تويت
إصلاح على الطريقة الأميركية
جوزف سماحة
لم يشتهر تقرير في تاريخ الأمم المتحدة وتاريخ <<البرنامج الإنمائي>> قدر الشهرة التي أصابت تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002. وفي وقت كانت الولايات المتحدة تهمّش مجلس الأمن كان المسؤولون فيها يتوالون على ذكر تقرير التنمية، والإشادة به، واعتباره هادياً لاستراتيجيتهم الجديدة في المنطقة.
اكتشفت واشنطن، فجأة، أن هناك عرباً ينتقدون الأوضاع العربية. وأشركت العالم كله في هذه المفاجأة. حصل ذلك في المرحلة الفاصلة بين حرب أفغانستان وحرب العراق. وكان المطلوب، من وجهة نظر أميركية، تقديم أساس <<أخلاقي>> للعدوان يتجاوز أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع الإرهاب. لا بل كان المطلوب أكثر بكثير. كان الإلحاح قوياً لتقديم تفسير للجوء العرب إلى التسلح ولإقدام عرب على ترجمة كراهيتهم للسياسة الخارجية الأميركية بأعمال إرهابية. وبما أن الجواب كان جاهزاً، وبما أن برنار لويس، مثلاً، كان قال أمراً مماثلاً، وبما أن <<المحافظين الجدد>> كانوا يخرجون الخطط من الأدراج، وبما أن المحافظين القوميين كانوا يحتاجون إلى ملء فراغهم الإيديولوجي بعد الحرب الباردة، فإن التقرير المشار إليه جاء ليرد على هذه الحاجات كلها.
يعدد التقرير المشاكل العديدة في العالم العربي من غير أن يدخل في بحث عن مصادرها وأسبابها. ويلتقي، بذلك، مع الوعي الأميركي المستجد القائل بأن العرب يكرهون أميركا لعلة فيهم، وأن المطلوب تغييرهم لا تغيير السياسة الأميركية. إن العرب يتسلحون ويرهبون هرباً من مواجهة مشكلات أصابتهم وهم المسؤولون عنها. لذا لا بد من تأديب <<المارق>> بينهم (الحرب)، ولا بد من إصلاح أوضاع الباقين (مبادرة الشرق الأوسط الكبير).
كاد أميركيون يزعمون أنهم وضعوا جيشهم في خدمة نادر الفرجاني وغيره من واضعي التقرير. وطاب لليبراليين عرب، من سقط متاع الليبرالية، أن يروّجوا لهذا الانقلاب الهائل: إن الديموقراطية في فوهة البندقية الأميركية.
شاع مناخ <<إصلاحي>> تحت الضغط. عقدت اجتماعات عديدة في سياق المبادرة أو <<الشراكة>>. وكان <<منتدى المستقبل>> قبل أيام في الرباط محطة أخرى (ليست أخيرة) على طريق عرّج على الإسكندرية، وصنعاء، وبيروت، ودبي...
إلا أن هذه الاجتماعات كلها كانت إما حكومية، أو بإشراف حكومي، أو بتمويل من هيئات أميركية أو أوروبية، أو برعاية جهات وضعت لنفسها شعار <<تجسير الهوة بين المثقف والحاكم بواسطة المال>>.
في هذا الوقت كانت واشنطن تعاقب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن تقريره للعام 2003 (حرمانه من 12 مليون دولار) لأن الرقابة اللاحقة التي مارستها أقنعتها أن واضعيه لم يكونوا منضبطين كفاية. علماً أن هؤلاء حاولوا، عبثاً، التبرؤ من الاستخدام الأميركي الذرائعي لما أصدروه في 2002.
وخوفاً من تكرار تجربة 2003 في 2004 فإن الولايات المتحدة مارست، هذه المرة، رقابة مسبقة: النص لن يصدر في صيغته الحالية وإلا فإن العقوبة تكون الامتناع عن دفع مئة مليون دولار هي مساهمة أميركا في ميزانية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
تنفي الولايات المتحدة أن تكون هددت، غير أن ما فعلته هو نوع من السر الشائع، كما أن الدور الذي لعبته حكومات عربية معروف. سبب الاحتجاج الرسمي الأميركي والعربي هو أن التقرير يتضمن ملاحظات على التأثير السلبي لاحتلال العراق على وضع الحريات في المنطقة، وكذلك انتقادات لإسرائيل، ولنقص الممارسة الديموقراطية من جانب حكومات عربية.
التقرير مرفوض لأنه يحمّل <<الخارج>> بعض المسؤولية عن الأحوال البائسة للعالم العربي، ولأنه يذهب في انتقاد أنظمة إلى أبعد ما تتحمّله العلاقات الأميركية معها. أي أنه مرفوض لأنه لا يتبنى، بالكامل، النظرية الرسمية الأميركية حول أسباب التعثر العربي، وهي الأسباب التي تحصل التدخلات الأجنبية من أجل معالجتها.
لقد بات واضحاً، أكثر من أي وقت مضى، أن شروط الإصلاح عديدة. فمن غير الجائز تهديد علاقات التبعية، ومن غير الجائز تحميل <<الخارج>> أي مسؤولية، ومن المستحسن تغليب الاقتصادي على السياسي. الإصلاح هو تأهيل المجتمعات العربية وصولاً إلى إعادة هيكلتها بحيث ترتضي الاستتباع، وتتخلى عن أي طموح وطني، وتوافق على الاجتياح النيو ليبرالي. إن هذا، بالضبط، ما تتم تجربته في العراق وفلسطين. وهذا هو، بالضبط، ما يحرّك السياسة الأميركية حيال الحلفاء العرب. ولكن الشعارات الراديكالية تبقى مرفوعة في وجه المعترضين سياسياً وفي وجه المثقفين المستقلين فعلاً والراغبين في توزيع عادل للمسؤوليات عمّا يصيب شعوبهم.
جوزف سماحة
لم يشتهر تقرير في تاريخ الأمم المتحدة وتاريخ <<البرنامج الإنمائي>> قدر الشهرة التي أصابت تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002. وفي وقت كانت الولايات المتحدة تهمّش مجلس الأمن كان المسؤولون فيها يتوالون على ذكر تقرير التنمية، والإشادة به، واعتباره هادياً لاستراتيجيتهم الجديدة في المنطقة.
اكتشفت واشنطن، فجأة، أن هناك عرباً ينتقدون الأوضاع العربية. وأشركت العالم كله في هذه المفاجأة. حصل ذلك في المرحلة الفاصلة بين حرب أفغانستان وحرب العراق. وكان المطلوب، من وجهة نظر أميركية، تقديم أساس <<أخلاقي>> للعدوان يتجاوز أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع الإرهاب. لا بل كان المطلوب أكثر بكثير. كان الإلحاح قوياً لتقديم تفسير للجوء العرب إلى التسلح ولإقدام عرب على ترجمة كراهيتهم للسياسة الخارجية الأميركية بأعمال إرهابية. وبما أن الجواب كان جاهزاً، وبما أن برنار لويس، مثلاً، كان قال أمراً مماثلاً، وبما أن <<المحافظين الجدد>> كانوا يخرجون الخطط من الأدراج، وبما أن المحافظين القوميين كانوا يحتاجون إلى ملء فراغهم الإيديولوجي بعد الحرب الباردة، فإن التقرير المشار إليه جاء ليرد على هذه الحاجات كلها.
يعدد التقرير المشاكل العديدة في العالم العربي من غير أن يدخل في بحث عن مصادرها وأسبابها. ويلتقي، بذلك، مع الوعي الأميركي المستجد القائل بأن العرب يكرهون أميركا لعلة فيهم، وأن المطلوب تغييرهم لا تغيير السياسة الأميركية. إن العرب يتسلحون ويرهبون هرباً من مواجهة مشكلات أصابتهم وهم المسؤولون عنها. لذا لا بد من تأديب <<المارق>> بينهم (الحرب)، ولا بد من إصلاح أوضاع الباقين (مبادرة الشرق الأوسط الكبير).
كاد أميركيون يزعمون أنهم وضعوا جيشهم في خدمة نادر الفرجاني وغيره من واضعي التقرير. وطاب لليبراليين عرب، من سقط متاع الليبرالية، أن يروّجوا لهذا الانقلاب الهائل: إن الديموقراطية في فوهة البندقية الأميركية.
شاع مناخ <<إصلاحي>> تحت الضغط. عقدت اجتماعات عديدة في سياق المبادرة أو <<الشراكة>>. وكان <<منتدى المستقبل>> قبل أيام في الرباط محطة أخرى (ليست أخيرة) على طريق عرّج على الإسكندرية، وصنعاء، وبيروت، ودبي...
إلا أن هذه الاجتماعات كلها كانت إما حكومية، أو بإشراف حكومي، أو بتمويل من هيئات أميركية أو أوروبية، أو برعاية جهات وضعت لنفسها شعار <<تجسير الهوة بين المثقف والحاكم بواسطة المال>>.
في هذا الوقت كانت واشنطن تعاقب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن تقريره للعام 2003 (حرمانه من 12 مليون دولار) لأن الرقابة اللاحقة التي مارستها أقنعتها أن واضعيه لم يكونوا منضبطين كفاية. علماً أن هؤلاء حاولوا، عبثاً، التبرؤ من الاستخدام الأميركي الذرائعي لما أصدروه في 2002.
وخوفاً من تكرار تجربة 2003 في 2004 فإن الولايات المتحدة مارست، هذه المرة، رقابة مسبقة: النص لن يصدر في صيغته الحالية وإلا فإن العقوبة تكون الامتناع عن دفع مئة مليون دولار هي مساهمة أميركا في ميزانية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
تنفي الولايات المتحدة أن تكون هددت، غير أن ما فعلته هو نوع من السر الشائع، كما أن الدور الذي لعبته حكومات عربية معروف. سبب الاحتجاج الرسمي الأميركي والعربي هو أن التقرير يتضمن ملاحظات على التأثير السلبي لاحتلال العراق على وضع الحريات في المنطقة، وكذلك انتقادات لإسرائيل، ولنقص الممارسة الديموقراطية من جانب حكومات عربية.
التقرير مرفوض لأنه يحمّل <<الخارج>> بعض المسؤولية عن الأحوال البائسة للعالم العربي، ولأنه يذهب في انتقاد أنظمة إلى أبعد ما تتحمّله العلاقات الأميركية معها. أي أنه مرفوض لأنه لا يتبنى، بالكامل، النظرية الرسمية الأميركية حول أسباب التعثر العربي، وهي الأسباب التي تحصل التدخلات الأجنبية من أجل معالجتها.
لقد بات واضحاً، أكثر من أي وقت مضى، أن شروط الإصلاح عديدة. فمن غير الجائز تهديد علاقات التبعية، ومن غير الجائز تحميل <<الخارج>> أي مسؤولية، ومن المستحسن تغليب الاقتصادي على السياسي. الإصلاح هو تأهيل المجتمعات العربية وصولاً إلى إعادة هيكلتها بحيث ترتضي الاستتباع، وتتخلى عن أي طموح وطني، وتوافق على الاجتياح النيو ليبرالي. إن هذا، بالضبط، ما تتم تجربته في العراق وفلسطين. وهذا هو، بالضبط، ما يحرّك السياسة الأميركية حيال الحلفاء العرب. ولكن الشعارات الراديكالية تبقى مرفوعة في وجه المعترضين سياسياً وفي وجه المثقفين المستقلين فعلاً والراغبين في توزيع عادل للمسؤوليات عمّا يصيب شعوبهم.