الإهداء
يا بقيّة اللَّه.. يا سليل رسولاللَّه.. ويا حبيب فاطمة الزهراء وعليّ المرتضى.
سيّدي.. يا من ذكرك يجعل القلب يفيض بحبّ الجمال، ويشدو صوب المكرمات، ويتطلّع إلى العدل والخير.
إيهٍ «يا شمس المغرب»، ويا من التفكير بغاياتك الشاهقة النبيلة، مطالعَ نور تتفجّر براكينَ حماسةٍ وإيمان.
إيهٍ «يا من يملأ الأرض عدلاً»، ويا من ظهورك تتويجٌ لغايات النبيّين، وحضورك تأسيس ل «يوم الخلاص» الموعود.
يا آخرَ أمل أنتَ، ويا أغلى هبات السماء، يا من اسمك يملأ النفوس أملاً، وَذكرك ينثر على العاشقين عطراً روحيّاً فوّاحاً، يجذبهم صوب الشمس.
بعد سنوات طويلة من الجهد المثابر الخاضع الدؤوب، وحيث تمّت صفحات هذا الكتاب وهي تتضوّع في كلّ جزءٍ جزءٍ باسم عليّ بن أبيطالب رمز العدالة الشاهق، ومثال الحقّ والإيمان النابض، هاأنا أرفع بضاعتي المزجاة، وأتطلّع إليك - يا أيّها العزيز - بكفٍّ ممدودة ملؤها الرجاء.
أهتفُ وأقول، بخشوع آسر ودمع هطول:
سيّدي.. أيها اللواء المنشور
والعلم المركوز
يا مَظهر الرحمة الفيّاضة، والحنان الكبير
يا ملاذ أهل الضرّ والبلوى، وصريخ المكروبين
يا سَطْعة نور متفجّر في وهدة الدَّيجور
ويا شمساً طالعة في اُفق الوجود.
تقبّل - سيّدي - هذه الهديّة المتواضعة، وحفّها منك بنظرة رعاية كريمة، واجعلنا من المشمولين بضراعاتك، وحقّق لنا أمل الوصال، وأذقنا طعم اللقاء.
موسوعة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في الكتاب و السنة و التاريخ
=====
المدخل
الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، وصلّى اللَّه على سيّد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمّد، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
قال رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) : عليٌّ آيةُ الحقّ، وراية الهدى.
ماذا أقول في عليّ(عليه السلام) والحديث عنه صعب شاقّ؟! ثمّ هو أصعب إذاما رامت الكلمات أن تتسلّق صوب ذراه الشاهقة، وتطمع أن تكون خليقة بتلك الشخصيّة المتألّقة.
النظر إلى شخصيّة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) محنة للفكر. وتملّي أبعاد هذا الرجل الشاهق يتطلّب طاقة لا تحتملها إلّا الجبال الرواسي. أمّا الحديث عن بعض عظمته الباهرة، وما تحظى به هذه الشخصيّة المتوهِّجة في التاريخ الإنساني من جلال وجمال، فهو خليق بكلام آخر، ويحتاج إلى لغة اُخرى؛ لغة تتناهى في امتدادها حتى تبلغ «الوجود» سعة، عساها - عندئذٍ - أن تُدرك شيئاً ضئيلاً من كلّ هذه الفضيلة التي تُحيط تلك الشخصيّة «العملاقة»، وما يحظى به من سموّ ومناقب لا نظير لها، ثمّ عساها أن تؤلّف كلاماً يرتقي إلى مدى هذا الإنسان الإلهي، ويكون جديراً به.
أمّا اُولئك الذين سلّحتهم بصيرتهم بفكر نافذ عن الإمام، وأدركوا - إلى حدّما- أبعاده الوجوديّة؛ فما لبثوا أن اضطرموا بمحنة العجز وقد لاذوا بالصمت، ثمّ ما برحوا يجهرون أنّ هذا الصمت لم يكن إباءً عن إظهار فضائل الإمام بقدر ما كان ينمّ عمّا اعتورهم من عجز، وهو إلى ذلك ينبئ عن حيرة استحوذت عليهم وهم لا يدرون كيف يصبّون كلّ هذه الفضائل العَليّة في حدود الكلمات، وكيف يعبّرون عن معانيها البليغة من خلال الألفاظ!
أجل، لم يكن قلّة اُولئك الذين اُشربوا في أعماق نفوسهم هذا المعنى الرفيع للمتنبي، وهو يصدع:
وتركتُ مدحي للوصيّ تعمُّداً
إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسهِ
وصفاتُ ضوء الشمس تذهبُ باطلا
مَنْ يريد أن يتحدّث عن جلال عليّ وفضائله يستبدّ به العجز، وتطوّقه الحيرة؛ فلا يدري ما يقول!
هي محنة كبيرة لا تستثني أحداً؛ أن ينطق الإنسان بكلام يرتفع إلى مستوى هذه «الظاهرة الوجوديّة المذهلة»؛ وهو عجز كبير مدهش يعتري الجميع مهما كانت القابليّة وبلغ الاستعداد.
ولا ريب أنّ أباإسحاق النظّام كان قد لبث يفكِّر طويلاً، وطوى نفسه على تأمّلٍ عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصيّة ومكوّناتها، قبل أن يقول: «عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) محنة على المتكلِّم؛ إن وفّاه حقّه غلا، وإن بخسه حقّه أساء!».
عليٌّ(عليه السلام) في سوح القتال اللاحبة هو الأكثر جهاداً، والأمضى عزماً، والأشدّ توثّباً. وهو في مضمار الحياة الوجهُ المفعم بالاُلفة؛ حيث لا يرتقي إليه إنسان بالخلق الرفيع. وفي جوف الليل الأوّاب المتبتِّل، أعبد المتبتِّلين، وأكثر القلوب ولَهاً بربّه. وبإزاء خلق اللَّه هو أرفق إنسان على هذه البسيطة بالإنسان، يفيض بالعطوفة واللين. وهو الأصلب في ميدان إحقاق الحقّ في غير مداجاة، المنافح عنه في غير هروب.
أمّا في البلاغة والتوفّر على بدائع الخطابة وضروب الحكمة وفنون الكلام، فليس له نظير؛ وهو فارس هذا الميدان، والأمكن فيه من كلّ أحد. وللَّه درّ الشاعر العلوي، وهو يقول في ذلك:
كم له شمس حكمة تتمنّى
غرّةُ الشمس أن تكون سماها
تُرى، هل يمكن لإنسان أن يُشرِف على منعرجات التاريخ، ولا تشدّه تلك القمّة الشاهقة في مضمار الكرامة والحريّة والإنسانيّة، وهي تسمو على كلّ ما سواها!
وهل يسوغ لإنسان أن يمدّ بصره إلى صحراء الحياة، ثمّ لا يرفرف قلبه صوب هذا المظهر المتألِّق بالحبّ والعبادة، المملوء بالجهاد والمروءة، أو لا يُبصر هذا المثال المترع بالصدق والإيثار، وبالإيمان والجلال!
ثمّ هل يمكن لكاتب أن يخطّ صفحات بقلمه، ولا يهوى فؤاده أن يعطّر بضاعته بعبير يتضوّع بذكر عليّ، ويخلط كلماته بشذىً يفوح بنسائم حياته التي يغمرها التوثّب، ويحيط بها الإقدام من كلّ حدب، ويجلّلها الجهاد والإيثار من كلّ صوب!
في ظنّي أنّ جميع اُولئك الذين فكّروا وتأمّلوا، ثمّ استذاقوا طعم هذه الظاهرة الوجوديّة المذهلة، إنّما يخامرهم اعتقاد يفيد: وأنّى للقطرة الوحيدة التائهة أن تُثني على البحر! وأنّى للذرّة العالقة أن تنشد المديح بالشمس!
وأمّا كاتب هذه السطور!
فلم يكن يدُر بخلده قطّ أن يخطّ يوماً كلاماً جديراً في وصف تلك الشمس الساطعة، كما لم يخطر بباله أبداً أن يكون له حظّ في حمل قبضة من قبس كتلة الحقّ المتوهِّجة تلك، أو أن يكون له نصيب في بثّ شيءٍ من أريج بحر فضائلها الزخّار، وأن يُسهِم في نشر أثارة من مناقبها المتضوّعة بعبيرٍ فوّاح.
هكذا دالت الحال ومرّت الأيّام بانتظار موعد في ضمير الغيب مرتقب!
فقد قُدِّر لي وأنا أشتغل بتدوين «ميزان الحكمة» أن اُلقي نظرة من بعيد على هذا البحر الزخّار، بحكم ضرورة أملتها هيكليّة الكتاب، وساقت منهجيّاً إلى مدخلٍ بعنوان: «الإمامة».
أجل، لم يسمح «المدخل» بأكثر من نظرةٍ من بعيد إلى البحر اللجّي، أطلّت على شخصيّة الإمام الأخّاذة عبر الكلام الإلهي والنبوي، قد سمحت بتثبيت ومضات من سيرة ذلك العظيم على أساس ما تحكيه روايات المعصومين:.
مرّة اُخرى شاء التقدير الإلهي أن تتّسع موسوعة «ميزان الحكمة» (التي تجدّد طبعها - بفضل اللَّه - مرّات، وراحت تتخطّى الحدود وتصل إلى أقصى النقاط، وهي تستجيب بقدرها لتطلّعات الباحثين عن المعرفة الدينيّة) وتمتدّ فصولها وتزداد.
بعد تأمّلٍ طويل انطلقت بكاتب هذه السطور همّتُه، وتبدّل العزم إلى قرار بالعمل يقضي بإضافة هذا الجزء.
كانت الرحلة بعيدة المدى، وبدا الطريق طويلاً وأنا حديث العهد به، لولا أن تداركتني رعاية خاصّة من الإمام، ولا غَروَ وهو كهف السائرين على الحقّ وملاذهم، ثمّ اكتنفتني همم كبيرة برزت من فضلاء كرام.
وبين هذا وذاك أينع ذلك الجهد وأثمر بعد سنوات حصيلةً تحمل عنوان: «موسوعة الإمام عليّ بن أبيطالب في الكتاب والسنّة والتاريخ» هي ذي التي بين أيديكم.
ثمّ شاءت المقادير مرّة اُخرى أن يقترن طبع الموسوعة في السنة التي توشّحت باسم مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، حيث راحت هذه المناسبة تستقطب إليها اُلوف الجهود والهمم(1).
وها أنا ذا أتوجّه إلى اللَّه سبحانه شاكراً أنعُمَه من أعماق وجودي وقد حالفني توفيقه في المضيّ قُدماً لإنجاز هذا المشروع المهمّ؛ حيث هوّن العقبات، وذلّل الصِّعاب، ويسّر العسير.
إنّ «موسوعة الإمام» لهي إلى هذا العاشق الوله بذكر عليّ(عليه السلام) أعذب شيء في حياته وأحلاه، وأدعى حصيلة تبعث على الفخر في سنيّ عمره، حيث بلغت نهايتها بفضل اللَّه سبحانه، ومعونة خالصة أسداها عدد من الفضلاء.
أجل؛ إنّ «موسوعة الإمام عليّ بن أبيطالب» تجسِّد من الاُمنيات في حياتي ما هو أرفعها وأسماها، وتستجيب من تطلّعاتي إلى ما هو أبعدها مدىً.
وما كان ذلك يتحقّق لولا فضل اللَّه وتوفيقه، فله حمدي، وعليه ثنائي اُزجيه خاشعاً بكلّ وجودي.
وما كان ليتمّ لولا رعاية خاصّة كنفني بها المولى أميرالمؤمنين، فله شكري، وعليه سلامي، فلولا ما فاء به من رعاية وتسديد، ولولا مدده الذي أسداه في تذليل العقبات الكؤود وتيسيرها لما رسَت «الموسوعة» على هذا الشكل.
وحسبُ هذه الكلمات أنّها رسالة اعتذار تومئ إلى تقصير صاحبها، ثمّ حسبها ما تُبديه من ثناء عاطر مقرون بالخشوع والجلال لكلّ هذه الرعاية الحافلة من أجل بلوغ المقصد.
إنّ «موسوعة الإمام» هي إطلالة على حياة أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، كما هي نافذة تشرف على السيرة العلويّة، وتتطلّع إلى تاريخ حياة أكمل إنسان، وأعظم المؤمنين وأبرز شخصيّة في تاريخ الإسلام بعد رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) .
وتهدف «موسوعة الإمام» أن تترسّم السبيل إلى أعظم تعاليم عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) وأبلغها عِظة وتذكيراً. كما توفّرت على بيان أجزاء من حياة أميرالمؤمنين(عليه السلام) وسيرته البيضاء الوضّاءة.
وتسعى «موسوعة الإمام» من خلال استجلاء المعالم الملكوتيّة لإمام الإنسانيّة؛ وتتطلّع عبر تدوين الخصائص العلميّة والأخلاقيّة والعمليّة لحياته التي تفيض بالتوثّب والإيمان؛ وتصبو عبر تبيين ما بذله «صوت العدالة الإنسانيّة» من جهود مذهلة لبسط العدل وإرساء حاكميّة الحقّ، إلى الجواب عمليّاً على السؤال التالي: لماذا جعل الكتابُ الإلهي عليَّ بن أبيطالب شاهداً إلى جوار اللَّه على الرسالة؟
لقد انطلقت «الموسوعة» من خلال الاستناد إلى عرضٍ جديد، وهيكليّة مبتكرة، ومنهج مستحدَث فاعل، لتقسيم السيرة العلويّة إلى ستّة عشر قسماً، تضعها بين يدي الباحثين والمتطلِّعين إلى المعارف العلويّة، وتُقدّمها إلى الولهين بحبّ عليّ(عليه السلام) ، وإلى طلّاب الحقّ والحقيقة.
وفيما يلي نقدِّم استعراضاً عامّاً لمحتويات هذه الأقسام:
القسم الأوّل: اُسرة الإمام عليّ
توفّر هذا القسم على بيان منحدر الإمام عليّ(عليه السلام) واُسرته، كما تناول المحيط الذي ترعرع به وحياته الخاصّة، ودار الحديث فيه أيضاً عن شخصيّة والديه، وعن أسماء الإمام وكُناه وألقابه وشمائله وأوصافه وزواجه وزوجاته وأولاده.
لقد اتّضح من هذا القسم أنّ الإمام نشأ في اُسرة كريمة، وترعرع في محيط طاهر زكيّ؛ فأسلافه الكرام من الآباء والأجداد موحِّدون بأجمعهم، طاهرون لم تخالطهم أدناس الجاهليّة، مضَوا وكلّهم ثبات في سبيل اللَّه.
كما كشف هذا القسم عن اُصول كريمة تكتنف هذا الموحِّد العظيم في تاريخ الإسلام، فلم يلوّث الشرك أحداً من أسلافه قط، ولم يكن لمواضعات البيئة وتلوّثاتها الفكريّة والعقيديّة نصيب في حياتهم. فهذا هو الإمام وقد انبثق من حضن والد مؤمن جَلِد قويّ الشكيمة منافح عن الحقّ، ووالدة كريمة المحتد صافية الفطرة مؤمنة بالمعاد.
ثمّ مضت حياته مع زوجة هي أتقى وأطهر امرأة في نساء عصره؛ وهي سيّدة نساء العالمين. وقد كان زواجاً بدأ بأمر اللَّه سبحانه وحفّته هالة من القداسة والخشوع، فانشقّ عن ذرّيّة كريمة كان لها اليد الطولى في صنع التاريخ، وهي إلى ذلك المصداق الأسمى ل «الكوثر».
أمّا كُناه وألقابه فقد اختارها رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) غالباً، وهي جميعاً تومئ إلى فضائله الرفيعة التي تتألّق عظمة، وإلى موضعه المنيف الشاهق في الإسلام والتاريخ.
حياة لم تهبط عن مستوى العظمة لحظة، ولم تتعثّر بصاحبها قط.
القسم الثاني: الإمام عليّ مع النبيّ
يوم قرع صوت السماء فؤاد رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهبط إليه أمر الرسالة، ثمّ أعلن دعوته التاريخيّة، كانت الجزيرة العربيّة تغطّ في ظلام دامس، ويحيطها الجهل من كلّ حدب وصوب.
لقد واجه القوم بعثة نبيّ الحرّيّة والكرامة بالرفض والتكذيب، ثمّ اشتدّت عليه سفاهات القوم وتكالب الطغاة.
وهاهو ذا عليّ اختار موقفه إلى جوار النبيّ منذ الأيّام الاُولى لهذه النهضة الربّانيّة. وقد صحب أميرالمؤمنين(عليه السلام) رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولم ينفصل عنه لحظة، بل راح ينافح ويتفانى في الدفاع عنه دون تعب أو كلل.
وما توفّر عليه هذا القسم هو بيان الموقع الرفيع الذي تبوّأه الإمام في إرساء النهضة الإسلاميّة، والدور البنّاء الذي اضطلع به في دوام هذه الحركة الربّانيّة على عصر رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) .
يكشف هذا القسم أنّ عليّاً(عليه السلام) كان إلى جوار النبيّ لم يفارقه منذ البعثة حتى الوفاة، باذلاً نفسه وأقصى ما يستطيع في سبيل تحقيق حاكميّة الإسلام في المجتمع. فهو مع رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) في المشاهد جميعاً وعند المنعطفات الخطرة، وهو السبّاق الذي يثب مبادراً في المواطن الصعبة كلّها وعند العقبات الكؤود التي تعتري حركة الإسلام.
يُسفر هذا القسم عن أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يوفِّر من جهده الدؤوب لحظة، ولم يدّخر من تفانيه المخلص شيئاً إلّا وقد بذله دفاعاً عن هذا الدين، وذوداً عن نبيّه الكريم(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وصوناً لهذه الدعوة الربّانيّة الفتيّة، من أجل أن يمتدّ الإسلام وتبلغ هذه الحركة الإلهيّة مداها.
القسم الثالث: جهود النبيّ لقيادة الإمام عليّ
الإسلام خاتم الأديان، ورسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاتم النبيّين، والقرآن الحلقة الأخيرة في الكتب السماويّة.
والنبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) مبلِّغ لدينٍ اكتسى لون الأبديّة، ولن يقوى الزمان على طيّ سجلِّ حياته؛ فماذا فعل رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لتأمين مستقبل هذا الدين، وضمان مستقبل اُمّته؟ وما هو التدبير الإلهي في هذا المضمار؟
أوضح هذا القسم الرؤية المستقبليّة التي انطوى عليها الدين الإلهي، وموقع الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) في المخطّط الربّاني الذي حملته السماء في هذا المجال.
بكلام آخر، ما عني به هذا الفصل هو الولاية العلويّة، وإمامة عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) التي جاءت في إطار جهود رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) في رسم مستقبل الاُمّة.
وفي هذا الاتّجاه استفاض هذا القسم في حشد مجموعة الأدلّة العقليّة والنقليّة لإثبات أنّ النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يدَع الاُمّة بعده هملاً دون راعٍ، ولم يعلّق مستقبلها على فراغ من دون برنامج محدّد للقيادة من بعده، بل حدّد مسار المستقبل بدقّة وجلاء من خلال جهد مثابر بذله طوال ثلاث وعشرين سنة، وعبر تهيئة الأجواء المناسبة لتعاليم مكثّفة أدلى بها على نحو الإشارة مَرّة، وعلى نحو صريح أغلب المرّات.
كما بيَّن هذا القسم صراحة أنّ «الغدير» لم يكن إلّا نقطة الذروة على خطّ هذا الجهد المتواصل الطويل. ثمّ عاد يؤكِّد بوضوح أنّ النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يتوانَ بعد ذلك عن هذا الأمر الخطير، بل دأب على العناية به والتركيز عليه حتى آخر لحظات عمره المبارك.
ومع أنّ الحلقات الأخيرة في التدبير النبوي؛ كمَيلِه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى تدوين ما كان قد ركّز على ذكره مرّات خلال السنوات الطويلة الماضية في إطار وصيّة مكتوبة، لم يأت بالنتيجة المطلوبة إثر الفضاء المخرّب الذي اُثير من حوله. وكذلك انتهت إلى المآل نفسه حلقة اُخرى على هذا الخطّ تمثّلت بإنفاذ بعث اُسامة. إلّا أنّ ما يُلحظ أنّ رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يُهمل هاتين الواقعتين، بل راح يُدلي بكلمات وإشارات ومواضع تُزيل الستار عن سرّ هذه الحقيقة ورمزها.
وهذا أيضاً ممّا اضطلع به هذا القسم مشيراً إلى نتائج مهمّة استندت إلى وثائق ثابتة عند الفريقين.
القسم الرابع: الإمام عليّ بعد النبيّ
أسفاً أن لا يكون قد تحقّق ما ارتجاه رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) وما اختطّه لمستقبل الاُمّة، وقد ارتدى سرابيل الخلافة آخرٌ هو غير من اختُصّ به الأمر الإلهي.
أما وقد أسفر المشهد عن هذا، فهاهو ذا عليّ يواجه واقعاً كاذباً مريراً مدمِّراً قلَبَ الحقيقة، وهاهو مباشرة أمام لوازم الدين الجديد ومصالحه، وبإزاء اُناس حديثي عهد بالإسلام؛ فماذا ينبغي له أن يفعل؟ وما هو تكليفه الإلهي؟ ما الذي يقتضيه واقع ذلك العصر بما يكتنفه من أوضاع خاصّة على المستويين الداخلي والخارجي؟
لقد نهض هذا القسم بالجواب على هذه الأسئلة وغيرها ممّا حفَّ السيرة العلويّة في الفترة التي امتدّت بين وفاة رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتى تسنّم الإمام لأزمّة الحكم. كما سلّط أضواءً كاشفة على عوامل إهمال تعاليم النبيّ حيال مستقبل الاُمّة، وأسباب الإغضاء عن توجيهاته(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حول قيادة عليّ(عليه السلام) .
وفي إطار متابعة الحوادث التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتى خلافة عثمان وقيام الناس ضدّه، تكفّل هذا القسم أيضاً ببيان الأجواء التي أحاطت بالمواقف الحكيمة لإمام الحكماء، وتفصيل ملابسات ذلك.
القسم الخامس: سياسة الإمام عليّ
خمسة وعشرون عاماً مضت على خلافة الخلفاء، وقد اتّسعت الانحرافات، وتفشّى الاعوجاج الذي كان قد بدأ بعد رحيل رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى بلغت الأوضاع في مداها حدّاً أملى على الإمام عليّ(عليه السلام) أن يصف ما جرى بأنّه «بليّة»(2) كتلك التي كانت قبل الإسلام، وذلك في خطاب حماسي خطير ألقاه بدء الخلافة.
في هذه البرهة العصيبة ثار الناس ضدَّ الخليفة وضدّ سلوكه ونهجه في الحكم، حتى إذا ما قُتل انثالوا على الإمام بشكل مذهل، وهم يطالبونه باستلام الحكم.
لقد كان الإمام يُدرك تماماً أنّ ما ذهب لن يعود؛ إذ قلّما عاد شيء أدبر. وعلى ضوء تقديره للأوضاع التي تناهت في صعوبتها امتنع في بادئ الأمر عن الاستجابة لهم، بيدَ أنّه لم يجد محيصاً عن إجابتهم بعد أن تعاظم إصرار المسلمين، وكثر التفافهم حوله.
كان أوّل ما طالعهم به في أوّل خطبة له حديثه عن التغييرات الواسعة التي يزمع القيام بها في المجتمع، كما أوضح في الحديث ذاته اُصول منهجه ومرتكزاته.
هذا القسم يبدأ رحلته مع الإمام، فيسجِّل في البدء الأجواء التي لابست وصوله إلى السلطة وتسنّمه للحكم، ثمّ يتابع تفصيليّاً انطلاق حركته الإصلاحيّة، متوفّراً على رصد اُصول نهج الإمام ومرتكزات سياسته في التغييرات الواسعة التي قادها، والحركة الإصلاحيّة التي تزعّمها، وما أثارت من أصداء في المجتمع، وما خلّفته من تبعات عليه.
من بين البحوث الأساسيّة الاُخرى في هذا القسم رصد أبرز الاُصول التي اعتمدها الإمام في الإصلاح على مختلف الصُّعد الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة والأمنيّة. كما سعى هذا القسم من الكتاب إلى متابعة رؤى الإمام(عليه السلام) في مجال السياسة، وعوامل استقرار الدول، وعوامل انحطاطها وزوالها، وطبيعة تعاون الدول بعضها مع بعض وغير ذلك ممّا له صلة بهذه الدائرة.
القسم السادس: حروب الإمام عليّ
يوم أن مسك الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) زمام الحكم بيده، وراح يطبّق ما كان قد تحدّث عنه ووعد الناس به، برز أمامه تدريجيّاً ما كان قد توقّعه؛ فالوضع لم يحتمل بسط العدل، ولم يُطِق حركة الإصلاح والمساواة وإلغاء الامتيازات الوهميّة، فأخذت الفتن تطلّ برأسها، وبدأت أزمات الحكم.
ما يبعث على الدهشة أنّ أوّل من استجاش الفتنة وأرباها هُم اُولئك النفر الذين كان لهم الدور الأكبر في إسقاط الحكم السابق، وإرساء قواعد الحكم الجديد!
ميزة هذا القسم من الموسوعة أنّه تناول بالبحث والتحليل مناشئ هذه الفتن وجذورها، وتابع مساراتها وما ترتّب عليها من تبعات. كما رصد بالتفصيل فتن «الناكثين» و«القاسطين» و«المارقين» التي تعدّ في حقيقتها انعكاساً لحركة الإمام الإصلاحيّة، وردّ فعل على مواضعه المبدئيّة الصُّلبة بإزاء الحقوق الإلهيّة، ودفاعه عن قيم الناس وحقوقها.
من النقاط المبدعة اللامعة في هذا القسم تسليط الضوء على بعض الزوايا الفكريّة والنفسيّة والمواقف السياسيّة لمثيري الفتنة، ومتابعة تجلّيات ذلك بعمق ودقّة في حركة خوارج النهروان.
إنّ هذا البحث - في الصيغة التي اكتسبتها هذه الدراسة من خلال معرفة الوثائق التاريخيّة، وتحرّي التوجيهات الروائيّة التي احتوت هذه الخصائص - لهو حديث مبتكر وتحليل بكر بديع.
على أنّ هذا القسم برمّته هو أكثر أقسام الكتاب عِظة، وأعظمها درساً.
القسم السابع: أيّام التّخاذل
اتّسمت السنوات الاُولى لحكم الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هكذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. على صعيد آخر دأب أرباب الفتنة - خاصّة مركزها الأساس في الشام - على إيجاد الأزمات على الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرع العقبات أمام الحكومة المركزيّة.
ويجيء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلك العهد. فهذه كلمات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) تفيض من ألم الوحدة وحرقتها، وتبثّ شكواها من مصائب الزمان ودواهيه.
في تلك البرهة الحالكة من الزمان سقطت مصر؛ فغاب عن الإمام مالك الأشتر؛ أطهر الرجال، وأكفأ القادة، وأشجع الخلّان، وأوفاهم بعد أن ارتوى بشُهد الشهادة. فانكمش قلب الإمام، واُصيبت روحه الطهور، والألم يعتصره من كلّ جانب.
هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظلامة عليّ، كما هو انعكاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.
وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخر ليس له شبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام. فالناس لم تعد على استعدادها الأوّل لحضور الجبهات، كما لم تعُد تستجيب لنداءات الإمام وهتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما كان يبثّه الإمام مراراً من شكوى، يرى فيه خصائص لأهل ذلك العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترنو إلى الدنيا، وتصبو إليها.
في أوضاع كالحة كهذه استعرت بالإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسه الطهور؛ فملأت نفسه ألماً وغضاضة وهو ينظر إلى جند معاوية تغير على المدن المَرّة تلو الاُخرى؛ تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.
راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جنده واستهتارهم وضحكاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعت نفسه وفاضت لها غصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولكن لا من مجيب!
وهكذا مضى الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو يتمنّى الموت مرّات ومرّات!
بيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلى الواقع المرير، بل مضى قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلّ عن المقاومة حتى آخر لحظة من عمره.
أجل، هذا أميرالمؤمنين يثبُ كالمنار المضيء آخر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلى صفّين مجدّداً، وقد استنفر بكلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلى هذه المهمّة. فما أن انتهى من خطبته - وكانت الأخيرة - إلّا وعقد للحسين بن عليّ(عليه السلام)ولقيس بن سعد وأبيأيّوب الأنصاري لكلّ واحدٍ في عشرة آلاف مقاتل.
لكن واأسفاً! فقد أودت واقعة استشهاد الإمام(عليه السلام) واغتياله من قِبل شقيّ «متنسّك» بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثت أن تداعت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.
لقد توفّر هذا القسم على تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها ومساراتها وما كان قد اكتنفها من أسباب وعوامل.
يتبع........
يا بقيّة اللَّه.. يا سليل رسولاللَّه.. ويا حبيب فاطمة الزهراء وعليّ المرتضى.
سيّدي.. يا من ذكرك يجعل القلب يفيض بحبّ الجمال، ويشدو صوب المكرمات، ويتطلّع إلى العدل والخير.
إيهٍ «يا شمس المغرب»، ويا من التفكير بغاياتك الشاهقة النبيلة، مطالعَ نور تتفجّر براكينَ حماسةٍ وإيمان.
إيهٍ «يا من يملأ الأرض عدلاً»، ويا من ظهورك تتويجٌ لغايات النبيّين، وحضورك تأسيس ل «يوم الخلاص» الموعود.
يا آخرَ أمل أنتَ، ويا أغلى هبات السماء، يا من اسمك يملأ النفوس أملاً، وَذكرك ينثر على العاشقين عطراً روحيّاً فوّاحاً، يجذبهم صوب الشمس.
بعد سنوات طويلة من الجهد المثابر الخاضع الدؤوب، وحيث تمّت صفحات هذا الكتاب وهي تتضوّع في كلّ جزءٍ جزءٍ باسم عليّ بن أبيطالب رمز العدالة الشاهق، ومثال الحقّ والإيمان النابض، هاأنا أرفع بضاعتي المزجاة، وأتطلّع إليك - يا أيّها العزيز - بكفٍّ ممدودة ملؤها الرجاء.
أهتفُ وأقول، بخشوع آسر ودمع هطول:
سيّدي.. أيها اللواء المنشور
والعلم المركوز
يا مَظهر الرحمة الفيّاضة، والحنان الكبير
يا ملاذ أهل الضرّ والبلوى، وصريخ المكروبين
يا سَطْعة نور متفجّر في وهدة الدَّيجور
ويا شمساً طالعة في اُفق الوجود.
تقبّل - سيّدي - هذه الهديّة المتواضعة، وحفّها منك بنظرة رعاية كريمة، واجعلنا من المشمولين بضراعاتك، وحقّق لنا أمل الوصال، وأذقنا طعم اللقاء.
موسوعة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في الكتاب و السنة و التاريخ
=====
المدخل
الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، وصلّى اللَّه على سيّد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمّد، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
قال رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) : عليٌّ آيةُ الحقّ، وراية الهدى.
ماذا أقول في عليّ(عليه السلام) والحديث عنه صعب شاقّ؟! ثمّ هو أصعب إذاما رامت الكلمات أن تتسلّق صوب ذراه الشاهقة، وتطمع أن تكون خليقة بتلك الشخصيّة المتألّقة.
النظر إلى شخصيّة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) محنة للفكر. وتملّي أبعاد هذا الرجل الشاهق يتطلّب طاقة لا تحتملها إلّا الجبال الرواسي. أمّا الحديث عن بعض عظمته الباهرة، وما تحظى به هذه الشخصيّة المتوهِّجة في التاريخ الإنساني من جلال وجمال، فهو خليق بكلام آخر، ويحتاج إلى لغة اُخرى؛ لغة تتناهى في امتدادها حتى تبلغ «الوجود» سعة، عساها - عندئذٍ - أن تُدرك شيئاً ضئيلاً من كلّ هذه الفضيلة التي تُحيط تلك الشخصيّة «العملاقة»، وما يحظى به من سموّ ومناقب لا نظير لها، ثمّ عساها أن تؤلّف كلاماً يرتقي إلى مدى هذا الإنسان الإلهي، ويكون جديراً به.
أمّا اُولئك الذين سلّحتهم بصيرتهم بفكر نافذ عن الإمام، وأدركوا - إلى حدّما- أبعاده الوجوديّة؛ فما لبثوا أن اضطرموا بمحنة العجز وقد لاذوا بالصمت، ثمّ ما برحوا يجهرون أنّ هذا الصمت لم يكن إباءً عن إظهار فضائل الإمام بقدر ما كان ينمّ عمّا اعتورهم من عجز، وهو إلى ذلك ينبئ عن حيرة استحوذت عليهم وهم لا يدرون كيف يصبّون كلّ هذه الفضائل العَليّة في حدود الكلمات، وكيف يعبّرون عن معانيها البليغة من خلال الألفاظ!
أجل، لم يكن قلّة اُولئك الذين اُشربوا في أعماق نفوسهم هذا المعنى الرفيع للمتنبي، وهو يصدع:
وتركتُ مدحي للوصيّ تعمُّداً
إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسهِ
وصفاتُ ضوء الشمس تذهبُ باطلا
مَنْ يريد أن يتحدّث عن جلال عليّ وفضائله يستبدّ به العجز، وتطوّقه الحيرة؛ فلا يدري ما يقول!
هي محنة كبيرة لا تستثني أحداً؛ أن ينطق الإنسان بكلام يرتفع إلى مستوى هذه «الظاهرة الوجوديّة المذهلة»؛ وهو عجز كبير مدهش يعتري الجميع مهما كانت القابليّة وبلغ الاستعداد.
ولا ريب أنّ أباإسحاق النظّام كان قد لبث يفكِّر طويلاً، وطوى نفسه على تأمّلٍ عميق مترامي الأطراف في أبعاد هذه الشخصيّة ومكوّناتها، قبل أن يقول: «عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) محنة على المتكلِّم؛ إن وفّاه حقّه غلا، وإن بخسه حقّه أساء!».
عليٌّ(عليه السلام) في سوح القتال اللاحبة هو الأكثر جهاداً، والأمضى عزماً، والأشدّ توثّباً. وهو في مضمار الحياة الوجهُ المفعم بالاُلفة؛ حيث لا يرتقي إليه إنسان بالخلق الرفيع. وفي جوف الليل الأوّاب المتبتِّل، أعبد المتبتِّلين، وأكثر القلوب ولَهاً بربّه. وبإزاء خلق اللَّه هو أرفق إنسان على هذه البسيطة بالإنسان، يفيض بالعطوفة واللين. وهو الأصلب في ميدان إحقاق الحقّ في غير مداجاة، المنافح عنه في غير هروب.
أمّا في البلاغة والتوفّر على بدائع الخطابة وضروب الحكمة وفنون الكلام، فليس له نظير؛ وهو فارس هذا الميدان، والأمكن فيه من كلّ أحد. وللَّه درّ الشاعر العلوي، وهو يقول في ذلك:
كم له شمس حكمة تتمنّى
غرّةُ الشمس أن تكون سماها
تُرى، هل يمكن لإنسان أن يُشرِف على منعرجات التاريخ، ولا تشدّه تلك القمّة الشاهقة في مضمار الكرامة والحريّة والإنسانيّة، وهي تسمو على كلّ ما سواها!
وهل يسوغ لإنسان أن يمدّ بصره إلى صحراء الحياة، ثمّ لا يرفرف قلبه صوب هذا المظهر المتألِّق بالحبّ والعبادة، المملوء بالجهاد والمروءة، أو لا يُبصر هذا المثال المترع بالصدق والإيثار، وبالإيمان والجلال!
ثمّ هل يمكن لكاتب أن يخطّ صفحات بقلمه، ولا يهوى فؤاده أن يعطّر بضاعته بعبير يتضوّع بذكر عليّ، ويخلط كلماته بشذىً يفوح بنسائم حياته التي يغمرها التوثّب، ويحيط بها الإقدام من كلّ حدب، ويجلّلها الجهاد والإيثار من كلّ صوب!
في ظنّي أنّ جميع اُولئك الذين فكّروا وتأمّلوا، ثمّ استذاقوا طعم هذه الظاهرة الوجوديّة المذهلة، إنّما يخامرهم اعتقاد يفيد: وأنّى للقطرة الوحيدة التائهة أن تُثني على البحر! وأنّى للذرّة العالقة أن تنشد المديح بالشمس!
وأمّا كاتب هذه السطور!
فلم يكن يدُر بخلده قطّ أن يخطّ يوماً كلاماً جديراً في وصف تلك الشمس الساطعة، كما لم يخطر بباله أبداً أن يكون له حظّ في حمل قبضة من قبس كتلة الحقّ المتوهِّجة تلك، أو أن يكون له نصيب في بثّ شيءٍ من أريج بحر فضائلها الزخّار، وأن يُسهِم في نشر أثارة من مناقبها المتضوّعة بعبيرٍ فوّاح.
هكذا دالت الحال ومرّت الأيّام بانتظار موعد في ضمير الغيب مرتقب!
فقد قُدِّر لي وأنا أشتغل بتدوين «ميزان الحكمة» أن اُلقي نظرة من بعيد على هذا البحر الزخّار، بحكم ضرورة أملتها هيكليّة الكتاب، وساقت منهجيّاً إلى مدخلٍ بعنوان: «الإمامة».
أجل، لم يسمح «المدخل» بأكثر من نظرةٍ من بعيد إلى البحر اللجّي، أطلّت على شخصيّة الإمام الأخّاذة عبر الكلام الإلهي والنبوي، قد سمحت بتثبيت ومضات من سيرة ذلك العظيم على أساس ما تحكيه روايات المعصومين:.
مرّة اُخرى شاء التقدير الإلهي أن تتّسع موسوعة «ميزان الحكمة» (التي تجدّد طبعها - بفضل اللَّه - مرّات، وراحت تتخطّى الحدود وتصل إلى أقصى النقاط، وهي تستجيب بقدرها لتطلّعات الباحثين عن المعرفة الدينيّة) وتمتدّ فصولها وتزداد.
بعد تأمّلٍ طويل انطلقت بكاتب هذه السطور همّتُه، وتبدّل العزم إلى قرار بالعمل يقضي بإضافة هذا الجزء.
كانت الرحلة بعيدة المدى، وبدا الطريق طويلاً وأنا حديث العهد به، لولا أن تداركتني رعاية خاصّة من الإمام، ولا غَروَ وهو كهف السائرين على الحقّ وملاذهم، ثمّ اكتنفتني همم كبيرة برزت من فضلاء كرام.
وبين هذا وذاك أينع ذلك الجهد وأثمر بعد سنوات حصيلةً تحمل عنوان: «موسوعة الإمام عليّ بن أبيطالب في الكتاب والسنّة والتاريخ» هي ذي التي بين أيديكم.
ثمّ شاءت المقادير مرّة اُخرى أن يقترن طبع الموسوعة في السنة التي توشّحت باسم مولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، حيث راحت هذه المناسبة تستقطب إليها اُلوف الجهود والهمم(1).
وها أنا ذا أتوجّه إلى اللَّه سبحانه شاكراً أنعُمَه من أعماق وجودي وقد حالفني توفيقه في المضيّ قُدماً لإنجاز هذا المشروع المهمّ؛ حيث هوّن العقبات، وذلّل الصِّعاب، ويسّر العسير.
إنّ «موسوعة الإمام» لهي إلى هذا العاشق الوله بذكر عليّ(عليه السلام) أعذب شيء في حياته وأحلاه، وأدعى حصيلة تبعث على الفخر في سنيّ عمره، حيث بلغت نهايتها بفضل اللَّه سبحانه، ومعونة خالصة أسداها عدد من الفضلاء.
أجل؛ إنّ «موسوعة الإمام عليّ بن أبيطالب» تجسِّد من الاُمنيات في حياتي ما هو أرفعها وأسماها، وتستجيب من تطلّعاتي إلى ما هو أبعدها مدىً.
وما كان ذلك يتحقّق لولا فضل اللَّه وتوفيقه، فله حمدي، وعليه ثنائي اُزجيه خاشعاً بكلّ وجودي.
وما كان ليتمّ لولا رعاية خاصّة كنفني بها المولى أميرالمؤمنين، فله شكري، وعليه سلامي، فلولا ما فاء به من رعاية وتسديد، ولولا مدده الذي أسداه في تذليل العقبات الكؤود وتيسيرها لما رسَت «الموسوعة» على هذا الشكل.
وحسبُ هذه الكلمات أنّها رسالة اعتذار تومئ إلى تقصير صاحبها، ثمّ حسبها ما تُبديه من ثناء عاطر مقرون بالخشوع والجلال لكلّ هذه الرعاية الحافلة من أجل بلوغ المقصد.
إنّ «موسوعة الإمام» هي إطلالة على حياة أميرالمؤمنين(عليه السلام) ، كما هي نافذة تشرف على السيرة العلويّة، وتتطلّع إلى تاريخ حياة أكمل إنسان، وأعظم المؤمنين وأبرز شخصيّة في تاريخ الإسلام بعد رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) .
وتهدف «موسوعة الإمام» أن تترسّم السبيل إلى أعظم تعاليم عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) وأبلغها عِظة وتذكيراً. كما توفّرت على بيان أجزاء من حياة أميرالمؤمنين(عليه السلام) وسيرته البيضاء الوضّاءة.
وتسعى «موسوعة الإمام» من خلال استجلاء المعالم الملكوتيّة لإمام الإنسانيّة؛ وتتطلّع عبر تدوين الخصائص العلميّة والأخلاقيّة والعمليّة لحياته التي تفيض بالتوثّب والإيمان؛ وتصبو عبر تبيين ما بذله «صوت العدالة الإنسانيّة» من جهود مذهلة لبسط العدل وإرساء حاكميّة الحقّ، إلى الجواب عمليّاً على السؤال التالي: لماذا جعل الكتابُ الإلهي عليَّ بن أبيطالب شاهداً إلى جوار اللَّه على الرسالة؟
لقد انطلقت «الموسوعة» من خلال الاستناد إلى عرضٍ جديد، وهيكليّة مبتكرة، ومنهج مستحدَث فاعل، لتقسيم السيرة العلويّة إلى ستّة عشر قسماً، تضعها بين يدي الباحثين والمتطلِّعين إلى المعارف العلويّة، وتُقدّمها إلى الولهين بحبّ عليّ(عليه السلام) ، وإلى طلّاب الحقّ والحقيقة.
وفيما يلي نقدِّم استعراضاً عامّاً لمحتويات هذه الأقسام:
القسم الأوّل: اُسرة الإمام عليّ
توفّر هذا القسم على بيان منحدر الإمام عليّ(عليه السلام) واُسرته، كما تناول المحيط الذي ترعرع به وحياته الخاصّة، ودار الحديث فيه أيضاً عن شخصيّة والديه، وعن أسماء الإمام وكُناه وألقابه وشمائله وأوصافه وزواجه وزوجاته وأولاده.
لقد اتّضح من هذا القسم أنّ الإمام نشأ في اُسرة كريمة، وترعرع في محيط طاهر زكيّ؛ فأسلافه الكرام من الآباء والأجداد موحِّدون بأجمعهم، طاهرون لم تخالطهم أدناس الجاهليّة، مضَوا وكلّهم ثبات في سبيل اللَّه.
كما كشف هذا القسم عن اُصول كريمة تكتنف هذا الموحِّد العظيم في تاريخ الإسلام، فلم يلوّث الشرك أحداً من أسلافه قط، ولم يكن لمواضعات البيئة وتلوّثاتها الفكريّة والعقيديّة نصيب في حياتهم. فهذا هو الإمام وقد انبثق من حضن والد مؤمن جَلِد قويّ الشكيمة منافح عن الحقّ، ووالدة كريمة المحتد صافية الفطرة مؤمنة بالمعاد.
ثمّ مضت حياته مع زوجة هي أتقى وأطهر امرأة في نساء عصره؛ وهي سيّدة نساء العالمين. وقد كان زواجاً بدأ بأمر اللَّه سبحانه وحفّته هالة من القداسة والخشوع، فانشقّ عن ذرّيّة كريمة كان لها اليد الطولى في صنع التاريخ، وهي إلى ذلك المصداق الأسمى ل «الكوثر».
أمّا كُناه وألقابه فقد اختارها رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) غالباً، وهي جميعاً تومئ إلى فضائله الرفيعة التي تتألّق عظمة، وإلى موضعه المنيف الشاهق في الإسلام والتاريخ.
حياة لم تهبط عن مستوى العظمة لحظة، ولم تتعثّر بصاحبها قط.
القسم الثاني: الإمام عليّ مع النبيّ
يوم قرع صوت السماء فؤاد رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وهبط إليه أمر الرسالة، ثمّ أعلن دعوته التاريخيّة، كانت الجزيرة العربيّة تغطّ في ظلام دامس، ويحيطها الجهل من كلّ حدب وصوب.
لقد واجه القوم بعثة نبيّ الحرّيّة والكرامة بالرفض والتكذيب، ثمّ اشتدّت عليه سفاهات القوم وتكالب الطغاة.
وهاهو ذا عليّ اختار موقفه إلى جوار النبيّ منذ الأيّام الاُولى لهذه النهضة الربّانيّة. وقد صحب أميرالمؤمنين(عليه السلام) رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولم ينفصل عنه لحظة، بل راح ينافح ويتفانى في الدفاع عنه دون تعب أو كلل.
وما توفّر عليه هذا القسم هو بيان الموقع الرفيع الذي تبوّأه الإمام في إرساء النهضة الإسلاميّة، والدور البنّاء الذي اضطلع به في دوام هذه الحركة الربّانيّة على عصر رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) .
يكشف هذا القسم أنّ عليّاً(عليه السلام) كان إلى جوار النبيّ لم يفارقه منذ البعثة حتى الوفاة، باذلاً نفسه وأقصى ما يستطيع في سبيل تحقيق حاكميّة الإسلام في المجتمع. فهو مع رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) في المشاهد جميعاً وعند المنعطفات الخطرة، وهو السبّاق الذي يثب مبادراً في المواطن الصعبة كلّها وعند العقبات الكؤود التي تعتري حركة الإسلام.
يُسفر هذا القسم عن أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يوفِّر من جهده الدؤوب لحظة، ولم يدّخر من تفانيه المخلص شيئاً إلّا وقد بذله دفاعاً عن هذا الدين، وذوداً عن نبيّه الكريم(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، وصوناً لهذه الدعوة الربّانيّة الفتيّة، من أجل أن يمتدّ الإسلام وتبلغ هذه الحركة الإلهيّة مداها.
القسم الثالث: جهود النبيّ لقيادة الإمام عليّ
الإسلام خاتم الأديان، ورسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) خاتم النبيّين، والقرآن الحلقة الأخيرة في الكتب السماويّة.
والنبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) مبلِّغ لدينٍ اكتسى لون الأبديّة، ولن يقوى الزمان على طيّ سجلِّ حياته؛ فماذا فعل رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لتأمين مستقبل هذا الدين، وضمان مستقبل اُمّته؟ وما هو التدبير الإلهي في هذا المضمار؟
أوضح هذا القسم الرؤية المستقبليّة التي انطوى عليها الدين الإلهي، وموقع الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) في المخطّط الربّاني الذي حملته السماء في هذا المجال.
بكلام آخر، ما عني به هذا الفصل هو الولاية العلويّة، وإمامة عليّ بن أبيطالب(عليه السلام) التي جاءت في إطار جهود رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) في رسم مستقبل الاُمّة.
وفي هذا الاتّجاه استفاض هذا القسم في حشد مجموعة الأدلّة العقليّة والنقليّة لإثبات أنّ النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يدَع الاُمّة بعده هملاً دون راعٍ، ولم يعلّق مستقبلها على فراغ من دون برنامج محدّد للقيادة من بعده، بل حدّد مسار المستقبل بدقّة وجلاء من خلال جهد مثابر بذله طوال ثلاث وعشرين سنة، وعبر تهيئة الأجواء المناسبة لتعاليم مكثّفة أدلى بها على نحو الإشارة مَرّة، وعلى نحو صريح أغلب المرّات.
كما بيَّن هذا القسم صراحة أنّ «الغدير» لم يكن إلّا نقطة الذروة على خطّ هذا الجهد المتواصل الطويل. ثمّ عاد يؤكِّد بوضوح أنّ النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يتوانَ بعد ذلك عن هذا الأمر الخطير، بل دأب على العناية به والتركيز عليه حتى آخر لحظات عمره المبارك.
ومع أنّ الحلقات الأخيرة في التدبير النبوي؛ كمَيلِه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى تدوين ما كان قد ركّز على ذكره مرّات خلال السنوات الطويلة الماضية في إطار وصيّة مكتوبة، لم يأت بالنتيجة المطلوبة إثر الفضاء المخرّب الذي اُثير من حوله. وكذلك انتهت إلى المآل نفسه حلقة اُخرى على هذا الخطّ تمثّلت بإنفاذ بعث اُسامة. إلّا أنّ ما يُلحظ أنّ رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) لم يُهمل هاتين الواقعتين، بل راح يُدلي بكلمات وإشارات ومواضع تُزيل الستار عن سرّ هذه الحقيقة ورمزها.
وهذا أيضاً ممّا اضطلع به هذا القسم مشيراً إلى نتائج مهمّة استندت إلى وثائق ثابتة عند الفريقين.
القسم الرابع: الإمام عليّ بعد النبيّ
أسفاً أن لا يكون قد تحقّق ما ارتجاه رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) وما اختطّه لمستقبل الاُمّة، وقد ارتدى سرابيل الخلافة آخرٌ هو غير من اختُصّ به الأمر الإلهي.
أما وقد أسفر المشهد عن هذا، فهاهو ذا عليّ يواجه واقعاً كاذباً مريراً مدمِّراً قلَبَ الحقيقة، وهاهو مباشرة أمام لوازم الدين الجديد ومصالحه، وبإزاء اُناس حديثي عهد بالإسلام؛ فماذا ينبغي له أن يفعل؟ وما هو تكليفه الإلهي؟ ما الذي يقتضيه واقع ذلك العصر بما يكتنفه من أوضاع خاصّة على المستويين الداخلي والخارجي؟
لقد نهض هذا القسم بالجواب على هذه الأسئلة وغيرها ممّا حفَّ السيرة العلويّة في الفترة التي امتدّت بين وفاة رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتى تسنّم الإمام لأزمّة الحكم. كما سلّط أضواءً كاشفة على عوامل إهمال تعاليم النبيّ حيال مستقبل الاُمّة، وأسباب الإغضاء عن توجيهاته(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حول قيادة عليّ(عليه السلام) .
وفي إطار متابعة الحوادث التي عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حتى خلافة عثمان وقيام الناس ضدّه، تكفّل هذا القسم أيضاً ببيان الأجواء التي أحاطت بالمواقف الحكيمة لإمام الحكماء، وتفصيل ملابسات ذلك.
القسم الخامس: سياسة الإمام عليّ
خمسة وعشرون عاماً مضت على خلافة الخلفاء، وقد اتّسعت الانحرافات، وتفشّى الاعوجاج الذي كان قد بدأ بعد رحيل رسولاللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى بلغت الأوضاع في مداها حدّاً أملى على الإمام عليّ(عليه السلام) أن يصف ما جرى بأنّه «بليّة»(2) كتلك التي كانت قبل الإسلام، وذلك في خطاب حماسي خطير ألقاه بدء الخلافة.
في هذه البرهة العصيبة ثار الناس ضدَّ الخليفة وضدّ سلوكه ونهجه في الحكم، حتى إذا ما قُتل انثالوا على الإمام بشكل مذهل، وهم يطالبونه باستلام الحكم.
لقد كان الإمام يُدرك تماماً أنّ ما ذهب لن يعود؛ إذ قلّما عاد شيء أدبر. وعلى ضوء تقديره للأوضاع التي تناهت في صعوبتها امتنع في بادئ الأمر عن الاستجابة لهم، بيدَ أنّه لم يجد محيصاً عن إجابتهم بعد أن تعاظم إصرار المسلمين، وكثر التفافهم حوله.
كان أوّل ما طالعهم به في أوّل خطبة له حديثه عن التغييرات الواسعة التي يزمع القيام بها في المجتمع، كما أوضح في الحديث ذاته اُصول منهجه ومرتكزاته.
هذا القسم يبدأ رحلته مع الإمام، فيسجِّل في البدء الأجواء التي لابست وصوله إلى السلطة وتسنّمه للحكم، ثمّ يتابع تفصيليّاً انطلاق حركته الإصلاحيّة، متوفّراً على رصد اُصول نهج الإمام ومرتكزات سياسته في التغييرات الواسعة التي قادها، والحركة الإصلاحيّة التي تزعّمها، وما أثارت من أصداء في المجتمع، وما خلّفته من تبعات عليه.
من بين البحوث الأساسيّة الاُخرى في هذا القسم رصد أبرز الاُصول التي اعتمدها الإمام في الإصلاح على مختلف الصُّعد الثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة والأمنيّة. كما سعى هذا القسم من الكتاب إلى متابعة رؤى الإمام(عليه السلام) في مجال السياسة، وعوامل استقرار الدول، وعوامل انحطاطها وزوالها، وطبيعة تعاون الدول بعضها مع بعض وغير ذلك ممّا له صلة بهذه الدائرة.
القسم السادس: حروب الإمام عليّ
يوم أن مسك الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) زمام الحكم بيده، وراح يطبّق ما كان قد تحدّث عنه ووعد الناس به، برز أمامه تدريجيّاً ما كان قد توقّعه؛ فالوضع لم يحتمل بسط العدل، ولم يُطِق حركة الإصلاح والمساواة وإلغاء الامتيازات الوهميّة، فأخذت الفتن تطلّ برأسها، وبدأت أزمات الحكم.
ما يبعث على الدهشة أنّ أوّل من استجاش الفتنة وأرباها هُم اُولئك النفر الذين كان لهم الدور الأكبر في إسقاط الحكم السابق، وإرساء قواعد الحكم الجديد!
ميزة هذا القسم من الموسوعة أنّه تناول بالبحث والتحليل مناشئ هذه الفتن وجذورها، وتابع مساراتها وما ترتّب عليها من تبعات. كما رصد بالتفصيل فتن «الناكثين» و«القاسطين» و«المارقين» التي تعدّ في حقيقتها انعكاساً لحركة الإمام الإصلاحيّة، وردّ فعل على مواضعه المبدئيّة الصُّلبة بإزاء الحقوق الإلهيّة، ودفاعه عن قيم الناس وحقوقها.
من النقاط المبدعة اللامعة في هذا القسم تسليط الضوء على بعض الزوايا الفكريّة والنفسيّة والمواقف السياسيّة لمثيري الفتنة، ومتابعة تجلّيات ذلك بعمق ودقّة في حركة خوارج النهروان.
إنّ هذا البحث - في الصيغة التي اكتسبتها هذه الدراسة من خلال معرفة الوثائق التاريخيّة، وتحرّي التوجيهات الروائيّة التي احتوت هذه الخصائص - لهو حديث مبتكر وتحليل بكر بديع.
على أنّ هذا القسم برمّته هو أكثر أقسام الكتاب عِظة، وأعظمها درساً.
القسم السابع: أيّام التّخاذل
اتّسمت السنوات الاُولى لحكم الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) بأنّها سنوات مواجهة وصِدام مع مثيري الفتنة. هكذا مضت بتمامها، وقد تعب الناس من دوام هذه الفتن وأصابتهم الملالة من المواجهة والاضطراب وعدم الاستقرار. على صعيد آخر دأب أرباب الفتنة - خاصّة مركزها الأساس في الشام - على إيجاد الأزمات على الدوام، وإثارة الفتن باستمرار، وزرع العقبات أمام الحكومة المركزيّة.
ويجيء القسم السابع هذا حديثاً عن ذلك العهد. فهذه كلمات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) تفيض من ألم الوحدة وحرقتها، وتبثّ شكواها من مصائب الزمان ودواهيه.
في تلك البرهة الحالكة من الزمان سقطت مصر؛ فغاب عن الإمام مالك الأشتر؛ أطهر الرجال، وأكفأ القادة، وأشجع الخلّان، وأوفاهم بعد أن ارتوى بشُهد الشهادة. فانكمش قلب الإمام، واُصيبت روحه الطهور، والألم يعتصره من كلّ جانب.
هذا القسم رحلة تسجِّل وحدة الإمام، وهو منظومة رثاء تعزف لظلامة عليّ، كما هو انعكاس لأصوات غربته المتوجِّعة التي راحت تندّ عن نفسه الطهور.
وهذا القسم يُسفر عن مشهدٍ آخر ليس له شبهٌ بالمشهد الأوّل الذي رافق بداية عهد الإمام. فالناس لم تعد على استعدادها الأوّل لحضور الجبهات، كما لم تعُد تستجيب لنداءات الإمام وهتافاته للجهاد والنفير. والذي يتفحّص ما كان يبثّه الإمام مراراً من شكوى، يرى فيه خصائص لأهل ذلك العصر وقد آثروا حبَّ الحياة، وراحت أنفسهم ترنو إلى الدنيا، وتصبو إليها.
في أوضاع كالحة كهذه استعرت بالإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) عواطفه النبيلة، وثارت بين جوانحه أحاسيسه الطهور؛ فملأت نفسه ألماً وغضاضة وهو ينظر إلى جند معاوية تغير على المدن المَرّة تلو الاُخرى؛ تُزهِق أرواح الأبرياء، وتُمارِس النهب والسلب، وتبثّ بين الآمنين الرعب والدمار.
راحت أخبار الظلم المرير تصل الإمام، وتنهال عليه وقائع غارات معاوية وتهوّر جنده واستهتارهم وضحكاتهم المجنونة، فاهتاجته هذه الحال، والتاعت نفسه وفاضت لها غصصاً وهو يتأوّه من الأعماق، ولكن لا من مجيب!
وهكذا مضى الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو يتمنّى الموت مرّات ومرّات!
بيد أنّه لم يهُن ولم تضعف عزيمته لهذه الرزيئة، ولم يذعن إلى الواقع المرير، بل مضى قَويّاً شامخاً مقداماً لم يتخلّ عن المقاومة حتى آخر لحظة من عمره.
أجل، هذا أميرالمؤمنين يثبُ كالمنار المضيء آخر أيّام حياته وهو يهيب بالناس العودة إلى صفّين مجدّداً، وقد استنفر بكلماته المفعمة بالحماس جيشاً عظيماً إلى هذه المهمّة. فما أن انتهى من خطبته - وكانت الأخيرة - إلّا وعقد للحسين بن عليّ(عليه السلام)ولقيس بن سعد وأبيأيّوب الأنصاري لكلّ واحدٍ في عشرة آلاف مقاتل.
لكن واأسفاً! فقد أودت واقعة استشهاد الإمام(عليه السلام) واغتياله من قِبل شقيّ «متنسّك» بقواعد هذا البرنامج، فانهار ما دبّره الإمام لاستئصال فتنة الشام واجتثاثها من الجذور؛ إذ ما لبثت أن تداعت الجيوش بعد مقتل الإمام وتفرّقت.
لقد توفّر هذا القسم على تفصيل هذه اللمحات التي جاءت هنا مختصرة، وغاص بالبحث والتحليل مع جذور هذه الوقائع وأجوائها ومساراتها وما كان قد اكتنفها من أسباب وعوامل.
يتبع........
تعليق