالظواهر، يقول المفكر الفرنسي جيل ديلوز إن هناك "سمات مشتركة تجمع البنيويين - بما أن البنية تشكل التقاءً ذهنياً – وتجعلهم داخل إطار فلسفي واحد، وعلى الرغم من اختلاف اختصاصاتهم الفلسفية والعلمية، إلا أن هناك رابطاً بينهم يتجسد في وجود إطار رمزي يأخذ مكانه إلى جانب إطاري الخيال والواقع". ويرى ديلوز أن "ما يحدد البنية هو طبيعة العناصر الذرية التي تدّعي لنفسها الحق في تفسير كل من تكوّن المجاميع الكلية من جهة، وتغير أجزائها من جهة أخرى..". وفي المقابل، ينبري أستاذ التاريخ الحديث في جامعة السوربون ألبير سوبول الذي اعتبره "فلاسفة البنية" في المعسكر المضاد لهم، ليختصر المقولة بالقول إن "البنيويين يضعون دائماً التزامن أو التواقت (synchronie) في مقابل التعاقب أو التطور الذي يتميز به المنهج التاريخي، وعليه فإن البنية، في هذه الحال، تكون دائماً نسيجاً من الأشياء المتقابلة التي يكمل بعضها البعض الآخر، لا نسيجاً من المتناقضات، وبالتالي فإن الاهتمام بالبنية حمل منذ البداية ضرباً من التشديد على أهمية الاعتبارات المورفولوجية (البنائية) بالنسبة إلى الاعتبارات التطورية أو التاريخية".
وبناءً على هذه التفسيرات التي لا تخلو من بناءات فكرية مثالية، نخلص إلى القول بأن البنيويين ينظرون إلى التقدم على أنه مجرد خداع بصري، ولم يعودوا يرون في المبادرة التاريخية سوى محض سراب. ولما كان الإنسان قد أصبح محاطاً من كل صوب بما يسمونه "غير المتعقل" - باعتبار أن "المعقولية" هي المثل الأعلى الواحد المشترك الذي يجمع البنيويات- ولما كان الفكر عندهم ليس سوى ومضة مشعة تخترق دماغ الإنسان دون أن يعرف لها بداية أو نهاية، بل لمّا صار المنفذ الوحيد أمام الإنسان هو أن يدع نفسه "محمولاً على ظهر النظام"، فليس بدعاً أن يصبح هذا الإنسان، سواء في ثورته أم في حركاته الاجتماعية الأخرى من جمود ونكوص وغير ذلك "مفعولاً به لا فاعلاً"!.
وعلى ذلك، فإن "البنيوية" لم تعد مجرد حركة منهجية علمية تبرز أهمية مفهوم "البنية" في تفسير الظواهر الفيزيائية، والبيولوجية، والسيكولوجية، والاجتماعية واللغوية، والتاريخية.. بل أصبحت شيئاً أكثر من مجرد تطبيق للتحليل البنيوي على بعض المجالات العلمية، إذ صارت المحور الذي تدور حوله المشكلة الجذرية الكبرى التي تواجه عصرنا بأسره، ألا وهي: "من يكون البشر – اليوم - بإزاء أنظمتهم، وما الذي أصبح في وسعهم – الآن- أن يفعلوه لمواجهة تلك الأنظمة؟".
ووفق هذا التطور، باتت "البنيوية" تنطوي على منظور فكري خاص يحمل في طيّاته انقلاباً فلسفياً حقيقياً، جعل من الذات مجرد حامل ترتكز عليه "البنية"، وحوّل التاريخ إلى تعاقب اعتباطي لعدد من الصور أو الأشكال، واعتبر المعنى مجرد تأثير سطحي، وتجاوز الزمان والمكان لينحو إلى ما يسمى "النسق" أو النظام" (systeme). وبهذا التطوّر تحولت "البنيوية" من منهج علمي إلى منحى أيديولوجي، ينضوي على قناعة خاصة تؤمن بعدم قدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص، وترفض كل نزعة إنسانية، بل أن بعض البنيويين من دعاة هذا التطور يتجه مغالياً إلى المناداة بإعلان "موت الإنسان".
وبعد هذا العرض، أين هو موقع "المحافظين الجدد" في إطار هذه المجموعة من الرؤى والاتجاهات والقناعات الفلسفية؟ وكيف "نوائم" بين هذه الرؤى وبين واقع الحال الذي يشهده العالم "المتظلل" بالشعارات الأميركية؟ وكيف نطبّق هذه المفاهيم على ما ينادي به "المحافظون الجدد" من نشر الديمقراطية في العالم وجعل الأنظمة "المارقة والمتخلفة" تنخرط في "نسق" العولمة بما هي "نظام" يتميّز بوحدانية وفرادة رائدة تحمل معها العدالة والحرية والديمقراطية؟
العدالة والحرية والديمقراطية.. أدوات تشرّع موت الإنسان
دراسة ـ خاص بموقع "إنباء" الإخباري ـ 28/11/2004
محمد أ. الحسيني
تحدث كثير من الدراسات والمقالات والكتب عن "المحافظين الجدد"، هذه الكتلة النخبوية التي تقبض بيدها على مفاصل الإدارة الأميركية الحالية، وتتحكم بالعصب الأساسي لفريق العمل الرئاسي الذي تنبثق عنه القرارات الاستراتيجية، لا سيما في ما يتعلق بمصائر الأمم والشعوب في العالم.. نقول في العالم، لأن الوجهة الأولى لهذه "النخبة" تهدف إلى ترجمة فكرة محورية تقوم على أساس أن تجعل العالم في دائرة واحدة، تحمل مواصفات محددة، تتسم بنسق واحد، تنقاد بواسطة "مشغّل" واحد، وتحقق غاية واحدة، عنوانها صهر الشعوب والثقافات والتواريخ والحضارات، وغيرها من عوامل نشوء الأنظمة، وصولاً إلى خلق بنية متكاملة واحدة، ذات نظام واحد.
هذه الخلاصة المستعجلة ليست معطى إنشائياً بقدر ما هي محاولة، أو دعوة للإطلاع عن كثب على جذور هذه الفئة الطاغية، والعودة في البحث إلى الجذور الفلسفية التي تتحكم برسالتها وأهدافها، خصوصاً إذا سلّمنا بأن أي اتجاه أو تيار نهضوي أو تعبوي، لا بد أن يمتلك بناءً فكرياً مستنداً إلى رؤية فلسفية تظهّر حقيقة القناعات، وتبلور صور الأفعال، وتقوّم المسارات والنتائج.. وإذا أخذنا ما خلصنا إليه لتحديد الغاية عند هؤلاء، وهو "خلق نظام البنية"، نرى أننا سنبدأ من حيث تنتهي الفكرة، وكأننا نسير في دائرة الزمن ليكون المستقبل- المنتهى مدخلاً لعيادة الماضي، ومنطلقاً لاستكشاف الحاضر وما يليه. وهذا التشبيه ليس استعارة فلسفية، بل انعكاساً عملياً لما ينحو إليه الروّاد النخبويون أو "المحافظون الجدد".
"البنية" في التفسير الفلسفي، باختلافه عن التفسير اللغوي، تحمل معنى "المجموع" أو "الكل" المؤلف من ظواهر متماسكة، يتوقف كل منها على ما عداه، ويتحدد من خلال علاقته بما عداه. وهي في ذلك "نسق" من التحولات وذو قوانين خاصة. ويزداد هذا النسق ثراءً وتطوراً بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحوّلات نفسها، دون أن يكون من شأن هذه التحولات الخروج عن حدود ذلك النسق، أو أن تهيب بأي عناصر أخرى تكون خارجة عنه. وتتسم البنية بثلاث خصائص، فهي أولاً: "كلّية"، بحيث أنها لا تتألف من عناصر خارجية، بل من عناصر داخلية خاضعة للقوانين المميّزة للنسق، والمهم في "البنية" هو العلاقات القائمة بين العناصر وعمليات التأليف والتكوين في ما بينها. وهي ثانياً: "متحوّلة"، بحيث أن التغيّرات الباطنية تحدث داخل النسق أو المنظومة، ولكن ضمن حدود قوانين البنية دون التأثر بأي عوامل خارجية. وهي ثالثاً: "قادرة على التنظيم الذاتي"، بحيث أن بوسع البنيات تنظيم نفسها بنفسها، مما يحفظ لها وحدتها وفرادتها، وفي الوقت نفسه يخلق هذا التنظيم نوعاً من حالة الانغلاق الذاتي، أو الدائرة المقفلة المتنامية في إطار مجموعة أنظمة أو أنسقة مترابطة وفق قوانين "الكل" الخاصة بالبنية.
إن تعريف "البنية" وتطوّر مفهومها في مسار البحث الفلسفي، يفرض استحضار آراء عدد من المنظرين والمفكرين اليهود الذين ارتادوا هذا العلم وبرعوا في بلورة مفاهيمه ومعانيه نظرياً وعملياً، ومنهم العالم اليهودي العامل في مجال الأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) كلود ليفي شتراوس، والذي يعتبره "المحافظون الجدد" الملهم الأصولي في أفكارهم واتجاهاتهم، حيث يرى أن "البنيوية ليست بأي حال من الأحوال فلسفة وإنما هي مجرد منهج للبحث العلمي.. وهي محددة بأنها تعارض النزعتين الوظيفية والتاريخية". في حين يقول عالم النفس السويسري جان بياجيه إن "البنيوية منهج لا مذهب، وهي إذا اكتست طابعاً مذهبياً، فإنها لا بد من أن تقود إلى كثرة من المذاهب". ويعتبر أن "للبنيويات جميعاً مثلاً أعلى واحداً مشتركاً في المعقولية، ألا وهو النظر إلى البنية باعتبارها نظاماً مكتفياً بذاته، لا يحتاج في إدراكه إلى الإهابة بأي عناصر أخرى تكون غريبة في طبيعتها عليه". أما المفكر الفرنسي فرنسوا شاتليه، وهو من المتحمسين للبنيوية، فيقول إن "البنيوية هي أشبه ما تكون بحالة ذهنية مشتركة لا بد من العمل على اكتشاف السمات المميزة لها". ويسوق عالم فرنسي آخر هو جان لاكروا رأياً آخر يخلص فيه إلى أن "ليس ثمة مذهب بنيوي واحد.. بل أن هناك لقاءً ذهنياً بصفة عامة، ومنهجياً بصفة خاصة، بين مفكرين متباينين يعيشون معاً عصراً بعينه، ألا وهو عصر انتهاء الأيديولوجيات، وربما أيضاً عصر انتهاء النزعة الإنسانية من حيث هي صورة من صور الأيديولوجيا..".
وتفسّر البنيوية "الظواهر" من حيث دراسة العلاقات القائمة بين الأشياء، وليس من حيث الشكل والحجم، وعليه فإن البنيويين يرون أن حقيقة "الظواهر لا تتمثل في ظاهرها على نحو ما تبدو عياناً، بل تتمثل في مستوى الدلالة التي تمثّلها". ولعل هذه الرؤية التي يتبناها البنيويون تأتي لتبرر الاتجاه الذي ينحون إليه في إنكار الإدراك التجريبي، بل وتأكيد المعادلة التي تقول إن "المبدأ الأساسي هو أن مفهوم البنية الاجتماعية لا يرتد إلى الواقع التجريبي بل يرتبط بالنماذج التي نبنيها انطلاقاً من الواقع.. ولا بد لكل نموذج أن يؤلف نظاماً من العناصر المتكاملة التي تقود إلى تحوّله إلى بنية". ولذلك، يجهد البنيويون لتظهير "البنية" وصولاً إلى إدراك العلاقات المادية الظاهرية، التي تحقق الترابط بين عناصر المجموعة الواحدة، والكشف عن "النسق" العقلي الذي يزوّدنا بتفسير للعمليات الجارية في نطاق مجموعة بعينها.
وإلى جانب الرؤى الفلسفية للبنية، واعتبارها المتعلق بالظواهر، يقول المفكر الفرنسي جيل ديلوز إن هناك "سمات مشتركة تجمع البنيويين - بما أن البنية تشكل التقاءً ذهنياً – وتجعلهم داخل إطار فلسفي واحد، وعلى الرغم من اختلاف اختصاصاتهم الفلسفية والعلمية، إلا أن هناك رابطاً بينهم يتجسد في وجود إطار رمزي يأخذ مكانه إلى جانب إطاري الخيال والواقع". ويرى ديلوز أن "ما يحدد البنية هو طبيعة العناصر الذرية التي تدّعي لنفسها الحق في تفسير كل من تكوّن المجاميع الكلية من جهة، وتغير أجزائها من جهة أخرى..". وفي المقابل، ينبري أستاذ التاريخ الحديث في جامعة السوربون ألبير سوبول الذي اعتبره "فلاسفة البنية" في المعسكر المضاد لهم، ليختصر المقولة بالقول إن "البنيويين يضعون دائماً التزامن أو التواقت (synchronie) في مقابل التعاقب أو التطور الذي يتميز به المنهج التاريخي، وعليه فإن البنية، في هذه الحال، تكون دائماً نسيجاً من الأشياء المتقابلة التي يكمل بعضها البعض الآخر، لا نسيجاً من المتناقضات، وبالتالي فإن الاهتمام بالبنية حمل منذ البداية ضرباً من التشديد على أهمية الاعتبارات المورفولوجية (البنائية) بالنسبة إلى الاعتبارات التطورية أو التاريخية".
وبناءً على هذه التفسيرات التي لا تخلو من بناءات فكرية مثالية، نخلص إلى القول بأن البنيويين ينظرون إلى التقدم على أنه مجرد خداع بصري، ولم يعودوا يرون في المبادرة التاريخية سوى محض سراب. ولما كان الإنسان قد أصبح محاطاً من كل صوب بما يسمونه "غير المتعقل" - باعتبار أن "المعقولية" هي المثل الأعلى الواحد المشترك الذي يجمع البنيويات- ولما كان الفكر عندهم ليس سوى ومضة مشعة تخترق دماغ الإنسان دون أن يعرف لها بداية أو نهاية، بل لمّا صار المنفذ الوحيد أمام الإنسان هو أن يدع نفسه "محمولاً على ظهر النظام"، فليس بدعاً أن يصبح هذا الإنسان، سواء في ثورته أم في حركاته الاجتماعية الأخرى من جمود ونكوص وغير ذلك "مفعولاً به لا فاعلاً"!.
وعلى ذلك، فإن "البنيوية" لم تعد مجرد حركة منهجية علمية تبرز أهمية مفهوم "البنية" في تفسير الظواهر الفيزيائية، والبيولوجية، والسيكولوجية، والاجتماعية واللغوية، والتاريخية.. بل أصبحت شيئاً أكثر من مجرد تطبيق للتحليل البنيوي على بعض المجالات العلمية، إذ صارت المحور الذي تدور حوله المشكلة الجذرية الكبرى التي تواجه عصرنا بأسره، ألا وهي: "من يكون البشر – اليوم - بإزاء أنظمتهم، وما الذي أصبح في وسعهم – الآن- أن يفعلوه لمواجهة تلك الأنظمة؟".
ووفق هذا التطور، باتت "البنيوية" تنطوي على منظور فكري خاص يحمل في طيّاته انقلاباً فلسفياً حقيقياً، جعل من الذات مجرد حامل ترتكز عليه "البنية"، وحوّل التاريخ إلى تعاقب اعتباطي لعدد من الصور أو الأشكال، واعتبر المعنى مجرد تأثير سطحي، وتجاوز الزمان والمكان لينحو إلى ما يسمى "النسق" أو النظام" (systeme). وبهذا التطوّر تحولت "البنيوية" من منهج علمي إلى منحى أيديولوجي، ينضوي على قناعة خاصة تؤمن بعدم قدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص، وترفض كل نزعة إنسانية، بل أن بعض البنيويين من دعاة هذا التطور يتجه مغالياً إلى المناداة بإعلان "موت الإنسان".
وبعد هذا العرض، أين هو موقع "المحافظين الجدد" في إطار هذه المجموعة من الرؤى والاتجاهات والقناعات الفلسفية؟ وكيف "نوائم" بين هذه الرؤى وبين واقع الحال الذي يشهده العالم "المتظلل" بالشعارات الأميركية؟ وكيف نطبّق هذه المفاهيم على ما ينادي به "المحافظون الجدد" من نشر الديمقراطية في العالم وجعل الأنظمة "المارقة والمتخلفة" تنخرط في "نسق" العولمة بما هي "نظام" يتميّز بوحدانية وفرادة رائدة تحمل معها العدالة والحرية والديمقراطية؟