عام الاختراق الكبير
فهمي هويدي
لا يكن المرء شعوراً بالحنين أو الأسف حيال ذلك العام الذي نوشك أن نفارقه، لأنه لم يكن سوى شاهد جديد على زمن التراجع العربي. مع ذلك فأخشى ما أخشاه أن نترحم عليه في مقبل الأيام، لأن السُّحُب التي تلوح في الأفق توحي بأننا مقبلون على سنة <<كبيسة>> أخرى، إن لم تكن مخيفة أيضاً.
الأحداث الجسام التي وقعت خلال العام الماضي، فاجأتنا وصدمتنا حقاً، لكن كانت لها ميزة واحدة غير مقصودة بطبيعة الحال هي أنها كانت سبباً في إشاعة الإحساس بالخطر بين مختلف الفصائل الوطنية، الغيورة على حاضر الأمة ومستقبلها، الأمر الذي رتب نتيجتين مهمتين، الأولى تمثلت في إحداث نوع من الفرز في ساحة الخطاب العام، بمقتضاه انكشفت المواقف، ومن ثم تحددت المواقع بوضوح، وعرف الكافة أين يقف كل صاحب رأي وكل تجمع سياسي، من باع منهم ومن اشترى، ومن تماسك منهم ومن انهزم وانبطح. الأمر الثاني أن الخلافات الفكرية والايديولوجية تراجعت إلى الوراء، وبرز الهمّ الوطني حاكماً ومهيمناً، بالتالي فلم يعد يهم كثيراً أين يقف كل طرف، في اليمين أو اليسار أو الوسط، بل صار الأهم هو موقف كل من هؤلاء إزاء مصير الأمة ومستقبلها، وهل هم معها أم عليها، في أحضانها أم موالون لأعدائها.
إذا سألتني عن أهم قسمات عام 2004، فردي أن العلامة الأبرز لذلك العام تتمثل في تقدم طوابير المهزومين وارتفاع أصواتهم بشكل صريح وفج، على نحو غير مسبوق. أدري أن هؤلاء موجودون في كل مجتمع وكل زمان، لكنني أزعم أنهم في العالم العربي خلال نصف القرن الأخير كانوا يتوارون أحياناً، ويتحدثون بلغة ملفوفة وغير مباشرة في أحيان أخرى، وكانت الظروف تفرض عليهم طول الوقت الالتزام بحدود الإحتشام وممارسة ما يمكن أن نسميه بالحياء الوطني.
هذه الصورة اختلفت أو انقلبت تماماً خلال العام الذي نودعه. فالمهزومون كشفوا الأقنعة، وتخلّوا عن الحياء والاحتشام، وأصبحوا يتحدثون بوجه مكشوف وبصراحة مدهشة. وبالتالي فإن ترويجهم للهزيمة ودفاعهم عن الاستسلام والانبطاح، أصبح جزءاً من أدبيات المرحلة. وهم لم يكتفوا بذلك، وإنما انتقلوا من التسويغ والتبرير إلى الهجوم الشرس على مختلف القيم النبيلة في مجتمعاتنا، وأهم الثوابت التي يقوم عليها بناء الأمة، هكذا جهاراً نهاراً.
خلال كتابات عدة نشرت في الأسابيع التي خلت، أشرت إلى نماذج لهذا اللامعقول الذي طفا على سطح العام من حيث لا نحتسب، ولكن لا بأس من التذكير ببعض الرسائل التي تمثل فعلاً فاضحاً من الناحية السياسية، التي جرى بثها خلال العام.
من كان يتصور مثلاً أن يجري الدفاع عن الاحتلال الأميركي لبلد عربي بالكامل مثل العراق، وأن يوصف ذلك الاحتلال بأنه <<تحرير>>؟ ومن كان يتصور أن يجرؤ نفر من العرب على هجاء المقاومة الوطنية، وأن تعلو بعض الأصوات متهمة إياها بأنها <<إرهاب>>، ومدعية أن المقاومين ليسوا سوى <<إرهابيين>> حيناً و<<حربجية>> في حين آخر؟ ومن كان يتخيل يوماً ما أن تدبج بعض المقالات في الكيد والازدراء بما أسماه أحدهم <<إمارة حماس>>، وأن يجري التطاول على هيئة علماء المسلمين في العراق، بحيث يوصفون بأنهم هيئة علماء الخاطفين؟ ومن يصدق أن يقول قائل في مصر أكرر في مصر إن أهم بلدين في علاقاتها الخارجية هما الولايات المتحدة وإسرائيل، أو يقول إننا يجب ألا نسمح أبداً للعلاقات العربية بأن تؤثر سلباً على العلاقات مع إسرائيل (في دعوة وقحة لرفع شعار إسرائيل أولاً) أو أن يدعو داع إلى ضرورة التخلص من النظر بشكل سلبي إلى إسرائيل ولأي علاقة معها؟ ومن كان يصدق أن يطرح للمناقشة مبدأ الاستعانة بالأميركيين لإحداث التغيير الذي ننشده إذا عجزنا عنه، في <<استهبال>> مريب، يريد لنا أن نقتنع بأن الولايات المتحدة أصبحت منظمة خيرية مشغولة بإغاثة المقهورين وتطييب خواطر المعذبين.
حتى ثوابت الأمة، وعلى رأسها الانتماء إلى العروبة والإسلام، لم تسلم من الهجاء والازدراء، ممن أرادوا تجريح كل عناصر العافية والانقضاض عليها، احتماءً بشعار حرية الرأي والإجتهاد. إذ أراد المهزومون لموالاة أعداء الأمة وللعمالة أن تكون مجرد <<وجهة نظر>>، واجتهاداً مخالفاً لما يجري التعارف عليه؛ وهو ذات المنطق الذي يسوّغ <<الدعارة>> بحسبانها <<وجهة نظر>> مغايرة في المسألة الأخلاقية.
في شهر تشرين الثاني الماضي صدر في بيروت كتاب بعنوان <<ثقافة الاستسلام>>، ألفه زميلنا الأستاذ بلال الحسن. وفيه قام بتعرية وفضح خمسة من الكتّاب العرب، الذين يقفون ضمن الصفوف الأولى لطوابير المهزومين، ممن يدعون إلى الانبطاح ويسوّغون موالاة أعداء الأمة والتفريط بقضاياها وحقوقها.
في زمن الإنكسار، لا غرابة في أن تصبح <<ثقافة الاستسلام>> معلماً بارزاً في لغة الخطاب الإعلامي العربي. من ثم، ففضلاً عن اختراق مجموعة <<المارينز>> للمنابر الإعلامية المختلفة، فإن عناصرها لم يكتفوا بذلك، وإنما عمدوا إلى تأسيس منابر أخرى احتشد فيها نفر منهم، وحولوها إلى محطات إرسال لبث تلك الثقافة رفعت لافتات مختلفة، بحثية واستراتيجية وليبرالية.. الخ. وإضافة إلى بعض المراكز التي ادّعت اهتماماً بالمجتمع المدني، فإن العام المنصرم شهد تأسيس أكثر من صحيفة ومجلة (أحدثها صدر في تشرين الثاني الماضي) كانت <<ثقافة الاستسلام>> محوراً رئيسياً وقاسماً مشتركاً بينها.
ولأن الأميركيين لا يخفون ما يفعلون ويكشفون أغلب أوراقهم ولو بعد حين، فإنهم هم الذين أعلنوا على لسان وزير دفاعهم دونالد رامسفيلد أن الإدارة الأميركية تخوض أيضاً معركة <<حرب الأفكار>> في العالم العربي والإسلامي. وهم الذين أعلنوا على لسان متحدث باسم السفارة الأميركية في القاهرة عن اتجاههم إلى إنشاء وتمويل صحف ومنابر إعلامية في بعض العواصم العربية. ولم يخفوا أنهم يموّلون قناة <<الحرة>> ! التلفزيونية، وإذاعة <<سوا>> ومجلة <<هاي>> بحسبانها ضمن الأسلحة المستخدمة لكسب تلك الحرب.
إزاء تقدم طوابير المهزومين وتعدد المنابر التي تبنّت الترويج لثقافة الاستسلام، وبعد انضمام مصر إلى اتفاقية <<الكويز>> التي تجسد الاختراق الإسرائيلي الرسمي للاقتصاد المصري، هل نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا العام الذي نودعه هو عام الاختراق الكبير؟
ألا يلفت نظرك كمّ المؤتمرات والمنتديات التي عقدت خلال العام عن الإصلاح والتغيير في العالم العربي؟ ألا تلاحظون حجم الحضور الأميركي في تلك الملتقيات؟ أوليس مستغرباً أن يتجاوز الحضور الأميركي حدود المشاركة، بحيث يتولى الأميركيون تنظيم بعض تلك المؤتمرات وإعداد جدول أعمالها وتحديد المدعوين إليها والمشاركين في حواراتها؟ وهل يصدق عاقل أن الولايات المتحدة جادة في دعوتها إلى إصلاح حال العالم العربي؟ وهل يتصور مخلوق أن الأهداف الأميركية من الإصلاح يمكن أن تتطابق مع أهداف الأمة العربية والإسلامية؟
كثيرة هي الأسئلة التي تثيرها <<صرعة>> المنتديات والمؤتمرات التي حلت بالعالم العربي على مدار العام، حتى أصبحت منافساً لمهرجانات السينما والغناء والطرب، التي صارت وباءً لم يستثن عاصمة في أمة العرب. وهي أسئلة ليست للاستفهام فحسب، ولكن بعضها تعبير عن الاسترابة والبعض الآخر استنكاري بامتياز. وما يشجعني على طرحها ليس توالي انعقاد تلك المؤتمرات وطبيعة المنظمين لها والمشاركين فيها، وإنما أنني كنت شاهداً عليها، وحاضراً في بعضها ومن ثم مستمعاً لما قيل في ذلك البعض على الأقل.
لقد اعتذرت عن عدم حضور مؤتمرات كانت الرائحة الأميركية تفوح من جدول أعمالها، وشاركت فيما ظننت أنه مبرأ من تلك الشبهة، لكن تجربتي اقنعتني بأن <<الأجندة>> الأميركية مقررة على الجميع، وإنها إذا كانت قد أفصحت عن نفسها في بعض الملتقيات، فإنها حاضرة بقوة في خلفيات وأوراق وتوصيات الملتقيات الأخرى. لا أنكر أن بعض منظمي تلك المؤتمرات حسنو النية، ومخلصون في حرصهم على الإصلاح والتغيير. لكن ذلك لا ينفي أنه حتى هؤلاء كانوا يقفون على الأرضية الأميركية ربما دون أن يعلموا ويلتزمون بصورة غير مباشرة بالأجندة الخفية.
حين يدقق المرء في أوراق وتوصيات تلك السلسلة من المؤتمرات والملتقيات يستحضر على الفور الحديث الأميركي المتكرر عن <<الشرق الأوسط الكبير>>، والخرائط التي يراد رسمها فيه، والنموذج التركي الذي يراد تعميمه عليه، ويدرك أن <<حرب الأفكار>> هي المقدمة الضرورية لمرحلة إعادة رسم الخرائط، وأننا جميعاً ندفع لكي نسير في درب محدد، له مقاصد وأهداف واضحة، يستطيع أي قارئ لمشروع <<القرن الأميركي>> أن يقف على حقيقتها دون عناء.
عملية ترتيب الأوراق وتوفيق الأوضاع التي استمرّت طيلة عام 2004، يفترض أن تؤتي ثمارها في عام 2005. إن شئت فقل إن ما زرعناه في العام المنقضي سوف نجني حصاده في العام الجديد، وهذا بالتحديد مصدر القلق والخوف مما ستأتي به أو تسفر عنه الأشهر المقبلة، لأن الذي زرعناه في حده الأدنى ليس الذي تمنيناه، وإنما الذي تمناه غيرنا، وتحرى به مصالحه.
من وجهة نظرهم، هي فرصة تاريخية حقاً، فالانكسار العربي بلغ مداه، والاختراق في أعلى موجاته، والشقوق تملأ جدران الأمة، ومفردات الانصياع ومشتقاته معلقة على تلك الجدران من المحيط إلى الخليج. من ثم فالظرف مؤات تماماً لإحداث التفكيك وإعادة التركيب وإنجاز الخرائط الجديدة، بدءاً بتصفية قضية فلسطين وانتهاءً ببسط الهيمنة على جنبات الشرق الأوسط الكبير.
ومن سخريات القدر ومفارقاته أنه بينما ترفرف رايات الانصياع على جنبات العالم العربي، فإن مؤشرات التمرد على الهيمنة الأميركية تتعالى بقوة في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، ممثلة في الحملة الشعبية الواسعة النطاق التي رفضت الحرب على العراق في البداية ثم واصلت رفضها لمجمل سياسة الهيمنة الأميركية.
لسنا بصدد قدر مكتوب بطبيعة الحال، ولكنه مجرد <<سيناريو>> مفترض إذا قدر للأمور أن تمضي في الاتجاه الذي رسم لها. أما إذا اختلت المسيرة وتغير الموقف في العراق في غير مصلحة الاحتلال مثلاً، فإن ذلك السيناريو سوف ينقلب رأساً على عقب.
وأقولها صراحة، إذا تمكن الأميركيون من العراق، وثبتوا فوق ربوعه رايات الانصياع والتسليم، فإن شهية رعاة الحلم الأمبراطوري الأميركي سوف تنفتح لفرض المزيد من الركوع والانبطاح على العالم العربي، والإقدام على المزيد من المغامرات في العالم الإسلامي.
حينئذ سوف يقع المحظور، ونترحم على عام <<القرد>>!
() كاتب مصري
فهمي هويدي
لا يكن المرء شعوراً بالحنين أو الأسف حيال ذلك العام الذي نوشك أن نفارقه، لأنه لم يكن سوى شاهد جديد على زمن التراجع العربي. مع ذلك فأخشى ما أخشاه أن نترحم عليه في مقبل الأيام، لأن السُّحُب التي تلوح في الأفق توحي بأننا مقبلون على سنة <<كبيسة>> أخرى، إن لم تكن مخيفة أيضاً.
الأحداث الجسام التي وقعت خلال العام الماضي، فاجأتنا وصدمتنا حقاً، لكن كانت لها ميزة واحدة غير مقصودة بطبيعة الحال هي أنها كانت سبباً في إشاعة الإحساس بالخطر بين مختلف الفصائل الوطنية، الغيورة على حاضر الأمة ومستقبلها، الأمر الذي رتب نتيجتين مهمتين، الأولى تمثلت في إحداث نوع من الفرز في ساحة الخطاب العام، بمقتضاه انكشفت المواقف، ومن ثم تحددت المواقع بوضوح، وعرف الكافة أين يقف كل صاحب رأي وكل تجمع سياسي، من باع منهم ومن اشترى، ومن تماسك منهم ومن انهزم وانبطح. الأمر الثاني أن الخلافات الفكرية والايديولوجية تراجعت إلى الوراء، وبرز الهمّ الوطني حاكماً ومهيمناً، بالتالي فلم يعد يهم كثيراً أين يقف كل طرف، في اليمين أو اليسار أو الوسط، بل صار الأهم هو موقف كل من هؤلاء إزاء مصير الأمة ومستقبلها، وهل هم معها أم عليها، في أحضانها أم موالون لأعدائها.
إذا سألتني عن أهم قسمات عام 2004، فردي أن العلامة الأبرز لذلك العام تتمثل في تقدم طوابير المهزومين وارتفاع أصواتهم بشكل صريح وفج، على نحو غير مسبوق. أدري أن هؤلاء موجودون في كل مجتمع وكل زمان، لكنني أزعم أنهم في العالم العربي خلال نصف القرن الأخير كانوا يتوارون أحياناً، ويتحدثون بلغة ملفوفة وغير مباشرة في أحيان أخرى، وكانت الظروف تفرض عليهم طول الوقت الالتزام بحدود الإحتشام وممارسة ما يمكن أن نسميه بالحياء الوطني.
هذه الصورة اختلفت أو انقلبت تماماً خلال العام الذي نودعه. فالمهزومون كشفوا الأقنعة، وتخلّوا عن الحياء والاحتشام، وأصبحوا يتحدثون بوجه مكشوف وبصراحة مدهشة. وبالتالي فإن ترويجهم للهزيمة ودفاعهم عن الاستسلام والانبطاح، أصبح جزءاً من أدبيات المرحلة. وهم لم يكتفوا بذلك، وإنما انتقلوا من التسويغ والتبرير إلى الهجوم الشرس على مختلف القيم النبيلة في مجتمعاتنا، وأهم الثوابت التي يقوم عليها بناء الأمة، هكذا جهاراً نهاراً.
خلال كتابات عدة نشرت في الأسابيع التي خلت، أشرت إلى نماذج لهذا اللامعقول الذي طفا على سطح العام من حيث لا نحتسب، ولكن لا بأس من التذكير ببعض الرسائل التي تمثل فعلاً فاضحاً من الناحية السياسية، التي جرى بثها خلال العام.
من كان يتصور مثلاً أن يجري الدفاع عن الاحتلال الأميركي لبلد عربي بالكامل مثل العراق، وأن يوصف ذلك الاحتلال بأنه <<تحرير>>؟ ومن كان يتصور أن يجرؤ نفر من العرب على هجاء المقاومة الوطنية، وأن تعلو بعض الأصوات متهمة إياها بأنها <<إرهاب>>، ومدعية أن المقاومين ليسوا سوى <<إرهابيين>> حيناً و<<حربجية>> في حين آخر؟ ومن كان يتخيل يوماً ما أن تدبج بعض المقالات في الكيد والازدراء بما أسماه أحدهم <<إمارة حماس>>، وأن يجري التطاول على هيئة علماء المسلمين في العراق، بحيث يوصفون بأنهم هيئة علماء الخاطفين؟ ومن يصدق أن يقول قائل في مصر أكرر في مصر إن أهم بلدين في علاقاتها الخارجية هما الولايات المتحدة وإسرائيل، أو يقول إننا يجب ألا نسمح أبداً للعلاقات العربية بأن تؤثر سلباً على العلاقات مع إسرائيل (في دعوة وقحة لرفع شعار إسرائيل أولاً) أو أن يدعو داع إلى ضرورة التخلص من النظر بشكل سلبي إلى إسرائيل ولأي علاقة معها؟ ومن كان يصدق أن يطرح للمناقشة مبدأ الاستعانة بالأميركيين لإحداث التغيير الذي ننشده إذا عجزنا عنه، في <<استهبال>> مريب، يريد لنا أن نقتنع بأن الولايات المتحدة أصبحت منظمة خيرية مشغولة بإغاثة المقهورين وتطييب خواطر المعذبين.
حتى ثوابت الأمة، وعلى رأسها الانتماء إلى العروبة والإسلام، لم تسلم من الهجاء والازدراء، ممن أرادوا تجريح كل عناصر العافية والانقضاض عليها، احتماءً بشعار حرية الرأي والإجتهاد. إذ أراد المهزومون لموالاة أعداء الأمة وللعمالة أن تكون مجرد <<وجهة نظر>>، واجتهاداً مخالفاً لما يجري التعارف عليه؛ وهو ذات المنطق الذي يسوّغ <<الدعارة>> بحسبانها <<وجهة نظر>> مغايرة في المسألة الأخلاقية.
في شهر تشرين الثاني الماضي صدر في بيروت كتاب بعنوان <<ثقافة الاستسلام>>، ألفه زميلنا الأستاذ بلال الحسن. وفيه قام بتعرية وفضح خمسة من الكتّاب العرب، الذين يقفون ضمن الصفوف الأولى لطوابير المهزومين، ممن يدعون إلى الانبطاح ويسوّغون موالاة أعداء الأمة والتفريط بقضاياها وحقوقها.
في زمن الإنكسار، لا غرابة في أن تصبح <<ثقافة الاستسلام>> معلماً بارزاً في لغة الخطاب الإعلامي العربي. من ثم، ففضلاً عن اختراق مجموعة <<المارينز>> للمنابر الإعلامية المختلفة، فإن عناصرها لم يكتفوا بذلك، وإنما عمدوا إلى تأسيس منابر أخرى احتشد فيها نفر منهم، وحولوها إلى محطات إرسال لبث تلك الثقافة رفعت لافتات مختلفة، بحثية واستراتيجية وليبرالية.. الخ. وإضافة إلى بعض المراكز التي ادّعت اهتماماً بالمجتمع المدني، فإن العام المنصرم شهد تأسيس أكثر من صحيفة ومجلة (أحدثها صدر في تشرين الثاني الماضي) كانت <<ثقافة الاستسلام>> محوراً رئيسياً وقاسماً مشتركاً بينها.
ولأن الأميركيين لا يخفون ما يفعلون ويكشفون أغلب أوراقهم ولو بعد حين، فإنهم هم الذين أعلنوا على لسان وزير دفاعهم دونالد رامسفيلد أن الإدارة الأميركية تخوض أيضاً معركة <<حرب الأفكار>> في العالم العربي والإسلامي. وهم الذين أعلنوا على لسان متحدث باسم السفارة الأميركية في القاهرة عن اتجاههم إلى إنشاء وتمويل صحف ومنابر إعلامية في بعض العواصم العربية. ولم يخفوا أنهم يموّلون قناة <<الحرة>> ! التلفزيونية، وإذاعة <<سوا>> ومجلة <<هاي>> بحسبانها ضمن الأسلحة المستخدمة لكسب تلك الحرب.
إزاء تقدم طوابير المهزومين وتعدد المنابر التي تبنّت الترويج لثقافة الاستسلام، وبعد انضمام مصر إلى اتفاقية <<الكويز>> التي تجسد الاختراق الإسرائيلي الرسمي للاقتصاد المصري، هل نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا العام الذي نودعه هو عام الاختراق الكبير؟
ألا يلفت نظرك كمّ المؤتمرات والمنتديات التي عقدت خلال العام عن الإصلاح والتغيير في العالم العربي؟ ألا تلاحظون حجم الحضور الأميركي في تلك الملتقيات؟ أوليس مستغرباً أن يتجاوز الحضور الأميركي حدود المشاركة، بحيث يتولى الأميركيون تنظيم بعض تلك المؤتمرات وإعداد جدول أعمالها وتحديد المدعوين إليها والمشاركين في حواراتها؟ وهل يصدق عاقل أن الولايات المتحدة جادة في دعوتها إلى إصلاح حال العالم العربي؟ وهل يتصور مخلوق أن الأهداف الأميركية من الإصلاح يمكن أن تتطابق مع أهداف الأمة العربية والإسلامية؟
كثيرة هي الأسئلة التي تثيرها <<صرعة>> المنتديات والمؤتمرات التي حلت بالعالم العربي على مدار العام، حتى أصبحت منافساً لمهرجانات السينما والغناء والطرب، التي صارت وباءً لم يستثن عاصمة في أمة العرب. وهي أسئلة ليست للاستفهام فحسب، ولكن بعضها تعبير عن الاسترابة والبعض الآخر استنكاري بامتياز. وما يشجعني على طرحها ليس توالي انعقاد تلك المؤتمرات وطبيعة المنظمين لها والمشاركين فيها، وإنما أنني كنت شاهداً عليها، وحاضراً في بعضها ومن ثم مستمعاً لما قيل في ذلك البعض على الأقل.
لقد اعتذرت عن عدم حضور مؤتمرات كانت الرائحة الأميركية تفوح من جدول أعمالها، وشاركت فيما ظننت أنه مبرأ من تلك الشبهة، لكن تجربتي اقنعتني بأن <<الأجندة>> الأميركية مقررة على الجميع، وإنها إذا كانت قد أفصحت عن نفسها في بعض الملتقيات، فإنها حاضرة بقوة في خلفيات وأوراق وتوصيات الملتقيات الأخرى. لا أنكر أن بعض منظمي تلك المؤتمرات حسنو النية، ومخلصون في حرصهم على الإصلاح والتغيير. لكن ذلك لا ينفي أنه حتى هؤلاء كانوا يقفون على الأرضية الأميركية ربما دون أن يعلموا ويلتزمون بصورة غير مباشرة بالأجندة الخفية.
حين يدقق المرء في أوراق وتوصيات تلك السلسلة من المؤتمرات والملتقيات يستحضر على الفور الحديث الأميركي المتكرر عن <<الشرق الأوسط الكبير>>، والخرائط التي يراد رسمها فيه، والنموذج التركي الذي يراد تعميمه عليه، ويدرك أن <<حرب الأفكار>> هي المقدمة الضرورية لمرحلة إعادة رسم الخرائط، وأننا جميعاً ندفع لكي نسير في درب محدد، له مقاصد وأهداف واضحة، يستطيع أي قارئ لمشروع <<القرن الأميركي>> أن يقف على حقيقتها دون عناء.
عملية ترتيب الأوراق وتوفيق الأوضاع التي استمرّت طيلة عام 2004، يفترض أن تؤتي ثمارها في عام 2005. إن شئت فقل إن ما زرعناه في العام المنقضي سوف نجني حصاده في العام الجديد، وهذا بالتحديد مصدر القلق والخوف مما ستأتي به أو تسفر عنه الأشهر المقبلة، لأن الذي زرعناه في حده الأدنى ليس الذي تمنيناه، وإنما الذي تمناه غيرنا، وتحرى به مصالحه.
من وجهة نظرهم، هي فرصة تاريخية حقاً، فالانكسار العربي بلغ مداه، والاختراق في أعلى موجاته، والشقوق تملأ جدران الأمة، ومفردات الانصياع ومشتقاته معلقة على تلك الجدران من المحيط إلى الخليج. من ثم فالظرف مؤات تماماً لإحداث التفكيك وإعادة التركيب وإنجاز الخرائط الجديدة، بدءاً بتصفية قضية فلسطين وانتهاءً ببسط الهيمنة على جنبات الشرق الأوسط الكبير.
ومن سخريات القدر ومفارقاته أنه بينما ترفرف رايات الانصياع على جنبات العالم العربي، فإن مؤشرات التمرد على الهيمنة الأميركية تتعالى بقوة في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، ممثلة في الحملة الشعبية الواسعة النطاق التي رفضت الحرب على العراق في البداية ثم واصلت رفضها لمجمل سياسة الهيمنة الأميركية.
لسنا بصدد قدر مكتوب بطبيعة الحال، ولكنه مجرد <<سيناريو>> مفترض إذا قدر للأمور أن تمضي في الاتجاه الذي رسم لها. أما إذا اختلت المسيرة وتغير الموقف في العراق في غير مصلحة الاحتلال مثلاً، فإن ذلك السيناريو سوف ينقلب رأساً على عقب.
وأقولها صراحة، إذا تمكن الأميركيون من العراق، وثبتوا فوق ربوعه رايات الانصياع والتسليم، فإن شهية رعاة الحلم الأمبراطوري الأميركي سوف تنفتح لفرض المزيد من الركوع والانبطاح على العالم العربي، والإقدام على المزيد من المغامرات في العالم الإسلامي.
حينئذ سوف يقع المحظور، ونترحم على عام <<القرد>>!
() كاتب مصري
تعليق