بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الرد من الاستاذ مروان خليفات انقله لكم كما هو
الحمد لله ربّ العالمين وصل اللهم على محمد وآله الطاهرين .
منذ مدة عرض علي أحد الأخوة أوراقا كتبها بعضهم ردا ً على كتابي ( نحو الإسلام الصحيح ) وهذا الكتاب مختصر من كتابي الآخر ( وركبت السفينة ) وأقصد بالعنوان : ركوب سفينة آل البيت ( ع ) ، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله – فيما ثبت عنه- : ( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى).
والرد هو : التصريح بنقد كتاب ( نحو الإسلام الصحيح) وقد شارك في اعداده أربعة من الأساتذة فقط لا غير! بطلب من شيخهم : سعيد فودة ،وهم :
محمود الحياري
محمد مصطفى أمين
أيمن البدارين
حرّره : بلال النجار
وقد تصدى هؤلاء للرد على كتاب( نحو الإسلام الصحيح) بسبب تأثير الكتاب-كما اعترفوا هم- على بعض المشتغلين بالعلوم الشرعية .
- قالوا تحت عنوان فكرة الكتاب
( وكان مما ورد في كتابه أنه اتهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه خالف أمر رسول الله بمنعه أصحابه من كتابة وصيته في الحديث المشهور حين حضرته الوفاة . فطلب الشيخ من الأستاذين محمود الحياري وأيمن البدارين أن يكتبا ردا ً على ذلك الأتهام، نصرة واظهارا ً للحق... ودعا من يستطيع أن يشارك أن يفعل نظرا ً لكثرة انشغالنا جميعا ً )
والرد : بعضه مسروق ! والبعض الآخر منه لا قيمة علمية تذكر له،فمن سطحية في الفهم إلى خطأ في الإحالة على مصدر إلى تناقض ظاهر، إلى تشنيع على الأمامية بمسائل هم قائلون بها،ومواضيع عديدة غير مترابطة كما سنرى.
وكان الأجدر بأستاذهم الشيخ سعيد فودة أن يتصدى بنفسه للرد أو ينتدب له من هم أهل لذلك، مع أني لا أشك أن الرد عُرض عليه!
واعتقادي إن هؤلاء كتبة ( التصريح ) لا زالوا مستجدين على هذا الفن، وأسلوبهم اقرب ما يكون إلى طريقة العوام من الناس . ( فلإن أحيانا الله تعالى وكتب لنا التوفيق لنرين ّ خليفات ومن وراءه من هم أهل السنة!... وان كنا لم نرد عليه كل افتراءاته فليعلم أن هذا الكتاب بمكانة طرح السلام على الأمامية ! وسيتبعه ما سيقرأه عما قريب إنشاء الله تعالى )
( فإن ما أودعه خليفات في كتابه لا يعدو كونه شبها قد فرغ من بحثها والإجابة عنها علماء أهل السنة ولو أن الكاتب بحث عن إجابة... لوجد أن متكلمي أهل السنة يفهمون مذهب الأمامية ولوازمه القريبة والبعيدة أكثر مما يفهمه الأمامية أنفسهم!!
ويحللونه ويعرضون أقوالهم في أقوى صورة بل ربما يخترعون لهم الأدلة!! ثم إنهم ينسفون مذهبهم نسفا!! ) انتهى
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص ووأسفا كم يظهر النقص فاضل
إذا وصف الطائي بالبخل مادرُ وعير قسا بالسفاهة باقلُ
وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
لقد أطال قلمي السكوت هنا ولعله أخذته الدهشة! فكلامهم هذا لم يسبقهم إليه أحد، وهو يدل على غرور ٍ ونقص ٍ حاولوا تغطيته بهذا الخطاب الفارغ.
الرد يحتوي على مقدمة طويلة ومواضيع عديدة، فقد طرحوا مفهوم أهل السنة وأخرجوا السلفية منه بالرغم من أن مصطلح أهل السنة أقدم وجودا ً من الأشعري والماتريدي ،ثم حملوا على دعاة التقريب بين المذاهب.... ، وشنعوا على الأمامية بمسائل هم يقولون بها !
وسأبحث المواضيع التي تتصل بموضوع كتابي لأحافظ على وحدة الموضوع، وقد أذكر بعض مواضيعهم إن دعت الحاجة لذلك .
بداية الرحلة
تحت هذا العنوان قلت في كتابي : ( نحو الإسلام الصحيح )
(في وقت الغروب، وفي إحدى طرق القرية كنت أمشي مع صديقي الشيعي،كان لا يأتي علينا يومٌ إلا ويحتد النقاش بيننا، تمنيت في وقتها أن يصبح هذا الصديق سنيا ً...
وفي أثناء مسيرنا،وبينما كنت أحدثه عن فضائل أبي بكر وعمر قاطعني قائلا كالمنتصر: رزية الخميس !
قلت : خيراً ماذا تقصد؟
قال : إنها حادثة كانت قبل وفاة النبي بأيام، حيث قال النبي لأصحابه: ( ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ً ) فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع ، أو يهجر، حسبنا كتاب الله!!
فقلت : هل وصل بكم الأمر أن تنسبوا هذا الكلام للفاروق الذي ما عصى النبي قط ؟!!
قال: تجد هذه الحادثة في صحيحي البخاري ومسلم. ..
في أي كتاب قرأت هذه الحادثة؟...
( ثم اهتديت )...
وطلبت الكتاب منه وبدأت بقراءته فورا ً... وفي اليوم الثاني عزمت على توثيق نصوص الكتاب من مكتبة الجامعة- اليرموك- وبدأت برزية الخميس، فوجدتها مثبتة في صحيحي البخاري ومسلم بعدة طرق...)
- قالوا : ( يقول الكاتب في عرضه لقصة تحوله إلى مذهب الشيعة، إن صديقه أعطاه كتاب( ثم اهتديت) للتيجاني ليتحقق من حادثة رزية الخميس... وفي اليوم التالي بدأ بتوثيق نصوص كتاب التيجاني فوجدها مثبتة في صحيحي البخاري ومسلم بعدة طرق...)
( ولنتأمل هذا الكلام إن الكاتب لم يذكر عدة الطرق التي وجدها في الصحيحين فضلا ً عن قول الشراح في هذه الروايات ومناقشة النصوص أصوليا ، أنه يتكلم مجرد كلام في الهواء دون الاستدلال عليه بشيء!)
لا شك إن هذا قد قرأ الحادثة في كتابي، فهل قرأ وراجع الحاشية التي ذكرتها في أسفل الصفحة؟ إذا لم يفعل فهذا جاهل حتى بكيفية القراءة وان فعل فلا أظنه وعاها! فقد أرجعت القارىء إلى كتابين : صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، وصحيح مسلم ، كتاب الوصية، باب ترك الوصية ، وكل كتاب منهما يذكر الحادثة بأكثر من طريق عن ابن عباس.
وقد كنت أذكر قصة تحولي إلى مدرسة أهل البيت ولم أكن بصدد بحث الحادثة في ذاك المختصر خاصة أني توسعت في الحادثة في كتاب ( وركبت السفينة) وناقشت بعض التبريرات التي كرروها في ردهم ( التصريح )
أما قول الشراح والأصوليين فهم لم يحسنوا رفع هذه التهمة عن عمر بالرغم من تبريراتهم العديدة ، وسنناقش أقوالهم التي ذكرت ونرى بعدها عن الصواب.
رزية الخميس
- قالوا تحت عنوان الشبهة الأولى ( ص 19 ) فقد ادعوا -الأمامية- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (يهجر) وهو مجرد ادعاء واتهام عار عن الصحة ...
نص حديث البخاري ومسلم المتفق عليه والروايات الأخرى
سنذكر ههنا نص الحديث كما ورد في المصادر الحديثية لا كما أوردها الشيعة الأمامية...
( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده) فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( قوموا) قال عبيدالله فكان يقول ابن عباس :إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم)
وذكروا عن البخاري روايتين وليس فيهما تصريح باسم عمر، ونقلوا عن البيهقي
(فقال بعض من كان عنده إن نبي الله ليهجر ) وعند الطبري والإمام أحمد بصيغة( فقالوا ما شأنه أهجر... ) وفي مسند الحميدي( فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه) وعند أبي يعلى من غير لفظة ( هجر) ولا( وجع )
- قالوا : ما نستخلصه من مجموع هذه الروايات ما يلي:
قوله في الحديث( هجر رسول الله ) – أي هذي - لم تنسب إلى عمر بن الخطاب في أي رواية ، لا في الصحيحين ولا في غيرهما من كتب أهل السنة كما يدعي علماء الشيعة وكما يدعي الكاتب الأمين في نقله حيث يقول : ( فوجدتها مثبتة في الصحيحين ) انتهى
إما أن يكون صاحب هذا التعليق جاهل بكيفية القراءة أو مغرضا ً يحاول التشوية علي، لقد قلت في كتابي( ص8 ) ( وبدأت برزية الخميس فوجدتها مثبتة في صحيحي البخاري ومسلم بعدة طرق )
إن كلامي هذا حول أصل الحادثة ليس إلا ّ، فهل يحتاج هؤلاء أن أوضح لهم: أن الضمير ( ها ) في قولي فوجدتها يعود على رزية الخميس؟!!
( هجر رسول الله –أي هذي- لم تنسب لعمر )
لا شك إن عمر هو أول راد ٍ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلفظة ( غلبه الوجع ) نسبها له البخاري في ثلاثة أحاديث:
( كتاب العلم ، باب كتابة العلم)
( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب كراهية الخلاف )
( كتاب المرضى، باب قول المريض قوموا عني )
ونسبها له مسلم في: كتاب الوصية
وفي مسند أحمد نسبها له مرتين: ج1 ص 325 و ج1ص 336
وفي سنن النسائي نسبها له مرتين في ج3 ص 433 وج4 ص 360
وفي المصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج5 ص 438
وفي صحيح ابن حبان: ج14 ص 562
وفي طبقات ابن سعد: ج2 ص 244
قال ابن حجر في( مقدمة فتح الباري ج1 ص 309 ) ) فقال بعضهم قد غلبه الوجع القائل هو عمر صرح به المصنف في كتاب الطب )
إنَ المتتبع لروايات الحادثة يلاحظ أنه كلما ذكروا عمر ، يقولون : فقال عمر( غلبه الوجع ) وكلما ذكروا غيره نسبوا لهم عبارة : ( هجر أو أهجر )
فعلى ماذا يدل هذا التلاعب بألفاظ الرواية ؟ إنها محاولات يائسة لتبرئة ساحة عمر!
إن الناظر في الروايات يجد أن مجموعة من الصحابة رددوا ما قاله عمر !
ففي الصحيحين: ( ومنهم من يقول ما قال عمر )
وهؤلاء حين يذ ُكر قولهم يكون) : هجر أو أهجر ) كما في روايات البخاري ومسلم
فهم رددوا ما فهموه من عبارة عمر ولم يرو أنهم قالوا ( غلبه الوجع ) وإنما ( هجر أو أهجر ) أي : ( ما قال عمر )
فعمر قصد من عبارته الهذيان- وان كانت غلبه الوجع- ، وهو ما فهمه من شاركه قوله!
عمر هو القائل( أهجر )أو( هجر )
بينا سابقاً أن عمر هو أول من قال: أهجر أو هجر، وهناك جماعة صرحوا بأن عمر هو القائل لهذه الكلمة،
في بعض الروايات : ( فقال بعض من كان عنده إن نبي الله ليهجر ) وقد نقلها أصحاب (التصريح) ( ص23 ) عن طبقات ابن سعد ج2 ص 242
فمن هو هذا البعض الذي قال ( ليهجر)
1- فسر لنا برهان الدين الحلبي عبارة ( فقال بعضهم) التي وردت في روايات عديدة فقال عند إيراد رواية فيها( فقال بعضهم) : ( وهو سيدنا عمر رضي الله عنه!! ) فنفسر بقوله هذا رواية : ( فقال بعض من كان عنده إن نبي الله ليهجر ) !
السيرة الحلبية ج3 ص 456
2- صرح ابن الأثير أن عمر هو قائل كلمة( أهجر )- بالرغم من دفاعه عنه-قال : ( ومنه حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا : ما شأنه؟ أهجر؟... والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك ) النهاية في غريب الحديث: ج5 ص 246 ،
3- وتبعه ابن منظور ، لسان العرب: ج5 ص 254
4- نسب أبو حامد الغزالي كلمة (يهجر) لعمر في كتابه المنسوب له(سر العالمين) حيث قال: ( لما مات رسول الله صلى الله عليه( وآله) وسلم قال قبل وفاته ائتوا بدواة وبيضاء لأزيل لكم إشكال الأمر وأذكر لكم من المستحق لها بعدي) ، قال عمر دعوا الرجل فإنه ليهجر، وقيل يهدر ) سر العالمين وكشف ما في الدارين: ص 40
5- يقر الخفاجي أن عمر هو قائل كلمة ( يهجر) فقد قال في شرح الشفا : ( ( في بعض طرقه ) أي طرق هذا الحديث المروية عنه، فقال عمر: ( إن )... ) صلى الله عليه وسلم ( يهجر ) بفتح أوله وضم ثالثه أي يأتي بهجر من القول...)
نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ج4 ص 278
6- كذلك علي القاري يعترف ويوافق ابن الأثير في نسبة الكلمة لعمر، قال في شرح الشفا : ( ( فقال) أي قائل( إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يهجر) ... ( وفي) رواية كما في البخاري( هجر) أي أهجر! قال ابن الأثير: أي هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما قيل... والقائل كان عمر... )
شرح الشفا بهامش نسيم الرياض ج4 ص 278
7- وابن حزم يعترف، قال بعد إيراد رواية( ما شأنه أهجر) : ( ولذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به!) الإحكام : ج7 ص284
8- ونسب ابن تيمية عبارة ( أهجر ) لعمر ، قال: ( وأما عمر فاشتبه عليه،هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة ، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال : ما له أهجر فشك في ذلك...) منهاج السنة ج6 ص 24.
- قالوا (23) : ( والأصح كما يقول الإمام النووي والسيوطي والقاضي عياض رواية( أهجر) بالهمز أي بالاستفهام اعتراضا على من رفض الكتابة للرسول صلى الله عليه وسلم... )
إنَ هؤلاء الذين قالوا ما قالوا شكلوا مع عمر فريقا يعارض الفريق الذي يريد كتابة الكتاب ، والرواية التي ذكرها كُتاب ( التصريح ) قالوا فيها: ( نص الحديث البخاري ومسلم المتفق عليه) (...فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر... )
فالذين قالوا( هجر أو أهجر) كانوا مع فريق عمر، فعلى من اعترضوا؟! على من رفض الكتابة ؟! وهل هناك غيرهم رفض الكتابة؟ إنها زلة من هؤلاء العلماء، فأنه لا يوجد إلا فريق آخر يقول ( قربوا يكتب لكم... ) .
لا شك إنً قولهم إنَ النبي ( هجر ) ولو على سبيل الاستفهام قولٌ قاس ٍ ، فكيف يقال لسيد الخلق في أيام حياته الأخيرة ، إنها قسوة ما بعدها قسوة ، وأعجب ممن لا يهتز لهذه الحادثة، فيترك ساحة النبوة جانباً تنزف وينبري يبحث عن تبريرات دفاعاً عن الصحابة مقابل النبي!!
- قالوا: ( ص24) ( قول عمر (غلبه الوجع) عند البخاري ومسلم معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعب والكتاب الذي سيكتبه سيطول ويؤذي رسول الله... فعدم كتابة ذلك الكتاب كان شفقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتأذى... )
كيف عرف هؤلاء قصد عمر؟! ومن أين علموا أن الكتاب سيطول ويؤذي
رسول الله؟! وهل هناك مجال للرد على الرسول وهم يتلون:
) ما ضلَ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )
( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
إنه كتاب لن تضل به الأمة، وصية نبوية مكتوبة تتناقلها الأجيال يقرؤنها ويعرفون من خلالها الهداية، لاشك أنه لو كُتبت هذه الوصية وعمل بها مسلمو اليوم لعادوا أمة واحدة متحدة ولعمَ الخير الأرض. وليس هناك من سبب لحيرتهم وضلالهم إلا عدم كتابة تلك الوصية والعمل بها.
لقد أثبتنا سابقا ً أنَ( غلبه الوجع) تعني الهذيان بدليل إنَ الذين رددوا قول عمر جاءوا بلفظ( هجر) وهو الهذيان
وغريبة هذه (الشفقة ) التي قابلوا بها النبي، فهل تكون الشفقة باتهامه بالهذيان ورد أمره؟ ولو كان قولهم شفقة لشكرهم النبي وما طردهم
( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) الأنعام: 116
- قالوا ( إنَ رفض الكتابة لم يكن من عمر وحده )
قد اعترفوا أنَ عمر كان رافضا ً للكتابة !
( فالروايات كما مر ذكرت ( أهل البيت) و ( بعض القوم) وهو شامل لكل من حضر في البيت)
إنه فهم ساذج للرواية! لا تملك إلا أن تتحمل نزف جرحك وأنت تناقش هؤلاء السطحيين!
إن قصدوا ( بأهل البيت) علي وفاطمة والحسن والحسين، فالنبي كان في بيت إحدى زوجاته وليس في بيت فاطمة(ع) ،كما أن الحسن والحسين(ع) كانا صغيرين حيث لا يمكن أن يشتركا في هذا الاختلاف، وعلى افتراض حضورهما لا شك أنهما سيكونان مع جدهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وان كانوا يشيرون لعلي فحاشاه من موقفهم ذاك وهم يحتاجون لدليل ، والدليل قائم على إثبات التهمة لعمر.
وإن قصدوا بأهل البيت نساء النبي – كما يذهبون- فقد كان موقفهنَ مشرفا ً ، تقول إحدى الروايات ( فقال النسوة من وراء الستر : ألا يسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت- أي عمر!- إنكن صواحبات يوسف !...فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهنَ فأنهنَ خير منكم) المعجم الأوسط : ج5 ص288
وليتعرف هؤلاء على فقرهم العلمي نورد الرواية – التي أوردوها سابقا ً- لنحاكم استنتاجهم الذي لم يسبقهم إليه أحد !
( لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب... فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله ومنهم من يقول ما قال عمر...
( فاختلف أهل البيت ) أي المتواجدين في البيت ، بدليل دخول عمر معهم، وهو بالاتفاق ليس من أهل البيت !
- قالوا( ص25) : ( أمره عليه الصلاة والسلام لم يكن على وجه الوجوب وإنما على وجه الندب كما بين الإمام المازري والقرطبي ذلك لقرائن فهمها بعض الصحابة الذين رفضوا الكتابة بينما ظن الباقون إنها للوجوب)
يبدأ النبي كلامه بفعل أمر : (ائتوني) أو ( هلموا) اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده...
وأية عبارة أصرح من هذه في الدلالة على الوجوب؟ وهل الأمر بضمان الهداية وعدم الضلال أمر مندوب؟ وأية قرينة أو قرائن صرفت الأمر الوجوبي إلى الندب؟ وأليس طرد النبي لهم دليل استيائه منهم لعدم إتيانهم بالواجب؟!
قال السندي : ( قوله لا تضلوا بعده جواب ثان للأمر فمعناه : أنكم لا تضلون بعد
الكتاب إن أتيتم به وكتبت لكم) صحيح البخاري بحاشية السندي ج1 ص 22
لقد بقيت هذه الحادثة جرحا ً في قلب ابن عباس – وفي قلب كل غيور- فكان كلما ذكرها جرت دموعه على خديه حتى تبل الحصباء، لا شك أنه أمر عظيم يدعوه لهذا !
يقول ابن حزم بعد أن ذكر الحادثة( ما شأنه هجر؟) : ( هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما ، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومن افقه بما نطقوا به! مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده...)الإحكام: ج7ص284-285
- ( والذي يدل على أن أمره كان للندب عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام لمن خالف أمره لأن النبي لا يقر مخالفة الواجب إجماعاً واتفاقاَ)
بل أنكر عليهم وطردهم بقوله( قوموا) – وهذا اللفظ من الرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلم وأوردها أصحاب التصريح.
ولو افترضنا أن أمره للندب فما الضير في تنفيذه وفيه عصمة الأمة من الضلال؟
أم أنه هجر نعوذ بالله؟.
- ( ولو كان أمره واجبا والله أمره بالكتابة لما توانى لحظة عن الكتابة ولعاد إلى الطلب مراراً وتكرار وهو المأمور بتبليغ ما أمر الله به وهذا موافق لما فهمه سيدنا علي في صلح الحديبية عندما أمره صلى الله عليه وسلم بمحي كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعل ذلك سيدنا علي في صلح الحديبية لحمله على تقديم الأدب على الامتثال كما ذكره أهل السنة)
إن النبي مأمور بالبلاغ وهم مأمورون بالطاعة ، قال تعالى: ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) المائدة: 92
ماذا يفعل صلى الله عليه وآله وقد أمرهم ؟ إن كلمة (هجر ) التي واجهوه بها لم تترك له مجالاً ليكرر كلامه، ولو عاد وكتب الكتاب لصار مثار خلاف بين المسلمين وهل كتبه في حالة هذيان- حاشاه- أم لا، وهذا سيفتح باباً للطعن بالنبوة، فاقتضت المصلحة تركه .
ويشهد لنا أن بعضهم قالوا له بعد الحادثة : ( ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: أو بعد ماذا؟) طبقات ابن سعد ج2 ص242
وقد انتبه لهذه النكتة ابن تيمية- فالغريب كيف خفيت على هؤلاء!- قال: ( فلما رأى – النبي- أن الشك قد وقع ، علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة )
منهاج السنة ج6 ص25
لقد حاول أصحاب التصريح إيجاد مخالفة من علي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا في مقدمتهم ( ص 10) - بعض مخالفات الصحابة للرسول وعدوا منها
: ( امتناع سيدنا علي رضي الله عنه عن أن يمحو كلمة رسول الله يوم الحديبية) وفي كلامهم السابق تأكيد لهذه المسألة.
وهذا كما ذكروا من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال علي (ع) :
( يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة ) بحار الأنوار: ج20 ص 362
وقد ذهب ابن حجر إلى أن علي هو الذي كتب بعد أن محى رسول الله كلمة( رسول الله) وبهذا جزم ابن التين، فتح الباري : ج7 ص 387
وشتان بين موقف علي هذا وموقف عمر يوم الخميس! فلم يعترض عليه رسول الله، بل أقره ، يقول ابن حجر ( وفي حديث علي عند النسائي وزاد وقال: أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر يشير صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فكان كذلك) فتح الباري: ج7 ص 387 ، سنن النسائي : ج5 ص 167
وفي بعض الروايات على لسان علي(ع) : ( ثم تبسم إلي –رسول الله- وقال: يا علي أما إنك ستسام مثلها فتعطى) شرح النهج : لابن أبي الحديد: ج2 ص 275، بحار الأنوار: ج33 ص 350
وقد بين علي(ع) التزامه بإتباع الرسول حيث قال: ( ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها) نهج البلاغة، محمد عبده ج2 ص 171
- قالوا( ص 26) ( أنه عليه الصلاة والسلام عندما قال ( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) ليس إنكاراً على من رفض الكتابة، وإنما معناه: اتركوني لأتفكر وأذكر ربي وأحمده خير من هذا اللجاج... )
بل قوله إنكارا ً عليهم كما ورد في رواية( قوموا ) – وقد أوردها أصحاب التصريح سابقاً وهي مما اتفق الشيخان عليها!- فعبارته طرد لهم، وتفسيرهم ( خير مما تدعوني إليه) بخير من هذا اللجاج ليس صحيحاً ،وإنما معناه خير مما تدعوني إليه من الهذيان بدليل أنهم لم يدعوه ليشاركهم في لجاجهم!
- قالوا( أنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أوصى قبل موته وصيته المشهورة بإخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد والثالثة التي نسيها الراوي. مما يدل على نسخ أمر الله له بالكتابة وإلا لكتب كما أملى وصيته.
إن هاتين الوصيتين غير ما أراد كتابته يوم الخميس ،لأنهما لا تعصمان الناس من الضلال، ولم يذكر كتاب الله الذي فطن له عمر يوم الخميس فقال( حسبنا كتاب الله) فبقيت الوصية الثالثة، ولا يمكن القول بنسخ وصيته يوم الخميس قبل أن نعلم الوصية الثالثة،فربما تكون هي!
والغريب أنهم نسوها! ، ولا شك أن السياسة هي التي منعت من ظهورها ، وأميل إلى
أن هذه الوصية هي ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابته يوم الخميس، فكما منعوه من كتابة وصيته منعوا هذه الوصية من الظهور!
وقد ذكرنا سابقاً إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتب وصيته يوم الخميس
بسبب الكلمة التي قالوها والتي شككت الناس في مصداقية كلامه . فلا أثر لكلامه فيما بعد سوى الفرقة والخلاف والطعن بنبوته.
- قالوا : (ربما أملى شيئاً من هذا الكتاب كما ذكر الحاكم في المستدرك : ( أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، ثم ولانا قفاه، ثم أقبل علينا فقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) ولم يمل غير ذلك ، فكان باستطاعته أن يكمل الإملاء وقد عرفنا الكتاب ومضمونه فجعل الاستخلاف لأبي بكر دون غيره )
هذه الرواية معارضة لروايات كثيرة خاصة روايات الصحيحين والتي تصرح بانتهاء الحادثة بعدم كتابة شيء واستياء النبي وطرده لهم ، وابن عباس شاهد على الواقعة يصرح بأن ( الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب) !
وأين هذا الكتاب ؟ولماذا لا نجد له أثراً عند المحدثين أو أحد من العالمين؟ ولو صح لاحتج به أبو بكر في سقيفة بني ساعدة على الأنصار، ولو صح لعرف الأنصار حق أبي بكر ولما سارعوا لاختيار خليفة منهم، ولما تأخر علي ستة أشهر عن بيعة أبي بكر كما يذكر البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
إنه كتاب كما وصفه النبي: ( لن تضلوا بعده أبدا ) واستخلاف أبي بكر لم يعصم الأمة من الضلال أبدا!
إن وضع الرواية السابقة يعتبر عملية مقصودة لمسخ الرواية الصحيحة والتغطية على موقف عمر والصحابة.
قال ابن أبي الحديد وهو يتكلم عما وضعته البكرية من أحاديث : ( ونحو( ائتوني بدواة وبياض اكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ) ثم قال( يأبى الله تعالى والمسلمون إلا أبا بكر) فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه( ائتوني بدواة وبياض...) الحديث، شرح النهج: ج11 ص 49
أضف لما سبق إن الحاكم لم يصحح الرواية على شرط الشيخين أو أحدهما كما هي عادته!
قالوا: ( قال الأمام النووي ) وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد أتفق علماء المتكلمين في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها)
تلفني الحيرة وأنا أقرأ هذا العجب! إنه يعني: أن النبي أراد أن يكتب أموراً يعجزون عنها ويستحقون العقوبة عليها، فتدارك عمر الموقف وأنقذ الأمة!! والنبي قصد بقوله( لا تضلوا بعده أبدا) توريط الناس وتكليفهم بأمور يعجزون عنها، وتعريضهم لاستحقاق العقوبة وما عزم على هذا إلا لأنه يهجر- والعياذ بالله-
فصار عمر أحرص من النبي على أمته وأشد دراية منه بما يحتاجه الناس،
فهنيئاً لهؤلاء القوم عقيدتهم هذه!
أما فقه عمر ودقيق نظره فكيف يستقيم وقد خفي عليه حكم التيمم ومعنى الكلالة ؟ وأين فقهه حين أراد تحديد مهور النساء فردت عليه امرأة فتراجع وقال: (كلكم افقه من عمر) سبل السلام: ابن حجر،ج3 ص 149، المجموع للنووي: ج16 ص 327
( فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء )، وقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة)
إذا كان القرآن كافٍ فلماذا ضلت الأمة إذاً؟! وهل هاتان الآيتان تعصمان الأمة من الضلال ؟ إنه كلام لا يقوله عاقل!
قالوا ( ص27) : ( لو كان مراد رسول الله صلى الله عليه ( وآله) وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه – من أصول دينهم ، كما يدعي الشيعة بأن الإمامة إنما هي المصححة للتكليف – لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره...)
لا شك أن النبي أراد أن يؤكد لهم كتابة ً أمراً قد بلغه في حياته ، ليضمن عملهم بذاك الأمر ، وقد قلنا سابقاً إنه تركه لما شكّك عمر ومن تبعه بحالة النبي ، فصار ترك الكتاب أولى لأنه يؤدي للطعن بالنبوة وهل كتب الكتاب وهو يهذي- حاشاه- أم لا؟
وهذا سيجر للطعن بكل ما جاء به .
قالوا: ( إن قول عمر كان لتحصيل الأمة فضيلة الاجتهاد ولئلا يسد هذا الباب الذي أصله لهم النبي صلى الله عليه ( وآله) وسلم بقوله: إذا اجتهد الحاكم) الحديث
لا أدري إلى الآن ما هي قيمة النبي عند هؤلاء؟ فكل ما يقولونه هو تأكيد لمقولة عمر أن النبي يهجر، فالنبي – كما قالوا- أصل لهم باب الاجتهاد ، ثم أراد سده بذاك الكتاب ، لأنه كان بحالة صحية غير طبيعية- حاشاه- فتدخل عمر ليبقي الباب مفتوحاً، فالنبي غفل عن هذه النكتة لكن عمر فطن لها وأنقذ الأمة لهذا تعيش الآن الحيرة والضلال!
وما قالوه ( إن قول عمر كان لتحصيل فضيلة الاجتهاد) معارض لما ذكروه سابقا أن النبي نص على أبي بكر في ذاك الكتاب ، ولا دخل لهذه المسألة ( بفضيلة الاجتهاد)!
قالوا: ( إن أمره عليه( وآله) الصلاة والسلام لصحابته بالكتابة أمر اجتهادي منه وليس تبليغاً من الله تعالى ويدل على ذلك...)
إن مسألة ( اجتهاد النبي ) ، محل خلاف عند الجمهور، فمنهم من قال أنه يجتهد ومنهم من قال بأنه يتعبد بالنص فقط،
ومع هذا فهناك نصوص كثيرة جداً تأمر بطاعة النبي مطلقاً، قال تعالى:
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا)
( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )
( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة )
( وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحى )
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
( فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) صحيح مسلم،ج4ص 102
( إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقا) فتح الباري، ج8 ص 101
وحين نهت قريش عبدا لله بن عمر عن كتابة كل ما يسمعه من النبي،قال له: ( اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق وأشار إلى فمه )
مستدرك الحاكم ج1ص 106
فهذه كلها نصوص واضحة على أن النبي لا يقول إلا حقا.
ولو افترضنا أن النبي يجتهد فاجتهاده أفضل من اجتهادهم لأنه مسدد من قبل السماء، فيجب عدم الرد عليه تقديراً لمقامه على الأقل،
لقد توعد الله من يرفع صوته فوق صوت الرسول بإحباط العمل، حيث قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وقد نزلت هذه الآية بأبي بكر وعمر حين رفعا أصواتهما بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكادا يهلكا كما في صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الحجرات
ورد في كتاب ( الفصول في الأصول ) للجصاص ج3 ص 282: ( إن اجتهاد النبي صلى الله عليه ( وآله) وسلم لا يقع فيه خطأ) وجاء أيضا( إن اجتهاد النبي صلى الله عليه ( وآله) أفضل من اجتهاد الأمة،ومعناه: أنه أفضل من اجتهاد كل واحد منهم في نفسه))
قالوا( ويدل على ذلك - أن أمره اجتهادي- أن عمر اجتهد سابقاً مخالفاً للحكم الظاهر عن الرسول صلى الله عليه ( وآله) وسلم ونزل القرآن بموافقته فظن عمر أن هذا المقام كتلك المقامات بأنه أمر اجتهادي )
إن الذي أوردوه لا يصلح دليلا ً على اجتهاد النبي في كتابة الكتاب ، فقد احتجوا ب( فظن عمر أن هذا المقام كتلك المقامات) ولم يكن كتلك المقامات!فلم تنزل أية توافقه على فعله ،وإنما طرده النبي ومن معه ، على أننا ننكر نزول القرآن بتأييد عمر،وليس هنا محل بحثه.
( والرسول صلى الله عليه ( وآله ) وسلم لم ينكر عليه عدم كتابة ذلك الكتاب فدل على أن الأمر كما ظن عمر بدليل إقراره عليه السلام بالسكوت )
لعل ( السكوت) المزعوم لا وجود له إلا في مخيلة هؤلاء ، فالروايات صريحة بطرد النبي لهم بقوله( قوموا) وتفضيل النساء عليهم.
قالوا( ص28) : ( قال الأمام النووي وقول عمر حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه( وآله) وسلم)
وهذه مناورة لا تفيد، فقوله وإن وجهه لمن نازعه فهو شامل لرسول الله لأن النبي ممن نازعه وكان راضيا عن ذاك الفريق الذي يقول: (قربوا يكتب لكم رسول الله ) فالكلمة وجِهت للنبي بطريق غير مباشر.
( على أن كلام عمر إذا تصورناه قيل بلطف لرسول الله، فليس فيه ما يشكل أبداَ !)
تصورهم هذا أنه قاله بلطف يحتاج إلى دليل ، والمعروف عن عمر الفظاظة والخشونة، أخرج البخاري أن النبي جاء ليصلي على عبدالله بن أبي( فجذبه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟! كتاب اللباس، باب لبس القميص.
وقد اعترف عمر بخطئه في هذه الحادثة،
وحين أراد أبو بكر أن يستخلف عمر ( قال الناس: تستخلف علينا فظاً غليظاً ) المصنف، ابن أبي شيبة، ج7 ص 485
وإن افترضنا أن كلام عمر قيل بلطف فالإشكال قائم لآن كلمة هجر جارحة بلا شك.
قالوا: ( ثم إنه صلى الله عليه ( وآله) وسلم لو نص على شيء أو أشياء ، لم يرفع ذلك الخلاف كما يقول ابن الجوزي)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول( لا تضلوا) وهؤلاء يقولون لم يرفع الخلاف ، فأيهما أصدق؟!
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)
( لأن الحوادث لا يمكن حصرها فهذا دليل على عدم جزمه عليه ( وآله) الصلاة والسلام بما أمر)
إنه دليل غير ناهض ، فمن أين عرفوا أن النبي أراد تسجيل أحكاما للحوادث؟!
وهل النص على الحوادث يرفع الضلال عن الأمة ؟ لا شك إنه أمر غير هذا
( أي أن الاختلاف سنة كونية باقية قطعاً فلو نص الرسول صلى الله عليه( وآله) وسلم على ما أراد التنصيص عليه لما رفع الخلاف )
هناك إصرار من قبل هؤلاء على أنه لا اعتبار لقول رسول الله السابق، فهذه عقيدتهم بالنبي قد بانت بشاعتها .
ونحن نقول: لو نص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما أراد التنصيص عليه ونفذوا ما به لرفع الخلاف وما ضلت الأمة!
( وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)
قالوا: ( قال الخطابي في الحديث : ( لا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه( وآله) وسلم أو ظن ذلك مما لا يليق به بحال )
إن لم يكن ما قاله غلطاً فما هو الغلط ؟!
( ولكنه – الكلام للخطابي- لما رأى ما غلب على رسول الله من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلا ً إلى الكلام في الدين )
إن الكلمة التي قالها عمر وبعض الصحابة ( هجر) أكبر مشجّع للمنافقين لكي يطعنوا بالدين وكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يبقى للمنافقين مجال للكلام في الدين بعد قول النبي( لا تضلوا أو لن تضلوا) ؟! إنه كلام من يعتقد هجران النبي – حاشاه -
إنك ترى عمر بحضرة النبي مصرًا على عدم كتابة الكتاب، أما حين يكتب أبو بكر كتابا في مرضه فيكون أول من سمع وأطاع، وتراه لا يشفق على أبي بكر ويقول غلبه الوجع أو هجر بل يسارع لقراءة الكتاب!!
( دعا أبو بكر عثمان خاليا! فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة على المسلمين أما بعد ، قال ثم أغمى عليه! فذهب عنه فكتب عثمان : أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم الكم خيرا منه ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي فقرأ عليه فكبر أبو بكر... )
ثم وصل الكتاب إلى عمر وأخذه ليقرأه على الناس( عن قيس قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريده وهو يقول أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه ( وآله) وسلم) تاريخ الطبري: ج2 ص 618
وفي رواية أخذ عمر الكتاب ليقرأه على الناس ( فقال له رجل : ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ قال: لا أدري ، ولكني أول من سمع وأطاع، قال : لكني والله أدري ما فيه : أمرته عام وأمرك العام ) الإمامة والسياسة، لابن قتيبة: ج1 ص38
لقد أجاد احدهم حين قال :
أوصى النبي فقال قائلهم قد ظل يهجر سيد البشر
وأرى أبا بكر أصاب ولم يهجر وقد أوصى إلى عمر!
ثم إننا نجد عمر يسمح لنفسه بكتابة وصيته وهو يعاني ألم الطعنة التي أصابته، إلا النبي، فعدم وصيته أفضل لأنه لو أوصى ( فيجد المنافقون بذلك سبيلا ً إلى الكلام في الدين) على حد تعبير الخطابي!!
( وقد كان أصحابه عليه ( وآله) الصلاة والسلام يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم ... فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم )
هكذا كان أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يدل عليه قوله( لا تضلوا بعده) وهو صريح في معناه، وكلام الخطابي الأخير منقوض بما هو مسطور في كتب الحديث والتاريخ من عصيان الصحابة للنبي، ونكتفي بمثال واحد.
ففي صلح الحديبية، أتاه عمر( فقلت ألست نبي الله حقا ؟! قال: بلى ، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري .
فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقلت: يا أبا بكر : أليس هذا نبي الله حقا...؟!! )
ولما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة الصلح، قال لأصحابه: ( قوموا فانحروا ثم احلقوا) فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، دخل خباءه ثم خرج فلم يكلم أحداً منهم بشيء ....)
راجع : صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، مسند أحمد، ج 4 330 ص
وكان عمر يقول عن موقفه هذا مع النبي : ( لقد دخلني أمر عظيم راجعت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط!) فتح الباري، ج5 ص 254
( قال- الخطابي- : وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه وقد أجمعوا كلهم على أنه لا يُقر عليه ... )
إن الخطأ أولى بهؤلاء ، فكيف يصدر منه الخطأ وقد أمر الله بطاعته طاعة مطلقة؟ وكيف يكون صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة لغيره واحتمال خطئه جائز؟
( وقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه ! فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه)
إن الخطابي يعترف إن مراجعة عمر له ليتبين حقيقته هل يهذي- حاشاه- أم لا؟
وأصحاب التصريح بإيرادهم كلام الخطابي الأخير هدموا كل ما بنوه سابقاً!!
قالوا : ( إن الأمامية أنفسهم نسبوا لبعض أئمتهم ما رموا به عمر من نسبة الهذيان لرسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، فهذه رواية روتها كتب الشيعة الأمامية في حق أحد الأئمة وهو معصوم عندهم ، ولا فرق بينه وبين النبي إلا بالوحي. تأمل.فقد قال ابن طاوس شرف العترة وركن الإسلام: ( ومن ذلك في دلائل علي بن الحسين عليه السلام ما رويناه بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر بن رستم قال: حضر علي بن الحسين الموت، فقال لولده: يا محمد أي ليلة هذه ... ثم دعا بوضوء فجيء به ، فقال : إن فيه فأرة، فقال بعض القوم: إنه يهجر فجاءوا بالمصباح...) نقلاً عن فرج المهموم: ص 288
من المعلوم لدى أهل التحقيق أن ورود رواية في كتاب – خاصة الكتب الروائية- لا يعني صحتها إلا إذا التزم مؤلف الكتاب صحة ما فيه من روايات، هكذا كان مسلك أكثر القدامى نقلُ الروايات التي وصلت إليهم دون تمحيصها .
يقول الطبري- مثلاً- عن تاريخه: ( ... فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا) تاريخ الطبري، ج1 ص 5
هذا معنى وجود الرواية السابقة في كتاب لابن طاووس،وإلا- على منهجهم – لاتهمنا البخاري ومسلم وأحمد وابن سعد والطبراني بأنهم يقولون بهذيان النبي لإيرادهم روايات يوم الخميس في كتبهم، فهل يقبل أصحاب التصريح بهذا المنطق؟!
وهل أن ابن طاووس هو من اتهم الإمام بالهجران أم بعض القوم المجهولين ؟
لقد افتروا حين قالوا: (إن الأمامية أنفسهم نسبوا... ) فمن من الأمامية قال ذلك؟ أهم القوم المجهولون؟ إنني وكل شيعي نبرأ إلى الله ممن يعتقد هذا لأحد من أئمة آل البيت، فهل يجرؤ أصحاب التصريح ويتبرؤا ممن اتهم النبي بالهجران؟!
لا شك إن انعدام الحجة المقنعة لدى كتبة التصريح دعتهم لأن يحتجوا بتلك الرواية ناسين تصريحات علماء الأمامية الدالة على عصمة النبي والأئمة ، والغريب أنها وردت في كتاب أو كتابين ونسبوها لجميع الأمامية!
استنطاق الحادثة
لقد حار القوم في إيجاد مخرج مقنع لموقف عمر والصحابة من رزية الخميس ، وقد تناسوا النبي تماما، ووجهوا له ضربات قاسية من خلال دفاعهم عن عمر وتصويب ما رآه .
ماذا أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب في ذلك الكتاب ؟ لن أطير بمخيلتي لآتي بالاحتمالات كما فعل الآخرون في توجيه موقف عمر، ولكن لعلنا نجد في كلام النبي السابق لهذه الحادثة ما يعيننا على استكشاف مضمون الكتاب الذي أراد كتابته.
في يوم الخميس أراد النبي أن يكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده ، ولا نجد عبارة للنبي فيها هذا اللفظ أو معناه إلا قوله مرات عديدة : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)
سنن الترمذي: ج5 ص 329 ، وهذا الحديث مشهور جداً وصححه كثيرون من أهل السنة ، راجع كتابنا ( وركبت السفينة) ص 411-430 .
وقد سمع الصحابة هذه الوصية مرات عديدة حتى باتت مألوفة لديهم ، وقد كررها عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ،
قال ابن حجر الهيتمي : ( وفي بعض تلك الطرق- حديث الثقلين – أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى...... الصواعق المحرقة، ج2 ص 440
فالنبي يقول يوم الخميس : لا تضلوا بعده، وفي بعض الروايات: لن تضلوا ،
وفي وصيته السابقة يقول: لن تضلوا بعدي.
فلا شك أنه أراد أن يؤكد كتابة ما أوصاهم به سابقا من تقديم أهل بيته وجعلهم مرجعية سياسية ودينية لهم .
لقد أراد أن يكتب شيئين أحدهما كتاب الله كما فهم عمر وشيء آخر ملازم له وهم عترته أهل بيته، وبإتباع الكتاب والعترة لا تضل الأمة، لكن عمر فهم مراد النبي لأنه صلى الله عليه وآله طالما ذكّر بهذا الأمر، فقال فوراً: حسبنا كتاب الله، أي يكفينا كتاب الله ولا حاجة لنا بذاك الشيء الملازم له،
ووصية النبي بإتباع أهل بيته– والتي أراد تأكيدها كتابة- لم تنفذ ، بل لاقى عترته أهل بيته من هذه الأمة ما يندى له الجبين. ولم يكتفوا بعدم الأخذ عنهم حتى قدموا عليهم مبغضيهم من النواصب والخوارج المشهود لهم بالنفاق من قبل النبي، وكتب الحديث مشحونة بأحاديث هؤلاء.
ولا زالت وصية النبي بإتباع أهل بيته ملقاة جانبا من قبل الكثيرين، ولا شك أن خصمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة.
ونختم جواب شبهتهم الأولى بكلام الكاتب المصري عبد الفتاح عبد المقصود ، قال :
( لكن ذلك العاصم من الضلال ... ضيعوه...
ذلك الكتاب الذي ودّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يمليه، أبوا عليه أن يخرج
إلى النور...
حجبوه...
لكأنما مزقوه...
فعلى من تقع تبعة هذه الخسارة التي تكبدتها منذ تلك اللحظة أمة الإسلام ، وما زالت إلى اليوم تتكبدها ، وتدفع ثمنها من دمها وعرقها ونصيبها في الحياتين جيلاً بعد جيل؟
من المسؤول؟
السقيفة والخلافة، ص 240
الأستاذ مروان خليفات
تعليق