الكرخي - أفكار خاطئة للدكتور النجار عن عصمة الأنبياء- التعقيب 2-2
كتابات - د.كامل النجار
كان السيد الكرخي قد اعترض على حديث أوردناه عن عائشة وقال إنها لم تكن حاضرة وقت الحدث لصغر سنها، وعندما اعترضنا على ذلك بقولنا أن ابن عباس لم يكن حاضراً في أغلب المناسبات التي روى عنها أحاديثاً لصغر سنه عندما مات النبي، رد علينا الكرخي بقوله: " فما هو وجه إعتراض الدكتور النجار في إعمالنا قواعد البحث العلمي ، فنحقق كل رواية قبل قبولها ! وحتى لو سقطت عشرات الأحاديث عن الإعتبار ، فإذا كان الحق هو في عدم إعتبارها فلماذا نهتم لأي شخص يريد خلاف ذلك نتيجة أتباع هوى. " وطبعاً وجه الغرابة هنا أن أكثر من تسعين بالمائة من الأحاديث التي يرويها السنة ترجع إلى ابن عباس. فلو طبقنا شرط السيد الكرخي لانتفت تسعين بالمائة من الأحاديث التي بين أيدينا، غير التي ضعفها البخاري وغيرة، وهي تمثل نسبة 99 بالمائة، ووقتها نكون قد هدمنا السنة بكاملها، وهو أمر محبب إلى نفوس عدد كبير من المسلمين الذين يرون الرجوع إلى القرآن فقط كمصدر للإسلام.
وعندما قلنا إن النبي قد أخطأ حين أعرض عن الأعمى وأتينا بحديث أورده السيوطي، رد علينا الكرخي بقوله: " وأما ما نقله الدكتور النجار عن السيوطي فيشمله ما ذكرناه آنفاً من عدم صحة تلك القواعد المذكورة ، فضلاً عن أن قتادة الذي ينقل عنه السيوطي هو من التابعين أي لم يكن معاصراً لزمن الأحداث فلا تقبل شهادته إلا بروايته عمن عاصرها وذلك بفرض وثاقته ، وهو لم يفعل ذلك بحسب ما نقله الدكتور النجار ، وكذلك فقد قال أبن حبان عن قتادة أنه كان مدلساً ، وقال الحاكم في علوم الحديث : لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس ، وقد ذكر أبن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك ، وقال أبو داود : حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم ، وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن : سمعت علي أبن المديني يضعف أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب تضعيفاً شديداً ، فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! "
دعونا نقرأ ما قال الآخرون عن قتادة، فقد قال سعيد بن المسيب: " ما أتاني عراقي أحسن من قتادة " وقال بكير عن عبد الله المزني: " ما رأيت الذي هو أحفظ منه ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه " وقال ابن سيرين: " قتادة هو أحفظ الناس " وقال شعبة: " حدثت سفيان بحديث عن قتادة فقال لي: وكان في الدنيا مثل قتادة ؟ " وقال معمر: " قلت للزهري: أقتادة أعلم عندك أم مكحول، قال لا بل قتادة " وقال أبو داود في السنن: " قتادة لم يسمع من أبي رافع، كأنه يعني حديثاً مخصوصاً، وإلا فعن صحيح البخاري تصريح بالسماع منه " (كل الأقوال هذه من تهذيب التهذيب للعسقلاني)
ثم لما تعرضنا لحادث تلقيح النخيل وروينا حديثاً عن ابن ماجة فيه اسم سماك قال الكرخي: " فأما سماك فهو سماك بن حرب وقد قال أبو طالب عن أحمد أنه مضطرب الحديث ، وكان شعبة يضعفه ، وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه ، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء." فأي اعتراض هذا الذي اعترض به السيد الكرخي عندما يقول: " وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه " فابن عمار لم يضعّف الرجل إنما روى أنه سمع أنهم يُضعفونه، وهذه طبعاً شهادة سماعية لا يُعترف بها. وقد قمت ببحثٍ طويل في عدة مراجع للحديث فعثرت على 366 حديثاً لسماك بن حرب في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ومختصر التفسير لابن كثير، والمستدرك على الصحيحين للإمام محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، وسنن ابن ماجة وسنن ابن داود وصحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير، ولم أجد أحداً منهم يُضعّف الرجل.
واستمر الكرخي فقال: " واما موسى بن طلحة بن عبيد الله فهو ممن شهد معركة الجمل مع أبيه طلحة بن عبيد الله ، فهو على هذا التقدير من النواصب ، وهنا يبرز سبب روايته هو وأباه مثل هذا الحديث فمن المعلوم أن طلحة هو ممن خالف بيعة الغدير وتذرعوا لهذه المخالفة بذرائع واهية ، وأبنه موسى قد وافقه وحارب معه الإمام علي عليه السلام ، فهناك مصلحة لهما في إشاعة مثل هذه الأحاديث بين الناس ليقولوا للناس أن تنصيب الخليفة هو من شؤون الناس وليس من شأن النبي (صلى الله عليه وآله) ، كل ذلك من أجل سلب أهل البيت عليهم السلام حقهم في الخلافة "
فموسى بن طلحة يُعتبر من النواصب ولا يُعتمد حديثه لأنه خرج في جيش عائشة وطلحة ضد علي بن أبي طالب، فهو من النواصب. أي منطق علمي هذا والسيد الكرخي دائما يحتج بالمنطق والعقل والبحوث العلمية ؟
وأسهب السيد الكرخي في تعقيبه على حادثة خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر عنها زوجها فاشتكت للنبي، فقال لها " حرمت عليه ". فالسيد الكرخي أعاد كل ما ذكرته أنا في مقالي ثم أضاف إليه كل ما قاله القرطبي عن الحادثة، فملأ صفحتين ونصفاً دون أن يضيف جديداً. ولكنه قال: " وبذلك يجد القاريء الكريم أن الدكتور النجار يتّبع أسلوباً إنتقائياً للروايات التأريخية ، فالقرطبي قد ذكر روايتين في الأولى يقول لها النبي (صلى الله عليه وآله) : (فقال لها : ( حرمت عليه ) ، وفي الثانية يقول لها النبي (صلى الله عليه وآله) : ( ما أوحى إلي في هذا شئ ) وهي موافقة لرواية البيهقي التي ذكرناها في مقالنا السابق حول هذا الموضوع ، لكن الدكتور النجار فضّل ذكر الرواية الأولى دون الإشارة للرواية الثانية لأنه ظنَّ أن ذكرها وحدها يخدم أغراضه ويدعم فكرته في البحث المذكور "
وفي الواقع أن ما ذكره السيد الكرخي في تعقيبه السابق كان" : ، ووجدنا أن ما نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أنه قال (حرمتِ عليه) يعارضه ما ذكره البيهقي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول لها : (أتقي الله فإنه زوجك وأبن عمك) ، وفي رواية أخرى قال النبي (صلى الله عليه وآله) : (يا خويلة ما امرنا في امرك بشئ فانزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خويلة أبشرى قالت خيرا قال خيرا فقرأ عليها قوله تعالى (( قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله ) الآيات )) ). فسوف يرى القارئ هنا أن الرواية الأولى التي رواها السيد الكرخي وقول النبي لها " اتقي الله فإنه زوجك وابن عمك " تختلف عن روايته الثانية حتى إذا أخذنا في الاعتبار قوله " يا خويلة ما أمرنا في أمرك بشئ ". فهذا الاختلاف إن دل على شئ إنما يدل على أن الأحاديث المنسوبة للنبي لا يمكن الاعتماد عليها لتفاوت الروايات في أي حديث أخذنا.
ثم استمر السيد الكرخي في تعقيبه على نفس الحادثة فقال: " ويبدو أن الدكتور النجار قد فاته فهم قول القرطبي جيداً ، لأن القرطبي قال كما نقل الدكتور النجار عنه : (قال: (فأطعم ستين مسكينا) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم) ، مما يعني أن ذلك الزوج قد أدى ما بذمته من كفارة فأطعم ستين مسكيناً ، وليس كما ذكر الدكتور النجار بقوله : (فالذي لا يستطيع أن يقوم بأي من الشروط التي فرضها الله يستطيع أن يرجع إلى زوجته. " وفي الواقع أن اختلاف القصص في إطعام المساكين يجعل ما قلناه صحيحاً، ففي بعض الروايات أن النبي أعانه بعرق من التمر وكذلك فعلت زوجته وأطعمت هي المساكين. فالقصة كما وردت في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي تقول: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريه فليعتق رقبة قلت يا رسول الله: ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بعرق من تمر، قلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال: فقد أصبتِ وأحسنتِ فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا. قالت: ففعلت. " فالرجل هنا لم يفعل شيئاً سوى أنه رجع لمجامعة زوجته، وهو ما قلنا به.
وسوف ننظر الآن إلى اسلوب السيد الكرخي الذي يدعي أنه أسلوب علمي عندما عقّب على قولنا في الآيات الشيطانية " الغرانيق العلى " فهو يقول: " وكان يفترض بالدكتور النجار أن يقرأ تفاسير المسلمين ويتعمق في دراستها قبل ان يستشهد برواية لا يعرف مدى صحتها ، فما نقله من حديث الغرانيق قد أستفاض الرد عليه من قبل العلماء الشيعة في كتبهم ، ولو كان الدكتور النجار يبحث عن حقيقة الأمر وليس التشنيع لراجع ما كتبوا قبل أن يصدر حكماً خاطئاًً حول عدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولنلق الآن نظرة فيها شيء من التفصيل على بعض ما كتبه علماء الشيعة حول هذه المسألة ، ولنبين للقاريء بعض أقوال علماء الشيعة حيث أنه يناقش مسألة العصمة من منظورهم لا سيما عصمة الأئمة عليهم السلام بالإضافة لعصمة النبي (صلى الله عليه وآله) :
ـ قال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان : { وقال البلخي : ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما فلما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسوس بهما إليه الشيطان ، وألقاهما في فكره ، فكاد أن يجريهما على لسانه ، فعصمه الله ، ونبهه ، ونسخ وسواس الشيطان ، وأحكم آياته ، بأن قرأها النبي صلى الله عليه وآله محكمة سليمة مما أراد الشيطان . ويحوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله حين اجتمع إليه القوم ، واقترحوا عليه أن يترك ذكر آلهتهم بالسوء ، أقبل عليهم يعظهم ويدعوهم إلى الله ، فلما انتهى رسول الله إلى ذكر اللات والعزى . قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بها صوته ، فالقاهما في تلاوته في غمار من القوم وكثرة لغطهم ، فظن الكفار ان ذلك من قول النبي ، فسجدوا عند ذلك } .
ـ قال الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان : { فالمعنى : إن من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه ، حرفوا عليه ، وزادوا فيما يقوله ، ونقصوا ، كما فعلت اليهود ، وأضاف ذلك إلى الشيطان ، لأنه يقع بغروره ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) أي : يزيله ويدحضه بظهور حججه . وخرج هذا على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كذب المشركون عليه ، وأضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ، ما لم يكن فيها ، وإن كان المراد تمني القلب فالوجه أن الرسول متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور ، وسوس إليه الشيطان بالباطل ، يدعوه إليه ، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان ، وترك استماع غروره " انتهى ما نقل الكرخي.
فإذا كان النبي قد سمع الكلمتين من قومه وحفظهما فهما في عقله الباطن Subconscious ولا حاجة للشيطان ليلقي بهما إليه. وقوله " فكاد أن يجريهما على لسانه " قول فيه عدم نزاهة إذ أن كل الحاضرين سمعوه ينطق بهما ولذلك وافقوا على اتباعه. ولم ينسخها الله إلا في اليوم التالي عندما تنبه النبي لما قال وربما عاتبه ضميره على ما قال ليكسب تأييد القوم. والقرآن نفسه يقول " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يُحكّم الله آياته " فالقرآن هنا يعترف أن الشيطان قد ألقى إليه فنسخ الله ما ألقى الشيطان. وأما اللف والدوران وقولهم يجوز أن يكون الشيطان قد نطق بالكلمتين وظن الحضور أن النبي قد نطق بهما فقول لا يمت للمنطق أو العلم بصلة. فإذا كان السيد الكرخي يحب أن يناقش الأمور بمنطق علمي فعليه أن يأتي لنا بحجج علمية منطقية وليس بقول الفقهاء الشيعيين من يجوز ولا يجوز.
ثم قال السيد الكرخي: " وقيل : إن المراد بالغرانيق . الملائكة ، وقد جاء ذلك في بعض الحديث ، فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم . وقيل : إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة ، فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم ، نسخت تلاوته " ولكن مثل هذا القول قد يؤدي إلى فقدان اللغة قيمتها كأداة للمخاطبة بين الناس، إذ أن الإنسان يحفظ الكلمات ومعانيها عندما يتعلم الكلام وهو طفل صغير، وتظل كل كلمة تعني شيئاً مفهوماً لا يتغير. فلا يمكن أن أخبر الطفل أن كلمة " أسد " تعني حيواناً مفترساً بعينه ونريه صورة الأسد، ثم إذا اضطرتنا الظروف يوماً نقول لهذا الطفل كلمة " أسد " تعني " نعامة ". فالملائكة باستثناء جبريل وإسرافيل وبقة الذين لهم أسماء معينة يرمز إليهم القرآن دائماً بكلمة " الملائكة " فمن أين أتى العلماء الشيعة بفكرة أن الغرانيق تعني الملائكة. فإذا نظرنا في القاموس المحيط للإمام الفيروز آبادي نجد: غرنوق وغرانيق: الذي يكون في أصل العوسج اللين النبات، وجمعها غرانيق. والغرنق وادٍ لبني سليم. والغرانيق والغرانقة: الخصلة من الشعر المفتولة. الغُرنيق (بالضم) أو الغُرنوق: الكركي أو طائر يشبهه. وشاب غُرانق (بالضم) كعلابط: تام. الغُرنوق: طائر مائي أسود وقيل أبيض. الغُرنيق (بالضم): الشاب الأبيض الجميل. الغرانيق العلى: الأصنام وهي في الأصل الذكور من طير الماء، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع."
أما لسان العرب لابن منظور فيقول: " الغرانيق: نبات الماء وشبان الرجال " فليس هناك أي ذكر للملائكة أو الشياطين.
وملاحظة أخيرة: قال السيد الكرخي عن قتادة أنه مدلس وكذاب وكان يروي الحديث عن أناس لم يسمع منهم، وتساءل: " فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! "
ثم قال في آخر مقاله: " حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ، وعلى غفلة ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قيل : إنه عذاب يوم بدر ، عن قتادة ومجاهد. " فإذا لم نقبل حديث قتادة لكذبه وتدليسه، هل يمكن أن نقبل تفسيره للقرآن ؟ فكيف سمح السيد الكرخي لنفسه أن يستشهد برجل كذاب ومدلس ؟
وبهذا القدر نكتفي.
كتابات - د.كامل النجار
كان السيد الكرخي قد اعترض على حديث أوردناه عن عائشة وقال إنها لم تكن حاضرة وقت الحدث لصغر سنها، وعندما اعترضنا على ذلك بقولنا أن ابن عباس لم يكن حاضراً في أغلب المناسبات التي روى عنها أحاديثاً لصغر سنه عندما مات النبي، رد علينا الكرخي بقوله: " فما هو وجه إعتراض الدكتور النجار في إعمالنا قواعد البحث العلمي ، فنحقق كل رواية قبل قبولها ! وحتى لو سقطت عشرات الأحاديث عن الإعتبار ، فإذا كان الحق هو في عدم إعتبارها فلماذا نهتم لأي شخص يريد خلاف ذلك نتيجة أتباع هوى. " وطبعاً وجه الغرابة هنا أن أكثر من تسعين بالمائة من الأحاديث التي يرويها السنة ترجع إلى ابن عباس. فلو طبقنا شرط السيد الكرخي لانتفت تسعين بالمائة من الأحاديث التي بين أيدينا، غير التي ضعفها البخاري وغيرة، وهي تمثل نسبة 99 بالمائة، ووقتها نكون قد هدمنا السنة بكاملها، وهو أمر محبب إلى نفوس عدد كبير من المسلمين الذين يرون الرجوع إلى القرآن فقط كمصدر للإسلام.
وعندما قلنا إن النبي قد أخطأ حين أعرض عن الأعمى وأتينا بحديث أورده السيوطي، رد علينا الكرخي بقوله: " وأما ما نقله الدكتور النجار عن السيوطي فيشمله ما ذكرناه آنفاً من عدم صحة تلك القواعد المذكورة ، فضلاً عن أن قتادة الذي ينقل عنه السيوطي هو من التابعين أي لم يكن معاصراً لزمن الأحداث فلا تقبل شهادته إلا بروايته عمن عاصرها وذلك بفرض وثاقته ، وهو لم يفعل ذلك بحسب ما نقله الدكتور النجار ، وكذلك فقد قال أبن حبان عن قتادة أنه كان مدلساً ، وقال الحاكم في علوم الحديث : لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس ، وقد ذكر أبن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك ، وقال أبو داود : حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم ، وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن : سمعت علي أبن المديني يضعف أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب تضعيفاً شديداً ، فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! "
دعونا نقرأ ما قال الآخرون عن قتادة، فقد قال سعيد بن المسيب: " ما أتاني عراقي أحسن من قتادة " وقال بكير عن عبد الله المزني: " ما رأيت الذي هو أحفظ منه ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه " وقال ابن سيرين: " قتادة هو أحفظ الناس " وقال شعبة: " حدثت سفيان بحديث عن قتادة فقال لي: وكان في الدنيا مثل قتادة ؟ " وقال معمر: " قلت للزهري: أقتادة أعلم عندك أم مكحول، قال لا بل قتادة " وقال أبو داود في السنن: " قتادة لم يسمع من أبي رافع، كأنه يعني حديثاً مخصوصاً، وإلا فعن صحيح البخاري تصريح بالسماع منه " (كل الأقوال هذه من تهذيب التهذيب للعسقلاني)
ثم لما تعرضنا لحادث تلقيح النخيل وروينا حديثاً عن ابن ماجة فيه اسم سماك قال الكرخي: " فأما سماك فهو سماك بن حرب وقد قال أبو طالب عن أحمد أنه مضطرب الحديث ، وكان شعبة يضعفه ، وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه ، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء." فأي اعتراض هذا الذي اعترض به السيد الكرخي عندما يقول: " وقال أبن عمار : يقولون أنه كان يغلط ويختلفون في حديثه " فابن عمار لم يضعّف الرجل إنما روى أنه سمع أنهم يُضعفونه، وهذه طبعاً شهادة سماعية لا يُعترف بها. وقد قمت ببحثٍ طويل في عدة مراجع للحديث فعثرت على 366 حديثاً لسماك بن حرب في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ومختصر التفسير لابن كثير، والمستدرك على الصحيحين للإمام محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، وسنن ابن ماجة وسنن ابن داود وصحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير، ولم أجد أحداً منهم يُضعّف الرجل.
واستمر الكرخي فقال: " واما موسى بن طلحة بن عبيد الله فهو ممن شهد معركة الجمل مع أبيه طلحة بن عبيد الله ، فهو على هذا التقدير من النواصب ، وهنا يبرز سبب روايته هو وأباه مثل هذا الحديث فمن المعلوم أن طلحة هو ممن خالف بيعة الغدير وتذرعوا لهذه المخالفة بذرائع واهية ، وأبنه موسى قد وافقه وحارب معه الإمام علي عليه السلام ، فهناك مصلحة لهما في إشاعة مثل هذه الأحاديث بين الناس ليقولوا للناس أن تنصيب الخليفة هو من شؤون الناس وليس من شأن النبي (صلى الله عليه وآله) ، كل ذلك من أجل سلب أهل البيت عليهم السلام حقهم في الخلافة "
فموسى بن طلحة يُعتبر من النواصب ولا يُعتمد حديثه لأنه خرج في جيش عائشة وطلحة ضد علي بن أبي طالب، فهو من النواصب. أي منطق علمي هذا والسيد الكرخي دائما يحتج بالمنطق والعقل والبحوث العلمية ؟
وأسهب السيد الكرخي في تعقيبه على حادثة خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر عنها زوجها فاشتكت للنبي، فقال لها " حرمت عليه ". فالسيد الكرخي أعاد كل ما ذكرته أنا في مقالي ثم أضاف إليه كل ما قاله القرطبي عن الحادثة، فملأ صفحتين ونصفاً دون أن يضيف جديداً. ولكنه قال: " وبذلك يجد القاريء الكريم أن الدكتور النجار يتّبع أسلوباً إنتقائياً للروايات التأريخية ، فالقرطبي قد ذكر روايتين في الأولى يقول لها النبي (صلى الله عليه وآله) : (فقال لها : ( حرمت عليه ) ، وفي الثانية يقول لها النبي (صلى الله عليه وآله) : ( ما أوحى إلي في هذا شئ ) وهي موافقة لرواية البيهقي التي ذكرناها في مقالنا السابق حول هذا الموضوع ، لكن الدكتور النجار فضّل ذكر الرواية الأولى دون الإشارة للرواية الثانية لأنه ظنَّ أن ذكرها وحدها يخدم أغراضه ويدعم فكرته في البحث المذكور "
وفي الواقع أن ما ذكره السيد الكرخي في تعقيبه السابق كان" : ، ووجدنا أن ما نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أنه قال (حرمتِ عليه) يعارضه ما ذكره البيهقي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول لها : (أتقي الله فإنه زوجك وأبن عمك) ، وفي رواية أخرى قال النبي (صلى الله عليه وآله) : (يا خويلة ما امرنا في امرك بشئ فانزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خويلة أبشرى قالت خيرا قال خيرا فقرأ عليها قوله تعالى (( قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله ) الآيات )) ). فسوف يرى القارئ هنا أن الرواية الأولى التي رواها السيد الكرخي وقول النبي لها " اتقي الله فإنه زوجك وابن عمك " تختلف عن روايته الثانية حتى إذا أخذنا في الاعتبار قوله " يا خويلة ما أمرنا في أمرك بشئ ". فهذا الاختلاف إن دل على شئ إنما يدل على أن الأحاديث المنسوبة للنبي لا يمكن الاعتماد عليها لتفاوت الروايات في أي حديث أخذنا.
ثم استمر السيد الكرخي في تعقيبه على نفس الحادثة فقال: " ويبدو أن الدكتور النجار قد فاته فهم قول القرطبي جيداً ، لأن القرطبي قال كما نقل الدكتور النجار عنه : (قال: (فأطعم ستين مسكينا) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم) ، مما يعني أن ذلك الزوج قد أدى ما بذمته من كفارة فأطعم ستين مسكيناً ، وليس كما ذكر الدكتور النجار بقوله : (فالذي لا يستطيع أن يقوم بأي من الشروط التي فرضها الله يستطيع أن يرجع إلى زوجته. " وفي الواقع أن اختلاف القصص في إطعام المساكين يجعل ما قلناه صحيحاً، ففي بعض الروايات أن النبي أعانه بعرق من التمر وكذلك فعلت زوجته وأطعمت هي المساكين. فالقصة كما وردت في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي تقول: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مريه فليعتق رقبة قلت يا رسول الله: ما عنده ما يعتق، قال: فليصم شهرين متتابعين، قلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، قلت: والله ما ذاك عنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بعرق من تمر، قلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال: فقد أصبتِ وأحسنتِ فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا. قالت: ففعلت. " فالرجل هنا لم يفعل شيئاً سوى أنه رجع لمجامعة زوجته، وهو ما قلنا به.
وسوف ننظر الآن إلى اسلوب السيد الكرخي الذي يدعي أنه أسلوب علمي عندما عقّب على قولنا في الآيات الشيطانية " الغرانيق العلى " فهو يقول: " وكان يفترض بالدكتور النجار أن يقرأ تفاسير المسلمين ويتعمق في دراستها قبل ان يستشهد برواية لا يعرف مدى صحتها ، فما نقله من حديث الغرانيق قد أستفاض الرد عليه من قبل العلماء الشيعة في كتبهم ، ولو كان الدكتور النجار يبحث عن حقيقة الأمر وليس التشنيع لراجع ما كتبوا قبل أن يصدر حكماً خاطئاًً حول عدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ، ولنلق الآن نظرة فيها شيء من التفصيل على بعض ما كتبه علماء الشيعة حول هذه المسألة ، ولنبين للقاريء بعض أقوال علماء الشيعة حيث أنه يناقش مسألة العصمة من منظورهم لا سيما عصمة الأئمة عليهم السلام بالإضافة لعصمة النبي (صلى الله عليه وآله) :
ـ قال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان : { وقال البلخي : ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما فلما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسوس بهما إليه الشيطان ، وألقاهما في فكره ، فكاد أن يجريهما على لسانه ، فعصمه الله ، ونبهه ، ونسخ وسواس الشيطان ، وأحكم آياته ، بأن قرأها النبي صلى الله عليه وآله محكمة سليمة مما أراد الشيطان . ويحوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله حين اجتمع إليه القوم ، واقترحوا عليه أن يترك ذكر آلهتهم بالسوء ، أقبل عليهم يعظهم ويدعوهم إلى الله ، فلما انتهى رسول الله إلى ذكر اللات والعزى . قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بها صوته ، فالقاهما في تلاوته في غمار من القوم وكثرة لغطهم ، فظن الكفار ان ذلك من قول النبي ، فسجدوا عند ذلك } .
ـ قال الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان : { فالمعنى : إن من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه ، حرفوا عليه ، وزادوا فيما يقوله ، ونقصوا ، كما فعلت اليهود ، وأضاف ذلك إلى الشيطان ، لأنه يقع بغروره ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) أي : يزيله ويدحضه بظهور حججه . وخرج هذا على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كذب المشركون عليه ، وأضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ، ما لم يكن فيها ، وإن كان المراد تمني القلب فالوجه أن الرسول متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور ، وسوس إليه الشيطان بالباطل ، يدعوه إليه ، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان ، وترك استماع غروره " انتهى ما نقل الكرخي.
فإذا كان النبي قد سمع الكلمتين من قومه وحفظهما فهما في عقله الباطن Subconscious ولا حاجة للشيطان ليلقي بهما إليه. وقوله " فكاد أن يجريهما على لسانه " قول فيه عدم نزاهة إذ أن كل الحاضرين سمعوه ينطق بهما ولذلك وافقوا على اتباعه. ولم ينسخها الله إلا في اليوم التالي عندما تنبه النبي لما قال وربما عاتبه ضميره على ما قال ليكسب تأييد القوم. والقرآن نفسه يقول " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يُحكّم الله آياته " فالقرآن هنا يعترف أن الشيطان قد ألقى إليه فنسخ الله ما ألقى الشيطان. وأما اللف والدوران وقولهم يجوز أن يكون الشيطان قد نطق بالكلمتين وظن الحضور أن النبي قد نطق بهما فقول لا يمت للمنطق أو العلم بصلة. فإذا كان السيد الكرخي يحب أن يناقش الأمور بمنطق علمي فعليه أن يأتي لنا بحجج علمية منطقية وليس بقول الفقهاء الشيعيين من يجوز ولا يجوز.
ثم قال السيد الكرخي: " وقيل : إن المراد بالغرانيق . الملائكة ، وقد جاء ذلك في بعض الحديث ، فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم . وقيل : إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة ، فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم ، نسخت تلاوته " ولكن مثل هذا القول قد يؤدي إلى فقدان اللغة قيمتها كأداة للمخاطبة بين الناس، إذ أن الإنسان يحفظ الكلمات ومعانيها عندما يتعلم الكلام وهو طفل صغير، وتظل كل كلمة تعني شيئاً مفهوماً لا يتغير. فلا يمكن أن أخبر الطفل أن كلمة " أسد " تعني حيواناً مفترساً بعينه ونريه صورة الأسد، ثم إذا اضطرتنا الظروف يوماً نقول لهذا الطفل كلمة " أسد " تعني " نعامة ". فالملائكة باستثناء جبريل وإسرافيل وبقة الذين لهم أسماء معينة يرمز إليهم القرآن دائماً بكلمة " الملائكة " فمن أين أتى العلماء الشيعة بفكرة أن الغرانيق تعني الملائكة. فإذا نظرنا في القاموس المحيط للإمام الفيروز آبادي نجد: غرنوق وغرانيق: الذي يكون في أصل العوسج اللين النبات، وجمعها غرانيق. والغرنق وادٍ لبني سليم. والغرانيق والغرانقة: الخصلة من الشعر المفتولة. الغُرنيق (بالضم) أو الغُرنوق: الكركي أو طائر يشبهه. وشاب غُرانق (بالضم) كعلابط: تام. الغُرنوق: طائر مائي أسود وقيل أبيض. الغُرنيق (بالضم): الشاب الأبيض الجميل. الغرانيق العلى: الأصنام وهي في الأصل الذكور من طير الماء، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع."
أما لسان العرب لابن منظور فيقول: " الغرانيق: نبات الماء وشبان الرجال " فليس هناك أي ذكر للملائكة أو الشياطين.
وملاحظة أخيرة: قال السيد الكرخي عن قتادة أنه مدلس وكذاب وكان يروي الحديث عن أناس لم يسمع منهم، وتساءل: " فهل يمكن ان نقبل رواية شخص يحمل مثل هذه الصفات ؟! "
ثم قال في آخر مقاله: " حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ، وعلى غفلة ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قيل : إنه عذاب يوم بدر ، عن قتادة ومجاهد. " فإذا لم نقبل حديث قتادة لكذبه وتدليسه، هل يمكن أن نقبل تفسيره للقرآن ؟ فكيف سمح السيد الكرخي لنفسه أن يستشهد برجل كذاب ومدلس ؟
وبهذا القدر نكتفي.