بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
تمر علينا اليوم ذكرى استشهاد الامام محمد بن علي الجواد الامام التاسع من أمة اهل البيت
فأرتأيت ان نلقي بعض الضوء على سيرة هذا الامام العظيم
ولادته:
كان قد مرّ على عمر الإمام الرضا (عليه السلام) - والد الإمام الجواد - أكثر من أربعين سنة لكنه لم يُرزق بولد، فكان هذا الأمر مدعاة لقلق الشيعة; لأنها تعتقد بأن الإمام التاسع سيكون ابن الإمام الثامن، ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يمنّ الله عزّ وجل على الإمام الثامن ـالرضا ـ(عليه السلام) بولد، حتى أنهم في بعض الاحيان كانوا يذهبون الى الإمام (عليه السلام) ويطلبون منه أن يدعو الله سبحانه بأن يرزقه ولداً، وهو يُسلّيهم ويقول لهم: (إن الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث والإمام من بعدي).
وأخيراً ولد الإمام محمدالجواد في العاشر من شهر رجب سنة (195) للهجرة، وقد سُمّي بمحمد وكنيته أبوجعفر.
وأشاعت ولادته (عليه السلام) الفرح والسرور بين أوساط الشيعة، ورسّخت الايمان في قلوبهم، وأزالت الشك الذي دخل قلوب البعض منهم.
امامته
ساهم الإمام الجواد(عليه السلام) مدة امامته التي دامت نحو سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وحفظ تراثها، والتي امتازت في تلك المرحلة بالاعتماد على النص والرواية عن الرسول ، وكذلك على الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، استنباطاً ملتزماً دقيقاً، يكشف حقيقة المحتوى العلمي لهذين المصدرين، بالاضافة الى اهتمامها بالعلوم والمعارف العقليّة، التي ساهم الأئمة (عليهم السلام) وتلامذتهم في إنمائها وإغنائها، حتى غدت حصناً منيعاً للفكر الإسلامي.
كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) من أندى الناس كفّاً ، وأكثرهم سخاءً ، وقد لُقِّب بـ ( الجواد ) لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى الناس.
كشف الإمام الجواد ( عليه السلام ) عن علل الأحكام
كَشَفَ الإمام الجواد ( عليه السلام ) النقاب عن العلة في تشريع بعض الأحكام ، وكان من بينها ما يلي :
العِلَّة الأولى :
سَئَل محمد بن سليمان عنِ العِلَّة في جعل عِدَّة المطلَّقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أشهر ، وصارت عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، فأجابه الإمام ( عليه السلام ) عن ذلك بقوله :
( أما عِدَّة المطلَّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد ، وأمَّا عِدَّة المتوفى عنها زوجها فإنَّ الله تعالى شرط للنساء شرطاً ، وشرط عليهِنَّ شرطاً ، فلم يُجَابِهنَ فيما شرط لَهُنَّ ، ولم يُجِرْ فيما اشترط عليهنَّ .
أما ما شرط لهنَّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول الله عز وجل :
( لِلَّذِينَ يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهِم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشهُرٍ ) [ البقرة : 226 ] ، فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك اسمه أنَّه غاية صبر المرأة عن الرجل .
وأمّا ما شرط عليهنَّ فإنهُ أَمَرَها أن تعتدَّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشراً ، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الإيلاء ، قال الله عزَّ وجل :
( يَتَرَبَّصنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهُرٍ وعَشْراً ) [ البقرة : 234 ] ، ولم يذكر العشرة الأيام في العِدَّة إلا مع الأربعة أشهر ، وعلم أن غاية المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع ، فمن ثمّ أوجبه عليها ولها ) .
العِلَّة الثانية :
سأل محمد بن سليمان الإمام ( عليه السلام ) عن العِلَّة فيما إذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا تكون شهادته أربع شهادات بالله ، وإذا قذفها غيره سواءً كان قريباً لها أم بعيد جلد الحدَّ ، أو يقيم البَيِّنة على ما قال ، فأجابه ( عليه السلام ) :
قد سُئل أبو جعفر – يعني الإمام الباقر ( عليه السلام ) – عن ذلك فقال ( عليه السلام ) : إن الزوج إذا قذف امرأته فقال : رأيت ذلك بعيني ، كانت شهادته أربع شهادات بالله ، وإذا قال : إِنَّه لم يره ، قيل له : أَقِم البَيِّنة على ما قلتَ ، وإلا كان بمنزلة غيره ، وذلك أن الله تعالى جعل للزوج مدخلاً لا يدخله غيره ، والد ولا ولد ، يدخله في الليل والنهار .
فجاز له أن يقول : رأيتُ ، ولو قال غيره : رأيتُ ، قيل له : وما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك ؟!! ، أنت متَّهم فلا بدَّ من أن يقام عليك الحدَّ الذي أوجبه الله عليك .
فهذا بعض ما أُثِرَ عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) في بيانه عِلَلَ بعض الأحكام التي شَرَّعها الإسلام .
من أقوال الإمام الجواد ( عليه السلام ) في الأخلاق والمواعظ:
دعا الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ، وكان ممَّا أوصى به :
في حُسن الأخلاق :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( مِن حُسن خُلق الرجل كَفُّ أذَاه ، ومن كرمه بِرُّه لِمَن يهواه ، ومن صبره قِلَّة شَكواه ، ومن نُصحِهِ نَهْيِهِ عما لا يرضاه ، ومن رِفقِ الرجل بأخيه ترك توبيخِهِ بِحَضرَةِ مَن يَكرَهُ ، ومِن صِدق صُحبَتِهِ إسقاطُه المُؤنَة ، ومِن علامة مَحبَّتِهِ كِثرةُ المُوافَقة وَقِلَّة المُخَالفة ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( حَسبُ المَرءِ مِن كَمَال المُروءَة أن لا يَلقى أحداً بما يَكرَه ، وَمِن عَقلِهِ إِنصافه قَبول الحَقِّ إذا بَانَ لَهُ ) .
في قضاء حوائج الناس :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِنَّ للهِ عِباداً يخصُّهُم بدوام النِّعَم ، فلا تزالُ فِيهم ما بَذلوا لَهَا ، فإذَا مَنعُوهَا نَزَعَهَا عنهم ، وَحَوَّلَهَا إِلى غَيرهم ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا عَظُمَتْ نِعمُ اللهِ على أَحدٍ إِلا عَظُمَتْ إليه حَوائجَ النَّاس ، فمن لم يحتمل تلك المُؤنَة عرَّضَ تلك النعمة للزوال ) .
في آداب السلوك :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( ثَلاثُ خِصالٍ تجلبُ فيهــنَّ المَوَدَّة : الإنصاف في المعاشرة ، والمواساة في الشِدَّة ، والانطِواء على قلبٍ سليم ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( ثلاثةٌ مَن كُنَّ فيه لم يندم : تَرْكِ العَجَلة ، والمَشُورَة ، والتوكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى عند العَزِيمَة ، ومَن نَصحَ أخَاه سِرّاً فَقَدْ زَانَهُ ، ومن نَصَحهُ عَلانِيةً فَقَدْ شَانَهُ ) .
3ـ
قال ( عليه السلام ) : ( عنوَانُ صَحيفَة المؤمن حُسنُ خُلقه ، وعنوان صحيفةِ السَّعيد حُسن الثَّنَاءِ عليه ، والشكر زينةُ الرِّوَاية ، وخَفضُ الجِناح زينة العلم ، وحُسنُ الأدب زينة العَقل ، والجَمَال في اللِّسَان ، وَالكَمَالُ فِي العَقل ) .
وأما عن المواعظ فقد أُثِرَت عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) بعضها ، ومنها ما يلي :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( تَأخِيرُ التوبة اغتِرَار ، وطُول التَسوِيفِ حِيرَة ، والاعتِلال على الله هَلَكَةٌ ، والإصرِارِ عَلى الذنب أَمنٌ لِمَكرِ الله ، ( فَلا يَأْمَنُ مَكرَ اللهِ إلاَّ القَومُ الخاسِرُونَ ) [ الأعراف : 99 ] )
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( تَوسَّدِ الصَّبر ، واعتَنِقِ الفَقر ، وارفضِ الشَّهَوَات ، وخَالف الهوى ، واعلَم أَنَّكَ لَن تَخلُو مِن عَينِ الله ، فانظُر كَيفَ تَكُون ) .
3ـ قال ( عليه السلام ) : ( أَمَّا هذِه الدُّنيا فإِنَّا فيها مُعتَرِفُون ، لَكِن مَن كَان هَوَاهُ هَوى صَاحِبُهُ ، وَدَانَ بِدِينه ، فَهو مَعهُ حَيثُ كَان ، والآخرةُ هِيَ دارُ القَرَار ) .
مناظرات الامام الجواد (عليه السلام) مع ابن اكثم:
عندما أراد الخليفة المأمون تزويج ابنته أم الفضل من الإمام الجواد ( عليه السلام ) بلغ ذلك العباسيين، فاعترضوا على الخليفة، وقالوا: يا أميرالمؤمنين أتزوج ابنتك صبياً لم يتفقه في دين الله، واذا كنت مشغوفاُ به فامهلهه ليتأدب، ويقرأ القرآن، ويعرف الحلال والحرام، فقال لهم المأمون: ويحكم إني أعرفُ بهذا الفتى منكم، وأنه لأفقه منكم، واعلم بالله ورسوله وسنته، فإن شئتم فامتحنوه، فرضوا بامتحانه، واجتمع رأيهم مع المأمون على قاضي القضاة يحيى بن اكثم أن يحضر لمسألته، واتفقوا على يوم معلوم، وجاء ابن اكثم وقال للإمام (عليه السلام)، بحضور مجلس المأمون: يا ابا جعفر أصلحك الله، ما تقول في مُحرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ): قتله في حل أو حرم، عالماً كان المحرم أم جاهلاً قتله عمداُ أو خطأً، حراً كان المحرم أم عبداُ، كان صغيراُ أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماُ، في الليل كان قتله للصيد في أوكارها أم نهاراً وعياناً، محرماُ كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرماُ؟
فتحيّر يحيى بن اكثم، وانقطع انقطاعاُ لم يخفَ على أحد من أهل المجلس، وبان في وجهه العجز، وتلجلج وانكشف أمره لاهل المجلس، وتحيّر الناس عجباً من جواب الإمام الجواد ( عليه السلام )، فقال المأمون لاهل بيته: اعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ونظر إلى الإمام ( عليه السلام ) وقال: أنا مزوّجك إبنتي أم الفضل، فرضي بذلك وتم التزويج.
ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده. فقال أبوجعفر:
«إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، واذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمةالفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحجّ نحره بمنىً، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحُرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لاكفّارة عليه، وهي على الكبيرواجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة».
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر.
شهادة الإمام الجواد ( عليه السلام )
استَشَفَّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) من وراء الغيب أنَّ الأجل المحتوم سَيُوَافيه ، وأن عمره كَعُمر الزهور ، وقد أعلن ذلك لشيعتِهِ في كثير من المواطن ، فَنصَّ على إمامةِ ولده علي الهادي ( عليه السلام ) ، فنصَّبَهُ علماً ومرجعاً للأمة من بعده ( عليه السلام ) .
وقد روى الصقر حيث قال : سمعتُ أبا جعفر محمد ( عليه السلام ) يقول : ( إِنَّ الإِمامَ بَعدي ابنِي عَليٌّ ، أمرُهُ أمري ، وقولُهُ قولِي ، وطاعتُهُ طاعتَي ) .
ولم يمت الإمام ( عليه السلام ) حَتفَ أنفِهِ ، وإنما اغتاله المعتصم العباسي عن طريق دَسِّ السُم إليه ، وأقدَمَ هذا الطاغية على اقتراف هذه الجريمة النكراء ولم يَرْعَ حُرمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أبنائه ( عليهم السلام ) .
ودافع اغتيال المعتصم للإمام ( عليه السلام ) هو حسد المعتصم له ( عليه السلام ) على ما ظفر به من الإكبار والتعظيم عند عامَّة المسلمين .
فقد تحدثوا مُجمِعينَ عن مواهِبه ( عليه السلام ) وهو في سنِّهِ المُبَكِّر ، كما تحدَّثوا عن معالي أخلاقه من الحلم ، وكَظمِهِ للغَيظ ، وبِرِّه بالفقراء ، وإحسانِهِ إلى المحرومين .
إلى غير ذلك من صفاته التي عَجَّت بذكرها المجالس والمحافل ، ممَّا دفع المعتصم إلى فرض الإقامة الجَبْرِيَّة عليه في بغداد ، ثم القيام باغتياله ( عليه السلام ) .
وأثَّر السُم في الإمام ( عليه السلام ) تأثيراً شديداً ، فقد تفاعل مع جميع أجزاء بدنه وأخذ يعاني منه آلاماً مرهقة .
فقد تقطَّعت أمعاؤه ( عليه السلام ) من شِدَّة الألم ، وانتقلَ ( عليه السلام ) إلى جِوَار رَبِّهِ شهيداً مسموماً في آخر شهر ذي القعدة من سنة ( 220 هـ ) .
وحُمِل الجثمان المقدَّس إلى مقابر قريش ، وقد احتفَّت به الجماهير الحاشدة ، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله .
فقد تَجمَّعت عشرات الآلاف في مواكب حزينة ، وهي تردِّدُ فضل الإمام ( عليه السلام ) وتندبه ، وتذكر الخسارة العظمى التي مُنِي بها المسلمون في فقدهم للإمام ( عليه السلام ) .
وحُفِر للجثمان المقدَّس قبرٌ ملاصقٌ لقبر جدِّه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فَوَارَوهُ فيه ، وانطفأت بشهادته ( عليه السلام ) شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة الواعية المفكرة في الإسلام .
من ابحاث الانصاري
تمر علينا اليوم ذكرى استشهاد الامام محمد بن علي الجواد الامام التاسع من أمة اهل البيت
فأرتأيت ان نلقي بعض الضوء على سيرة هذا الامام العظيم
ولادته:
كان قد مرّ على عمر الإمام الرضا (عليه السلام) - والد الإمام الجواد - أكثر من أربعين سنة لكنه لم يُرزق بولد، فكان هذا الأمر مدعاة لقلق الشيعة; لأنها تعتقد بأن الإمام التاسع سيكون ابن الإمام الثامن، ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يمنّ الله عزّ وجل على الإمام الثامن ـالرضا ـ(عليه السلام) بولد، حتى أنهم في بعض الاحيان كانوا يذهبون الى الإمام (عليه السلام) ويطلبون منه أن يدعو الله سبحانه بأن يرزقه ولداً، وهو يُسلّيهم ويقول لهم: (إن الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث والإمام من بعدي).
وأخيراً ولد الإمام محمدالجواد في العاشر من شهر رجب سنة (195) للهجرة، وقد سُمّي بمحمد وكنيته أبوجعفر.
وأشاعت ولادته (عليه السلام) الفرح والسرور بين أوساط الشيعة، ورسّخت الايمان في قلوبهم، وأزالت الشك الذي دخل قلوب البعض منهم.
امامته
ساهم الإمام الجواد(عليه السلام) مدة امامته التي دامت نحو سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وحفظ تراثها، والتي امتازت في تلك المرحلة بالاعتماد على النص والرواية عن الرسول ، وكذلك على الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، استنباطاً ملتزماً دقيقاً، يكشف حقيقة المحتوى العلمي لهذين المصدرين، بالاضافة الى اهتمامها بالعلوم والمعارف العقليّة، التي ساهم الأئمة (عليهم السلام) وتلامذتهم في إنمائها وإغنائها، حتى غدت حصناً منيعاً للفكر الإسلامي.
كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) من أندى الناس كفّاً ، وأكثرهم سخاءً ، وقد لُقِّب بـ ( الجواد ) لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى الناس.
كشف الإمام الجواد ( عليه السلام ) عن علل الأحكام
كَشَفَ الإمام الجواد ( عليه السلام ) النقاب عن العلة في تشريع بعض الأحكام ، وكان من بينها ما يلي :
العِلَّة الأولى :
سَئَل محمد بن سليمان عنِ العِلَّة في جعل عِدَّة المطلَّقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أشهر ، وصارت عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ، فأجابه الإمام ( عليه السلام ) عن ذلك بقوله :
( أما عِدَّة المطلَّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد ، وأمَّا عِدَّة المتوفى عنها زوجها فإنَّ الله تعالى شرط للنساء شرطاً ، وشرط عليهِنَّ شرطاً ، فلم يُجَابِهنَ فيما شرط لَهُنَّ ، ولم يُجِرْ فيما اشترط عليهنَّ .
أما ما شرط لهنَّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول الله عز وجل :
( لِلَّذِينَ يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهِم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشهُرٍ ) [ البقرة : 226 ] ، فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك اسمه أنَّه غاية صبر المرأة عن الرجل .
وأمّا ما شرط عليهنَّ فإنهُ أَمَرَها أن تعتدَّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشراً ، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الإيلاء ، قال الله عزَّ وجل :
( يَتَرَبَّصنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهُرٍ وعَشْراً ) [ البقرة : 234 ] ، ولم يذكر العشرة الأيام في العِدَّة إلا مع الأربعة أشهر ، وعلم أن غاية المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع ، فمن ثمّ أوجبه عليها ولها ) .
العِلَّة الثانية :
سأل محمد بن سليمان الإمام ( عليه السلام ) عن العِلَّة فيما إذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا تكون شهادته أربع شهادات بالله ، وإذا قذفها غيره سواءً كان قريباً لها أم بعيد جلد الحدَّ ، أو يقيم البَيِّنة على ما قال ، فأجابه ( عليه السلام ) :
قد سُئل أبو جعفر – يعني الإمام الباقر ( عليه السلام ) – عن ذلك فقال ( عليه السلام ) : إن الزوج إذا قذف امرأته فقال : رأيت ذلك بعيني ، كانت شهادته أربع شهادات بالله ، وإذا قال : إِنَّه لم يره ، قيل له : أَقِم البَيِّنة على ما قلتَ ، وإلا كان بمنزلة غيره ، وذلك أن الله تعالى جعل للزوج مدخلاً لا يدخله غيره ، والد ولا ولد ، يدخله في الليل والنهار .
فجاز له أن يقول : رأيتُ ، ولو قال غيره : رأيتُ ، قيل له : وما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك ؟!! ، أنت متَّهم فلا بدَّ من أن يقام عليك الحدَّ الذي أوجبه الله عليك .
فهذا بعض ما أُثِرَ عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) في بيانه عِلَلَ بعض الأحكام التي شَرَّعها الإسلام .
من أقوال الإمام الجواد ( عليه السلام ) في الأخلاق والمواعظ:
دعا الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ، وكان ممَّا أوصى به :
في حُسن الأخلاق :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( مِن حُسن خُلق الرجل كَفُّ أذَاه ، ومن كرمه بِرُّه لِمَن يهواه ، ومن صبره قِلَّة شَكواه ، ومن نُصحِهِ نَهْيِهِ عما لا يرضاه ، ومن رِفقِ الرجل بأخيه ترك توبيخِهِ بِحَضرَةِ مَن يَكرَهُ ، ومِن صِدق صُحبَتِهِ إسقاطُه المُؤنَة ، ومِن علامة مَحبَّتِهِ كِثرةُ المُوافَقة وَقِلَّة المُخَالفة ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( حَسبُ المَرءِ مِن كَمَال المُروءَة أن لا يَلقى أحداً بما يَكرَه ، وَمِن عَقلِهِ إِنصافه قَبول الحَقِّ إذا بَانَ لَهُ ) .
في قضاء حوائج الناس :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( إِنَّ للهِ عِباداً يخصُّهُم بدوام النِّعَم ، فلا تزالُ فِيهم ما بَذلوا لَهَا ، فإذَا مَنعُوهَا نَزَعَهَا عنهم ، وَحَوَّلَهَا إِلى غَيرهم ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( مَا عَظُمَتْ نِعمُ اللهِ على أَحدٍ إِلا عَظُمَتْ إليه حَوائجَ النَّاس ، فمن لم يحتمل تلك المُؤنَة عرَّضَ تلك النعمة للزوال ) .
في آداب السلوك :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( ثَلاثُ خِصالٍ تجلبُ فيهــنَّ المَوَدَّة : الإنصاف في المعاشرة ، والمواساة في الشِدَّة ، والانطِواء على قلبٍ سليم ) .
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( ثلاثةٌ مَن كُنَّ فيه لم يندم : تَرْكِ العَجَلة ، والمَشُورَة ، والتوكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى عند العَزِيمَة ، ومَن نَصحَ أخَاه سِرّاً فَقَدْ زَانَهُ ، ومن نَصَحهُ عَلانِيةً فَقَدْ شَانَهُ ) .
3ـ
قال ( عليه السلام ) : ( عنوَانُ صَحيفَة المؤمن حُسنُ خُلقه ، وعنوان صحيفةِ السَّعيد حُسن الثَّنَاءِ عليه ، والشكر زينةُ الرِّوَاية ، وخَفضُ الجِناح زينة العلم ، وحُسنُ الأدب زينة العَقل ، والجَمَال في اللِّسَان ، وَالكَمَالُ فِي العَقل ) .
وأما عن المواعظ فقد أُثِرَت عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) بعضها ، ومنها ما يلي :
1ـ قال ( عليه السلام ) : ( تَأخِيرُ التوبة اغتِرَار ، وطُول التَسوِيفِ حِيرَة ، والاعتِلال على الله هَلَكَةٌ ، والإصرِارِ عَلى الذنب أَمنٌ لِمَكرِ الله ، ( فَلا يَأْمَنُ مَكرَ اللهِ إلاَّ القَومُ الخاسِرُونَ ) [ الأعراف : 99 ] )
2ـ قال ( عليه السلام ) : ( تَوسَّدِ الصَّبر ، واعتَنِقِ الفَقر ، وارفضِ الشَّهَوَات ، وخَالف الهوى ، واعلَم أَنَّكَ لَن تَخلُو مِن عَينِ الله ، فانظُر كَيفَ تَكُون ) .
3ـ قال ( عليه السلام ) : ( أَمَّا هذِه الدُّنيا فإِنَّا فيها مُعتَرِفُون ، لَكِن مَن كَان هَوَاهُ هَوى صَاحِبُهُ ، وَدَانَ بِدِينه ، فَهو مَعهُ حَيثُ كَان ، والآخرةُ هِيَ دارُ القَرَار ) .
مناظرات الامام الجواد (عليه السلام) مع ابن اكثم:
عندما أراد الخليفة المأمون تزويج ابنته أم الفضل من الإمام الجواد ( عليه السلام ) بلغ ذلك العباسيين، فاعترضوا على الخليفة، وقالوا: يا أميرالمؤمنين أتزوج ابنتك صبياً لم يتفقه في دين الله، واذا كنت مشغوفاُ به فامهلهه ليتأدب، ويقرأ القرآن، ويعرف الحلال والحرام، فقال لهم المأمون: ويحكم إني أعرفُ بهذا الفتى منكم، وأنه لأفقه منكم، واعلم بالله ورسوله وسنته، فإن شئتم فامتحنوه، فرضوا بامتحانه، واجتمع رأيهم مع المأمون على قاضي القضاة يحيى بن اكثم أن يحضر لمسألته، واتفقوا على يوم معلوم، وجاء ابن اكثم وقال للإمام (عليه السلام)، بحضور مجلس المأمون: يا ابا جعفر أصلحك الله، ما تقول في مُحرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ): قتله في حل أو حرم، عالماً كان المحرم أم جاهلاً قتله عمداُ أو خطأً، حراً كان المحرم أم عبداُ، كان صغيراُ أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماُ، في الليل كان قتله للصيد في أوكارها أم نهاراً وعياناً، محرماُ كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرماُ؟
فتحيّر يحيى بن اكثم، وانقطع انقطاعاُ لم يخفَ على أحد من أهل المجلس، وبان في وجهه العجز، وتلجلج وانكشف أمره لاهل المجلس، وتحيّر الناس عجباً من جواب الإمام الجواد ( عليه السلام )، فقال المأمون لاهل بيته: اعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ونظر إلى الإمام ( عليه السلام ) وقال: أنا مزوّجك إبنتي أم الفضل، فرضي بذلك وتم التزويج.
ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده. فقال أبوجعفر:
«إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، واذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمةالفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحجّ نحره بمنىً، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحُرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لاكفّارة عليه، وهي على الكبيرواجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة».
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر.
شهادة الإمام الجواد ( عليه السلام )
استَشَفَّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) من وراء الغيب أنَّ الأجل المحتوم سَيُوَافيه ، وأن عمره كَعُمر الزهور ، وقد أعلن ذلك لشيعتِهِ في كثير من المواطن ، فَنصَّ على إمامةِ ولده علي الهادي ( عليه السلام ) ، فنصَّبَهُ علماً ومرجعاً للأمة من بعده ( عليه السلام ) .
وقد روى الصقر حيث قال : سمعتُ أبا جعفر محمد ( عليه السلام ) يقول : ( إِنَّ الإِمامَ بَعدي ابنِي عَليٌّ ، أمرُهُ أمري ، وقولُهُ قولِي ، وطاعتُهُ طاعتَي ) .
ولم يمت الإمام ( عليه السلام ) حَتفَ أنفِهِ ، وإنما اغتاله المعتصم العباسي عن طريق دَسِّ السُم إليه ، وأقدَمَ هذا الطاغية على اقتراف هذه الجريمة النكراء ولم يَرْعَ حُرمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أبنائه ( عليهم السلام ) .
ودافع اغتيال المعتصم للإمام ( عليه السلام ) هو حسد المعتصم له ( عليه السلام ) على ما ظفر به من الإكبار والتعظيم عند عامَّة المسلمين .
فقد تحدثوا مُجمِعينَ عن مواهِبه ( عليه السلام ) وهو في سنِّهِ المُبَكِّر ، كما تحدَّثوا عن معالي أخلاقه من الحلم ، وكَظمِهِ للغَيظ ، وبِرِّه بالفقراء ، وإحسانِهِ إلى المحرومين .
إلى غير ذلك من صفاته التي عَجَّت بذكرها المجالس والمحافل ، ممَّا دفع المعتصم إلى فرض الإقامة الجَبْرِيَّة عليه في بغداد ، ثم القيام باغتياله ( عليه السلام ) .
وأثَّر السُم في الإمام ( عليه السلام ) تأثيراً شديداً ، فقد تفاعل مع جميع أجزاء بدنه وأخذ يعاني منه آلاماً مرهقة .
فقد تقطَّعت أمعاؤه ( عليه السلام ) من شِدَّة الألم ، وانتقلَ ( عليه السلام ) إلى جِوَار رَبِّهِ شهيداً مسموماً في آخر شهر ذي القعدة من سنة ( 220 هـ ) .
وحُمِل الجثمان المقدَّس إلى مقابر قريش ، وقد احتفَّت به الجماهير الحاشدة ، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله .
فقد تَجمَّعت عشرات الآلاف في مواكب حزينة ، وهي تردِّدُ فضل الإمام ( عليه السلام ) وتندبه ، وتذكر الخسارة العظمى التي مُنِي بها المسلمون في فقدهم للإمام ( عليه السلام ) .
وحُفِر للجثمان المقدَّس قبرٌ ملاصقٌ لقبر جدِّه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فَوَارَوهُ فيه ، وانطفأت بشهادته ( عليه السلام ) شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة الواعية المفكرة في الإسلام .
من ابحاث الانصاري