بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه محمدٍ وآله المعصومين وسلم تسليماً كثيراً...
يتكون هذا البحث من مقدمة وفصلين وخاتمة:
الفصل الأول: في بيان صحة حديث الغدير
الفصل الثاني: في بيان دلالة حديث الغدير
مقدمة:
حديث الغدير هو أهم الأدلة السمعية الدّالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بالكيفية التي يعتقدها الشيعة الإمامية...
وقد دلّت النصوص على أن الله سبحانه وتعالى قد أمَرَ نبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بتبليغ ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بحسب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سورة المائدة 67
فصدعَ رسول الله صلى الله عليه وآله بما أٌمِرَ به في يوم الغدير، وبتبليغها اكتمل الدين وتمت النعمة، يقول المولى جل وعز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة 3
ومن النصوص التي تدل على كل ما تقدم، ما رواه الشيخ الكليني أعلى الله مقامه، بسند صحيح عن: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن "زرارة، والفضيل بن يسار، وبكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وأبي الجارود" جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال:
أمرَ اللهُ عز وجل رسولَهُ بولايةِ عليٍ، وأنزلَ عليه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ} وفرضَ ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمرَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسّر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فلما أتاهُ ذلك من الله، ضاقَ بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله، وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم، وأن يكذبوه، فضاقَ صدره، وراجع ربه عز وجل، فأوحى الله عز وجل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
فصدعَ بأمر الله تعالى ذكره، فقامَ بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة وأمرَ الناس أن يبلّغَ الشاهد الغائب.
قال عمر بن أذينة: قالوا جميعاً غير أبي الجارود: وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
الكافي ج 1 ص 289
وروى الشيخ الصدوق قدس سره في الخصال ص 65 حديث الغدير بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن أسيد الغفاري ثم قال: الأخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أخرجتها في كتاب المعرفة في الفضائل.
ولم ينفرد الشيعة برواية حديث الغدير، بل هو صحيح متواتر حتى من طرق أهل السنة والجماعة...
وسنبحث في هذا الموضوع "حديث الغدير" من ناحية السند وسنثبت تواتره، ثم نبحث فيه من ناحية الدلالة وسنثبت دلالته على الإمامة والإمارة لمولى المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبالله التوفيق...
الفصل الأول: في بيان صحة حديث الغدير:
ويحتوي هذا الفصل على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أسماء بعض من ضعّفَ حديث الغدير من أهل السنة.
النقطة الثانية: أسماء بعض من صحّح حديث الغدير من أهل السنة.
النقطة الثالثة: ذكر بعض الأسانيد الصحيحة لحديث الغدير من طرق أهل السنة.
النقطة الأولى: أسماء بعض من ضعّفَ حديث الغدير من أهل السنة:
طبعاً الكلام هنا عن أهل السنة، وأما الشيعة فلا يوجد فيهم أحد يشك في تواتر الحديث فضلاً عن أن ينكر صحته، يقول الطوسي شيخ الطائفة قدس سره: والذي يدل على صحة الخبر (يعني الغدير) تواتر الشيعة به خلفاً عن سلف على ما بيناه في التواتر بالنص الجلي، وكلما يُسأل عليه من الأسئلة فالجواب عنه ما تقدم، وأيضاً فقد رواه أصحابُ الحديث من طرق كثيرة لم يرد في الشريعة خبر متواتر أكثر طرقاً منه، فإنه روى الطبري من نيف وسبعين طريقاً، وابن عقدة من مائة وخمس وعشرين طريقاً.
فإن لم يثبت بذلك صحته، فليس في الشرع خبر صحيح!!!الإقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد ص 216
ولكن جماعة من علماء أهل السنة لم تحتمل قلوبهم التصديق بهذا الحديث الشريف على الرغم من كثرة طرقه، ولا شك أن ذلك يعود إلى أنهم قد فهموا مغزى الحديث الشريف، وهو يقضي بفساد رأيهم ورأي أسلافهم، نعوذ بالله من الهوى، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
وفي بعض الأحيان يطغى التعصب على المرء إلى حدٍ يؤثر فيه هلاك نفسه على قبول الحق، كما قال الله عز وجل عن لسان بعضهم: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وهذه أسماء جملة من العلماء الذين ضعفوا هذا الحديث النبوي:
1 – أبو حصين الكوفي (المتوفى سنة 128 هـ)
وقال يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما سمعنا هذا الحديث حتى جاء هذا من خراسان فنعق به -يعني: أبا إسحاق- "من كنت مولاه فعلي مولاه" فاتبعه على ذلك ناس.
تهذيب الكمال المزي ج 19 ص 405
قلتُ: وأبو حصين المذكور عثماني من رجال الكتب الستة، قال الذهبي: أبو حصين (ع) عثمان بن عاصم بن حصين... الإمام الحافظ الأسدي الكوفي... روى عن جابر بن سمرة، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة... وروى أحمد بن سنان القطان، عن عبدالرحمن بن مهدي قال: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو مخطئ، ليس هم، منهم أبو حصين الاسدي. وروى أبو بكر بن أبي الاسود، عن ابن مهدي قال: لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة: منصور، وأبو حصين، وسلمة بن كهيل، وعمرو بن مرة، قال: وكان منصور أثبت أهل الكوفة... قال ابن معين والنسائي وجماعة: أبو حصين ثقة.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
وقد كشف لنا الذهبي القناع عن سبب تكذيبه للحديث الشريف، فنطق بشهادة حق، عندما قال بعد أن أورد كلام ابن حصين المتقدم: الحديثُ ثابتٌ بلا ريب، ولكن أبو حصين عثماني، وهذا نادر في رجل كوفي.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
إذاً فسبب تكذيبه للحديث هو مذهبه الفاسد، والقاعدة تقول: ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، لكن القضية هنا ليست قضية علم أو عدم علم، بل هي قضية هوى، والهوى يعمي ويصم... ثم قال الذهبي: قال أحمد بن عبدالله العجلي: كان أبو حصين شيخاً عالياً، وكان صاحب سنة... وقال في موضع آخر: كان ثقة عثمانياً رجلاً صالحاً ثبتاً في الحديث، هو أسن من الأعمش، وكان الذي بينهما متباعداً. ووقع بينهما شر، حتى تحول الأعمش عنه إلى بني حرام.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
وأما أبو إسحاق (توفي سنة 127 هـ) الذي اتُهم بوضع حديث الغدير!!! فهو حافظ ثقة من رجال الكتب الستة، وكان معاصراً لأبي حصين، قال الذهبي: أبو إسحاق السبيعي (ع) عمرو بن عبدالله بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبدالله بن علي الهمداني الكوفي الحافظ شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها... وكان رحمه الله من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين. قال: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأيتُ علي بن أبي طالب يخطب. وروى عن معاوية، وعدي بن حاتم، وابن عباس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم.... وكان طلاّبة للعلم، كبير القدر... وهو ثقة حجة بلا نزاع، وقد كبر وتغير حفظه تغير السن، ولم يختلط... قال علي بن المديني: حفظ العلم على الأمة ستة: فلأهل الكوفة: أبو إسحاق والأعمش، ولأهل البصرة: قتادة ويحيى بن أبي كثير، ولأهل المدينة: الزهري... قال أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين: أبو إسحاق ثقة.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 392
2 – البخاري (توفي سنة 256 هـ)
سيأتي كلام ابن تيمية المنقول عنه مع إبراهيم الحربي...
3 – أبو داود السجستاني (توفي سنة 275 هـ)
سيأتي كلام القرطبي المنقول عنه مع أبي حاتم الرازي...
4 – أبو حاتم الرازي (توفي سنة 277 هـ)
قال القرطبي: السادسة: في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه).... إلى أن قال: والجواب عن الحديث الأول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله). قالوا: فلو كان قد قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) لكان أحد الخبرين كذبا.
تفسير القرطبي ج 1 ص 266
5 – إبراهيم الحربي (توفي سنة 285 هـ)
قال ابن تيمية: وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث انهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي.
كتاب منهاج السنة ج 7 ص 319
التعليق:
لا نستغرب من تضعيف الحربي لحديث الغدير، فإنه كان عارفاً باللغة، فقد قال الذهبي في ترجمته: قال الخطيب: كان إماماً في العلم رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث، مميزاً لعلله، قيماً بالأدب، جماعاً للغة، صنّف "غريب الحديث" وكتبا كثيرة...
قال القفطي: "غريب الحديث" له من أنفس الكتب وأكبرها.
قال ثعلب: ما فقدتُ إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة.
تذكرة الحفاظ ج 2 ص 584
ولا أريد أن أقول أن فهم الحديث يتطلب دراسة اللغة العربية 50 سنة!!! بل الحديث واضح جداً، لكن المقصود أن من كان كإبراهيم الحربي، لا يمكن أن تنطلي عليه شبهات المشككين، فهو إما أن يكذب الحديث، أو يعتقد بأنه صريح في الدلالة على الإمامة، وقد أختارَ الأول...
فتبين أن ما دعاه لتضعيف حديث الغدير ليس قلة الأسانيد أو عدم صحتها، وإنما دعاه لذلك تلك الـ (50) سنة التي حضر فيها دروس اللغة والنحو!!! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}...
6 – ابن حزم الظاهري (توفي سنة 456 هـ)
قال: وأما "من كنت مولاه فعلي مولاه" فلا يصح من طريق الثقات أصلاً!!!
الفصل في الملل والأهواء والنحل ص 494 (الوراق)
التعليق:
ابن حزم منسوب إلى النصب، قال الذهبي في ترجمته: وقال ابن حيان: وكان مما يزيد في شنآنه: تشيعه لأمراء بنى أمية ماضيهم وباقيهم، واعتقاده بصحة إمامتهم، حتى نسب إلى النصب.
تذكرة الحفاظ ج 3 ص 1152
وإن تضعيفه لحديث الغدير أقوى دليل على نصبه، إذ ليس هو ممن يجهل الأحاديث، ولا اللغة ومقاصدها: قال الذهبي: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، ومعرفته بالسنن والآثار والأخبار.
تذكرة الحفاظ ج 3 ص 1147
7 – ابن تيمية (توفي سنة 728 هـ)
قال الألباني: فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث (يعني حديث الغدير) وبيان صحّته، أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعّف الشطر الأوّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنّه كذب!
سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 4 الحديث 1750
وقد عزى الألباني ذلك إلى مجموع الفتاوى، ورأيته قد زعم أن الشطر الثاني كذب كما قال الألباني، أما الشطر الأول فلم أره قد صرح بتضيفه، وإنما بدى ابن تيمية مضطرباً، وهذا نص كلامه:
قال: وأما قوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه}... إلخ" فهذا ليس في شيء من الأمهات، إلا في الترمذي وليس فيه إلا: {من كنت مولاه فعلي مولاه} وأما الزيادة فليست في الحديث. وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة كوفية... ولا ريب أنها كذب لوجوه... إلى أن قال: وقوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسنه...
مجموع فتاوى ابن تيمية
قلت: ونصب ابن تيمية أشهر من نار على علم، وقد أوردتُ كلام ابن تيمية كاملاً ورددت عليه في بحثٍ سابق...
8 – الدكتور بشار عواد معروف
وهو أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بغداد، وهو الذي حقق كتاب تهذيب الكمال للمزي، قال معلقاً على الحديث الشريف: ليس في كل طرق هذا (الحديث) طريقٌ صحيح، وقد تقدم في المجلد السابق (20/3828) أنه لم يكن هذا الحديث معروفا حتى نعق به ناعق من خراسان!
تهذيب الكمال المزي ج 20 ص 484 (في الهامش)
وقال ايضاً معلقاً على حديث الغدير: هذه الطرق كلها ضعيفة، كما هو واضح بيّن، ولا أدري لمَ يكّثر المؤلف من إيراد كل هذه الأسانيد عن مثل هذه الأشياء غير الثابتة!!!
تهذيب الكمال ج 22 ص 398 (في الهامش)
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه محمدٍ وآله المعصومين وسلم تسليماً كثيراً...
يتكون هذا البحث من مقدمة وفصلين وخاتمة:
الفصل الأول: في بيان صحة حديث الغدير
الفصل الثاني: في بيان دلالة حديث الغدير
مقدمة:
حديث الغدير هو أهم الأدلة السمعية الدّالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بالكيفية التي يعتقدها الشيعة الإمامية...
وقد دلّت النصوص على أن الله سبحانه وتعالى قد أمَرَ نبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بتبليغ ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بحسب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سورة المائدة 67
فصدعَ رسول الله صلى الله عليه وآله بما أٌمِرَ به في يوم الغدير، وبتبليغها اكتمل الدين وتمت النعمة، يقول المولى جل وعز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} سورة المائدة 3
ومن النصوص التي تدل على كل ما تقدم، ما رواه الشيخ الكليني أعلى الله مقامه، بسند صحيح عن: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن "زرارة، والفضيل بن يسار، وبكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وأبي الجارود" جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال:
أمرَ اللهُ عز وجل رسولَهُ بولايةِ عليٍ، وأنزلَ عليه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ} وفرضَ ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمرَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وآله أن يفسّر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فلما أتاهُ ذلك من الله، ضاقَ بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله، وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم، وأن يكذبوه، فضاقَ صدره، وراجع ربه عز وجل، فأوحى الله عز وجل إليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
فصدعَ بأمر الله تعالى ذكره، فقامَ بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة وأمرَ الناس أن يبلّغَ الشاهد الغائب.
قال عمر بن أذينة: قالوا جميعاً غير أبي الجارود: وقال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.
الكافي ج 1 ص 289
وروى الشيخ الصدوق قدس سره في الخصال ص 65 حديث الغدير بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن أسيد الغفاري ثم قال: الأخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أخرجتها في كتاب المعرفة في الفضائل.
ولم ينفرد الشيعة برواية حديث الغدير، بل هو صحيح متواتر حتى من طرق أهل السنة والجماعة...
وسنبحث في هذا الموضوع "حديث الغدير" من ناحية السند وسنثبت تواتره، ثم نبحث فيه من ناحية الدلالة وسنثبت دلالته على الإمامة والإمارة لمولى المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبالله التوفيق...
الفصل الأول: في بيان صحة حديث الغدير:
ويحتوي هذا الفصل على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أسماء بعض من ضعّفَ حديث الغدير من أهل السنة.
النقطة الثانية: أسماء بعض من صحّح حديث الغدير من أهل السنة.
النقطة الثالثة: ذكر بعض الأسانيد الصحيحة لحديث الغدير من طرق أهل السنة.
النقطة الأولى: أسماء بعض من ضعّفَ حديث الغدير من أهل السنة:
طبعاً الكلام هنا عن أهل السنة، وأما الشيعة فلا يوجد فيهم أحد يشك في تواتر الحديث فضلاً عن أن ينكر صحته، يقول الطوسي شيخ الطائفة قدس سره: والذي يدل على صحة الخبر (يعني الغدير) تواتر الشيعة به خلفاً عن سلف على ما بيناه في التواتر بالنص الجلي، وكلما يُسأل عليه من الأسئلة فالجواب عنه ما تقدم، وأيضاً فقد رواه أصحابُ الحديث من طرق كثيرة لم يرد في الشريعة خبر متواتر أكثر طرقاً منه، فإنه روى الطبري من نيف وسبعين طريقاً، وابن عقدة من مائة وخمس وعشرين طريقاً.
فإن لم يثبت بذلك صحته، فليس في الشرع خبر صحيح!!!الإقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد ص 216
ولكن جماعة من علماء أهل السنة لم تحتمل قلوبهم التصديق بهذا الحديث الشريف على الرغم من كثرة طرقه، ولا شك أن ذلك يعود إلى أنهم قد فهموا مغزى الحديث الشريف، وهو يقضي بفساد رأيهم ورأي أسلافهم، نعوذ بالله من الهوى، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
وفي بعض الأحيان يطغى التعصب على المرء إلى حدٍ يؤثر فيه هلاك نفسه على قبول الحق، كما قال الله عز وجل عن لسان بعضهم: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وهذه أسماء جملة من العلماء الذين ضعفوا هذا الحديث النبوي:
1 – أبو حصين الكوفي (المتوفى سنة 128 هـ)
وقال يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما سمعنا هذا الحديث حتى جاء هذا من خراسان فنعق به -يعني: أبا إسحاق- "من كنت مولاه فعلي مولاه" فاتبعه على ذلك ناس.
تهذيب الكمال المزي ج 19 ص 405
قلتُ: وأبو حصين المذكور عثماني من رجال الكتب الستة، قال الذهبي: أبو حصين (ع) عثمان بن عاصم بن حصين... الإمام الحافظ الأسدي الكوفي... روى عن جابر بن سمرة، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة... وروى أحمد بن سنان القطان، عن عبدالرحمن بن مهدي قال: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو مخطئ، ليس هم، منهم أبو حصين الاسدي. وروى أبو بكر بن أبي الاسود، عن ابن مهدي قال: لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة: منصور، وأبو حصين، وسلمة بن كهيل، وعمرو بن مرة، قال: وكان منصور أثبت أهل الكوفة... قال ابن معين والنسائي وجماعة: أبو حصين ثقة.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
وقد كشف لنا الذهبي القناع عن سبب تكذيبه للحديث الشريف، فنطق بشهادة حق، عندما قال بعد أن أورد كلام ابن حصين المتقدم: الحديثُ ثابتٌ بلا ريب، ولكن أبو حصين عثماني، وهذا نادر في رجل كوفي.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
إذاً فسبب تكذيبه للحديث هو مذهبه الفاسد، والقاعدة تقول: ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، لكن القضية هنا ليست قضية علم أو عدم علم، بل هي قضية هوى، والهوى يعمي ويصم... ثم قال الذهبي: قال أحمد بن عبدالله العجلي: كان أبو حصين شيخاً عالياً، وكان صاحب سنة... وقال في موضع آخر: كان ثقة عثمانياً رجلاً صالحاً ثبتاً في الحديث، هو أسن من الأعمش، وكان الذي بينهما متباعداً. ووقع بينهما شر، حتى تحول الأعمش عنه إلى بني حرام.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 412
وأما أبو إسحاق (توفي سنة 127 هـ) الذي اتُهم بوضع حديث الغدير!!! فهو حافظ ثقة من رجال الكتب الستة، وكان معاصراً لأبي حصين، قال الذهبي: أبو إسحاق السبيعي (ع) عمرو بن عبدالله بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبدالله بن علي الهمداني الكوفي الحافظ شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها... وكان رحمه الله من العلماء العاملين، ومن جلة التابعين. قال: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأيتُ علي بن أبي طالب يخطب. وروى عن معاوية، وعدي بن حاتم، وابن عباس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم.... وكان طلاّبة للعلم، كبير القدر... وهو ثقة حجة بلا نزاع، وقد كبر وتغير حفظه تغير السن، ولم يختلط... قال علي بن المديني: حفظ العلم على الأمة ستة: فلأهل الكوفة: أبو إسحاق والأعمش، ولأهل البصرة: قتادة ويحيى بن أبي كثير، ولأهل المدينة: الزهري... قال أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين: أبو إسحاق ثقة.
سير أعلام النبلاء ج 5 ص 392
2 – البخاري (توفي سنة 256 هـ)
سيأتي كلام ابن تيمية المنقول عنه مع إبراهيم الحربي...
3 – أبو داود السجستاني (توفي سنة 275 هـ)
سيأتي كلام القرطبي المنقول عنه مع أبي حاتم الرازي...
4 – أبو حاتم الرازي (توفي سنة 277 هـ)
قال القرطبي: السادسة: في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه).... إلى أن قال: والجواب عن الحديث الأول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله). قالوا: فلو كان قد قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) لكان أحد الخبرين كذبا.
تفسير القرطبي ج 1 ص 266
5 – إبراهيم الحربي (توفي سنة 285 هـ)
قال ابن تيمية: وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث انهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي.
كتاب منهاج السنة ج 7 ص 319
التعليق:
لا نستغرب من تضعيف الحربي لحديث الغدير، فإنه كان عارفاً باللغة، فقد قال الذهبي في ترجمته: قال الخطيب: كان إماماً في العلم رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث، مميزاً لعلله، قيماً بالأدب، جماعاً للغة، صنّف "غريب الحديث" وكتبا كثيرة...
قال القفطي: "غريب الحديث" له من أنفس الكتب وأكبرها.
قال ثعلب: ما فقدتُ إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة.
تذكرة الحفاظ ج 2 ص 584
ولا أريد أن أقول أن فهم الحديث يتطلب دراسة اللغة العربية 50 سنة!!! بل الحديث واضح جداً، لكن المقصود أن من كان كإبراهيم الحربي، لا يمكن أن تنطلي عليه شبهات المشككين، فهو إما أن يكذب الحديث، أو يعتقد بأنه صريح في الدلالة على الإمامة، وقد أختارَ الأول...
فتبين أن ما دعاه لتضعيف حديث الغدير ليس قلة الأسانيد أو عدم صحتها، وإنما دعاه لذلك تلك الـ (50) سنة التي حضر فيها دروس اللغة والنحو!!! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}...
6 – ابن حزم الظاهري (توفي سنة 456 هـ)
قال: وأما "من كنت مولاه فعلي مولاه" فلا يصح من طريق الثقات أصلاً!!!
الفصل في الملل والأهواء والنحل ص 494 (الوراق)
التعليق:
ابن حزم منسوب إلى النصب، قال الذهبي في ترجمته: وقال ابن حيان: وكان مما يزيد في شنآنه: تشيعه لأمراء بنى أمية ماضيهم وباقيهم، واعتقاده بصحة إمامتهم، حتى نسب إلى النصب.
تذكرة الحفاظ ج 3 ص 1152
وإن تضعيفه لحديث الغدير أقوى دليل على نصبه، إذ ليس هو ممن يجهل الأحاديث، ولا اللغة ومقاصدها: قال الذهبي: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، ومعرفته بالسنن والآثار والأخبار.
تذكرة الحفاظ ج 3 ص 1147
7 – ابن تيمية (توفي سنة 728 هـ)
قال الألباني: فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث (يعني حديث الغدير) وبيان صحّته، أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعّف الشطر الأوّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنّه كذب!
سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 4 الحديث 1750
وقد عزى الألباني ذلك إلى مجموع الفتاوى، ورأيته قد زعم أن الشطر الثاني كذب كما قال الألباني، أما الشطر الأول فلم أره قد صرح بتضيفه، وإنما بدى ابن تيمية مضطرباً، وهذا نص كلامه:
قال: وأما قوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه}... إلخ" فهذا ليس في شيء من الأمهات، إلا في الترمذي وليس فيه إلا: {من كنت مولاه فعلي مولاه} وأما الزيادة فليست في الحديث. وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة كوفية... ولا ريب أنها كذب لوجوه... إلى أن قال: وقوله: {من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسنه...
مجموع فتاوى ابن تيمية
قلت: ونصب ابن تيمية أشهر من نار على علم، وقد أوردتُ كلام ابن تيمية كاملاً ورددت عليه في بحثٍ سابق...
8 – الدكتور بشار عواد معروف
وهو أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بغداد، وهو الذي حقق كتاب تهذيب الكمال للمزي، قال معلقاً على الحديث الشريف: ليس في كل طرق هذا (الحديث) طريقٌ صحيح، وقد تقدم في المجلد السابق (20/3828) أنه لم يكن هذا الحديث معروفا حتى نعق به ناعق من خراسان!
تهذيب الكمال المزي ج 20 ص 484 (في الهامش)
وقال ايضاً معلقاً على حديث الغدير: هذه الطرق كلها ضعيفة، كما هو واضح بيّن، ولا أدري لمَ يكّثر المؤلف من إيراد كل هذه الأسانيد عن مثل هذه الأشياء غير الثابتة!!!
تهذيب الكمال ج 22 ص 398 (في الهامش)
تعليق