مناظرة (1) مع قطب الدين عيسى
قد ورد علينا قديما إلى الشام ، سيد من سادات شيراز الصفوية ، اسمه قطب الدين عيسى ، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل ، وله مصنفات وتحقيقات شتى ، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا ، وعلم مني الميل إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، وكان يميل إلى البحث معي في المذهب ويقول : قل كل ما تعلمه من جهتهم.
فقلت له يوما : هل أوجب الله في كتابه أو نص رسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو أجمع أهل الاسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع الشافعي بخصوصه ؟
قال : لا.
قلت : فلم اتبعته ؟
قال : لانه مجتهد وأنا مقلد ! فيجب عليَّ اتباع مجتهد.
قلت : فما تقول في الامام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ هل كان مجتهدا ؟
فقال : كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة مجتهد ، أحدهم أبو حنيفه.
قلت : فما تقول فيمن تبعه ؟
قال : هو على الحق بغير شبهة ، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل مذهب أبي حنيفة.
فقلت له : تعني أنه لم ينقله أحد أصلاً أم أهل السنة لم ينقلوه ؛ فإن أردت الاول لم يتمش أما أولاً ؛ فلانه شهادة على نفي فلا تسمع ، لان مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله ، وأما ثانيا ؛ فلانه مكابرة على المتواترات المشتهرة لان نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس ، وقد نقلوا من ذلك ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة ، ونقحوا رجال الاسانيد بالجرح والتعديل غاية التنقيح ، ولم يقبلوا رواية إلاّ من ثبت توثيقه ، ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق ، بل هم في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل ؛ لان قولهم لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي اما بنقل كل واحد عن أبيه إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإما بالكشف والالهام ، بحيث يتساوى صغيرهم وكبيرهم ، ولهذا ما روي أن أحداً منهم في صغره ولا في كبره تردد الى معلم أو استفاد من أستاذ ، ولا سئل أحدهم عن سؤال فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر ، ومن وقف على سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلاً عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل تحت الحصر.
وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (2) وهشام بن الحكم ، وزرارة بن أعين (3) ، وجميل بن دراج (4) ، وأشباههم ، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى كان بيت جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ كالتجار أو السوق يزدحم فيه المستفيدون منه والاخذون عنه من كل الفرق ، وأكثرهم كانوا مجتهدين أصحاب مذاهب ، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا مزيد عليه ، ومن طالع كتب الرجال لاهل السنة علم صدق ذلك.وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد ابن يعقوب الكليني (5) ، وابني بابويه (6) ، والصاحب بن عبّاد (7) وشيخ الطائفة محمد بن النعمان المفيد (8) ، والشيخ أبي جعفر الطوسي (9) ، وابن البراج (10) ، والسيد المرتضى علم الهدى (11) ، وأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي (12) ، والشيخ سديد الدين الحلي (13) ، وولده الشيخ جمال الدين (14) ، وولده فخر المحققين (15) ، ومولانا نصير الدين الطوسي (16) ، والشيخ الشهيد (17) ، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حدّ ولا عد ، ومصنفاتهم وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين ، ونقلها أهل السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى ، ولا يدّعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لانه قد صح عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه قال لامتـه : لتركبن سنة من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (18) وهو كما قال.
والباري عزوجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كلّ الامم كانت هي المحقـة الناجيـة كقولـه تعـالى : ( وما آمن معه إلا قليل ) (19) ، ( وما كان أكثرهم مؤمنين ) (20) ( وما وجدنا لاكثرهم من عهد ) (21)، ( وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك ) (22) وأمثال ذلك كثير ، وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز ، كالانبياء في نوع الانسان ، والاولياء والعلماء والاتقياء ، ونحو ذلك ، كالجواهر والمسك والمعادن وهلّم جراً ويقولون لا يضرنا قلّتنا بل هي دليل أحقيتنا.
والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا ـ عليهم السلام ـ وعلى شيعتهم ؛ لان أعداءنا كانوا ملوك الارض والناس على دين ملوكهم إما ظاهرا فقط ، وإما ظاهرا وباطنا ، وأكثر أئمتنا ـ عليهم السلام ـ مات قتلاً بالسيف أو سما في الحبس ، وأكابر علمائنا في أكثر الاوقات كانوا خائفين مستترين بالتقية ، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء نور الحق ، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبّرة والمعتزلة والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.
رجعنا إلى ما كنا بصدده ، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نُقِل عن شيعتهم ، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه ، ولا يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه ، وبالعكس.
ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون : سلّمنا أن أئمتنا لم يكونوا معصومين كما ندّعيه فقد كانوا مجتهدين ، لم يخالف في ذلك أحد وسلّمنا أن أئمتكم الاربعة كانوا مجتهدين أيضا أبراراً ولكن لم يقم لنا دليل عقلي ولا نقلي من الله ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد منهم كما قام ذلك في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كما سمعته من أن المتمسك بهم وبكتاب الله لن يضل أبدا (23).
سلّمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم ، ولا أمر النبي بالتمسك بهم ، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو الاجتهاد حاصل فيهم ، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم ، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلوّ شأنهم في الدنيا ، كخلفاء بني أمية وبني العباس.وما ذاك إلاّ لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه يكذبه كل من يسمعه ، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم ، فإن من سواهم قد طعن بعضهم على بعض ، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت الشريفة في الرد على أبي حنيفة ، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما يطول شرحه.
والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفّرون الحنابلة لقولهم بالتجسيم ، ولا ريب في وجوب اتباع المُتّفق على عدالته وعلمه ولا يجوز العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح ، فقد لزمكم القول بصحة مذهبنا لارجحية أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على غيرهم ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الانصاف ولم يغلب عليه الهوى ، لان المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد ، وهذا حاصل لنا باعترافكم ، مع ما في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد بيّناها ، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لانا شرطنا في المتَّبع العصمة حتى يؤمن من الخطأ منه.
فنكون نحن الفرقة الناجية اجماعا ، بالدليل المُسَلّم المقدمات عندكم ، فأي مسلم يخاف الله واليوم الاخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.
وكان هذا السيد لا يبعد عن الانصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة ويتأمل ، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبَّتهم لانه لا يكلف بما لا يطاق، وقد جعل لكل مجتهد نصيبامن كرمه.
تقدمت مصادر أخرى له.
قد ورد علينا قديما إلى الشام ، سيد من سادات شيراز الصفوية ، اسمه قطب الدين عيسى ، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل ، وله مصنفات وتحقيقات شتى ، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا ، وعلم مني الميل إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، وكان يميل إلى البحث معي في المذهب ويقول : قل كل ما تعلمه من جهتهم.
فقلت له يوما : هل أوجب الله في كتابه أو نص رسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو أجمع أهل الاسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع الشافعي بخصوصه ؟
قال : لا.
قلت : فلم اتبعته ؟
قال : لانه مجتهد وأنا مقلد ! فيجب عليَّ اتباع مجتهد.
قلت : فما تقول في الامام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ هل كان مجتهدا ؟
فقال : كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة مجتهد ، أحدهم أبو حنيفه.
قلت : فما تقول فيمن تبعه ؟
قال : هو على الحق بغير شبهة ، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل مذهب أبي حنيفة.
فقلت له : تعني أنه لم ينقله أحد أصلاً أم أهل السنة لم ينقلوه ؛ فإن أردت الاول لم يتمش أما أولاً ؛ فلانه شهادة على نفي فلا تسمع ، لان مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله ، وأما ثانيا ؛ فلانه مكابرة على المتواترات المشتهرة لان نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس ، وقد نقلوا من ذلك ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة ، ونقحوا رجال الاسانيد بالجرح والتعديل غاية التنقيح ، ولم يقبلوا رواية إلاّ من ثبت توثيقه ، ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق ، بل هم في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل ؛ لان قولهم لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي اما بنقل كل واحد عن أبيه إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإما بالكشف والالهام ، بحيث يتساوى صغيرهم وكبيرهم ، ولهذا ما روي أن أحداً منهم في صغره ولا في كبره تردد الى معلم أو استفاد من أستاذ ، ولا سئل أحدهم عن سؤال فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر ، ومن وقف على سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلاً عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل تحت الحصر.
وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (2) وهشام بن الحكم ، وزرارة بن أعين (3) ، وجميل بن دراج (4) ، وأشباههم ، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى كان بيت جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ كالتجار أو السوق يزدحم فيه المستفيدون منه والاخذون عنه من كل الفرق ، وأكثرهم كانوا مجتهدين أصحاب مذاهب ، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا مزيد عليه ، ومن طالع كتب الرجال لاهل السنة علم صدق ذلك.وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد ابن يعقوب الكليني (5) ، وابني بابويه (6) ، والصاحب بن عبّاد (7) وشيخ الطائفة محمد بن النعمان المفيد (8) ، والشيخ أبي جعفر الطوسي (9) ، وابن البراج (10) ، والسيد المرتضى علم الهدى (11) ، وأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي (12) ، والشيخ سديد الدين الحلي (13) ، وولده الشيخ جمال الدين (14) ، وولده فخر المحققين (15) ، ومولانا نصير الدين الطوسي (16) ، والشيخ الشهيد (17) ، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حدّ ولا عد ، ومصنفاتهم وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين ، ونقلها أهل السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى ، ولا يدّعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لانه قد صح عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه قال لامتـه : لتركبن سنة من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (18) وهو كما قال.
والباري عزوجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كلّ الامم كانت هي المحقـة الناجيـة كقولـه تعـالى : ( وما آمن معه إلا قليل ) (19) ، ( وما كان أكثرهم مؤمنين ) (20) ( وما وجدنا لاكثرهم من عهد ) (21)، ( وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك ) (22) وأمثال ذلك كثير ، وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز ، كالانبياء في نوع الانسان ، والاولياء والعلماء والاتقياء ، ونحو ذلك ، كالجواهر والمسك والمعادن وهلّم جراً ويقولون لا يضرنا قلّتنا بل هي دليل أحقيتنا.
والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا ـ عليهم السلام ـ وعلى شيعتهم ؛ لان أعداءنا كانوا ملوك الارض والناس على دين ملوكهم إما ظاهرا فقط ، وإما ظاهرا وباطنا ، وأكثر أئمتنا ـ عليهم السلام ـ مات قتلاً بالسيف أو سما في الحبس ، وأكابر علمائنا في أكثر الاوقات كانوا خائفين مستترين بالتقية ، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء نور الحق ، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبّرة والمعتزلة والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.
رجعنا إلى ما كنا بصدده ، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نُقِل عن شيعتهم ، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه ، ولا يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه ، وبالعكس.
ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون : سلّمنا أن أئمتنا لم يكونوا معصومين كما ندّعيه فقد كانوا مجتهدين ، لم يخالف في ذلك أحد وسلّمنا أن أئمتكم الاربعة كانوا مجتهدين أيضا أبراراً ولكن لم يقم لنا دليل عقلي ولا نقلي من الله ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد منهم كما قام ذلك في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كما سمعته من أن المتمسك بهم وبكتاب الله لن يضل أبدا (23).
سلّمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم ، ولا أمر النبي بالتمسك بهم ، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو الاجتهاد حاصل فيهم ، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم ، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلوّ شأنهم في الدنيا ، كخلفاء بني أمية وبني العباس.وما ذاك إلاّ لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه يكذبه كل من يسمعه ، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم ، فإن من سواهم قد طعن بعضهم على بعض ، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت الشريفة في الرد على أبي حنيفة ، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما يطول شرحه.
والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفّرون الحنابلة لقولهم بالتجسيم ، ولا ريب في وجوب اتباع المُتّفق على عدالته وعلمه ولا يجوز العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح ، فقد لزمكم القول بصحة مذهبنا لارجحية أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على غيرهم ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الانصاف ولم يغلب عليه الهوى ، لان المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد ، وهذا حاصل لنا باعترافكم ، مع ما في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد بيّناها ، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لانا شرطنا في المتَّبع العصمة حتى يؤمن من الخطأ منه.
فنكون نحن الفرقة الناجية اجماعا ، بالدليل المُسَلّم المقدمات عندكم ، فأي مسلم يخاف الله واليوم الاخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.
وكان هذا السيد لا يبعد عن الانصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة ويتأمل ، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبَّتهم لانه لا يكلف بما لا يطاق، وقد جعل لكل مجتهد نصيبامن كرمه.
تقدمت مصادر أخرى له.
تعليق