ليلة القبض على الفأرة
لم يكن أبو راضي بمثابة الجندي المجهول بل كان جميع سكان البناية رقم 21 و البنايات المجاورة يعلمون أنه هو الذي يقوم بكل الاعمال التي تجعل كل واحد منهم قادر على الاستمرار في الحياة، بدءًُ من تنظيف السلالم و التسوق و انتهاءً بالحراسة و التصدي للباعة المتجولين و الغرباء.
كان الجميع مرتاحا و راضياً بأداء أبو راضي حيث لم يشتك أحد منه منذ أمد بعيد، حتى حلت تلك الليلة المشؤومة عندما أجبرته فأرة المستودع على ترك عمله في خدمة حفنة من الكهول و الاطفال.
كانت ليلة شتائية قارسة البرودة ،و لربما تخلل البرد زخات المطر الهاطل بكثافة طوال الليل و حتى ساعات الفجر الاولى، و لأن الجو كان بارداً و الطرق زلقة و فائضة بالمياه من كل جانب ،فقد التزم السكان جميعاً شققهم و بينما التزم المتزوجون منهم أسرتهم اكتفى العزاب بمشاهدة التلفاز أو التسكع في متاهات الانترنت.
و عندما استمع ابو راضي لأول مرة للضجة المزعجة الصادرة عن جهة المستودعات كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحاً و كان معظم السكان في غيبوبة النوم ،استنفر ابو راضي أذنيه و امعن السمع في محاولة لمعرفة كنه الصوت و تحديد مصدره ، و بعد لحظات هرع من فراشه باتجاه السرداب حيث المستودعات الى يمين غرفته، خطى ببطئ منتظراً صدور الصوت مرة أخرى ليتمكن من تحديد المصدر بدقة، تقدم بحذر ،و فجأة صدر الضجيج مجدداً ، ابتسم ابو راضي كصياد حذق اصطاد فريسته للتو، التفت الى المستودع الرابع في الجهة اليسرى الذي يحمل الرقم 8 و توقف قبالته للحظة، استخرج حزمة المفاتيح الثقيلة من كيس معلق الى خاصرته و قلبها لهنيهة بين يديه حتى عثر على المفتاح المطلوب، ادخل المفتاح في القفل و أداره ببطئ ، فتح الباب فأصدر صريرا جعل الفأرة في الداخل تتحرك فزعة مختبأة بين أكوام الاثاث المتروك في المستودع.
هنا تنهد ابو راضي بارتياح و حدث نفسه بأنه مجرد فأر يستطيع تأجيل أمر القضاء عليه حتى الصباح، خطى خطوتين الى الخلف ،اغلق الباب بسرعة و عاد أدراجه الى غرفته التي تغزوها الرطوبة ، اندس في فراشه الهزيل و نام مطمئنا الى الغد.
قبل بزوغ خيوط الفجر الاولى بقليل أحضر أبو راضي (المسحاة) التي يستخدمها عادة في القضاء على القوارض و الحشرات ،تقدم ببطئ في الممر الضيق و توقف امام باب المستودع رقم 8، أخرج حزمة المفاتيح من الكيس و أدار المفتاح في القفل بكل ثقة ، أصدر الباب صريره المزعج و تحركت الفأرة مذعورة –يبدو انها لم تنم ليلتها- خطى ابو راضي الى الداخل و أغلق الباب، بدء بإزالة قطع الاثاث المتراكمة ، لم تعد الفأرة تصدر صوتاً أو ضجيجاً بينما كان أبو راضي واثقاً من النصر، لم يجدها في الركن الاول و لا الثاني لذا كان مضطراً لاعادة كل شئ الى مكانه و البدء بتفتيش الجهة المقابلة، فعل هذا بسرعة و عزم لكنه لم يجدها في الركن الى يمين الباب ، لم يبق سوى احتمال واحد أو ركن واحد بالاحرى، ازال كل شئ ببطئ هذه المرة ، و أخيراً عثر عليها، و بحركة واحدة انقض عليها بالمسحاة و بكل ما أوتي من قوة لكنه لم يجد سوى الارض ، و لقوة الضربة انكسر قضيب المسحاة و قطعة من البلاط القديم الذي يغطي أرض المستودع.
نظر لبرهة الى سلاحه المكسور ثم القاه ارضا ، اشهر يديه في الهواء كمن يشهر مدفعا رشاشا في وجه عدو غامض، ركع على ركبتيه و انقض عليها بسرعة، امسك بجسم الفأرة القزم لكنها
و بحركة مفاجئة لوت عنقها و عضت أصبعة بضراوة برية مذعورة، قضمته فتركها لتركض مسرعة الى خارج المستودع ثم الى الشارع بجسمها الهزيل و سرعتها الخائفة.
نظر الى دفقات الدم الحارة تسيل من أصبعه السبابة و لم يصدق ما جرى، كان الدم يسيل بغزارة
و أحس به حاراً ، تلفت ثم خرج الى المرآب، كان الصبح قد بزغ منذ أمد و السيارات بدأت بالتحرك.
****
في ذلك النهار عندما علم السكان بأن فأرة قذرة قد عضت أبو راضي في كفه و أسالت دمه كانت تلك العضه قد تحولت الى ورم ضخم بنفسجي اللون، ولم يستطع أحد من السكان ان يصمد امام منظره "المقزز" لأكثر من نصف دقيقة ، هرب الجميع من امامه و تجنبه بعضهم خوفاً أو تقززاً.
فجاة لم يعد أحد بحاجة لخدمات ابو راضي و لم يعد يطيق سماع صوته أو رؤية سحنته، العجوزان في الطابق الاول انهالا عليه بالشتائم و كادا يضربانه ، ابو ربيع المعلم بالمدرسة الابتدائية المجاورة أبعده بمقدم حذائه و أغلق الباب بغضب ، و لم يتنازل احد السكان بالحديث اليه طيلة النهار و لم يتجرأ أحدهم على مصافحته ،حتى الاطفال هربو من الرجل صائحين "ها هو الرجل الفأرة ".
لم يتعاطف مع قضية أبو راضي سوى الشابان سامي وعامر الطالبين الساكنين في الطابق الرابع، كان الوقت قرابة الغروب عندما قررا اخذه الى المستشفى ،فرشا له شرشفا متسخاً أتيا به من المستودع في صندوق السيارة لئلا يلوث المقاعد، في المستشفى اجرت اللازم ممرضة فضة و متجهمة ثم تركت الشابين مع ابو راضي في الغرفة البيضاء، تبادل سامي و عامر النظرات بصورة تآمرية و لم تمضي بضعة ثواني حتى انسلا الى خارج الغرفة و أغلقا الباب برفق و بمنتهى الخفة غادرا المستشفى الى السيارة و انطلقا بأقصى سرعة ممكنة بعيدأ عن المكان كمن يلقي كلباً أجرباً في العراء و يولي هارباً الى منزله.
آزاد اسكندر