النهار"
الجمعة 24 كانون الاول 2004
"المنار" محطة المقاومة بامتياز نجحت في "اختراق" التنوع اللبناني
خاطبت الوجدان العربي فضائياً ولم "تروتش" الدراما الفلسطينية والعراقية
كتبت جنى نصرالله:
حين إنطلق تلفزيون "المنار" في حزيران عام 1991 من مقر متواضع في منطقة بئر العبد، إقتصر ارساله على منطقة الضاحية الجنوبية. وحين تحوَل من البث الأرضي الى البث الفضائي عام 2000 أصبح يُغطي جهات العالم الأربع. أما حين نجح في إثبات حضوره في الفضاء الإعلامي العربي والعالمي،مُنع من البث في أوروبا عبر القمر الاصطناعي "يوتيلسات"، علما ان التقاطه في أجزاء كبيرة من اوروبا لا يزال ممكنا عبر القمرين"نايل سات" و"عربسات". وما لبث أن أدرج القناة لائحة "الارهاب" الاميركية فتوقف بثها في شكل شبه كلي في الولايات المتحدة. والنتيجة، وقوع هذه المحطة ضحية التضييق على حرية التعبير عن الرأي في الدول التي تحارب بسيف الديموقراطية، وتعتبر أن القمع هو احدى آفات المجتمعات المتخلفة.
والدفاع عن "المنار" في الحملة العالمية التي يواجهها اليوم لا يفترض بالضرورة اقتناعا بخطابه السياسي والديني والايديولوجي، بل لعلها موجبات الإختلاف انطلاقا من الاقتناع بضرورة الحفاظ على التنوع في المجتمع اللبناني الذي بات يخوض معارك الحرية على الجبهات الداخلية والخارجية.
لم تخدع قناة "المنار" نفسها منذ انطلاقتها الاولى، كما لم تخدع جمهورها، فكان التزامها السياسي والديني واضحا. انها قناة "المقاومة الاسلامية”. حقيقة تعكسها اصغر التفاصيل على الشاشة بدءا بالحرف الذي إختير لكتابة أسم القناة مرورا بالنشرات الاخبارية والبرامج وصولا الى الاعلانات الترويجية التي لم تشذ يوما عن هذا الاطار العام لجهة اختيار الصورة والموسيقى والكلام. وتعرف "المنار" عن نفسها بقولها " تتوجه الى العرب والمسلمين في كل أقطار العالم بخطاب توحيدي منفتح، وتنتهج سياسات موضوعية، يحفزها على ذلك طموح كبير في المشاركة في صنع غد أفضل للأجيال والمجتمعات العربية والإسلامية في بقاع الأرض كافة من خلال التركيز على القيم الدينية السمحاء(...)".
قناة المقاومة
إن الخيار الذي انتهجته "المنار" رسم لها صورة واضحة المعالم والأهداف في نظر جمهورها الذي حددته سلفا. انه الجمهور المسلم والملتزم والمقاوم. وهذا يعني انها استبعدت تلقائيا الفئات الاخرى من المجتمع اللبناني الذي يعاني انقسامات حادة في معاينة الموضوعات السياسية والاجتماعية والعقيدية مهما بدت جوهرية او هامشية. ولا يكفي أن تشير القناة في كتيب التعريف الخاص الى أنها ترمي "لتعزيز ثقافة الحوار والتلاقي والتعاون بين أتباع الأديان السموية والحضارات الإنسانية، وأنها تركز على ابراز قيمة الانسان كمحور لرسالات السماء التي تهدف الى صون كرامته وحريته وتنمية الابعاد الروحية والمعنوية في شخصيته"، حتى تنجح في استقطاب المجتمع اللبناني بكل اهوائه واطيافه وتلاوينه. فصورة القناة التصقت بصورة "حزب الله" و"المقاومة الاسلامية”. فكان بديهيا أن يبني كثيرون موقفهم من "المنار" انطلاقا من موقفهم من الحزب والمقاومة، فإما ان يدعموا القناة ويدمنوا مشاهدتها ويعتبروها مرجعهم الاعلامي، واما أن يتخذوا منها موقفا سلبيا ويقاطعوها حتى قبل ان يطلعوا على طبيعة المادة التي تبثها. فرأيهم بـ"المنار" هو صدى طبيعي لرأيهم بالمقاومة والحزب، علما ان ليس "حزب الله" هو الذي بادر الى تأسيس القناة عام 1991 بل مجموعة من الاصدقاء والمرجعيات والشخصيات القريبة منه إرتأت ضرورة وجود محطة تلفزيونية تعكس صورة المجتمع المقاوم. ولم يصبح الحزب شريكا فعليا فيها الا بعد بضعة اعوام، وتحديدا في المرحلة التي بدأ يتوسع خلالها بث القناة التي سعت لنيل الترخيص عام 1996 شأنها شأن بقية المحطات التلفزيونية، فتحولت من قناة المنار الى"شركة المجموعة اللبنانية للاعلام". والغاية من هذا الكلام هو التأكيد أن قناة "المنار" شكلت منذ اللحظة الاولى لإنطلاقتها اشكالية جعلتها في موقع خاص وغير شعبي، مما صعَب عليها مهمة "اختراق" المجتمع اللبناني وعقَّد إمكان فرض نفسها ضيفا محببا.
لم يزعج هذا الواقع المحطة في بداياتها، وخصوصا ان إهتمامها كان منصبا على تعزيز صورة المقاومة، وتشكيل دعامة اساسية لها في الوجدان الشعبي. وقد أدت مهمتها على هذا المستوى، فأصبحت المنار" محطة المقاومة والناطق الرسمي بإسمها، علما انها لم تكن المحطة الوحيدة التي تنقل أنباء العمليات ضد الاسرائيليين، كما انه لم يكن لديها جهاز خاص مكلف تصوير اعمال المقاومة كما يخال البعض، بل ان الاعلام الحربي لدى "المقاومة الاسلامية" هو الذي كان مكلفا تصوير الاعمال العسكرية وعمليات المقاومة وتوزيعها على جميع المحطات. غير ان "المنار" كانت تحصل على حصة الاسد من هذه المشاهد كونها تعيش حالاً من التماهي الكامل مع الحرب ضد الاسرائيليين.
ولا ينفي مدير الاخبار حسن فضل الله الدور الذي وُجدت لأجله المحطة. ويؤكد أن" المنحى كان واضحا منذ البداية وهو نقل خطاب المقاومة"، الا انه يشير في المقابل الى ان المحطة "ارادت ان تكون منفتحة على الجميع منذ نشأتها. لذا، كانت تبدي حرصا شديدا على التنوع في أختيار ضيوفها من أقصى اليمين الى اقصى اليسار ومن الموالين الى المعارضين من دون استثناء. ويلفت الى ان غسان تويني كان من اوائل الضيوف الذين حلوا على المحطة في انطلاقتها التي تزامنت مع انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991.
بين الاستثناء والترخيص
نجحت "المنار" اذاً في أن تحجز لها مكانا في الفضاء الاعلامي اللبناني. وكان هذا انجازا في ذاته بالنسبة اليها، وان اقتصر دورها في المرحلة الاولى على خدمة اهداف المقاومة. ولم يتأثر أداؤها بعدما اعتُبر وجودها اسثتناءً أدى الى حرمانها في المرحلة الاولى الحصول على ترخيص يشرع وجودها، بل على العكس، فقد كرس هذا الاستثناء وظيفتها ودورها، وأصبحت بأعتراف الدولة قناة المقاومة بعدما قرر مجلس الوزراء في 17/9/ 1996السماح لتلفزيون "المنار" واذاعة "النور" مواصلة البث والاذاعة استثنائيا "الى حين زوال الاحتلال الاسرائيلي بإنسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية المحتلة على أن يحصر نشاط هاتين الوسيلتين الاعلاميتين في بث الصوت والصورة في ما يتعلق بأخبار المقاومة السياسية والعسكرية فقط ومن دون اي استنساب او اجتهاد في هذا المجال"، علما ان قرار الاستثناء أثار عاصفة من الاستياء دفعت رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي الى القول "اذا لم يلغ الإستثناء سأذهب الى بيتي سيرا ولن أحتاج للدولة لإيصالي". غير ان الهراوي ذهب يومها الى دمشق حيث عقد قمة مع الرئيس الراحل حافظ الاسد أنهت عاصفة الرفض للاستثناء واعادت العمل به.
ربحت "المنار" - التي كانت تطمح الى الترخيص فحصلت على الاستثناء - المعركة سياسيا لكنها خسرت شعبيا اذا صح القول. فبدلا من ان تكسب الى جانبها جمهورا منوعا، بدت اكثر التصاقا بـ"حزب الله" والمقاومة، تقاسمهما جمهورهما من دون ان يكون لها جمهورها الخاص.
غير ان "الاستثناء" بدا مرحلة موقتة في حياة هذه القناة التي لم تهمل رغبتها في الحصول على الترخيص، فأعدت العدة لخوض المعركة مجدداً وأسست شركة "المجموعة اللبنانية للاعلام" التي رخص لها مجلس الوزراء في 23/7/1997 بقرار اعتبر مفاجئا في حينها، وخصوصا ان المجلس الوطني للإعــــــــلام المكلــــــف ابداء الرأي في طلبات الترخيص التلفزيونية والاذاعية أشار بحجب الترخيص.
لم تستطع "المنار" في ظل هذه الظروف "إختراق" المجتمع اللبناني وتغيير الصورة النمطية التي تشكلت في أذهان الجمهور رغم ارتفاع عدد مشاهديها ليس بسبب اتساع قاعدة المؤيدين للحزب ولعمليات المقاومة في الجنوب فحسب، بل لأن القناة نفسها باتت تحظى بأهتمام النخب السياسية والثقافية في البلاد بغض النظر عن مواقفها السياسية والايديولوجية. ويؤكد فضل الله في هذا الاطار ان "المنار" ليست قناة دينية بل قناة عامة ومنوعة تقدم نفسها لكل أفراد الاسرة. وقد حرصت على تطبيق قانون الاعلام بحذافيره منعا لترك ثغر قد تستخدم ضدها في ظرف معين". غير ان التنوع فيها لا يرمي فقط الى استباق اي محاولة لاتهام المحطة بخرق القوانين او عدم التزامها، بل الى التأكيد على ان التزام خيار المقاومة لا يتنافى مع اداء رسالة اعلامية هادئة ومتوازنة اجتماعيا وثقافيا واسريا وحتى صحيا ورياضيا. وقد استطاعت المحطة ايصال هذه الرسالة التي كلفتها بذل جهد كبير لم تحتج اليه ربما المحطات اللبنانية الاخرى. ولا بد هنا من الاشارة الى ان "المنار" في سعيها هذا لا تتخلى عن معتقداتها الدينية وعقيدتها ومفاهيمها الاخلاقية وفق ما يؤكد فضل الله، مشيرا الى أن لدى القناة "ضوابط أخلاقية ودينية تعكس ثقافة وقيما اجتماعية معينة، منشأها بيئة عربية محافظة".
البث الفضائي
شكّل تحرير الجنوب عام 2000 نقلة نوعية في حياة القناة التي تحولت في حينها قناة أولى من دون منافس، فإخترقت الحواجز والعوائق التي كانت تحول دون وصولها الى أبناء المجتمع على أختلاف مشاربهم. وكان بديهيا ان تدرج على شاشات التلفزة اللبنانية التي غابت عنها منذ نشأتها. فالجميع أراد أن يتابع الحدث بعدما شعر بأن قناة "المنار" ستقدمه بأسلوب مختلف وخصوصا انها كانت بمثابة" أم الصبي". كان دور "المنار" أكبر من ان يتم تجاهله او تهميشه في هذه اللحظة السياسية الخاصة، ففرض نفسه محليا ودوليا وجاء رد الفعل الاولي من الجانب الاسرائيلي الذي قال تلفزيونه الرسمي حينها: "ان حزب الله يقوم بعملية اقتحام واستيلاء من دون اطلاق نار.
ويتمثل هذا الاقتحام بآلات التصوير التلفزيونية، وتغطية وقصف كلامي هائل". واضاف في مكان آخر: "انتصر حزب الله في الصراع على القطاع الاوسط بواسطة المدفع الذي يقذف اقوى القذائف وهو التلفاز".
ولكن ماذا بعد التحرير؟ واي دور ستؤديه" المنار" ؟ كان طرح هذا السؤال كفيلا أن يدفعها للانطلاق نحو البث الفضائي. ففي وقت نهض التحرير بالقناة على المستوى اللبناني، جاء القرار بالبث الفضائي الذي تزامن مع الانتفاضة الفلسطينية، وهذا يعني بديهيا اعطاء القضية الفلسطينية الأولوية في أخبار "المنار" وتوجهاتها السياسية الجديدة. فاذا بالمحطة التي كانت تغطي الضاحية الجنوبية قبل 13 عاما، اصبحت اليوم تملك "واحدة من أوسع الشبكات للبث عبر الأقمار الاصطناعية، اذ يغطي ارسالهما المنطقة العربية وقارات أوروبا وأميركا وأفريقيا وأوستراليا وجزءاً كبيراً من القارة الآسيوية".
وهنا، دخلت المحطة في مرحلة جديدة لتواجه جمهورا جديدا ومختلفا. والمقصود هنا الجمهور العربي الذي بدا أكثر تجاوبا مع توجه "المنار" وخصوصا ان هذه القناة جاءت بخطاب حماسي يحاكي وجدانه وهو ما افتقدت اليه الشعوب العربية منذ زمن. ولكن صورة "المنار" اليوم تختلف تماما عن الصورة التي تحاول ان تضفيها عليها اللوبيات اليهودية وهي "التشهير العرقي الطابع والتحريض على الكــــــره العــرقي ونشر صور عنيـــــفة تســـــيء الى الكرامة الانسانية"، وفق ما جاء في المذكرة التي ارسلها المجلس التمثيلي للمؤسســـات اليــــــهودية في فرنسا الى وزارة الـعدل احتجاجا على مسلسل "الشتات" الذي تضمن مشاهد اعتبرها معادية لليهود.
فهذه المحطة الفضائية لا تقدم فقط صور الدم والعنف التي لا تختلقها باي حال، اذ انها جزء من المشهدين الفلسطيني والعراقي اليومي اللذين تنقلهما الفضائيات الاخرى، وان بوتيرة اقل نظرا لحساباتها السياسية. وهذا ما لا ينطبق على "المنار" التي اختارت ان تنقل الحقيقة كما هي من دون اي "روتوش"!
لم تعد "المنار" اليوم تعيش في الاطار الضيق الذي وجدت فيه في مرحلة من الزمن، فقد فرضت نفسها تلفزيونيا محليا وفضائيا وان كان بعض الجمهور لا يتابعها الا في الاحداث الكبرى بحثا عن اضافة قد لا يجدها في الفضائيات الاخرى. وهذا تمايز في ذاته. ولأن القناة باتت تدرك اللعبة الاعلامية ولا تغفل العامل السياسي المؤثر في هويتها واتجاهاتها، فقد سلكت درب العمل المؤسساتي المحترف، وانتسبت الى اتحاد اذاعات الدول العربية التابع للجامعة العربية وهي عضو في لجنة التنسيق بين الفضائيات العربية، وحصدت العديد من الجوائز الذهبية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. ولعل أهم ما تتميز به القسم العبري الذي يهتم بترجمة اقوال الصحف العبرية وينقل وجهة نظرها بالحرف وان تضمنت شتيمة او وصف نابيا لـ"حزب الله" او المقاومة. كل هذا للتأكيد ان لهذه المحطة وجها اخر يختلف تماما عن الصورة النمطية الشائعة.
"للمرة الأولى في تاريخنا يتغلب العدو بالحرب النفسية على اسرائيل، بما في ذلك الاستخدام الذكي لوسائل الاعلام. اذ تبين ان قدرة اسرائيل على الصمود قد تراجعت بحيث لم يعد بوسع احد معرفتها، رغم ان الامتحان لم ينته بعد" (زئيف شيف – "هآرتس”). لعل هذه العبارات تعكس الاسباب التي تبرر التحرك اليهودي لاسكات" المنار"، ولا حاجة للبحث عن اسباب لادراج القناة على لائحة "الارهاب" الاميركي بعدما اصبح الاميركيون يصنفون العالم وفق مقاييس خاصة جدا.
لن تقتصر اضرار الحرب المعلنة على "المنار" اليوم على هذه القناة، بل ان شظاياها ستطاول الاعلام العربي برمته. والمطلوب ليس موقفا لبنانيا متضامنا ولكن موقفا عربيا موحدا، ولكن يبدو انه طلب صعب المنال!
صحيفة النهار
الجمعة 24 كانون الاول 2004
"المنار" محطة المقاومة بامتياز نجحت في "اختراق" التنوع اللبناني
خاطبت الوجدان العربي فضائياً ولم "تروتش" الدراما الفلسطينية والعراقية
كتبت جنى نصرالله:
حين إنطلق تلفزيون "المنار" في حزيران عام 1991 من مقر متواضع في منطقة بئر العبد، إقتصر ارساله على منطقة الضاحية الجنوبية. وحين تحوَل من البث الأرضي الى البث الفضائي عام 2000 أصبح يُغطي جهات العالم الأربع. أما حين نجح في إثبات حضوره في الفضاء الإعلامي العربي والعالمي،مُنع من البث في أوروبا عبر القمر الاصطناعي "يوتيلسات"، علما ان التقاطه في أجزاء كبيرة من اوروبا لا يزال ممكنا عبر القمرين"نايل سات" و"عربسات". وما لبث أن أدرج القناة لائحة "الارهاب" الاميركية فتوقف بثها في شكل شبه كلي في الولايات المتحدة. والنتيجة، وقوع هذه المحطة ضحية التضييق على حرية التعبير عن الرأي في الدول التي تحارب بسيف الديموقراطية، وتعتبر أن القمع هو احدى آفات المجتمعات المتخلفة.
والدفاع عن "المنار" في الحملة العالمية التي يواجهها اليوم لا يفترض بالضرورة اقتناعا بخطابه السياسي والديني والايديولوجي، بل لعلها موجبات الإختلاف انطلاقا من الاقتناع بضرورة الحفاظ على التنوع في المجتمع اللبناني الذي بات يخوض معارك الحرية على الجبهات الداخلية والخارجية.
لم تخدع قناة "المنار" نفسها منذ انطلاقتها الاولى، كما لم تخدع جمهورها، فكان التزامها السياسي والديني واضحا. انها قناة "المقاومة الاسلامية”. حقيقة تعكسها اصغر التفاصيل على الشاشة بدءا بالحرف الذي إختير لكتابة أسم القناة مرورا بالنشرات الاخبارية والبرامج وصولا الى الاعلانات الترويجية التي لم تشذ يوما عن هذا الاطار العام لجهة اختيار الصورة والموسيقى والكلام. وتعرف "المنار" عن نفسها بقولها " تتوجه الى العرب والمسلمين في كل أقطار العالم بخطاب توحيدي منفتح، وتنتهج سياسات موضوعية، يحفزها على ذلك طموح كبير في المشاركة في صنع غد أفضل للأجيال والمجتمعات العربية والإسلامية في بقاع الأرض كافة من خلال التركيز على القيم الدينية السمحاء(...)".
قناة المقاومة
إن الخيار الذي انتهجته "المنار" رسم لها صورة واضحة المعالم والأهداف في نظر جمهورها الذي حددته سلفا. انه الجمهور المسلم والملتزم والمقاوم. وهذا يعني انها استبعدت تلقائيا الفئات الاخرى من المجتمع اللبناني الذي يعاني انقسامات حادة في معاينة الموضوعات السياسية والاجتماعية والعقيدية مهما بدت جوهرية او هامشية. ولا يكفي أن تشير القناة في كتيب التعريف الخاص الى أنها ترمي "لتعزيز ثقافة الحوار والتلاقي والتعاون بين أتباع الأديان السموية والحضارات الإنسانية، وأنها تركز على ابراز قيمة الانسان كمحور لرسالات السماء التي تهدف الى صون كرامته وحريته وتنمية الابعاد الروحية والمعنوية في شخصيته"، حتى تنجح في استقطاب المجتمع اللبناني بكل اهوائه واطيافه وتلاوينه. فصورة القناة التصقت بصورة "حزب الله" و"المقاومة الاسلامية”. فكان بديهيا أن يبني كثيرون موقفهم من "المنار" انطلاقا من موقفهم من الحزب والمقاومة، فإما ان يدعموا القناة ويدمنوا مشاهدتها ويعتبروها مرجعهم الاعلامي، واما أن يتخذوا منها موقفا سلبيا ويقاطعوها حتى قبل ان يطلعوا على طبيعة المادة التي تبثها. فرأيهم بـ"المنار" هو صدى طبيعي لرأيهم بالمقاومة والحزب، علما ان ليس "حزب الله" هو الذي بادر الى تأسيس القناة عام 1991 بل مجموعة من الاصدقاء والمرجعيات والشخصيات القريبة منه إرتأت ضرورة وجود محطة تلفزيونية تعكس صورة المجتمع المقاوم. ولم يصبح الحزب شريكا فعليا فيها الا بعد بضعة اعوام، وتحديدا في المرحلة التي بدأ يتوسع خلالها بث القناة التي سعت لنيل الترخيص عام 1996 شأنها شأن بقية المحطات التلفزيونية، فتحولت من قناة المنار الى"شركة المجموعة اللبنانية للاعلام". والغاية من هذا الكلام هو التأكيد أن قناة "المنار" شكلت منذ اللحظة الاولى لإنطلاقتها اشكالية جعلتها في موقع خاص وغير شعبي، مما صعَب عليها مهمة "اختراق" المجتمع اللبناني وعقَّد إمكان فرض نفسها ضيفا محببا.
لم يزعج هذا الواقع المحطة في بداياتها، وخصوصا ان إهتمامها كان منصبا على تعزيز صورة المقاومة، وتشكيل دعامة اساسية لها في الوجدان الشعبي. وقد أدت مهمتها على هذا المستوى، فأصبحت المنار" محطة المقاومة والناطق الرسمي بإسمها، علما انها لم تكن المحطة الوحيدة التي تنقل أنباء العمليات ضد الاسرائيليين، كما انه لم يكن لديها جهاز خاص مكلف تصوير اعمال المقاومة كما يخال البعض، بل ان الاعلام الحربي لدى "المقاومة الاسلامية" هو الذي كان مكلفا تصوير الاعمال العسكرية وعمليات المقاومة وتوزيعها على جميع المحطات. غير ان "المنار" كانت تحصل على حصة الاسد من هذه المشاهد كونها تعيش حالاً من التماهي الكامل مع الحرب ضد الاسرائيليين.
ولا ينفي مدير الاخبار حسن فضل الله الدور الذي وُجدت لأجله المحطة. ويؤكد أن" المنحى كان واضحا منذ البداية وهو نقل خطاب المقاومة"، الا انه يشير في المقابل الى ان المحطة "ارادت ان تكون منفتحة على الجميع منذ نشأتها. لذا، كانت تبدي حرصا شديدا على التنوع في أختيار ضيوفها من أقصى اليمين الى اقصى اليسار ومن الموالين الى المعارضين من دون استثناء. ويلفت الى ان غسان تويني كان من اوائل الضيوف الذين حلوا على المحطة في انطلاقتها التي تزامنت مع انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991.
بين الاستثناء والترخيص
نجحت "المنار" اذاً في أن تحجز لها مكانا في الفضاء الاعلامي اللبناني. وكان هذا انجازا في ذاته بالنسبة اليها، وان اقتصر دورها في المرحلة الاولى على خدمة اهداف المقاومة. ولم يتأثر أداؤها بعدما اعتُبر وجودها اسثتناءً أدى الى حرمانها في المرحلة الاولى الحصول على ترخيص يشرع وجودها، بل على العكس، فقد كرس هذا الاستثناء وظيفتها ودورها، وأصبحت بأعتراف الدولة قناة المقاومة بعدما قرر مجلس الوزراء في 17/9/ 1996السماح لتلفزيون "المنار" واذاعة "النور" مواصلة البث والاذاعة استثنائيا "الى حين زوال الاحتلال الاسرائيلي بإنسحاب القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية المحتلة على أن يحصر نشاط هاتين الوسيلتين الاعلاميتين في بث الصوت والصورة في ما يتعلق بأخبار المقاومة السياسية والعسكرية فقط ومن دون اي استنساب او اجتهاد في هذا المجال"، علما ان قرار الاستثناء أثار عاصفة من الاستياء دفعت رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي الى القول "اذا لم يلغ الإستثناء سأذهب الى بيتي سيرا ولن أحتاج للدولة لإيصالي". غير ان الهراوي ذهب يومها الى دمشق حيث عقد قمة مع الرئيس الراحل حافظ الاسد أنهت عاصفة الرفض للاستثناء واعادت العمل به.
ربحت "المنار" - التي كانت تطمح الى الترخيص فحصلت على الاستثناء - المعركة سياسيا لكنها خسرت شعبيا اذا صح القول. فبدلا من ان تكسب الى جانبها جمهورا منوعا، بدت اكثر التصاقا بـ"حزب الله" والمقاومة، تقاسمهما جمهورهما من دون ان يكون لها جمهورها الخاص.
غير ان "الاستثناء" بدا مرحلة موقتة في حياة هذه القناة التي لم تهمل رغبتها في الحصول على الترخيص، فأعدت العدة لخوض المعركة مجدداً وأسست شركة "المجموعة اللبنانية للاعلام" التي رخص لها مجلس الوزراء في 23/7/1997 بقرار اعتبر مفاجئا في حينها، وخصوصا ان المجلس الوطني للإعــــــــلام المكلــــــف ابداء الرأي في طلبات الترخيص التلفزيونية والاذاعية أشار بحجب الترخيص.
لم تستطع "المنار" في ظل هذه الظروف "إختراق" المجتمع اللبناني وتغيير الصورة النمطية التي تشكلت في أذهان الجمهور رغم ارتفاع عدد مشاهديها ليس بسبب اتساع قاعدة المؤيدين للحزب ولعمليات المقاومة في الجنوب فحسب، بل لأن القناة نفسها باتت تحظى بأهتمام النخب السياسية والثقافية في البلاد بغض النظر عن مواقفها السياسية والايديولوجية. ويؤكد فضل الله في هذا الاطار ان "المنار" ليست قناة دينية بل قناة عامة ومنوعة تقدم نفسها لكل أفراد الاسرة. وقد حرصت على تطبيق قانون الاعلام بحذافيره منعا لترك ثغر قد تستخدم ضدها في ظرف معين". غير ان التنوع فيها لا يرمي فقط الى استباق اي محاولة لاتهام المحطة بخرق القوانين او عدم التزامها، بل الى التأكيد على ان التزام خيار المقاومة لا يتنافى مع اداء رسالة اعلامية هادئة ومتوازنة اجتماعيا وثقافيا واسريا وحتى صحيا ورياضيا. وقد استطاعت المحطة ايصال هذه الرسالة التي كلفتها بذل جهد كبير لم تحتج اليه ربما المحطات اللبنانية الاخرى. ولا بد هنا من الاشارة الى ان "المنار" في سعيها هذا لا تتخلى عن معتقداتها الدينية وعقيدتها ومفاهيمها الاخلاقية وفق ما يؤكد فضل الله، مشيرا الى أن لدى القناة "ضوابط أخلاقية ودينية تعكس ثقافة وقيما اجتماعية معينة، منشأها بيئة عربية محافظة".
البث الفضائي
شكّل تحرير الجنوب عام 2000 نقلة نوعية في حياة القناة التي تحولت في حينها قناة أولى من دون منافس، فإخترقت الحواجز والعوائق التي كانت تحول دون وصولها الى أبناء المجتمع على أختلاف مشاربهم. وكان بديهيا ان تدرج على شاشات التلفزة اللبنانية التي غابت عنها منذ نشأتها. فالجميع أراد أن يتابع الحدث بعدما شعر بأن قناة "المنار" ستقدمه بأسلوب مختلف وخصوصا انها كانت بمثابة" أم الصبي". كان دور "المنار" أكبر من ان يتم تجاهله او تهميشه في هذه اللحظة السياسية الخاصة، ففرض نفسه محليا ودوليا وجاء رد الفعل الاولي من الجانب الاسرائيلي الذي قال تلفزيونه الرسمي حينها: "ان حزب الله يقوم بعملية اقتحام واستيلاء من دون اطلاق نار.
ويتمثل هذا الاقتحام بآلات التصوير التلفزيونية، وتغطية وقصف كلامي هائل". واضاف في مكان آخر: "انتصر حزب الله في الصراع على القطاع الاوسط بواسطة المدفع الذي يقذف اقوى القذائف وهو التلفاز".
ولكن ماذا بعد التحرير؟ واي دور ستؤديه" المنار" ؟ كان طرح هذا السؤال كفيلا أن يدفعها للانطلاق نحو البث الفضائي. ففي وقت نهض التحرير بالقناة على المستوى اللبناني، جاء القرار بالبث الفضائي الذي تزامن مع الانتفاضة الفلسطينية، وهذا يعني بديهيا اعطاء القضية الفلسطينية الأولوية في أخبار "المنار" وتوجهاتها السياسية الجديدة. فاذا بالمحطة التي كانت تغطي الضاحية الجنوبية قبل 13 عاما، اصبحت اليوم تملك "واحدة من أوسع الشبكات للبث عبر الأقمار الاصطناعية، اذ يغطي ارسالهما المنطقة العربية وقارات أوروبا وأميركا وأفريقيا وأوستراليا وجزءاً كبيراً من القارة الآسيوية".
وهنا، دخلت المحطة في مرحلة جديدة لتواجه جمهورا جديدا ومختلفا. والمقصود هنا الجمهور العربي الذي بدا أكثر تجاوبا مع توجه "المنار" وخصوصا ان هذه القناة جاءت بخطاب حماسي يحاكي وجدانه وهو ما افتقدت اليه الشعوب العربية منذ زمن. ولكن صورة "المنار" اليوم تختلف تماما عن الصورة التي تحاول ان تضفيها عليها اللوبيات اليهودية وهي "التشهير العرقي الطابع والتحريض على الكــــــره العــرقي ونشر صور عنيـــــفة تســـــيء الى الكرامة الانسانية"، وفق ما جاء في المذكرة التي ارسلها المجلس التمثيلي للمؤسســـات اليــــــهودية في فرنسا الى وزارة الـعدل احتجاجا على مسلسل "الشتات" الذي تضمن مشاهد اعتبرها معادية لليهود.
فهذه المحطة الفضائية لا تقدم فقط صور الدم والعنف التي لا تختلقها باي حال، اذ انها جزء من المشهدين الفلسطيني والعراقي اليومي اللذين تنقلهما الفضائيات الاخرى، وان بوتيرة اقل نظرا لحساباتها السياسية. وهذا ما لا ينطبق على "المنار" التي اختارت ان تنقل الحقيقة كما هي من دون اي "روتوش"!
لم تعد "المنار" اليوم تعيش في الاطار الضيق الذي وجدت فيه في مرحلة من الزمن، فقد فرضت نفسها تلفزيونيا محليا وفضائيا وان كان بعض الجمهور لا يتابعها الا في الاحداث الكبرى بحثا عن اضافة قد لا يجدها في الفضائيات الاخرى. وهذا تمايز في ذاته. ولأن القناة باتت تدرك اللعبة الاعلامية ولا تغفل العامل السياسي المؤثر في هويتها واتجاهاتها، فقد سلكت درب العمل المؤسساتي المحترف، وانتسبت الى اتحاد اذاعات الدول العربية التابع للجامعة العربية وهي عضو في لجنة التنسيق بين الفضائيات العربية، وحصدت العديد من الجوائز الذهبية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. ولعل أهم ما تتميز به القسم العبري الذي يهتم بترجمة اقوال الصحف العبرية وينقل وجهة نظرها بالحرف وان تضمنت شتيمة او وصف نابيا لـ"حزب الله" او المقاومة. كل هذا للتأكيد ان لهذه المحطة وجها اخر يختلف تماما عن الصورة النمطية الشائعة.
"للمرة الأولى في تاريخنا يتغلب العدو بالحرب النفسية على اسرائيل، بما في ذلك الاستخدام الذكي لوسائل الاعلام. اذ تبين ان قدرة اسرائيل على الصمود قد تراجعت بحيث لم يعد بوسع احد معرفتها، رغم ان الامتحان لم ينته بعد" (زئيف شيف – "هآرتس”). لعل هذه العبارات تعكس الاسباب التي تبرر التحرك اليهودي لاسكات" المنار"، ولا حاجة للبحث عن اسباب لادراج القناة على لائحة "الارهاب" الاميركي بعدما اصبح الاميركيون يصنفون العالم وفق مقاييس خاصة جدا.
لن تقتصر اضرار الحرب المعلنة على "المنار" اليوم على هذه القناة، بل ان شظاياها ستطاول الاعلام العربي برمته. والمطلوب ليس موقفا لبنانيا متضامنا ولكن موقفا عربيا موحدا، ولكن يبدو انه طلب صعب المنال!
صحيفة النهار