الأم ، كلمة لا يستطيع القلم كتابتها ، و لا تستطيع الأوراق حملها ، لقد ملكت تلك الكلمة فؤادي ، و غرست بين أحشائي ، فسلبتني عقلي و روحي ، ثم دخلت و بدون استئذان قلبي ، فأصبح بيتها الكبير الذي تجد فيه كل ما تحب و تريد ، فكل ما تحتاجه موجود ، إن أرادت الدفء ستجده في قلبي ، و إن أرادت الراحة فستجدها أيضا ، و لكنها إن أرادت الحب فلن تجده في قلبي ، لأن ما أحمله لها أكبر من معنى الحب ،و على هذا الأساس قدمت استقالتي من الحب ، و راجعت نفسي ثم قدمت روحي لأحاسيسي ، فهي الوحيدة التي تعرف مشاعري و ما أحمل ، و هي من حثني على الاستقالة من الحب ، و شجعتني على تقديم الولاء لها ،و فعلا خضعت لمشاعري و نكست رأسي لها ، و كان نتيجة ذلك توفيق من الله رب العالمين تبارك و تعالى .
فقد سئلت يوما عن سبب هذا التوفيق ، وكانت إجابتي و بدون تفكير ، الأم ، فهي السحر الذي أعطى وجودي ، و أعطاني من الدنيا نصيبا ، فأنا ما عشت إلا من لقاها ، و لولاها لما كنت الحبيبا .
فلا أبالغ عندما أقول أنها سبب وجودي ، فلولاها لما كنت على هذه الدنيا و ما كنت لأعيش ، ففي علوم الأحياء ، لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن الهواء لمدة تزيد عن النصف ساعة ، و في علوم فؤادي فأنا لا أستطيع أن أفارقها، أو أن أستغني عنها لما يزيد عن النصف ساعة ، و بالمقارنة تكون هي هوائي الذي أتنفسه ، فلولاها لكانت الحياة دمارا شاملا ، لأنها مالكة القلوب و النفوس ، و مالكة الدنيا .
فحتى دمائي ، بدني ، قدمي ، يدي ، عيني ، أذني ، فمي ، و كل ما هو متعلقٌ بي يهتف دوما باسمها ، و لا يمكنه التخلي عنها .
فدمائي لا تستطيع السير إلا بإذنها ، و بدني يهزل إذا ما ذكر اسمها ، و قدمي لا تمشي إلا بأمرها ، و هي من يساعد يدي على التحرك و الكتابة ، و عيني ترى سرابا إذا ما رأتها ، و فمي لا يعرف النطق إلا بعد أن ينطق باسمها ، و أذني لا تسمع شيئا حتى يرن صوتها و تسمعه.
إذا، فهذه هي جوارحي ، و هذه أعضائي ، لا تستطيع التخلي عنها و لا للحظات ، و إذا حصل و تخلى يوما أحدها عن أمي ، فقد حكم ذلك العضو على الجسد و الروح بالإعدام ، و أعلن عصيانه عن دار الدنيا ، ثم تنتقل أعضائي و أحشائي تحت التراب ، و تنتقل روحي إلى موطن يفتقد الحياة .
و ما ذكرت ،اعلم انه لا يليق بمقامها ، فمقامها أكبر من أن تحتويه الأوراق ، أو أن تكتبه الأقلام ، فهي الشمعة التي لا تنطفئ رغم العوائق ، فهيهات أن يطفئها شيء ، و حتى من قال الممات ، فهو أيضا لن يطفئها، فهي ليست كالشموع ، لأنها شمعة مقلتي ، و مقلتي لا تخدعاني إذ انهما يعكسان صورة طبيعية نقية عما يجول في فؤادي .
ولم اشعر يوما بالظلام لأنها نور دربي ، و نور الدياجي و الغسق ، ولا أستطيع تخيل وضعي و حالي ارقد يوما دون أن اكحل ناظري بتأمل نورها ، أو أن أتذوق من العسل المصفى الذي تصبه من ريقها ، و لا أتصور الحياة بالاستمرار لو رحلت، فقد سرت لي هذه الحياة سرا بيني و بينها ، و هو إن رحلت يوما أمي عن دار الدنيا و استقالت من الحياة ، ثم إن نجمها غاب ، ستغير اسمها من حياة إلى جحيم ، ثم أنها ستدفن نفسها تحت الثرى حتى تكون قربها . و وعدتها بألا أفشي سرها و اني سأحفظه بجوارحي للأبد .
إذا يا أوراقي ، رأيت أن الحياة الدنيا لم تتحمل أن تفارقها يوما ، فما حالي أنا التي رأت النور في عينها ، و الدفء الذي تمنحي إياه عند حاجتي إليه ،لذا فعند رحيلها سيفقد العالم أغلى شمس، و أن كسفت سيفقد النور العظيم الذي جعله الله ضياءاً في كل درب، و أسفي عليه إذ سيعيش في دجى ، بالليل و النهار ، فلن يكون هناك نهارا ، أما أنا فلأني سأرحل معها ، سأبقى دوما قرب دفئها و لن ابتعد عنها ، فقد أوصيت روحي ، إن فارقتني حبيبتي ، تعلن عصيانها التام عن العيش و ألا تستنشق الهواء ، حتى تنتقل معها ، و أوصيت أقربائي أن ادفن قربها ، حتى تؤنسني في وحشتي و وحدتي .
و بما أن الحياة وثقت بي و ساقت لي سرها ، فقد أحببت أيضا أن افتح لها قلبي و اخبرها بكلمات كتبت من قلبي عن طريق يدي ، و خجلت أن أصارح حبيبتي أو أن أقدمها لها ، فسقت للحياة كلمات آخذ رأيها بها إن كانت تليق بمقامها ، و كانت لمحة من الخواطر و فيها مخاطبة حبيبة احرفي و أمي قائلة :
لأنني لا احسن السباحة ، بقيت قرب شواطئك أمي ، و لأنني أخشى الغرق ، وقفت أتأمل من بعيد بحرك الكبير ، و لكي أبقى مفهوما ، لم اقتحم الأمواج .
حبيبتي ، ما تزال ذاكرة الطفولة تتألق بمشاهدك المضيئة ، و ما تزال روحي تزخر بتكسرات النور فوق مرايا قبابك البهية ، و لا تزال عيناي مفعمتين بوميض مصابيح منائرك السامقة .
أمي ، تحطم قلبي ، و لا زلت عاجزا عن التعبير عما يموج في أعماقي المضطرمة ، و كلماتي نفذت ، و لم تنفذ معانيك و لن تنفذ .
أنيسة روحي ، لا تؤاخذيني ، فمن شيمتي التقصير ، و من فضائلك العفو .
دعيني يا منيتي أضع كفي في كفيك عل الجمر يبرد ، دعيني اطف بالسدرة الخضراء في المأوى و أبعد ، دعيني أشمك و اخلد ، دعيني اردد اسمك الحلو المجرد ، دعيني اردد ، يا أمي ، يا سلوة روحي , احبك !
ثم ختمت بذلك كلماتي , و سالت قطرات من الدموع على وجنتي ساخنة ، و ذلك إعلان من مقلتي أنها متأثرة بما قيل عن الام . و سألت الحياة عن رأيها و هل تستحقها أمي ، أم لم أوفي بالمضمون ، و كانت إجابتها أنها معجبة بأسلوبي و إحساسي ، و شكرت يدي على ما قدمت ، و لكنها صارحتني إن الكلام عنها قليل ٌ ، فهي لا تستحق كلاما ، إنما تستحق فعلا و إحساسا ، ثم غيرت رأيها و قالت لي بأن الام لن يوفيها ما بالقلب فهو قليل، فطريقة التعبير على هذه الأرض يتمثل باللسان ، و اللسان لن يستطيع البوح بكل ما في القلب و لن يفهم كل المشاعر ، فافتحي لها قلبك و دعيها تقرأ لعل جمرك يهدأ و كانت تلك مسامرتي للحياة عندما اقبل الليل .
و باتت هذه المشاعر تعبر عما يحمل الفؤاد و يعبر عن معنى الكلمة التي يناديها الناس أمي، و التي تكونت من ثلاثة حروف و لكن الأقلام عجزت عن كتابتها و عذرتُها ، و عجز العالم عن التعبير عن حبها ، ثم انه سئم أيضا من الحديث عنها دون أن يوفي حقها .
فكأنني أجد نفسي مخاطبا القمر ليلة عنها ، منظما أحلى القصائد و الأشعار و الخواطر في حبها و لأجلها ، ثم انتابني شعور إنني أريد أن احكي للقمر غيرتي عليها قائلا له ، أيها القمر العظيم ،اني أغار على أمي من الهواء ، فأنا أغار منه عندما يداعب وجنتي أمي إذا هب في وجهها ، و أغار عليها حتى من كوب الماء عندما يلثم شفتيها ، فكأن قلبي ينطق عندما يرى تلك المشاهد قائلا ، ليتني كنت نسمة من الهواء حتى أداعب وجنتيك الحمراء ، و ليتني كوبا من الماء حتى الثم شفتيك آخذا منه العسل ، و كأن بالقمر قد تغير لونه و ظهرت علامات الخجل عليه ، فغابت طلته و مضت الأيام دون أن يظهر ، فتسائل العالم اجمع عن سبب تلك الغيبة ، و هو القمر ، الذي بدى على مر العصور واثقا من نفسه ، طالعا بالليل مزينا السماء الزرقاء باللون الأبيض الساطع من قسماته ، فجاءني متخفيا ذات ليلة ، فسلمت عليه و سألته عن سبب الغياب ، و أجابني باكيا و دموع عينه خلتها شلال من الدماء ، انه و على مر تلك العصور يظهر في كل ليلة ليزين السماء و هو واثق كل الثقة من نفسه و انه الأجمل رغم كل شيء ، و بعد أن حدثته عن أمي تغير حاله و غير رأيه فرأى أن الدنيا لا تكتمل إلا بزينتها ، و انه لا يتزين إلا لها ، فخجل من نفسه من الطلوع و هي الأجمل و الأنقى ، و هي من حمّله صفة البياض ، و هو قد غاب إنما ليبحث عن تلك الكلمة ليضعها مكانه و ينصبها قمرا للبشرية ، فمقامها الأعلى ، و لكني تعجبت من كلامه ، و أجبته بأن الام التي يبحث عنها لينصبها قمرا ، هي بالأصل قمر في عيني ، و في عين كل ولد ، و أيضا ، فتلك الام لم تفعل ذلك إنما لأجر ، بل لأجل أبنائها و أجيالها ، فهي إن ضاق بك العلم يا قمر، الزهرة الناصعة البياض التي تنثر عطرها و بلا اجر تطالب به ، سوى أن تبقي أبنائها في المقدمة .
فهل عرفت أيها القمر انك الوحيد الذي تستحق مكانتك و أنها اكبر من أن نتصب قمرا.
فكل لسان قد خلقه الله تبارك و تعالى على وجه الأرض ، و كل يد في كل عهد و زمن لا يستطيع أن يملأ كأسها من الكلام أو الحنان،أو أن يوفي قدرا مما تستحق .
فكفى بالحبيب محمد_ص_ قائلا أن الجنة التي يحلم بها كل مسلم تحت أقدام الأمهات ، و كفاها شرفا و قدرا أن تذكر ثلاث مرات على لسانه صلى الله عليه و اله و سلم ، و كفى بالأمم فخرا أن تكون لهم النبع الذي لا ينضب . فكفى بك يا كتاب ثرثرة دون جدوى ، فيا أوراق تشققي ، و يا أقلام جفي لعظمتها ، و انحني يا دنيا إجلالا لها ، ثم يا نفس اسكتي و لا تتكلمي عن ذاتها ، فقد عجزت ، و لن يجف بحرها العظيم ، و أخيرا أيها الشعر صهٍ فالمقام مقدسٌ، فاصمت، فصمتك من مقالك اشعرُ .
فقد سئلت يوما عن سبب هذا التوفيق ، وكانت إجابتي و بدون تفكير ، الأم ، فهي السحر الذي أعطى وجودي ، و أعطاني من الدنيا نصيبا ، فأنا ما عشت إلا من لقاها ، و لولاها لما كنت الحبيبا .
فلا أبالغ عندما أقول أنها سبب وجودي ، فلولاها لما كنت على هذه الدنيا و ما كنت لأعيش ، ففي علوم الأحياء ، لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن الهواء لمدة تزيد عن النصف ساعة ، و في علوم فؤادي فأنا لا أستطيع أن أفارقها، أو أن أستغني عنها لما يزيد عن النصف ساعة ، و بالمقارنة تكون هي هوائي الذي أتنفسه ، فلولاها لكانت الحياة دمارا شاملا ، لأنها مالكة القلوب و النفوس ، و مالكة الدنيا .
فحتى دمائي ، بدني ، قدمي ، يدي ، عيني ، أذني ، فمي ، و كل ما هو متعلقٌ بي يهتف دوما باسمها ، و لا يمكنه التخلي عنها .
فدمائي لا تستطيع السير إلا بإذنها ، و بدني يهزل إذا ما ذكر اسمها ، و قدمي لا تمشي إلا بأمرها ، و هي من يساعد يدي على التحرك و الكتابة ، و عيني ترى سرابا إذا ما رأتها ، و فمي لا يعرف النطق إلا بعد أن ينطق باسمها ، و أذني لا تسمع شيئا حتى يرن صوتها و تسمعه.
إذا، فهذه هي جوارحي ، و هذه أعضائي ، لا تستطيع التخلي عنها و لا للحظات ، و إذا حصل و تخلى يوما أحدها عن أمي ، فقد حكم ذلك العضو على الجسد و الروح بالإعدام ، و أعلن عصيانه عن دار الدنيا ، ثم تنتقل أعضائي و أحشائي تحت التراب ، و تنتقل روحي إلى موطن يفتقد الحياة .
و ما ذكرت ،اعلم انه لا يليق بمقامها ، فمقامها أكبر من أن تحتويه الأوراق ، أو أن تكتبه الأقلام ، فهي الشمعة التي لا تنطفئ رغم العوائق ، فهيهات أن يطفئها شيء ، و حتى من قال الممات ، فهو أيضا لن يطفئها، فهي ليست كالشموع ، لأنها شمعة مقلتي ، و مقلتي لا تخدعاني إذ انهما يعكسان صورة طبيعية نقية عما يجول في فؤادي .
ولم اشعر يوما بالظلام لأنها نور دربي ، و نور الدياجي و الغسق ، ولا أستطيع تخيل وضعي و حالي ارقد يوما دون أن اكحل ناظري بتأمل نورها ، أو أن أتذوق من العسل المصفى الذي تصبه من ريقها ، و لا أتصور الحياة بالاستمرار لو رحلت، فقد سرت لي هذه الحياة سرا بيني و بينها ، و هو إن رحلت يوما أمي عن دار الدنيا و استقالت من الحياة ، ثم إن نجمها غاب ، ستغير اسمها من حياة إلى جحيم ، ثم أنها ستدفن نفسها تحت الثرى حتى تكون قربها . و وعدتها بألا أفشي سرها و اني سأحفظه بجوارحي للأبد .
إذا يا أوراقي ، رأيت أن الحياة الدنيا لم تتحمل أن تفارقها يوما ، فما حالي أنا التي رأت النور في عينها ، و الدفء الذي تمنحي إياه عند حاجتي إليه ،لذا فعند رحيلها سيفقد العالم أغلى شمس، و أن كسفت سيفقد النور العظيم الذي جعله الله ضياءاً في كل درب، و أسفي عليه إذ سيعيش في دجى ، بالليل و النهار ، فلن يكون هناك نهارا ، أما أنا فلأني سأرحل معها ، سأبقى دوما قرب دفئها و لن ابتعد عنها ، فقد أوصيت روحي ، إن فارقتني حبيبتي ، تعلن عصيانها التام عن العيش و ألا تستنشق الهواء ، حتى تنتقل معها ، و أوصيت أقربائي أن ادفن قربها ، حتى تؤنسني في وحشتي و وحدتي .
و بما أن الحياة وثقت بي و ساقت لي سرها ، فقد أحببت أيضا أن افتح لها قلبي و اخبرها بكلمات كتبت من قلبي عن طريق يدي ، و خجلت أن أصارح حبيبتي أو أن أقدمها لها ، فسقت للحياة كلمات آخذ رأيها بها إن كانت تليق بمقامها ، و كانت لمحة من الخواطر و فيها مخاطبة حبيبة احرفي و أمي قائلة :
لأنني لا احسن السباحة ، بقيت قرب شواطئك أمي ، و لأنني أخشى الغرق ، وقفت أتأمل من بعيد بحرك الكبير ، و لكي أبقى مفهوما ، لم اقتحم الأمواج .
حبيبتي ، ما تزال ذاكرة الطفولة تتألق بمشاهدك المضيئة ، و ما تزال روحي تزخر بتكسرات النور فوق مرايا قبابك البهية ، و لا تزال عيناي مفعمتين بوميض مصابيح منائرك السامقة .
أمي ، تحطم قلبي ، و لا زلت عاجزا عن التعبير عما يموج في أعماقي المضطرمة ، و كلماتي نفذت ، و لم تنفذ معانيك و لن تنفذ .
أنيسة روحي ، لا تؤاخذيني ، فمن شيمتي التقصير ، و من فضائلك العفو .
دعيني يا منيتي أضع كفي في كفيك عل الجمر يبرد ، دعيني اطف بالسدرة الخضراء في المأوى و أبعد ، دعيني أشمك و اخلد ، دعيني اردد اسمك الحلو المجرد ، دعيني اردد ، يا أمي ، يا سلوة روحي , احبك !
ثم ختمت بذلك كلماتي , و سالت قطرات من الدموع على وجنتي ساخنة ، و ذلك إعلان من مقلتي أنها متأثرة بما قيل عن الام . و سألت الحياة عن رأيها و هل تستحقها أمي ، أم لم أوفي بالمضمون ، و كانت إجابتها أنها معجبة بأسلوبي و إحساسي ، و شكرت يدي على ما قدمت ، و لكنها صارحتني إن الكلام عنها قليل ٌ ، فهي لا تستحق كلاما ، إنما تستحق فعلا و إحساسا ، ثم غيرت رأيها و قالت لي بأن الام لن يوفيها ما بالقلب فهو قليل، فطريقة التعبير على هذه الأرض يتمثل باللسان ، و اللسان لن يستطيع البوح بكل ما في القلب و لن يفهم كل المشاعر ، فافتحي لها قلبك و دعيها تقرأ لعل جمرك يهدأ و كانت تلك مسامرتي للحياة عندما اقبل الليل .
و باتت هذه المشاعر تعبر عما يحمل الفؤاد و يعبر عن معنى الكلمة التي يناديها الناس أمي، و التي تكونت من ثلاثة حروف و لكن الأقلام عجزت عن كتابتها و عذرتُها ، و عجز العالم عن التعبير عن حبها ، ثم انه سئم أيضا من الحديث عنها دون أن يوفي حقها .
فكأنني أجد نفسي مخاطبا القمر ليلة عنها ، منظما أحلى القصائد و الأشعار و الخواطر في حبها و لأجلها ، ثم انتابني شعور إنني أريد أن احكي للقمر غيرتي عليها قائلا له ، أيها القمر العظيم ،اني أغار على أمي من الهواء ، فأنا أغار منه عندما يداعب وجنتي أمي إذا هب في وجهها ، و أغار عليها حتى من كوب الماء عندما يلثم شفتيها ، فكأن قلبي ينطق عندما يرى تلك المشاهد قائلا ، ليتني كنت نسمة من الهواء حتى أداعب وجنتيك الحمراء ، و ليتني كوبا من الماء حتى الثم شفتيك آخذا منه العسل ، و كأن بالقمر قد تغير لونه و ظهرت علامات الخجل عليه ، فغابت طلته و مضت الأيام دون أن يظهر ، فتسائل العالم اجمع عن سبب تلك الغيبة ، و هو القمر ، الذي بدى على مر العصور واثقا من نفسه ، طالعا بالليل مزينا السماء الزرقاء باللون الأبيض الساطع من قسماته ، فجاءني متخفيا ذات ليلة ، فسلمت عليه و سألته عن سبب الغياب ، و أجابني باكيا و دموع عينه خلتها شلال من الدماء ، انه و على مر تلك العصور يظهر في كل ليلة ليزين السماء و هو واثق كل الثقة من نفسه و انه الأجمل رغم كل شيء ، و بعد أن حدثته عن أمي تغير حاله و غير رأيه فرأى أن الدنيا لا تكتمل إلا بزينتها ، و انه لا يتزين إلا لها ، فخجل من نفسه من الطلوع و هي الأجمل و الأنقى ، و هي من حمّله صفة البياض ، و هو قد غاب إنما ليبحث عن تلك الكلمة ليضعها مكانه و ينصبها قمرا للبشرية ، فمقامها الأعلى ، و لكني تعجبت من كلامه ، و أجبته بأن الام التي يبحث عنها لينصبها قمرا ، هي بالأصل قمر في عيني ، و في عين كل ولد ، و أيضا ، فتلك الام لم تفعل ذلك إنما لأجر ، بل لأجل أبنائها و أجيالها ، فهي إن ضاق بك العلم يا قمر، الزهرة الناصعة البياض التي تنثر عطرها و بلا اجر تطالب به ، سوى أن تبقي أبنائها في المقدمة .
فهل عرفت أيها القمر انك الوحيد الذي تستحق مكانتك و أنها اكبر من أن نتصب قمرا.
فكل لسان قد خلقه الله تبارك و تعالى على وجه الأرض ، و كل يد في كل عهد و زمن لا يستطيع أن يملأ كأسها من الكلام أو الحنان،أو أن يوفي قدرا مما تستحق .
فكفى بالحبيب محمد_ص_ قائلا أن الجنة التي يحلم بها كل مسلم تحت أقدام الأمهات ، و كفاها شرفا و قدرا أن تذكر ثلاث مرات على لسانه صلى الله عليه و اله و سلم ، و كفى بالأمم فخرا أن تكون لهم النبع الذي لا ينضب . فكفى بك يا كتاب ثرثرة دون جدوى ، فيا أوراق تشققي ، و يا أقلام جفي لعظمتها ، و انحني يا دنيا إجلالا لها ، ثم يا نفس اسكتي و لا تتكلمي عن ذاتها ، فقد عجزت ، و لن يجف بحرها العظيم ، و أخيرا أيها الشعر صهٍ فالمقام مقدسٌ، فاصمت، فصمتك من مقالك اشعرُ .
تعليق