بسمه تعالى
: درس في الاخلاق (للشيخ الجليل مصباح اليزدي دام ظله العالى)
إننا جميعاً متساوون من حيث الحاجات والميول والرغبات وكذلك في القوى الروحية والمعنوية, وهنا نسأل: هل أودعت فينا ميول كامنة لا نعلم عنها الكثير, وإذا أردنا لها الظهور وجب علينا بذل نوع من الجهد في سبيل ذلك, وإذا ظهرت وجب علينا صرف مساعٍ أخرى لإشباعها, بحيث الميول والجهود المبذولة عليها مقدمة للكمال الذي تنشده الروح الإنسانية؟
الإسلام يجيب على هذا السؤال بـ (نعم), فالإنسان بفطرته يرغب إلى الله, لكنه لا يعلم كثيراً عن هذه الرغبة, حيث تبرز أحياناً, غير أنها تختفي خلف الحجب ليغفل المرء عنها ثانية. فنحن نشعر أحياناً بنسمة ريح طيبة تهب من أعماق وجودنا, إلا أنها سرعان ما تتلوث بأوساخ الدنيا، وتأتي مسألة (الأخلاق) بالمعنى العام، و(العرفان) بالمعنى المصطلح, و" السير والسلوك" بالمعنى الذي يطرحه علماء الأخلاق في سياق هذه المقولة, وترتكز على أساس أن للروح الإنسانية استعداداً للكمال؛ ويتطلب إدراك الحاجة لذلك الكمال أن يتحرك الإنسان بنفسه, ويسعى في الخطوة الأولى لمعرفة ماذا يريد, ثم يتحرك ضمن الطريق الذي ينمي هذه الرغبة ويشبعها ليصل أخيراً إلى غايته.
وهذا هو الغاية لبعثة الأنبياء وحركة الأئمة المعصومين ـ (ع) ـ وتأتي الأهداف الأخرى كمقدمة لتحقيق هذه الغاية. ولا شك في أن الأنبياء بُعثوا لإقامة القسط والعدل في المجتمع, ولقطع أيدي الظالمين والمستكبرين وتحرير المظلومين والمستضعفين, ولتربية البشرية جمعاء.
ولا شك أيضاً في أن تعاليمهم شملت حتى شؤون الحياة الدنيوية من أحكام صحية واقتصادية وسياسية وعسكرية وقوانين حقوقية وجزائية من أجل تحسين وضع الإنسان؛ غير أن هدف بعثة الأنبياء لم يقتصر على هذه الأمور.
إن كل ما نعرفه لا يتعدى نطاق القضايا المادية والدنيوية, ويدخل الكمال المعنوي في إطار آخر لا يمكن تعريفه وتبين خصائصه إلا كما تعرف للطفل مرحلة البلوغ ولذاتها, فيقال له مثلاً: إن لهذه اللذات مذاقاً كمذاق العسل, لأن الطفل لا يعرف شيئاً ألذ من العسل, ولكن شتان بينها وبين العسل.
فكيف توصف لذّة المناجاة والأنس مع الله, للإنسان الذي لا يعرف في نفسه هذه الرغبة وكل ما يرتبط بها من مراحل الكمال؟
إن أفضل مفهوم يمكن أن يقرب المعنى على ذهنه هو القول: إن لذّة المناجاة مع الله أشبه ما تكون بلّذة الأنس مع المعشوق, بيد أن الحقيقة تبقى بعيدة عمن لم يتذوق طعمها, لأن من لا يتذوقها لا يدرك ما طعمها, ومن حصل عليها ليس بوسعه أن يوضحها, لأن الآخرين غير قادرين على استيعابها, فهي تحتاج إلى أذن أخرى لسماعها, وتحتاج على عين أخرى لرؤية جمالها, وهي موجودة لكنها مغلقة مثلها مثل عين الجنين التي لم تفتح بعد, فإن لنا جميعاً عيناً باطنة وأذناً باطنة, إلا أنها لا تفتح ـ مع الأسف ـ إلا بعد حين, وربما لا تفتح إلا بعد فوات الأوان, فنقول: {ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون} (السجدة: 12). وهي أمنية لا تحقق حيث يأتي الجواب: {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي} (الأنعام: 130).
إذن يمكن القول إن العرفان الحقيقي يعني وصول الإنسان إلى أعلى المراتب, فهو معرفة الله التي تحصل بالشهود والوجود لا بالعلم والسماع, أي تلك المعرفة الممكنة لأولياء الله, وليست ذلك المفهوم الذي يتداعى إلى الأذهان.
والعرفان بهذا المعنى هو الذي سعى للوصول إليه الأنبياء وبذلوا غاية الجهد من أجل أن يعرّفوه للبشرية, وتحملوا الشدائد والمصائب لتحقيق الهدف, وضحوا بحياتهم ثمناً لذلك, وخاطبوا الناس بشتى الصيغ والأساليب للأخذ بأيديهم إليه وتعريفهم به.
ولكن للأسف فإن السلعة كلما غلا ثمنها كثر تزويرها, فحجر الألماس مثلاً وهو الأثمن من غيره يزيف أكثر من غيره, والذهب والجواهر الثمينة كذلك. ومن لا يستطيع التمييز بينها ينخدع بالبديل المزيف, لأن كليهما متشابهان في الظاهر وبريقهما واحد, والصائغ فقط هو الذي يستطيع التمييز بين الذهب والمُذَهَّب, والخبراء بهذه المسائل ـ مع الأسف ـ نادرون, فهناك الكثير ممن يدعي كذباً. وقليل من بلغ الكمال وأصبحت له القدرة على التمييز بين الأصل والزائف. ولهذا يجب أن نسعى إلى معرفة علامات ومواصفات العرفان الحقيقي, حصانة لنا من خداع المدّعين ودافعاً لنا لتلقي هذا النوع من المعارف.
وتشير إلى هذه المسألة الآيتان الكريمتان 15و16 من سورة المائدة: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام}.
فالقران الكريم نور وضّاء, لو اطلع على حقائقه أحد لبدد الظلمات وزيف الزائفين إلا أن بعض الناس لا يستنيرون بنوره ولا يهتدون بهداه, لأن هناك شرطاً أساسياً يجب أن يتوافر فيمن ينتفع منه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه}. فمن توافر فيه شرط "اتباع رضوانه " انتفع بنوره, ومزق حجب الظلمات. وبعكسه ـ أي من لم يتحقق فيه هذا الشرط ـ عُدم الفائدة وربما أساء الاستغلال أيضاً: {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}.
[أجل, إن هذا القرآن الذي يهدي المؤمنين للتي هي أقوم ويخرجهم من الظلمات إلى النور, لا يزيد الظالمين إلا خساراً.] فتراهم يتخبطون في الظلمات, لأنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم, ويريدون ليطفئوا نور الله, وأن يجعلوا هذا القرآن عضين, فهم أصحاب القلوب الزائغة التي تتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة, وهم عبيد الدنيا الذين يحوطون الدين ما درت معائشهم, وهو لعق على ألسنتهم, فلا يفقهون حديثاً.
والســـــــــــــلام اسالكم الدعاء بحق الزهراء ع
: درس في الاخلاق (للشيخ الجليل مصباح اليزدي دام ظله العالى)
إننا جميعاً متساوون من حيث الحاجات والميول والرغبات وكذلك في القوى الروحية والمعنوية, وهنا نسأل: هل أودعت فينا ميول كامنة لا نعلم عنها الكثير, وإذا أردنا لها الظهور وجب علينا بذل نوع من الجهد في سبيل ذلك, وإذا ظهرت وجب علينا صرف مساعٍ أخرى لإشباعها, بحيث الميول والجهود المبذولة عليها مقدمة للكمال الذي تنشده الروح الإنسانية؟
الإسلام يجيب على هذا السؤال بـ (نعم), فالإنسان بفطرته يرغب إلى الله, لكنه لا يعلم كثيراً عن هذه الرغبة, حيث تبرز أحياناً, غير أنها تختفي خلف الحجب ليغفل المرء عنها ثانية. فنحن نشعر أحياناً بنسمة ريح طيبة تهب من أعماق وجودنا, إلا أنها سرعان ما تتلوث بأوساخ الدنيا، وتأتي مسألة (الأخلاق) بالمعنى العام، و(العرفان) بالمعنى المصطلح, و" السير والسلوك" بالمعنى الذي يطرحه علماء الأخلاق في سياق هذه المقولة, وترتكز على أساس أن للروح الإنسانية استعداداً للكمال؛ ويتطلب إدراك الحاجة لذلك الكمال أن يتحرك الإنسان بنفسه, ويسعى في الخطوة الأولى لمعرفة ماذا يريد, ثم يتحرك ضمن الطريق الذي ينمي هذه الرغبة ويشبعها ليصل أخيراً إلى غايته.
وهذا هو الغاية لبعثة الأنبياء وحركة الأئمة المعصومين ـ (ع) ـ وتأتي الأهداف الأخرى كمقدمة لتحقيق هذه الغاية. ولا شك في أن الأنبياء بُعثوا لإقامة القسط والعدل في المجتمع, ولقطع أيدي الظالمين والمستكبرين وتحرير المظلومين والمستضعفين, ولتربية البشرية جمعاء.
ولا شك أيضاً في أن تعاليمهم شملت حتى شؤون الحياة الدنيوية من أحكام صحية واقتصادية وسياسية وعسكرية وقوانين حقوقية وجزائية من أجل تحسين وضع الإنسان؛ غير أن هدف بعثة الأنبياء لم يقتصر على هذه الأمور.
إن كل ما نعرفه لا يتعدى نطاق القضايا المادية والدنيوية, ويدخل الكمال المعنوي في إطار آخر لا يمكن تعريفه وتبين خصائصه إلا كما تعرف للطفل مرحلة البلوغ ولذاتها, فيقال له مثلاً: إن لهذه اللذات مذاقاً كمذاق العسل, لأن الطفل لا يعرف شيئاً ألذ من العسل, ولكن شتان بينها وبين العسل.
فكيف توصف لذّة المناجاة والأنس مع الله, للإنسان الذي لا يعرف في نفسه هذه الرغبة وكل ما يرتبط بها من مراحل الكمال؟
إن أفضل مفهوم يمكن أن يقرب المعنى على ذهنه هو القول: إن لذّة المناجاة مع الله أشبه ما تكون بلّذة الأنس مع المعشوق, بيد أن الحقيقة تبقى بعيدة عمن لم يتذوق طعمها, لأن من لا يتذوقها لا يدرك ما طعمها, ومن حصل عليها ليس بوسعه أن يوضحها, لأن الآخرين غير قادرين على استيعابها, فهي تحتاج إلى أذن أخرى لسماعها, وتحتاج على عين أخرى لرؤية جمالها, وهي موجودة لكنها مغلقة مثلها مثل عين الجنين التي لم تفتح بعد, فإن لنا جميعاً عيناً باطنة وأذناً باطنة, إلا أنها لا تفتح ـ مع الأسف ـ إلا بعد حين, وربما لا تفتح إلا بعد فوات الأوان, فنقول: {ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون} (السجدة: 12). وهي أمنية لا تحقق حيث يأتي الجواب: {ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي} (الأنعام: 130).
إذن يمكن القول إن العرفان الحقيقي يعني وصول الإنسان إلى أعلى المراتب, فهو معرفة الله التي تحصل بالشهود والوجود لا بالعلم والسماع, أي تلك المعرفة الممكنة لأولياء الله, وليست ذلك المفهوم الذي يتداعى إلى الأذهان.
والعرفان بهذا المعنى هو الذي سعى للوصول إليه الأنبياء وبذلوا غاية الجهد من أجل أن يعرّفوه للبشرية, وتحملوا الشدائد والمصائب لتحقيق الهدف, وضحوا بحياتهم ثمناً لذلك, وخاطبوا الناس بشتى الصيغ والأساليب للأخذ بأيديهم إليه وتعريفهم به.
ولكن للأسف فإن السلعة كلما غلا ثمنها كثر تزويرها, فحجر الألماس مثلاً وهو الأثمن من غيره يزيف أكثر من غيره, والذهب والجواهر الثمينة كذلك. ومن لا يستطيع التمييز بينها ينخدع بالبديل المزيف, لأن كليهما متشابهان في الظاهر وبريقهما واحد, والصائغ فقط هو الذي يستطيع التمييز بين الذهب والمُذَهَّب, والخبراء بهذه المسائل ـ مع الأسف ـ نادرون, فهناك الكثير ممن يدعي كذباً. وقليل من بلغ الكمال وأصبحت له القدرة على التمييز بين الأصل والزائف. ولهذا يجب أن نسعى إلى معرفة علامات ومواصفات العرفان الحقيقي, حصانة لنا من خداع المدّعين ودافعاً لنا لتلقي هذا النوع من المعارف.
وتشير إلى هذه المسألة الآيتان الكريمتان 15و16 من سورة المائدة: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام}.
فالقران الكريم نور وضّاء, لو اطلع على حقائقه أحد لبدد الظلمات وزيف الزائفين إلا أن بعض الناس لا يستنيرون بنوره ولا يهتدون بهداه, لأن هناك شرطاً أساسياً يجب أن يتوافر فيمن ينتفع منه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه}. فمن توافر فيه شرط "اتباع رضوانه " انتفع بنوره, ومزق حجب الظلمات. وبعكسه ـ أي من لم يتحقق فيه هذا الشرط ـ عُدم الفائدة وربما أساء الاستغلال أيضاً: {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}.
[أجل, إن هذا القرآن الذي يهدي المؤمنين للتي هي أقوم ويخرجهم من الظلمات إلى النور, لا يزيد الظالمين إلا خساراً.] فتراهم يتخبطون في الظلمات, لأنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم, ويريدون ليطفئوا نور الله, وأن يجعلوا هذا القرآن عضين, فهم أصحاب القلوب الزائغة التي تتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة, وهم عبيد الدنيا الذين يحوطون الدين ما درت معائشهم, وهو لعق على ألسنتهم, فلا يفقهون حديثاً.
والســـــــــــــلام اسالكم الدعاء بحق الزهراء ع