كانت ليلة في السيارة إلى مكّة أين منها النهار . . .
فيها نقاط التفتيش . وفيها طعام المحرمين . وفيها بعض الأحاديث والأسئلة عن أحكام الإِحرام، ولكنها جميعا اكتست بجلال الخشوع ونور السكينة ، حتى ذكرهم للحسين(عليه السلام) صار من جو التلبية والإِحرام . فقد عاشوا معه محرماً في طريقه إلى مكة . ثم محرماً في كربلاء يلبّي فيقول :
وأيتمت العيال لكي أراكا تركت الخلق طرّاً في هواكا
لما مال الفؤاد إلى سواكا فلو قطعتني في الحبّ إربا
وحتى إغفاءات الحجاج في آخر الليل كانت هادئة ناعمة، تقول الروح للجسد فيها :
خذ راحتك، نم في هذه الطمأنينة الإِلهية فأنا وملائكتك يقظى . . فيغفو الجسد مطمئناً حتى إذا سمع التلبية أفاق، ولبّى مع روحه ورفقائه والملائكة . .
هنا أول مكة، ونظر الحجاج فرأوا شارعاً ممتدّاً، وأمامه جبال ينبعث من ورائها بهاء نور . . فرفعوا أصواتهم بالصلاة على النبيِّ وآله . . .
هدَأتِ الأصوات حتى عن التلبية، فقد وصلوا إلى حرم المولى، وتطّلعت إليه الأنظار والقلوب . . تريد أن ترى كلَّ شيء في مكة وتتحسسه، حتى المباني والشوارع والجبال والهواء ...
بسم الله وبالله ، ومن الله وإلى الله ، ما شاء الله ، وعلى ملّة رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، وخير الأسماء لله ، والحمدلله.
ألسلام على رسول الله محمد بن عبد الله.
ألسلام عليك أَيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
ألسلام على أنبياء الله ورسله.
ألسلام على إبراهيم خليل الرحمان.
ألسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
أللّهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني في طاعتك ومرضاتك ، واحفظني بحفظ الايمان أبداً ما أبقيتني ، جل ثناء وجهك.
ألحمدُ لله الذي جعلني من وفده وزواره ، وجعلني ممن يعمر مساجده ، وجعلني ممن يناجيه.
أللّهم إني عبدك وزائرك في بيتك ، وعلى كلّ مأتي حقّ لمن أتاه وزاره ، وأنت خير مأتي وأكرم مزور ، فأسئلك يا الله يا رحمان بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، وبأنك واحد أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن له كفؤاً أحد ، وأنّ محمداً عبدك ورسولك صلواتك عليه وعلى أهل بيته.
يا جواد يا كريم أسئلك أن تجعل تحفتك إيّاي بزيارتي إيّاك أول شيء تعطيني فكاك رقبتي من النار.
وتقدم الحجاج في القسم المسقوف من الحرم ، فنظر أكثرهم لأول مرة إلى الكعبة الشريفة تقوم في وسط ساحة المسجد ، ويموج من حولها نهر الطائفين المقدس ، فقرأ لهم القارئ دعاء النظر إلى الكعبة وترجمه لهم.
«ألحمدُ لله الذي عظّمك وشرفك وكرمك وجعلك مثابةً للناس وأمناً مباركاً وهدىً للعالمين».
وقال لهم : اجلسوا ، فجلسوا ، ثم قال : ارفعوا أيديكم، وقرأ لهم :
أللّهم إني أسئلك في مقامي هذا ، وفي أول مناسكي أن تقبل توبتي ، وأن تتجاوز عن خطيئتي ، وأن تضع عني وزري ، ألحمدلله الذي بلَّغني بيته الحرام.
أللهم إني أشهد أنّ هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمنا مباركاً وهدى للعالمين.
أللّهم العبد عبدك ، والبلد بلدك ، والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك وأؤمّ طاعتك ، مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك ، أسئلك مسألة الفقير إليك الخائف من عقوبتك.
أللّهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني بطاعتك ومرضاتك.
بكى الحجّاج لهذا الدعاء بنسب من البكاء، ثم قاموا الصلاة ركعتي تحية المسجد .
أما الدكتور فقد اتصل بكاؤه وهو جاث على ركبتيه ؛ وقد نكس رأسه ، وبقي أحمد إلى جانبه ينتظره فطال بكاؤه . . قام أحمد يصلي، وبقي الدكتور جالساً مطرقاً ، ينظر حينا إلى الكعبة ، الطائفين والمسجد ، ثم يأوي إلى صمته الطويل . . ودموعه . .
أكمل أحمد صلاته ودعاءه . . والدكتور ما زال على حاله . . فذهب وجاء بأربعة أكواب ماء قدم إلى الدكتور واحداً منها وقال :
هذا من ماء زمزم يادكتور!
شكراً لك يا أحمد، وهل يصح أن نشرب هنا؟
نعم، يا دكتور يستحب، ولكن اسمح لي قبل أن تشرب أن أقرأ لك الدعاء المستحب ، وقرأ له : «أللّهم اجعله علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء وسُقْم».
فقرأ الدكتور الدعاء وشرب وحمد الله ، فقال له أحمد :
ونحن في بيت الله، أحبّ أن أهدي لك هدية يا دكتور!
شكراً، يا أحمد ما هي؟
وأخرج أحمد من محفظته ورقة وقال :
خطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) حول الكعبة التي استشهد عالم القافلة بجزء منها . . رأيت الكعبة الشريفة ، فهل تحبّ أن أقرأ لك بعضها ريثما يأتي الرفقاء . . . ؟
شكراً، تفضل إقرأ.
وقرأ أحمد :
«ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن أدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ، ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية قُطراً ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرىً منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ، ولا ظلف.
ثمّ أمر آدم(عليه السلام) وولَدَه أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجعِ أسفارهِم ، وغايةً لملقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار الأفئدة ، من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً يُهلَّلُون لله حوله ، ويرمُلون على أقدامهم شعثاً غبراً له ، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم . . ابتلاءً عظيماً ، وامتحاناً شديداً ، واختباراً مبيناً ، وتمحيصاً بليغاً ، جعله الله سبباً لرحمته ، ووصلةً إلى جنّته.
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البُني ، متصل القرى ، بين بُرة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعِراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغُر قدرُ الجزاءِ على حسب ضعف البلاء.
ولو كان الاساسُ المحمولُ عليها ، والأحجارُ المرفوعُ بها ، بين زمرّدة خضراءَ ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفَّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولَوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفي معتلج الريب من الناس.
ولكنَّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم . . وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذلُلاً لعفوه».
أكمل أحمد قراءة النص والدكتور يستمع بإصغاء ، فقال بصوت منخفض وهو يهزّ رأسه :
أين كنّا عن هذا الفكر ، حقاً إنّ الثقافة الإِسلاميّة مظلومة ، كما يقول الشيخ الطبري . . يا أحمد! لقد تأكّد لي أنّ أحدنا لا يكون إنساناً حتى يكون عبداً ذليلاً لله تعالى ، متواضعاً للطيبين من عباده ، وأنّ أكبر الأدوات التي يستعملها إبليس لمنعه من ذلك هي ثقافة الغربيين المادية . . ساعدني يا أحمد لكي أخرج التكبّر من قلبي ، وأكون عبداً لله ذليلاً ، نعم ذليلاً . . برغم إبليس ، فقد حاول بوساوسه عندما دخلنا إلى مكة والحرم أن يشغلني عن ربي سبحانه بجغرافية مكّة وشوارعها وبنائها، وجدران الحرم وبنائه . . فقلت له : هذه الغرفة المربعة هي بيت الله في الأرض، وسواء كانت في أقصى الشرق أوالغرب أوفي مضيق جبلي يتسع لنفر واحد، أوجعلوها في سرداب تحت الأرض . . فالأمر لا يتغير منه شيء . . إنها بيت الله ومركز هذه الأرض ، وأريد أن أطوف حولها وأتبرّك بها ، وأصنع كل ما أمرني به رسول الله(صلى الله عليه وآله) . أشكرك يا أحمد ، فكأنّك عرفت أني بحاجة إلى هذه الكلمات العظيمة . . لقد قررت أن لا أشغل نفسي بشيء إلاّ بالأعمال المحددة الواجبة علىّ . . أريد يا أحمد! أن أكون واحداً منكم أتوجه إلى الله تعالى ، وأطوف حول بيته وأصلّي ، كما تفعلون . .
نعم القرار يا عم، وأسئل الله أن يتقبل منك، فالوقت الآن لأداء المناسك ، وعندنا عدة أيام لزيارة المسجد ، ومعالم مكة ، والتفكير، والأحاديث . .
والتزم الدكتور بقراره ، ودخل مع الموكب الخراساني في سيل الطائفين من شعوب العالم ، ولم يسمح للأفكار الطارئة أن تشغله ، كان يقول في نفسه أنا الآن أطوف حول بيت الله . . إنها حقيقة عظيمة ، يجب أن أعيشها . . كل شيء هنا غني بالمعاني والأفكار ، ولكني أنا فقير لأن أطوف حول بيت ربي وأناجيه . .
هل يمكن لانسان أن يمشي في سوق مزدحم بالناس وهو يرتجل قصيدة وجدانية . . ؟
أما إذا كان عاشقاً فنعم . .
دخلوا في خضم الطائفين حول البيت ، وكانوا قسموهم إلى مجموعات مع كل واحدة منها مطوف . . ولكن الفراشة العاشقة تعرف كيف تحوم حول السراج ، والخراساني يعرف متى يتابع دعاء المطوف ، ومتى يدعو من ظهر قلبه بل من قلب قلبه ، بكلمات بالعربية الفصحى ، ودموع فوق اللغات . .
المسلم في بلدنا يزور قبر الشهيد فيلقى له القصيدة . . وللإِمام المعصوم يرتجل الشعر وينثر الدموع ، وللنبي يحمل المعلقة في يد والقلب في يد . .
أما وقد وصل إلى بيت المولى العظيم ، وبدأ طوافه ، فهنا وقت كل القصائد ، ونثار الروح . . حتى لو قصروا في واجبهم فلم ينظموا المطاف ، وحتى لو ازدحم الناس بمئات الالوف . . أوليسوا يسمحون له بأن يضع خطواته معهم ، فشكراً لهم . . وإذا دفعه الافريقي واليماني والبدوي، فغفر الله لهم . . كلهم ضيوف المولى يطوفون حول بيته . .
كل الامور الأخرى ثانوية أمام قضية هذا المسلم القادم من بلاد نائية عند الكعبة . .
القضية أنه الآن حيث كلّ شيء . .
حيث أدم وحواء يطوفان ويتوبان . .
وحيث نوح يطوف بسفينته . .
وحيث إبراهيم وإسماعيل يجدّدان البناء . .
وحيث موسى وعيسى يحجّان . .
وحيث محمد(صلى الله عليه وآله) يولد وينشأ ، ويبعث ، ويُظلم ، ويهاجر ، ثم يعود فاتحاً . . وحيث خديجة والزهراء . . وعلىّ يكسر الأصنام . . والحسين يشدّ الرحال إلى كربلاء . . وكلّ الأئمة والصحابة والعلماء.
وحيث المهدي يحجُّ كلَّ عام ، وينتظر ذلك العام ليطلق ثورته من هنا ، من عند هذا الركن ، من عند باب الكعبة . .
هنا يوجد الجميع، لأنه بيت رب الجميع . .
وهنا كل شيء من الماضي والحاضر والآتي . . لانه بيت رب الكل . .
الخطوة هنا بوزنها ذهباً . . والهواء بالمثاقيل ، لأنه أصلاً للروح قبل الرئتين . . والكلمة لا تقدر بثمن ، لأنّها تولد في الضوء ويتلقاها ملائكة الكعبة حارة طازجة ، فيصعدون بها إلى أعلى . .
ألا ترى عروجهم ونزولهم من عند أركان الكعبة الأربعة ، بمحاذاة أعمدة النور الصاعدة إلى السماء السابعة ، تصعد أفواجهم بكلماتنا وطلباتنا ، وتعود محملة بالهدايا والبشائر . .
أما تراهم يجمعون دموع الطائفين في قوارير ليسقوا بها ورودا في حدائق عند العرش . . . وعلى نَعَم وحبيب قلوبنا ينظمون هيمنتهم . . وعلى نمط خفق أرواحنا يخفقون أجنحتهم . .
وانتظمت قافلتنا في نهر الطائفين . . تغتسل بالنور ، وتستمطر النور ، وتفجر قلوبها بالنور والدموع . . كل منهم قرأ مع المطوف ، وقرأ من قصائده هو . .
وماذا أجمل في أدب الشعوب من شعر المحرمين الطائفين حول بيت ربهم ، ومن إلقائهم . . وحدهم ملائكة الله جمعوا ديوانهم في مجلدات ، ولم توزع نسخه على أهل الأرض ، ولم يصلنا منه إلاّ القليل من كلمات آدم ، ودعاء إبراهيم ، وتلبية موسى وعيسى ، ومناجاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) وكبار الصحابة والفقهاء والعارفين . .
في كل يوم للمسلمين مناجاة وأدعية عند الكعبة ، ولكن موسم الحج هو موسم القصائد الحارة، تحمل ذوب الروح وعبيرها . .
بدأ أحدهم بمناجاة زين العابدين(عليه السلام).
إلهي عبيدك ببابك ، سائلك ببابك ، فقيرك ببابك ، مسكينك ببابك . . أللّهم البيت بيتك ، والحرم حرمك ، والعبد عبدك . .« فلم يستطع أن يواصل قراءتها لأن لغة البكاء منعته من الاسترسال في التحدث بلغة الدعاء، لجلال الموقف وهيبة المشهد .
وتتابعت الأشواط السبعة وانتهت ، وتواصلت فيها من الحجاج المناجاة والدعوات . .
ولكنّ أحداً منهم لم يشعر بريِّ ظمئه ، فالقضية مع الله عند الكعبة لا يكفي لها طواف يذهب نصفه في الزحام ، وبعضه في الإِنبهار بجلال المشهد لأول مرة . . فلابد من العودة ، ولابد من ساعات طوال للطواف والدعاء والصلاة.
فيها نقاط التفتيش . وفيها طعام المحرمين . وفيها بعض الأحاديث والأسئلة عن أحكام الإِحرام، ولكنها جميعا اكتست بجلال الخشوع ونور السكينة ، حتى ذكرهم للحسين(عليه السلام) صار من جو التلبية والإِحرام . فقد عاشوا معه محرماً في طريقه إلى مكة . ثم محرماً في كربلاء يلبّي فيقول :
وأيتمت العيال لكي أراكا تركت الخلق طرّاً في هواكا
لما مال الفؤاد إلى سواكا فلو قطعتني في الحبّ إربا
وحتى إغفاءات الحجاج في آخر الليل كانت هادئة ناعمة، تقول الروح للجسد فيها :
خذ راحتك، نم في هذه الطمأنينة الإِلهية فأنا وملائكتك يقظى . . فيغفو الجسد مطمئناً حتى إذا سمع التلبية أفاق، ولبّى مع روحه ورفقائه والملائكة . .
هنا أول مكة، ونظر الحجاج فرأوا شارعاً ممتدّاً، وأمامه جبال ينبعث من ورائها بهاء نور . . فرفعوا أصواتهم بالصلاة على النبيِّ وآله . . .
هدَأتِ الأصوات حتى عن التلبية، فقد وصلوا إلى حرم المولى، وتطّلعت إليه الأنظار والقلوب . . تريد أن ترى كلَّ شيء في مكة وتتحسسه، حتى المباني والشوارع والجبال والهواء ...
بسم الله وبالله ، ومن الله وإلى الله ، ما شاء الله ، وعلى ملّة رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، وخير الأسماء لله ، والحمدلله.
ألسلام على رسول الله محمد بن عبد الله.
ألسلام عليك أَيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
ألسلام على أنبياء الله ورسله.
ألسلام على إبراهيم خليل الرحمان.
ألسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
أللّهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني في طاعتك ومرضاتك ، واحفظني بحفظ الايمان أبداً ما أبقيتني ، جل ثناء وجهك.
ألحمدُ لله الذي جعلني من وفده وزواره ، وجعلني ممن يعمر مساجده ، وجعلني ممن يناجيه.
أللّهم إني عبدك وزائرك في بيتك ، وعلى كلّ مأتي حقّ لمن أتاه وزاره ، وأنت خير مأتي وأكرم مزور ، فأسئلك يا الله يا رحمان بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، وبأنك واحد أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن له كفؤاً أحد ، وأنّ محمداً عبدك ورسولك صلواتك عليه وعلى أهل بيته.
يا جواد يا كريم أسئلك أن تجعل تحفتك إيّاي بزيارتي إيّاك أول شيء تعطيني فكاك رقبتي من النار.
وتقدم الحجاج في القسم المسقوف من الحرم ، فنظر أكثرهم لأول مرة إلى الكعبة الشريفة تقوم في وسط ساحة المسجد ، ويموج من حولها نهر الطائفين المقدس ، فقرأ لهم القارئ دعاء النظر إلى الكعبة وترجمه لهم.
«ألحمدُ لله الذي عظّمك وشرفك وكرمك وجعلك مثابةً للناس وأمناً مباركاً وهدىً للعالمين».
وقال لهم : اجلسوا ، فجلسوا ، ثم قال : ارفعوا أيديكم، وقرأ لهم :
أللّهم إني أسئلك في مقامي هذا ، وفي أول مناسكي أن تقبل توبتي ، وأن تتجاوز عن خطيئتي ، وأن تضع عني وزري ، ألحمدلله الذي بلَّغني بيته الحرام.
أللهم إني أشهد أنّ هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمنا مباركاً وهدى للعالمين.
أللّهم العبد عبدك ، والبلد بلدك ، والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك وأؤمّ طاعتك ، مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك ، أسئلك مسألة الفقير إليك الخائف من عقوبتك.
أللّهم افتح لي أبواب رحمتك ، واستعملني بطاعتك ومرضاتك.
بكى الحجّاج لهذا الدعاء بنسب من البكاء، ثم قاموا الصلاة ركعتي تحية المسجد .
أما الدكتور فقد اتصل بكاؤه وهو جاث على ركبتيه ؛ وقد نكس رأسه ، وبقي أحمد إلى جانبه ينتظره فطال بكاؤه . . قام أحمد يصلي، وبقي الدكتور جالساً مطرقاً ، ينظر حينا إلى الكعبة ، الطائفين والمسجد ، ثم يأوي إلى صمته الطويل . . ودموعه . .
أكمل أحمد صلاته ودعاءه . . والدكتور ما زال على حاله . . فذهب وجاء بأربعة أكواب ماء قدم إلى الدكتور واحداً منها وقال :
هذا من ماء زمزم يادكتور!
شكراً لك يا أحمد، وهل يصح أن نشرب هنا؟
نعم، يا دكتور يستحب، ولكن اسمح لي قبل أن تشرب أن أقرأ لك الدعاء المستحب ، وقرأ له : «أللّهم اجعله علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء وسُقْم».
فقرأ الدكتور الدعاء وشرب وحمد الله ، فقال له أحمد :
ونحن في بيت الله، أحبّ أن أهدي لك هدية يا دكتور!
شكراً، يا أحمد ما هي؟
وأخرج أحمد من محفظته ورقة وقال :
خطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) حول الكعبة التي استشهد عالم القافلة بجزء منها . . رأيت الكعبة الشريفة ، فهل تحبّ أن أقرأ لك بعضها ريثما يأتي الرفقاء . . . ؟
شكراً، تفضل إقرأ.
وقرأ أحمد :
«ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن أدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ، ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية قُطراً ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرىً منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ، ولا ظلف.
ثمّ أمر آدم(عليه السلام) وولَدَه أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجعِ أسفارهِم ، وغايةً لملقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار الأفئدة ، من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً يُهلَّلُون لله حوله ، ويرمُلون على أقدامهم شعثاً غبراً له ، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم . . ابتلاءً عظيماً ، وامتحاناً شديداً ، واختباراً مبيناً ، وتمحيصاً بليغاً ، جعله الله سبباً لرحمته ، ووصلةً إلى جنّته.
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البُني ، متصل القرى ، بين بُرة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعِراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغُر قدرُ الجزاءِ على حسب ضعف البلاء.
ولو كان الاساسُ المحمولُ عليها ، والأحجارُ المرفوعُ بها ، بين زمرّدة خضراءَ ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفَّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولَوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفي معتلج الريب من الناس.
ولكنَّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم . . وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله ، وأسباباً ذلُلاً لعفوه».
أكمل أحمد قراءة النص والدكتور يستمع بإصغاء ، فقال بصوت منخفض وهو يهزّ رأسه :
أين كنّا عن هذا الفكر ، حقاً إنّ الثقافة الإِسلاميّة مظلومة ، كما يقول الشيخ الطبري . . يا أحمد! لقد تأكّد لي أنّ أحدنا لا يكون إنساناً حتى يكون عبداً ذليلاً لله تعالى ، متواضعاً للطيبين من عباده ، وأنّ أكبر الأدوات التي يستعملها إبليس لمنعه من ذلك هي ثقافة الغربيين المادية . . ساعدني يا أحمد لكي أخرج التكبّر من قلبي ، وأكون عبداً لله ذليلاً ، نعم ذليلاً . . برغم إبليس ، فقد حاول بوساوسه عندما دخلنا إلى مكة والحرم أن يشغلني عن ربي سبحانه بجغرافية مكّة وشوارعها وبنائها، وجدران الحرم وبنائه . . فقلت له : هذه الغرفة المربعة هي بيت الله في الأرض، وسواء كانت في أقصى الشرق أوالغرب أوفي مضيق جبلي يتسع لنفر واحد، أوجعلوها في سرداب تحت الأرض . . فالأمر لا يتغير منه شيء . . إنها بيت الله ومركز هذه الأرض ، وأريد أن أطوف حولها وأتبرّك بها ، وأصنع كل ما أمرني به رسول الله(صلى الله عليه وآله) . أشكرك يا أحمد ، فكأنّك عرفت أني بحاجة إلى هذه الكلمات العظيمة . . لقد قررت أن لا أشغل نفسي بشيء إلاّ بالأعمال المحددة الواجبة علىّ . . أريد يا أحمد! أن أكون واحداً منكم أتوجه إلى الله تعالى ، وأطوف حول بيته وأصلّي ، كما تفعلون . .
نعم القرار يا عم، وأسئل الله أن يتقبل منك، فالوقت الآن لأداء المناسك ، وعندنا عدة أيام لزيارة المسجد ، ومعالم مكة ، والتفكير، والأحاديث . .
والتزم الدكتور بقراره ، ودخل مع الموكب الخراساني في سيل الطائفين من شعوب العالم ، ولم يسمح للأفكار الطارئة أن تشغله ، كان يقول في نفسه أنا الآن أطوف حول بيت الله . . إنها حقيقة عظيمة ، يجب أن أعيشها . . كل شيء هنا غني بالمعاني والأفكار ، ولكني أنا فقير لأن أطوف حول بيت ربي وأناجيه . .
هل يمكن لانسان أن يمشي في سوق مزدحم بالناس وهو يرتجل قصيدة وجدانية . . ؟
أما إذا كان عاشقاً فنعم . .
دخلوا في خضم الطائفين حول البيت ، وكانوا قسموهم إلى مجموعات مع كل واحدة منها مطوف . . ولكن الفراشة العاشقة تعرف كيف تحوم حول السراج ، والخراساني يعرف متى يتابع دعاء المطوف ، ومتى يدعو من ظهر قلبه بل من قلب قلبه ، بكلمات بالعربية الفصحى ، ودموع فوق اللغات . .
المسلم في بلدنا يزور قبر الشهيد فيلقى له القصيدة . . وللإِمام المعصوم يرتجل الشعر وينثر الدموع ، وللنبي يحمل المعلقة في يد والقلب في يد . .
أما وقد وصل إلى بيت المولى العظيم ، وبدأ طوافه ، فهنا وقت كل القصائد ، ونثار الروح . . حتى لو قصروا في واجبهم فلم ينظموا المطاف ، وحتى لو ازدحم الناس بمئات الالوف . . أوليسوا يسمحون له بأن يضع خطواته معهم ، فشكراً لهم . . وإذا دفعه الافريقي واليماني والبدوي، فغفر الله لهم . . كلهم ضيوف المولى يطوفون حول بيته . .
كل الامور الأخرى ثانوية أمام قضية هذا المسلم القادم من بلاد نائية عند الكعبة . .
القضية أنه الآن حيث كلّ شيء . .
حيث أدم وحواء يطوفان ويتوبان . .
وحيث نوح يطوف بسفينته . .
وحيث إبراهيم وإسماعيل يجدّدان البناء . .
وحيث موسى وعيسى يحجّان . .
وحيث محمد(صلى الله عليه وآله) يولد وينشأ ، ويبعث ، ويُظلم ، ويهاجر ، ثم يعود فاتحاً . . وحيث خديجة والزهراء . . وعلىّ يكسر الأصنام . . والحسين يشدّ الرحال إلى كربلاء . . وكلّ الأئمة والصحابة والعلماء.
وحيث المهدي يحجُّ كلَّ عام ، وينتظر ذلك العام ليطلق ثورته من هنا ، من عند هذا الركن ، من عند باب الكعبة . .
هنا يوجد الجميع، لأنه بيت رب الجميع . .
وهنا كل شيء من الماضي والحاضر والآتي . . لانه بيت رب الكل . .
الخطوة هنا بوزنها ذهباً . . والهواء بالمثاقيل ، لأنه أصلاً للروح قبل الرئتين . . والكلمة لا تقدر بثمن ، لأنّها تولد في الضوء ويتلقاها ملائكة الكعبة حارة طازجة ، فيصعدون بها إلى أعلى . .
ألا ترى عروجهم ونزولهم من عند أركان الكعبة الأربعة ، بمحاذاة أعمدة النور الصاعدة إلى السماء السابعة ، تصعد أفواجهم بكلماتنا وطلباتنا ، وتعود محملة بالهدايا والبشائر . .
أما تراهم يجمعون دموع الطائفين في قوارير ليسقوا بها ورودا في حدائق عند العرش . . . وعلى نَعَم وحبيب قلوبنا ينظمون هيمنتهم . . وعلى نمط خفق أرواحنا يخفقون أجنحتهم . .
وانتظمت قافلتنا في نهر الطائفين . . تغتسل بالنور ، وتستمطر النور ، وتفجر قلوبها بالنور والدموع . . كل منهم قرأ مع المطوف ، وقرأ من قصائده هو . .
وماذا أجمل في أدب الشعوب من شعر المحرمين الطائفين حول بيت ربهم ، ومن إلقائهم . . وحدهم ملائكة الله جمعوا ديوانهم في مجلدات ، ولم توزع نسخه على أهل الأرض ، ولم يصلنا منه إلاّ القليل من كلمات آدم ، ودعاء إبراهيم ، وتلبية موسى وعيسى ، ومناجاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) وكبار الصحابة والفقهاء والعارفين . .
في كل يوم للمسلمين مناجاة وأدعية عند الكعبة ، ولكن موسم الحج هو موسم القصائد الحارة، تحمل ذوب الروح وعبيرها . .
بدأ أحدهم بمناجاة زين العابدين(عليه السلام).
إلهي عبيدك ببابك ، سائلك ببابك ، فقيرك ببابك ، مسكينك ببابك . . أللّهم البيت بيتك ، والحرم حرمك ، والعبد عبدك . .« فلم يستطع أن يواصل قراءتها لأن لغة البكاء منعته من الاسترسال في التحدث بلغة الدعاء، لجلال الموقف وهيبة المشهد .
وتتابعت الأشواط السبعة وانتهت ، وتواصلت فيها من الحجاج المناجاة والدعوات . .
ولكنّ أحداً منهم لم يشعر بريِّ ظمئه ، فالقضية مع الله عند الكعبة لا يكفي لها طواف يذهب نصفه في الزحام ، وبعضه في الإِنبهار بجلال المشهد لأول مرة . . فلابد من العودة ، ولابد من ساعات طوال للطواف والدعاء والصلاة.
تعليق