)وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لإِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( (يوسف/21)
في قصة يوسف آيات للسائلين.. قصة غريبة ومليئة بالكثير من العبر.. فيوسف كان طفلاً اعتدي عليه من قبل اخوته الذين ظلموه وأبعدوه وحاولوا قتله. إنه طفل كان ينتمي إلى عائلة غريبة، عائلة يعقوب التي هاجر بها النبي إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مصر ثم إلى فلسطين. ثم إن الله تبارك وتعالى قيّض الله لهذا الطفل الذي كان منبوذاً في قعر بئرٍ، ركباً كان يبحث عن الماء بعد أن ضل الطريق، فجاء أفراد هذا الركب ليجدوا يوسف عليه السلام فيحملوه ليبيعوه على عزيز مصر.. وإذا بذاك الطفل المظلوم والوحيد يصبح ملكاً في إمبراطورية الأرض الوحيدة، إذ كانت مصر تثمل -آنذاك- الحضارة الإنسانية الفريدة في العالم.. حقّاً إنها قصة غريبة..
ونقرأ أن يوسف الصديق سلام الله عليه كان قد رأى في منامه أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له.. ثم إننا نقرأ أنه أصبح ملكاً وأصبح أكبر رجل وأعظم شخصية على وجه الأرض ضمن المقاييس المادية في ذلك اليوم.. ولكن كيف حدث كل ذلك؟ وكيف مكّن الله سبحانه وتعالى ليوسف أن يرتقي تلك الدرجة العالية؟
في الآية المتقدمة أعلاه إجابة وافية عن هذه التساؤلات إذ )وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لإِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً( .
لقد دفع الله سبحانه وتعالى عزيز مصر بقدره وقضائه ولطفه وحسن تدبيره ليشتري يوسف، لأنه لم يكن قد رزق بولد بعد ، فجاء به ودفعه إلى زوجته آمراً إياها بأن (تكرم مثوى يوسف وشخصيته) وهذه الكلمة هي الحلقة المفقودة في شخصية هذا النبي العظيم وحياته المليئة بالعبر الصالحة..
إن عزيز مصر كان قد ألقى الله سبحانه وتعالى في روعه بأن يطلب إلى زوجته أو يأمرها بأن تعامل يوسف معاملة كريمة فلا تحوله خادماً أو مملوكاً رغم أنهم قد شروه بثمن بخس دراهم معدودة، إنه أمرها بأن تكون بخدمته.. فتمنحه الكرامة والثقة والاحترام.. وهذا يعني في نهاية المطاف أن يوسف هو الذي اشتراهم وليس العكس.
إنه سينفعهم حيث يتخذونه ولداً وليس خادماً.
إن عزيز كان يريد لمن سيتخذه ولداً أن يكون سيداً بما أولوه من كرامة وثقة واحترام.
)وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ( أي بالكرامة أصبح يوسف الطريد الغريب المهاجر والمشترى ملكاً على مصر.
)وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(…
فأنتِ يا أيتها الأم الصالحة إذا أردتِ أن يصبح أبنك صالحاً وسيداً لقومه فما عليكِ إلاّ أن تكرمي مثواه دوّن أن تعالجي أموره بالضرب والقوة وكيل الإهانات له. أما إذا أردت أن يكون ذليلاً ومستضعفاً وعباداً تلاحقه المشاكل وتحاصره الأزمات فلك أن تحطمي كرامته وتهيني شخصيته ثم تنظري ماذا سيحدث ويكون!!
إن هناك فرقاً بين الأمرين: أن نحطم كرامة الطفل وشخصيته منذ الصغر أو نربيه على الكرامة والاحترام.
ولقد كان من دأب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احترام الأبناء، وما رأى طفلاً في شارع أو زقاق إلا وبادره بالسلام وأبدا له احترامه العميق … وهؤلاء الأطفال الذين كانوا يلعبون بالتراب - مثلاً - ويردون على تحية نبيهم ذي الخلق العظيم، هم نفسهم أصبحوا سادة العالم.. ولا تزال الألسن تلهج بمدحهم.
العلة الأساسية في بقاء شعوبنا المسلمة على حالة الضعف والمهانة والاندحار، ولماذا يطمع العالم في سحقها ومقاومتها؟.. ولماذا ينهار الجيل الشاب المسلم أمام الاغراءات والشهوات والفتن؛ سواء الكبير منها والصغير؟ ولماذا لا نجد في أولادنا تلك الشخصية التي كان عليها أولاد المسلمين الأوائل؟ ترى ما هو الفرق؟!
إن الفرق نجده في مستوى تحمل الأمهات مسؤولياتهن تجاه أولادهنّ. إذ أننا إذا أردنا أن نكوّن جيلاً معتمداً على نفسه مقتدراً قوياً متمسكاً بقيمه الإسلامية، فما علينا إلا أن نمنح الكرامة له، بل ونعلّمه على نيل الكرامة والتشبث بها ما وسعه.
إن عزيز مصر كان الله قد ألقى في روعه أن يقول لامرأته: )أَكْرِمِي مَثْوَاهُ( فأصبح يوسف ملكاً كريماً.. كما أن امرأة عمران استطاعت عبر نذرها لله بأن يصبح ما في بطنها محرراً، فكانت مريم أمّا عظيمة لعيسى عليه السلام، ذلك الرجل الرباني والنبي العظيم.. وكما أن سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قد ربّت ابنتها السيدة زينب. بغض النظر عن كونها أمّاً للإمامين الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام وهما سيدا أهل الجنة.. فهي ربّت زينب بطلة كربلاء وعنوان القيم الإلهية جمعاء. لقد تعلمت زينب من سيدتها وأمها فاطمة كيف تقف بوجه الظلم منذ أن خطبت خطبتها التاريخية الفدكية في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، فوقفت هي الأخرى تقارع الظلم وتدافع عن قيم القرآن وتعلن مظلومية وصمود أهل بيت النبوة بوجه أعتى طغاة الزمان.. يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد في الشام والكوفة.. وهذا لم يكن ليبدر من سيدتنا زينب عليها السلام لولا أن أمها الزهراء عليها السلام كانت قد أكرمت مثواها خير إكرام..
إذن؛ فنحن لدى مواجهتنا التحديات الثقافية المتنوعة كالشبكات التلفزيونية الفضائية وشبكات المخدرات ونشر الفحشاء في بلادنا، وأجهزة الظلم والإرهاب، لا نملك الفضائيات ولا الانترنيت ولا وسائل القوة، ولكننا نملك، أو نستطيع أن نملك المرأة الفاطمية، والمرأة الزينبية، وهي السلاح الأخير والأساسي حقاً.
وهذا يعني أن المرأة الفاطمية والزينبية حينما تعمد تربية أطفالها يستطيع أطفالها في يوم غد أن يقولوا لا للفضائيات ولا للانترنيت ولا للشهوات والمخدرات والإرهاب.
وأنتِ أيتها المرأة عليكِ أن تعتقدي بأن مسؤوليتك أكبر مما تتصورين، وأنتِ كبنتِ ستصبحين -بتوفيق الله- أماً كفاطمة الزهراء في أخلاقك وأما كزينب في تربيتك، وأمّا كأمهاتنا السابقات اللاتي ربّين هذه الأجيال المؤمنة.
إن الهدف الأول هو تربية جيل الكرامة وذلك منذ أن تحس المرأة بحملها، وظل ضمن قانون العزة والاحترام للجنين، كعدم تعريض نفسها لدخان السجائر وبأية طريقة كانت، استخدام الأساليب التي توفر الراحة الجسدية والنفسية له، وعدم جعل البيوت ملاجئ للشياطين عبر الاستماع إلى الأغاني والموسيقى، والاستعاضة عنها بالاستماع الدؤوب إلى أشرطة القرآن الكريم وصوت الأذان والأناشيد الدينية، لأن من شأن هذه كلها الانطباع في قلب الطفل منذ نعومة أظفاره.
ثم هناك أسلوب آخر في ضمان تربية الجيل تربية سليمة وكريمة عبر زرع مبادئ الأخلاق الطيبة والحب في نفوسهم، فنحن نزرع الحب وأنفسهم وقلوبهم اليوم لنحصد العاطفة غداً، فهذا الحب سيتحول إلى خلق رفيع إن شاء الله في سلوكياتهم.
إن أطفالنا في هذا الزمن بالذات بحاجة إلى حب وحنان وعاطفة لكي ينظر إلى الحياة نظرة إيجابية أكثر مما يحتاج إلى الخادمة، لن الخادمة عاجزة النظر لغير المال والمنفعة المادية، إذن فالخادمة التايلندية ليست كالأم المسلمة، إذ في نبرات هذه الأخيرة ولمحاتها وتقاسيم وجهها وفي كل شيء منها عاطفة جياشة تجاه وليدها.
إن الواجب الشرعي يحتم على الأمم دراسة طرق التربية السليمة بكافة أبعادها، ومنها أن تحافظ الأم على سلامة نفسها وتصفية مشاكلها النفسية والخلقية لكي يتمتع الطفل بأجواء الصحة النفسية والجسدية بالقدر الممكن.
أما القضية الأخيرة؛ فهي توفير عوامل وأسباب السعادة والرفاه للطفل المسلم، فمن اللازم اصطحابه إلى المناطق الجميلة والجذابة، فهذه من شأنها التأثير الإيجابي على روحه اللطيفة فتخلق فيها السعادة والانتعاش والراحة.
فهذه أمور أربعة: الكرامة، ومعها الثقة والحب، ومعها الخلق الرفيع والصحة، ومعها السعادة والرفاه.
أما كيفية تطبيق هذه الأمور والخطوط الأربعة في مجتمعنا فتتلخص بعدم الضرورة إلى استخدام المناهج الجاهزة، بمعنى أن أساليب التربية المعروضة في الجرائد والمجلات وغيرهما، عبارة عن مواضيع غربية مترجمة لمناهج لا تتناسب - في معظم مجالاتها - واحتياجات المجتمع المسلم، المجتمع الذي هو بحاجة إلى تجارب أخرى أكثر جدية، ونظير هذا ما تجده المرأة المسلمة من طبخات خاصة في كتيبات المطابخ المعنية بتهيئة وجبات لا يحبذها الرجال المسلمون لدينا، تبعاً للتفاوت الحاصل في الأذواق، كذلك هي البرامج التربوية الجاهزة والمستوردة.
وإنني في هذا المجال أوصي أخواتي المؤمنات قراءة آية النور المباركة بصورة دقيقة ثم التدبر في قول الله تعالى بعد ذلك: )فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَار( (النور/36-37)
حيث يشير الله سبحانه وتعالى إلى أن محور هذه البيوت - حسب تفسير أهل البيت - هو الأم المؤمنة ، نظراً لأن هذه الآية المباركة نزلت أساساً في أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وخصوصاً في سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، وهذا البيت النبوي الكريم إنما أراد الله له أن يكون نموذجاً صالحاً لكل بيت مسلم.
إن بيت الزهراء كان بيت العفة والعلم والزهد والتقوى والأخلاق الرفيعة، والمطلوب من الأمهات أن يعكفن على توفير مثل هذا البيت العظيم فيصبحن مقلدات صالحات لسيدتهن ومولاتهن الزهراء سلام الله عليها، فيطردن الشيطان ووساوسه ووسائله من بيوتهن، أو لتسع كل واحدة من الأمهات لدينا أن يحولن غرفة واحدة من غرف بيوتهن إلى غرفة ورع وإيمان ويسمينها باسم الزهراء، فيكون فيها القرآن والذكر ومجلس الوعظ.
اعتقد أنه من الممكن جداً أن تعمد الأمر إلى جمع أطفالها صباح كل يوم لتقرأ ويقرؤون كتاب الله ولو لمدة قصيرة قبيل ذهابهم إلى المدرسة مثلاً. وأنه من الممكن حمل الأطفال وتعويدهم على قول كلمة البسملة الشريفة قبيل تناولهم لوجبة الطعام، وأنه من البسيط جداً أن تحبب الأم إلى أطفالها تخصيص مدة قصيرة من نهارهم أو ليلهم في مطالعة جزءٍ من أجزاء قصة أحد الأنبياء، أو قراءة بعض الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام، وإضفاء مسحة خفيفة من التفسير المناسب لأعمارهم عليها…
إن القضية برمتها بحاجة إلى شيء من الاهتمام المدروس والمتواصل، من قبل الوالدين، والأم خصوصاً حتى يتحول البيت إلى بيت ينزل إليه نور السماء والرحمة الإلهية، ويرفع منه ذكر الله، وتقام فيه الصلاة كل حين، وإذا ذاك يمكن التوقع بأن أطفال هذا البيت سيكونون رجالاً في الغد القريب، ممن لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل، فيتحولون حقاً إلى قادة المستقبل.
وها أناذا يملؤني الاعتقاد بأننا يجب أن نعيد النظر في قواعد وأساليب تثقيف بناتنا، أي أمهات المستقبل، وأنا أدعو إلى وضع برامج مكثفة ومركزة ومرتبة ومستمرة لمن بلغن مرحلة الزواج لمعرفة أصول التربية والتعاليم الدينية فيما يخص الإدارة المنزلية، وذلك كله إلى جانب المنهج المدرس المعتاد.. وإلا فلا معنى أبداً لأن تتقن البنت علم الفيزياء والكيمياء والجغرافيا وغير ذلك من العلوم، في وقت تجهل أو تغفل عن واجبها الإنساني الأول وهو تربية الأطفال وفق الأصول القرآنية والإسلامية عموماً... فجهلها بأصول التربية يجعل أولادها عرضة دائمة للوقوع في أسر المشاكل النفسية والفكرية والجسدية، وبالتالي ستكون شريكة مباشرة في كل ما يرتكبونه من أخطاء وذنوب في طيلة حياتهم..
وعلى جذوة القول إن الأم مسؤولة كل المسؤولية عن تحويل بيتها إلى حصن حصين لاولادها ليمنعهم عن الوقوع في شرك شبكات الفساد المنتشرة بكثرة في بلداننا المسلمة في جهة، وإلى تعليمهم فرائض دينهم وفق الأساليب الأكثر جدية، كي يتحولوا في المستقبل القريب إلى أشخاص صالحين وقادة أفذاذ…
نسأل الله تبارك اسمه أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلنا ممن ينتصر لهم لدينه، وألا يستبدل بنا غيرنا، وأن يجعل عاقبة أمورنا الحسنى، إنه ولي التوفيق.
وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
نتقوول بتصرف:كلمة سماحة آية الله السيد المدرسي
في قصة يوسف آيات للسائلين.. قصة غريبة ومليئة بالكثير من العبر.. فيوسف كان طفلاً اعتدي عليه من قبل اخوته الذين ظلموه وأبعدوه وحاولوا قتله. إنه طفل كان ينتمي إلى عائلة غريبة، عائلة يعقوب التي هاجر بها النبي إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مصر ثم إلى فلسطين. ثم إن الله تبارك وتعالى قيّض الله لهذا الطفل الذي كان منبوذاً في قعر بئرٍ، ركباً كان يبحث عن الماء بعد أن ضل الطريق، فجاء أفراد هذا الركب ليجدوا يوسف عليه السلام فيحملوه ليبيعوه على عزيز مصر.. وإذا بذاك الطفل المظلوم والوحيد يصبح ملكاً في إمبراطورية الأرض الوحيدة، إذ كانت مصر تثمل -آنذاك- الحضارة الإنسانية الفريدة في العالم.. حقّاً إنها قصة غريبة..
ونقرأ أن يوسف الصديق سلام الله عليه كان قد رأى في منامه أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له.. ثم إننا نقرأ أنه أصبح ملكاً وأصبح أكبر رجل وأعظم شخصية على وجه الأرض ضمن المقاييس المادية في ذلك اليوم.. ولكن كيف حدث كل ذلك؟ وكيف مكّن الله سبحانه وتعالى ليوسف أن يرتقي تلك الدرجة العالية؟
في الآية المتقدمة أعلاه إجابة وافية عن هذه التساؤلات إذ )وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لإِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً( .
لقد دفع الله سبحانه وتعالى عزيز مصر بقدره وقضائه ولطفه وحسن تدبيره ليشتري يوسف، لأنه لم يكن قد رزق بولد بعد ، فجاء به ودفعه إلى زوجته آمراً إياها بأن (تكرم مثوى يوسف وشخصيته) وهذه الكلمة هي الحلقة المفقودة في شخصية هذا النبي العظيم وحياته المليئة بالعبر الصالحة..
إن عزيز مصر كان قد ألقى الله سبحانه وتعالى في روعه بأن يطلب إلى زوجته أو يأمرها بأن تعامل يوسف معاملة كريمة فلا تحوله خادماً أو مملوكاً رغم أنهم قد شروه بثمن بخس دراهم معدودة، إنه أمرها بأن تكون بخدمته.. فتمنحه الكرامة والثقة والاحترام.. وهذا يعني في نهاية المطاف أن يوسف هو الذي اشتراهم وليس العكس.
إنه سينفعهم حيث يتخذونه ولداً وليس خادماً.
إن عزيز كان يريد لمن سيتخذه ولداً أن يكون سيداً بما أولوه من كرامة وثقة واحترام.
)وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ( أي بالكرامة أصبح يوسف الطريد الغريب المهاجر والمشترى ملكاً على مصر.
)وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(…
فأنتِ يا أيتها الأم الصالحة إذا أردتِ أن يصبح أبنك صالحاً وسيداً لقومه فما عليكِ إلاّ أن تكرمي مثواه دوّن أن تعالجي أموره بالضرب والقوة وكيل الإهانات له. أما إذا أردت أن يكون ذليلاً ومستضعفاً وعباداً تلاحقه المشاكل وتحاصره الأزمات فلك أن تحطمي كرامته وتهيني شخصيته ثم تنظري ماذا سيحدث ويكون!!
إن هناك فرقاً بين الأمرين: أن نحطم كرامة الطفل وشخصيته منذ الصغر أو نربيه على الكرامة والاحترام.
ولقد كان من دأب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احترام الأبناء، وما رأى طفلاً في شارع أو زقاق إلا وبادره بالسلام وأبدا له احترامه العميق … وهؤلاء الأطفال الذين كانوا يلعبون بالتراب - مثلاً - ويردون على تحية نبيهم ذي الخلق العظيم، هم نفسهم أصبحوا سادة العالم.. ولا تزال الألسن تلهج بمدحهم.
العلة الأساسية في بقاء شعوبنا المسلمة على حالة الضعف والمهانة والاندحار، ولماذا يطمع العالم في سحقها ومقاومتها؟.. ولماذا ينهار الجيل الشاب المسلم أمام الاغراءات والشهوات والفتن؛ سواء الكبير منها والصغير؟ ولماذا لا نجد في أولادنا تلك الشخصية التي كان عليها أولاد المسلمين الأوائل؟ ترى ما هو الفرق؟!
إن الفرق نجده في مستوى تحمل الأمهات مسؤولياتهن تجاه أولادهنّ. إذ أننا إذا أردنا أن نكوّن جيلاً معتمداً على نفسه مقتدراً قوياً متمسكاً بقيمه الإسلامية، فما علينا إلا أن نمنح الكرامة له، بل ونعلّمه على نيل الكرامة والتشبث بها ما وسعه.
إن عزيز مصر كان الله قد ألقى في روعه أن يقول لامرأته: )أَكْرِمِي مَثْوَاهُ( فأصبح يوسف ملكاً كريماً.. كما أن امرأة عمران استطاعت عبر نذرها لله بأن يصبح ما في بطنها محرراً، فكانت مريم أمّا عظيمة لعيسى عليه السلام، ذلك الرجل الرباني والنبي العظيم.. وكما أن سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قد ربّت ابنتها السيدة زينب. بغض النظر عن كونها أمّاً للإمامين الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام وهما سيدا أهل الجنة.. فهي ربّت زينب بطلة كربلاء وعنوان القيم الإلهية جمعاء. لقد تعلمت زينب من سيدتها وأمها فاطمة كيف تقف بوجه الظلم منذ أن خطبت خطبتها التاريخية الفدكية في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، فوقفت هي الأخرى تقارع الظلم وتدافع عن قيم القرآن وتعلن مظلومية وصمود أهل بيت النبوة بوجه أعتى طغاة الزمان.. يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد في الشام والكوفة.. وهذا لم يكن ليبدر من سيدتنا زينب عليها السلام لولا أن أمها الزهراء عليها السلام كانت قد أكرمت مثواها خير إكرام..
إذن؛ فنحن لدى مواجهتنا التحديات الثقافية المتنوعة كالشبكات التلفزيونية الفضائية وشبكات المخدرات ونشر الفحشاء في بلادنا، وأجهزة الظلم والإرهاب، لا نملك الفضائيات ولا الانترنيت ولا وسائل القوة، ولكننا نملك، أو نستطيع أن نملك المرأة الفاطمية، والمرأة الزينبية، وهي السلاح الأخير والأساسي حقاً.
وهذا يعني أن المرأة الفاطمية والزينبية حينما تعمد تربية أطفالها يستطيع أطفالها في يوم غد أن يقولوا لا للفضائيات ولا للانترنيت ولا للشهوات والمخدرات والإرهاب.
وأنتِ أيتها المرأة عليكِ أن تعتقدي بأن مسؤوليتك أكبر مما تتصورين، وأنتِ كبنتِ ستصبحين -بتوفيق الله- أماً كفاطمة الزهراء في أخلاقك وأما كزينب في تربيتك، وأمّا كأمهاتنا السابقات اللاتي ربّين هذه الأجيال المؤمنة.
إن الهدف الأول هو تربية جيل الكرامة وذلك منذ أن تحس المرأة بحملها، وظل ضمن قانون العزة والاحترام للجنين، كعدم تعريض نفسها لدخان السجائر وبأية طريقة كانت، استخدام الأساليب التي توفر الراحة الجسدية والنفسية له، وعدم جعل البيوت ملاجئ للشياطين عبر الاستماع إلى الأغاني والموسيقى، والاستعاضة عنها بالاستماع الدؤوب إلى أشرطة القرآن الكريم وصوت الأذان والأناشيد الدينية، لأن من شأن هذه كلها الانطباع في قلب الطفل منذ نعومة أظفاره.
ثم هناك أسلوب آخر في ضمان تربية الجيل تربية سليمة وكريمة عبر زرع مبادئ الأخلاق الطيبة والحب في نفوسهم، فنحن نزرع الحب وأنفسهم وقلوبهم اليوم لنحصد العاطفة غداً، فهذا الحب سيتحول إلى خلق رفيع إن شاء الله في سلوكياتهم.
إن أطفالنا في هذا الزمن بالذات بحاجة إلى حب وحنان وعاطفة لكي ينظر إلى الحياة نظرة إيجابية أكثر مما يحتاج إلى الخادمة، لن الخادمة عاجزة النظر لغير المال والمنفعة المادية، إذن فالخادمة التايلندية ليست كالأم المسلمة، إذ في نبرات هذه الأخيرة ولمحاتها وتقاسيم وجهها وفي كل شيء منها عاطفة جياشة تجاه وليدها.
إن الواجب الشرعي يحتم على الأمم دراسة طرق التربية السليمة بكافة أبعادها، ومنها أن تحافظ الأم على سلامة نفسها وتصفية مشاكلها النفسية والخلقية لكي يتمتع الطفل بأجواء الصحة النفسية والجسدية بالقدر الممكن.
أما القضية الأخيرة؛ فهي توفير عوامل وأسباب السعادة والرفاه للطفل المسلم، فمن اللازم اصطحابه إلى المناطق الجميلة والجذابة، فهذه من شأنها التأثير الإيجابي على روحه اللطيفة فتخلق فيها السعادة والانتعاش والراحة.
فهذه أمور أربعة: الكرامة، ومعها الثقة والحب، ومعها الخلق الرفيع والصحة، ومعها السعادة والرفاه.
أما كيفية تطبيق هذه الأمور والخطوط الأربعة في مجتمعنا فتتلخص بعدم الضرورة إلى استخدام المناهج الجاهزة، بمعنى أن أساليب التربية المعروضة في الجرائد والمجلات وغيرهما، عبارة عن مواضيع غربية مترجمة لمناهج لا تتناسب - في معظم مجالاتها - واحتياجات المجتمع المسلم، المجتمع الذي هو بحاجة إلى تجارب أخرى أكثر جدية، ونظير هذا ما تجده المرأة المسلمة من طبخات خاصة في كتيبات المطابخ المعنية بتهيئة وجبات لا يحبذها الرجال المسلمون لدينا، تبعاً للتفاوت الحاصل في الأذواق، كذلك هي البرامج التربوية الجاهزة والمستوردة.
وإنني في هذا المجال أوصي أخواتي المؤمنات قراءة آية النور المباركة بصورة دقيقة ثم التدبر في قول الله تعالى بعد ذلك: )فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَار( (النور/36-37)
حيث يشير الله سبحانه وتعالى إلى أن محور هذه البيوت - حسب تفسير أهل البيت - هو الأم المؤمنة ، نظراً لأن هذه الآية المباركة نزلت أساساً في أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وخصوصاً في سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، وهذا البيت النبوي الكريم إنما أراد الله له أن يكون نموذجاً صالحاً لكل بيت مسلم.
إن بيت الزهراء كان بيت العفة والعلم والزهد والتقوى والأخلاق الرفيعة، والمطلوب من الأمهات أن يعكفن على توفير مثل هذا البيت العظيم فيصبحن مقلدات صالحات لسيدتهن ومولاتهن الزهراء سلام الله عليها، فيطردن الشيطان ووساوسه ووسائله من بيوتهن، أو لتسع كل واحدة من الأمهات لدينا أن يحولن غرفة واحدة من غرف بيوتهن إلى غرفة ورع وإيمان ويسمينها باسم الزهراء، فيكون فيها القرآن والذكر ومجلس الوعظ.
اعتقد أنه من الممكن جداً أن تعمد الأمر إلى جمع أطفالها صباح كل يوم لتقرأ ويقرؤون كتاب الله ولو لمدة قصيرة قبيل ذهابهم إلى المدرسة مثلاً. وأنه من الممكن حمل الأطفال وتعويدهم على قول كلمة البسملة الشريفة قبيل تناولهم لوجبة الطعام، وأنه من البسيط جداً أن تحبب الأم إلى أطفالها تخصيص مدة قصيرة من نهارهم أو ليلهم في مطالعة جزءٍ من أجزاء قصة أحد الأنبياء، أو قراءة بعض الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام، وإضفاء مسحة خفيفة من التفسير المناسب لأعمارهم عليها…
إن القضية برمتها بحاجة إلى شيء من الاهتمام المدروس والمتواصل، من قبل الوالدين، والأم خصوصاً حتى يتحول البيت إلى بيت ينزل إليه نور السماء والرحمة الإلهية، ويرفع منه ذكر الله، وتقام فيه الصلاة كل حين، وإذا ذاك يمكن التوقع بأن أطفال هذا البيت سيكونون رجالاً في الغد القريب، ممن لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل، فيتحولون حقاً إلى قادة المستقبل.
وها أناذا يملؤني الاعتقاد بأننا يجب أن نعيد النظر في قواعد وأساليب تثقيف بناتنا، أي أمهات المستقبل، وأنا أدعو إلى وضع برامج مكثفة ومركزة ومرتبة ومستمرة لمن بلغن مرحلة الزواج لمعرفة أصول التربية والتعاليم الدينية فيما يخص الإدارة المنزلية، وذلك كله إلى جانب المنهج المدرس المعتاد.. وإلا فلا معنى أبداً لأن تتقن البنت علم الفيزياء والكيمياء والجغرافيا وغير ذلك من العلوم، في وقت تجهل أو تغفل عن واجبها الإنساني الأول وهو تربية الأطفال وفق الأصول القرآنية والإسلامية عموماً... فجهلها بأصول التربية يجعل أولادها عرضة دائمة للوقوع في أسر المشاكل النفسية والفكرية والجسدية، وبالتالي ستكون شريكة مباشرة في كل ما يرتكبونه من أخطاء وذنوب في طيلة حياتهم..
وعلى جذوة القول إن الأم مسؤولة كل المسؤولية عن تحويل بيتها إلى حصن حصين لاولادها ليمنعهم عن الوقوع في شرك شبكات الفساد المنتشرة بكثرة في بلداننا المسلمة في جهة، وإلى تعليمهم فرائض دينهم وفق الأساليب الأكثر جدية، كي يتحولوا في المستقبل القريب إلى أشخاص صالحين وقادة أفذاذ…
نسأل الله تبارك اسمه أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلنا ممن ينتصر لهم لدينه، وألا يستبدل بنا غيرنا، وأن يجعل عاقبة أمورنا الحسنى، إنه ولي التوفيق.
وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
نتقوول بتصرف:كلمة سماحة آية الله السيد المدرسي